عبادة الله حُصنٌ للنفس في مواجهة الطاغوت

عبادة الله حُصنٌ للنفس في مواجهة الطاغوت

ألقى سماحة آية الله العظمى، السيد محمد حسين فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته: 

عبادة الله حُصنٌ للنفس في مواجهة الطاغوت
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} [طه:81]. ويقول سبحانه: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً* لِلطَّاغِينَ مَآباً* لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} [النبأ:21-23]. وقال تعالى: {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} [ص:55]، وقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى* وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا* فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى* وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى* فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:37-40].

معنى الاستقامة
إنّ الخط الإسلامي الأصيل الذي أراد الله تعالى للناس أن يأخذوا به ويلتزموه ويُخضعوا كل أوضاعهم له، هو خط الاعتدال والاستقامة، وهو أن يلتزم الإنسان في مسيرته كل ما شرعه الله، فلا يتجاوزه أو ينحرف عمّا أراد الله تعالى له أن يسير فيه، وهذا ما يُعبّر عنه في الآيات القرآنية بالصراط المستقيم، وهو الطريق الذي تنطلق فيه البداية لتواجه النهاية في خط تلتقي أوائله بأواخره.

الطغيان وعواقبه
وفي المقابل، هناك خط الطغيان، وهو أن تتجاوز الخط الذي أراد الله تعالى لك أن تسير فيه، لتنحرف عن طاعته، ولترتفع فوق ما أراد لك أن تقف عنده. وقد يطلق الطغيان على الماء، وهو ما تحدث الله تعالى عنه في قصة نوح وابنه الذي انحرف بفعل انحراف أمه، فكان من المغرَقين، فقال تعالى: {إنّا لما طغى الماء حملناكم في الجارية} [الحاقة:11]، أي عندما ارتفع الماء ليصل إلى قمم الجبال.

وقد أكّد الله تعالى ضرورة أن يظل الإنسان في خط الاستقامة، وفي خط الاعتدال، فلا يقدّم رجلاً خارج نطاق ما أراد الله له أن يقف عنده، ولا يؤخّر رجلاً في ما أراد الله له أن يسير فيه، وحتى في ما يأكله مما رزقه الله تعالى من أطايب الطعام، فإنّ عليه أن يقف عند ما أحلّه الله له ولا يطغى في طعامه إلى ما حرّمه الله عليه، وهذا ما ذكرته الآية الكريمة: {كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه ـ لا تتجاوزوا الحدود التي رسمها الله لكم فيما تأكلون أو تشربون ـ فيحلّ عليكم غضبي}، لأن الإنسان إذا طغى في مآكله ومشاربه وسار في خط الإتيان بالمحرّمات، فإن غضب الله يحل عليه، فيسقط سقوطاً مريعاً.

وقد أكد الله تعالى أن عاقبة الطاغين هي شرّ عاقبة، لذلك أراد الله تعالى للإنسان أن يتوازن في نظرته إلى الدنيا عند انطلاقه في كل قضاياها، فلا يعتبر الدنيا هي الهدف، بل الطريق الذي يسلكه للوصول إلى الهدف:{وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا ـ لقد حدد الله لك هذا النصيب، ويمكن أن تأخذه، ولكن عليك أن تعرف أن هذه الدنيا هي مزرعة للآخرة، ولذلك لا بد من أن تستفيد من وجودك في هذه الدنيا لكي تتزوّد لآخرتك، من خلال الإحسان إلى من حولك ممن يحتاج إلى معونتك ـ وأحسن كما أحسن الله إليك} [القصص:77].
وقد أراد الله سبحانه وتعالى للنبي موسى ولأخيه هارون (عليهما السلام)، أن يتوجها إلى فرعون لوعظه وتذكيره بمسؤوليته قال تعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى* فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى* قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه:43-45].
 وإذا كان الله تعالى يتحدث في الآية عن طغيان فرعون، إلا أن حديثه يشمل كل الطغاة السياسيين والأمنيين والاقتصاديين، وكل الطغاة الذين يستعلون على الناس ويقهرون المستضعفين؛ من الملوك والأمراء والزعماء، وحتى الذين يسيرون في خدمة هؤلاء المستكبرين ويمنحونهم القوة، فإنهم يشاركونهم في طغيانهم، لأن الطغاة يملكون قوتهم من خلال تأييد الناس لهم. ولذلك، كل إنسان يؤيد ظالماً أو طاغياً، فإنه يشاركه في طغيانه.

عبادة الله واجتناب الطاغوت
وقد اختصر الله تعالى رسالة الأنبياء بعنوانين، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، فقد كانت دعوة الأنبياء أن يعبد الناس الله، ولا يشركوا به أحداً، وأن يجتنبوا الطاغوت. ويتحدث الله تعالى عن الذين يسيرون في خط عبادته ويجتنبون الطاغوت، فلا يؤيدونه ولا ينصرونه ولا يقوونه، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ} [الزمر:17].
وكلمة الطاغوت هي صيغة المبالغة في الصفة، فكلُّ من يعبد من دون الله فهو طاغوت، ويوصف به كل من طغى، بأن حَكَمَ بخلاف حكم الله. وقد ورد عن الإمام الصادق(ع) لأبي بصير في مراد الآية السابقة: "أنتم الذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها ـ وهم السائرون في خط أهل البيت(ع) الذي هو خط رسول الله(ص) ـ ومن أطاع جباراً فقد عبده". إن إطاعتكم للجبابرة الذين يسرقون الناس ويضلّونهم وينحرفون عن طريق الحق ويسيرون مع المستكبرين، هي عبادةٌ لهؤلاء الجبابرة، لأن العبادة ليست في الصلاة فقط، وإنما هي غاية الخضوع، وأنت عندما تخضع بإرادتك وموقفك لهؤلاء، فكأنك تعبدهم على حساب عبادتك لله وما أمرك به.

ويحدثنا الله تعالى عن تأثير الطاغين في مصير الناس في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:275].النهي عن الاحتكام إلى الطاغوت

ثم يحدثنا الله عن التحاكم، فهناك حكمان: حكم الله وحكم الطغاة. وهناك الكثير من الناس ممّن يصفون أنفسهم بالإيمان، ولكن عندما يختلفون مع الآخرين فإنهم يحتكمون إلى الطاغوت، ولا سيما إذا عرفوا أن دعواهم ستكون خاسرةً بحسب الحكم الشرعي، ولكن إذا عرفوا أنهم بحسب القوانين الوضعية يمكن أن يكسبوا الدعوى، وخصوصاً مع مساعدة بعض المحامين الذين يلعبون على القانون ويستفيدون من ثغراته، فإنهم يلجأون إلى التحاكم عند الطغاة. يقول تعالى في ذلك:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً* وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} [النساء:60-61]، لأن هؤلاء يُظهرون الإيمان، ولكنهم يتحركون في خط الضلال، وهؤلاء هم المنافقون.

وورد عن الإمام الصادق(ع): "مرّ عيسى بن مريم على قرية قد مات أهلها ـ وقد أعطاه الله معجزة إحياء الموتى ـ  فقال: يا أهل هذه القرية؟ فأجابه منهم مجيب: لبيك يا روح الله وكلمته، فقال: ويحكم، ما كانت أعمالكم؟ قال: عبادة الطاغوت وحبّ الدنيا ـ فقد كنا ننسى الآخرة أمام ما في هذه الدنيا من ملذات وشهوات ـ فقال: كيف كانت عبادتكم للطاغوت؟ قال: الطاعة لأهل المعاصي".

وفي الحديث عن الإمام زين العابدين(ع) قال: "كفانا الله وإياكم كيد الظالمين، وبغي الحاسدين، وبطش الجبارين. أيها المؤمنون، لا يفتتنكم الطواغيت ـ الزعماء من الظالمين والمستكبرين والذين يبغون في الأرض بغير الحق ـ وأتباعهم من أهل الرغبة في الدنيا".

إنّنا نرى في مرحلتنا هذه الكثير من الطواغيت، سواء من المسلمين الذين انطلقوا مع الدنيا ومع الشيطان، أو من غير المسلمين، لذلك على كل إنسان مؤمن أن يجتنب الطاغوت ويمتنع عن الطغيان، ليبقى في خّط الاستقامة: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنـزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون} [فصلت:30].
 نسأل الله تعالى أن يوّفقنا لطاعته والسير على خط شريعته، إنه أرحم الراحمين.

الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم

القمم العربية: قرارات إنشائية واٍستراتيجيات غائبة
في المشهد العربي، تذكّر القادة العرب "القيم والتقاليد العربية النبيلة"، فأرادوا للقمة الأخيرة أن تؤكد "الالتزام بالتضامن العربي"، والارتقاء بالعلاقات العربية نحو أفقٍ أرحب... فإذا بهذه العلاقات تدخل في مرحلة جديدة تقترب فيها الزعامات بعضها من بعض فيما يشبه العلاقات الشخصية، وتغيب فيها الاستراتيجيات التي تبرز فيها الشعوب العربية بطاقاتها الكبرى وإمكاناتها العظمى، لتدافع عن وجودها ومستقبلها في ظل الاستباحة الاستكبارية والصهيونية لأرضها وأمنها، وحتى لقراراتها السياسية.

وعلى مسافة زمنية قريبة من القمة، كانت الولادة المشؤومة لحكومة صهيونية جديدة سارع رئيسها إلى محاكاة بعض الأصوات العربية التي انطلقت لتتحدث ـ من داخل القمة ـ عن رفضها التدخّل الخارجي في الشؤون العربية الداخلية، فأشار إلى خطر إيران على كيانه، وتحدث عن "مصلحة مشتركة بين إسرائيل والدول العربية في مواجهة إيران، التنين المتعصّب الذي يهددنا جميعاً"، كما زعم... وقد كان لافتاً أن تنطلق أقلام عربية لتكتب: "كيف نختار بين العدوّين الإسرائيلي والإيراني"، بدلاً من أن ينطلق الحديث في كيف نستفيد من قوة إيران وانفتاحها بما يخدم القضايا العربية الكبرى، وعلى رأسها القضية الفلسطينية.

لقد كنا ننتظر من قمة الدوحة أن ترسم استراتيجية عربية تلتقي بالاستراتيجية الإسلامية التي تبلورت بعض ملامحها في الموقفين الإيراني والتركي إزاء العدوان على غزة، وأن تضع حداً لهذا السقوط العربي في زمن التحولات والمتغيرات العالمية. ولكن الإنجازات العربية تبقى في حدود المصالحات السطحية والشخصية التي تولد فجأة وتموت فجأة، من دون أن ينطلق الحساب في كيف بدأ الشقاق وكيف جاء الوفاق، وقد اعتاد العرب على ذلك، لأنهم يعيشون في دول العائلات والأشخاص، ولا يتحركون في نطاق دول المؤسسات.

وعلى الرغم من رسائل التهديد الإسرائيلية بتوسيع الاستيطان، وإعلان "نتنياهو" أنه لا يخشى من ضغط الإدارة الأمريكية الجديدة على سياسته الرافضة للحقوق الفلسطينية، ولمبدأ "الدولتين" كأساس للحل الذي تدعو إليه واشنطن، وحديثه عن رؤيته "لسلام اقتصادي" يُفضي إلى إسقاط مقولة الدولة الفلسطينية، فإن اللهاث العربي نحو ما يسمّونه الـ "سلام" مع عدوّهم التاريخي، استمر فيما يشبه العتب من خلال الحديث عن أن المبادرة العربية لن تبقى طويلاً فوق الطاولة، غير آبهين بكل هذا الاحتقار الذي تختزنه المواقف الإسرائيلية المتواصلة حيال تنازلاتهم.

لقد أكدت التجارب أن مؤتمرات القمم العربية لا تحرك ساكناً على المستوى الذي من شأنه أن يحدث تغييراً فعلياً في المنطقة، ويضغط على مصالح أمريكا الحاضنة لليهود على حساب المصالح العربية الحيوية، بل كل ما يصدر عنها هو القرارات الإنشائية التي لا قيمة لها إلا بمقدار قيمة الحبر الذي تكتب به، والورق الذي تسجّل فيه... وهذا ما قرأناه في إعلان قمة الدوحة في كلماته المتضمنة لـ"المطالبة" و"الدعوة" و"التأكيد"، إلى أمثالها من الكلمات الموجَّهة إلى الآخرين، أو إلى الشعوب العربية التي ملّت سماع هذه الكلمات الاستهلاكية التي لا تجد  فيها قوة الموقف الذي يضغط على العدو، وعلى المجتمع الدولي، وعلى الإدارة الأمريكية، ولا رفض التطبيع وإنتاج المقاومة...

الإدارة الأمريكية: سياسة تأييد مصالح الأقوياء
ولذلك، فإن أمريكا، ومعها الاتحاد الأوروبي، لا تحترم إلا الأقوياء، أما الضعفاء، فلا موقع لهم في احترام حقوقهم الحيوية وقضاياهم المصيرية، الأمر الذي جعل من إسرائيل القوة العظمى التي تتحرك طائراتها نحو أكثر من بلد عربي بحجة تدمير السلاح الذي يُرسَل إلى المجاهدين في غزة، ومنع أية دولة عربية من إنتاج عناصر قوة ذاتية فاعلة، من دون أن تواجه استنكاراً من الدول الكبرى، بل ربما شاركتها هذه الدول بعدوانها وأيدتها في اتهاماتها التي قد لا تكون واقعيةً. وقد صرّح رئيس وزراء العدوّ السابق أن يد إسرائيل طويلة وقادرة على ضرب أي مكان تشعر بالخطر على مصالحها فيه، ولا تستطيع أيّ دولة عربية أن تتحداها في أعمالها العدوانية، لأن أمريكا تقف بالمرصاد لكل من يواجه إسرائيل حتى في موقع دفاعه عن النفس. إنها مشكلة العجز العربي المزمن الذي لا يحاول المسؤولون الخروج منه إلى مواقع القوة التي يحترمون فيها أمتهم وشعوبهم.

ومن جانب آخر، فإن قمة الدوحة التي أخذت عنوان قمة المصالحات العربية، أظهرت في تعقيداتها الرئاسية أن العلاقات الثنائية بين دولة عربية ودولة أخرى، تتقدّم على القضايا المصيرية التي ترتبط بسلامة الأمة كلها، عندما تؤدي الخلافات بين حاكم وآخر إلى مقاطعة الحضور في المؤتمر الذي انعقد في بلد تتعقّد علاقات مسؤوليه بالبلد الآخر، الأمر الذي ينعكس سلباً على القرارات الاستراتيجية الفاعلة.

وهذا ما يجعل المصالحات منفتحة على الشكل لا على المضمون، وهي أصلاً لم تكن شاملة، بل جاءت ثنائيةً أو ثلاثيةً، فيما استمر الجمود على محاور أخرى، ما قد يوحي بأن الجامعة العربية تحوّلت إلى ساحة التناقضات العربية لا إلى ساحة الوحدة، الأمر الذي يجعلها في مواقع الرؤساء والمسؤولين لا في مواقع الشعب الغائب عن ديمقراطية الاختيار الحر تحت تأثير الأجهزة الاستخبارية وقوانين الطوارئ. وتتحوّل أصوات الناس في الانتخابات إلى نكتة سياسية يتندّر في تفاصيلها الموالون والمعارضون.

المسألة الأفغانية: استنـزاف لقوات الاحتلال
وفي جانب آخر، فإن المسألة الأفغانية التي تمتد إلى الساحة الباكستانية في الحرب التي يقودها حلف الأطلسي بقيادة أمريكية، قد تحوّلت إلى عبء ثقيل على القوات الدولية، بفعل عمليات الاستنزاف التي أنهكت هذه القوات المحتلة، ولذلك بادرت الإدارة الأمريكية إلى عقد اجتماع دولي تحضره إيران لبحث المأزق الأفغاني الذي اعترفت أمريكا بأنه لا يمكن الخروج منه بالحرب، ما يفرض البحث عن وسيلة سلمية للمفاوضات مع من تسمّيهم "المعتدلين".

إننا نعتقد أن على الدول المسلمة، وخصوصاً إيران، أن تنطلق من خلال مسؤوليتها الإسلامية، لتوجيه هذه الاجتماعات بما يخدم أمن الشعب الأفغاني، وأمن المنطقة الإسلامية، وبما يؤكد إخراج قوى الاحتلال وقوات حلف الأطلسي من المنطقة لتقرر شعوبها مصيرها، بعيداً من ضغط قوى الهيمنة العالمية التي استخدمت عنوان مكافحة الإرهاب لاستباحة المنطقة العربية والإسلامية بالكامل.

وفي مقاربة "قمة العشرين" التي عُقدت في العاصمة البريطانية، لاحظنا التظاهرات الكبرى التي انطلق بها عشرات الآلاف في مواجهة هذه الدول التي مثّلت العولمة المتوحشة بأبشع صورها، والتي ناصرت الأغنياء وتنكّرت لحقوق الفقراء، وعملت على نهب ثروات العالم الثالث، وضاعفت بوسائلها الصناعية من خطر الاحتباس الحراري، وتهديدها البيئة العالمية... وقد أظهرت هذه التظاهرات أن هذه الدول لا تمثل مشكلة لشعوبنا ولشعوب العالم الثالث فحسب، بل أيضاً لشعوبها ولكل المستضعفين في الأرض، الأمر الذي يستدعي تداولاً وتنسيقاً على أعلى المستويات بين كل المتضررين من دول الهيمنة والعولمة المتوحشة لحماية واقعهم وإنسانهم وتراثهم.

الانتخابات النيابية اللبنانية: تسويات داخلية وخارجية
ونصل إلى لبنان، لنلاحظ أنه في الوقت الذي ترتفع حدّة الصخب الداخلي حول الانتخابات النيابية، فإن هذه الانتخابات دخلت في خطوط المساومات الإقليمية، وأُلحقت بملفات المصالحات العربية، ورُسمت آفاقها وبعض نتائجها السعيدة أو غير السعيدة، بمعرفة من اللبنانيين أو بمعرفة بعضهم، وبموافقتهم أو من دون موافقتهم، لتبرز إلى السطح حقيقة جديدة، مفادها أن المناداة بالويل والثبور وعظائم الأمور ليست بضاعة رائجة في لبنان، وأن التسويات إن لم تنطلق في لبنان من الداخل، فسوف تأتيه من الخارج، مسقطةً كل العناوين التي احتشدت حولها مواقع وأسماء وشخصيات...

إننا نريد للبنانيين أن يفهموا جيداً اللعبة التي تتحرك من حولهم، حتى لا يكونوا حطباً للشرارات المتفرقة، وأن يعملوا على إنتاج وحدتهم مستفيدين من قراءة الظروف الإقليمية والدولية المناسبة أو غير المناسبة، وألا يسمحوا للصراخ الانتخابي بأن يستثير فيهم روح العصبية والقبلية الحزبية والمذهبية والطائفية، فقد بلغ السيل الزبى، وقد لُدغنا من الجحر مئات المرات... فهل نستفيق من سباتنا، ونعود إلى رشدنا؟


ألقى سماحة آية الله العظمى، السيد محمد حسين فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته: 

عبادة الله حُصنٌ للنفس في مواجهة الطاغوت
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} [طه:81]. ويقول سبحانه: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً* لِلطَّاغِينَ مَآباً* لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} [النبأ:21-23]. وقال تعالى: {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} [ص:55]، وقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى* وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا* فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى* وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى* فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:37-40].

معنى الاستقامة
إنّ الخط الإسلامي الأصيل الذي أراد الله تعالى للناس أن يأخذوا به ويلتزموه ويُخضعوا كل أوضاعهم له، هو خط الاعتدال والاستقامة، وهو أن يلتزم الإنسان في مسيرته كل ما شرعه الله، فلا يتجاوزه أو ينحرف عمّا أراد الله تعالى له أن يسير فيه، وهذا ما يُعبّر عنه في الآيات القرآنية بالصراط المستقيم، وهو الطريق الذي تنطلق فيه البداية لتواجه النهاية في خط تلتقي أوائله بأواخره.

الطغيان وعواقبه
وفي المقابل، هناك خط الطغيان، وهو أن تتجاوز الخط الذي أراد الله تعالى لك أن تسير فيه، لتنحرف عن طاعته، ولترتفع فوق ما أراد لك أن تقف عنده. وقد يطلق الطغيان على الماء، وهو ما تحدث الله تعالى عنه في قصة نوح وابنه الذي انحرف بفعل انحراف أمه، فكان من المغرَقين، فقال تعالى: {إنّا لما طغى الماء حملناكم في الجارية} [الحاقة:11]، أي عندما ارتفع الماء ليصل إلى قمم الجبال.

وقد أكّد الله تعالى ضرورة أن يظل الإنسان في خط الاستقامة، وفي خط الاعتدال، فلا يقدّم رجلاً خارج نطاق ما أراد الله له أن يقف عنده، ولا يؤخّر رجلاً في ما أراد الله له أن يسير فيه، وحتى في ما يأكله مما رزقه الله تعالى من أطايب الطعام، فإنّ عليه أن يقف عند ما أحلّه الله له ولا يطغى في طعامه إلى ما حرّمه الله عليه، وهذا ما ذكرته الآية الكريمة: {كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه ـ لا تتجاوزوا الحدود التي رسمها الله لكم فيما تأكلون أو تشربون ـ فيحلّ عليكم غضبي}، لأن الإنسان إذا طغى في مآكله ومشاربه وسار في خط الإتيان بالمحرّمات، فإن غضب الله يحل عليه، فيسقط سقوطاً مريعاً.

وقد أكد الله تعالى أن عاقبة الطاغين هي شرّ عاقبة، لذلك أراد الله تعالى للإنسان أن يتوازن في نظرته إلى الدنيا عند انطلاقه في كل قضاياها، فلا يعتبر الدنيا هي الهدف، بل الطريق الذي يسلكه للوصول إلى الهدف:{وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا ـ لقد حدد الله لك هذا النصيب، ويمكن أن تأخذه، ولكن عليك أن تعرف أن هذه الدنيا هي مزرعة للآخرة، ولذلك لا بد من أن تستفيد من وجودك في هذه الدنيا لكي تتزوّد لآخرتك، من خلال الإحسان إلى من حولك ممن يحتاج إلى معونتك ـ وأحسن كما أحسن الله إليك} [القصص:77].
وقد أراد الله سبحانه وتعالى للنبي موسى ولأخيه هارون (عليهما السلام)، أن يتوجها إلى فرعون لوعظه وتذكيره بمسؤوليته قال تعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى* فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى* قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه:43-45].
 وإذا كان الله تعالى يتحدث في الآية عن طغيان فرعون، إلا أن حديثه يشمل كل الطغاة السياسيين والأمنيين والاقتصاديين، وكل الطغاة الذين يستعلون على الناس ويقهرون المستضعفين؛ من الملوك والأمراء والزعماء، وحتى الذين يسيرون في خدمة هؤلاء المستكبرين ويمنحونهم القوة، فإنهم يشاركونهم في طغيانهم، لأن الطغاة يملكون قوتهم من خلال تأييد الناس لهم. ولذلك، كل إنسان يؤيد ظالماً أو طاغياً، فإنه يشاركه في طغيانه.

عبادة الله واجتناب الطاغوت
وقد اختصر الله تعالى رسالة الأنبياء بعنوانين، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، فقد كانت دعوة الأنبياء أن يعبد الناس الله، ولا يشركوا به أحداً، وأن يجتنبوا الطاغوت. ويتحدث الله تعالى عن الذين يسيرون في خط عبادته ويجتنبون الطاغوت، فلا يؤيدونه ولا ينصرونه ولا يقوونه، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ} [الزمر:17].
وكلمة الطاغوت هي صيغة المبالغة في الصفة، فكلُّ من يعبد من دون الله فهو طاغوت، ويوصف به كل من طغى، بأن حَكَمَ بخلاف حكم الله. وقد ورد عن الإمام الصادق(ع) لأبي بصير في مراد الآية السابقة: "أنتم الذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها ـ وهم السائرون في خط أهل البيت(ع) الذي هو خط رسول الله(ص) ـ ومن أطاع جباراً فقد عبده". إن إطاعتكم للجبابرة الذين يسرقون الناس ويضلّونهم وينحرفون عن طريق الحق ويسيرون مع المستكبرين، هي عبادةٌ لهؤلاء الجبابرة، لأن العبادة ليست في الصلاة فقط، وإنما هي غاية الخضوع، وأنت عندما تخضع بإرادتك وموقفك لهؤلاء، فكأنك تعبدهم على حساب عبادتك لله وما أمرك به.

ويحدثنا الله تعالى عن تأثير الطاغين في مصير الناس في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:275].النهي عن الاحتكام إلى الطاغوت

ثم يحدثنا الله عن التحاكم، فهناك حكمان: حكم الله وحكم الطغاة. وهناك الكثير من الناس ممّن يصفون أنفسهم بالإيمان، ولكن عندما يختلفون مع الآخرين فإنهم يحتكمون إلى الطاغوت، ولا سيما إذا عرفوا أن دعواهم ستكون خاسرةً بحسب الحكم الشرعي، ولكن إذا عرفوا أنهم بحسب القوانين الوضعية يمكن أن يكسبوا الدعوى، وخصوصاً مع مساعدة بعض المحامين الذين يلعبون على القانون ويستفيدون من ثغراته، فإنهم يلجأون إلى التحاكم عند الطغاة. يقول تعالى في ذلك:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً* وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} [النساء:60-61]، لأن هؤلاء يُظهرون الإيمان، ولكنهم يتحركون في خط الضلال، وهؤلاء هم المنافقون.

وورد عن الإمام الصادق(ع): "مرّ عيسى بن مريم على قرية قد مات أهلها ـ وقد أعطاه الله معجزة إحياء الموتى ـ  فقال: يا أهل هذه القرية؟ فأجابه منهم مجيب: لبيك يا روح الله وكلمته، فقال: ويحكم، ما كانت أعمالكم؟ قال: عبادة الطاغوت وحبّ الدنيا ـ فقد كنا ننسى الآخرة أمام ما في هذه الدنيا من ملذات وشهوات ـ فقال: كيف كانت عبادتكم للطاغوت؟ قال: الطاعة لأهل المعاصي".

وفي الحديث عن الإمام زين العابدين(ع) قال: "كفانا الله وإياكم كيد الظالمين، وبغي الحاسدين، وبطش الجبارين. أيها المؤمنون، لا يفتتنكم الطواغيت ـ الزعماء من الظالمين والمستكبرين والذين يبغون في الأرض بغير الحق ـ وأتباعهم من أهل الرغبة في الدنيا".

إنّنا نرى في مرحلتنا هذه الكثير من الطواغيت، سواء من المسلمين الذين انطلقوا مع الدنيا ومع الشيطان، أو من غير المسلمين، لذلك على كل إنسان مؤمن أن يجتنب الطاغوت ويمتنع عن الطغيان، ليبقى في خّط الاستقامة: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنـزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون} [فصلت:30].
 نسأل الله تعالى أن يوّفقنا لطاعته والسير على خط شريعته، إنه أرحم الراحمين.

الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم

القمم العربية: قرارات إنشائية واٍستراتيجيات غائبة
في المشهد العربي، تذكّر القادة العرب "القيم والتقاليد العربية النبيلة"، فأرادوا للقمة الأخيرة أن تؤكد "الالتزام بالتضامن العربي"، والارتقاء بالعلاقات العربية نحو أفقٍ أرحب... فإذا بهذه العلاقات تدخل في مرحلة جديدة تقترب فيها الزعامات بعضها من بعض فيما يشبه العلاقات الشخصية، وتغيب فيها الاستراتيجيات التي تبرز فيها الشعوب العربية بطاقاتها الكبرى وإمكاناتها العظمى، لتدافع عن وجودها ومستقبلها في ظل الاستباحة الاستكبارية والصهيونية لأرضها وأمنها، وحتى لقراراتها السياسية.

وعلى مسافة زمنية قريبة من القمة، كانت الولادة المشؤومة لحكومة صهيونية جديدة سارع رئيسها إلى محاكاة بعض الأصوات العربية التي انطلقت لتتحدث ـ من داخل القمة ـ عن رفضها التدخّل الخارجي في الشؤون العربية الداخلية، فأشار إلى خطر إيران على كيانه، وتحدث عن "مصلحة مشتركة بين إسرائيل والدول العربية في مواجهة إيران، التنين المتعصّب الذي يهددنا جميعاً"، كما زعم... وقد كان لافتاً أن تنطلق أقلام عربية لتكتب: "كيف نختار بين العدوّين الإسرائيلي والإيراني"، بدلاً من أن ينطلق الحديث في كيف نستفيد من قوة إيران وانفتاحها بما يخدم القضايا العربية الكبرى، وعلى رأسها القضية الفلسطينية.

لقد كنا ننتظر من قمة الدوحة أن ترسم استراتيجية عربية تلتقي بالاستراتيجية الإسلامية التي تبلورت بعض ملامحها في الموقفين الإيراني والتركي إزاء العدوان على غزة، وأن تضع حداً لهذا السقوط العربي في زمن التحولات والمتغيرات العالمية. ولكن الإنجازات العربية تبقى في حدود المصالحات السطحية والشخصية التي تولد فجأة وتموت فجأة، من دون أن ينطلق الحساب في كيف بدأ الشقاق وكيف جاء الوفاق، وقد اعتاد العرب على ذلك، لأنهم يعيشون في دول العائلات والأشخاص، ولا يتحركون في نطاق دول المؤسسات.

وعلى الرغم من رسائل التهديد الإسرائيلية بتوسيع الاستيطان، وإعلان "نتنياهو" أنه لا يخشى من ضغط الإدارة الأمريكية الجديدة على سياسته الرافضة للحقوق الفلسطينية، ولمبدأ "الدولتين" كأساس للحل الذي تدعو إليه واشنطن، وحديثه عن رؤيته "لسلام اقتصادي" يُفضي إلى إسقاط مقولة الدولة الفلسطينية، فإن اللهاث العربي نحو ما يسمّونه الـ "سلام" مع عدوّهم التاريخي، استمر فيما يشبه العتب من خلال الحديث عن أن المبادرة العربية لن تبقى طويلاً فوق الطاولة، غير آبهين بكل هذا الاحتقار الذي تختزنه المواقف الإسرائيلية المتواصلة حيال تنازلاتهم.

لقد أكدت التجارب أن مؤتمرات القمم العربية لا تحرك ساكناً على المستوى الذي من شأنه أن يحدث تغييراً فعلياً في المنطقة، ويضغط على مصالح أمريكا الحاضنة لليهود على حساب المصالح العربية الحيوية، بل كل ما يصدر عنها هو القرارات الإنشائية التي لا قيمة لها إلا بمقدار قيمة الحبر الذي تكتب به، والورق الذي تسجّل فيه... وهذا ما قرأناه في إعلان قمة الدوحة في كلماته المتضمنة لـ"المطالبة" و"الدعوة" و"التأكيد"، إلى أمثالها من الكلمات الموجَّهة إلى الآخرين، أو إلى الشعوب العربية التي ملّت سماع هذه الكلمات الاستهلاكية التي لا تجد  فيها قوة الموقف الذي يضغط على العدو، وعلى المجتمع الدولي، وعلى الإدارة الأمريكية، ولا رفض التطبيع وإنتاج المقاومة...

الإدارة الأمريكية: سياسة تأييد مصالح الأقوياء
ولذلك، فإن أمريكا، ومعها الاتحاد الأوروبي، لا تحترم إلا الأقوياء، أما الضعفاء، فلا موقع لهم في احترام حقوقهم الحيوية وقضاياهم المصيرية، الأمر الذي جعل من إسرائيل القوة العظمى التي تتحرك طائراتها نحو أكثر من بلد عربي بحجة تدمير السلاح الذي يُرسَل إلى المجاهدين في غزة، ومنع أية دولة عربية من إنتاج عناصر قوة ذاتية فاعلة، من دون أن تواجه استنكاراً من الدول الكبرى، بل ربما شاركتها هذه الدول بعدوانها وأيدتها في اتهاماتها التي قد لا تكون واقعيةً. وقد صرّح رئيس وزراء العدوّ السابق أن يد إسرائيل طويلة وقادرة على ضرب أي مكان تشعر بالخطر على مصالحها فيه، ولا تستطيع أيّ دولة عربية أن تتحداها في أعمالها العدوانية، لأن أمريكا تقف بالمرصاد لكل من يواجه إسرائيل حتى في موقع دفاعه عن النفس. إنها مشكلة العجز العربي المزمن الذي لا يحاول المسؤولون الخروج منه إلى مواقع القوة التي يحترمون فيها أمتهم وشعوبهم.

ومن جانب آخر، فإن قمة الدوحة التي أخذت عنوان قمة المصالحات العربية، أظهرت في تعقيداتها الرئاسية أن العلاقات الثنائية بين دولة عربية ودولة أخرى، تتقدّم على القضايا المصيرية التي ترتبط بسلامة الأمة كلها، عندما تؤدي الخلافات بين حاكم وآخر إلى مقاطعة الحضور في المؤتمر الذي انعقد في بلد تتعقّد علاقات مسؤوليه بالبلد الآخر، الأمر الذي ينعكس سلباً على القرارات الاستراتيجية الفاعلة.

وهذا ما يجعل المصالحات منفتحة على الشكل لا على المضمون، وهي أصلاً لم تكن شاملة، بل جاءت ثنائيةً أو ثلاثيةً، فيما استمر الجمود على محاور أخرى، ما قد يوحي بأن الجامعة العربية تحوّلت إلى ساحة التناقضات العربية لا إلى ساحة الوحدة، الأمر الذي يجعلها في مواقع الرؤساء والمسؤولين لا في مواقع الشعب الغائب عن ديمقراطية الاختيار الحر تحت تأثير الأجهزة الاستخبارية وقوانين الطوارئ. وتتحوّل أصوات الناس في الانتخابات إلى نكتة سياسية يتندّر في تفاصيلها الموالون والمعارضون.

المسألة الأفغانية: استنـزاف لقوات الاحتلال
وفي جانب آخر، فإن المسألة الأفغانية التي تمتد إلى الساحة الباكستانية في الحرب التي يقودها حلف الأطلسي بقيادة أمريكية، قد تحوّلت إلى عبء ثقيل على القوات الدولية، بفعل عمليات الاستنزاف التي أنهكت هذه القوات المحتلة، ولذلك بادرت الإدارة الأمريكية إلى عقد اجتماع دولي تحضره إيران لبحث المأزق الأفغاني الذي اعترفت أمريكا بأنه لا يمكن الخروج منه بالحرب، ما يفرض البحث عن وسيلة سلمية للمفاوضات مع من تسمّيهم "المعتدلين".

إننا نعتقد أن على الدول المسلمة، وخصوصاً إيران، أن تنطلق من خلال مسؤوليتها الإسلامية، لتوجيه هذه الاجتماعات بما يخدم أمن الشعب الأفغاني، وأمن المنطقة الإسلامية، وبما يؤكد إخراج قوى الاحتلال وقوات حلف الأطلسي من المنطقة لتقرر شعوبها مصيرها، بعيداً من ضغط قوى الهيمنة العالمية التي استخدمت عنوان مكافحة الإرهاب لاستباحة المنطقة العربية والإسلامية بالكامل.

وفي مقاربة "قمة العشرين" التي عُقدت في العاصمة البريطانية، لاحظنا التظاهرات الكبرى التي انطلق بها عشرات الآلاف في مواجهة هذه الدول التي مثّلت العولمة المتوحشة بأبشع صورها، والتي ناصرت الأغنياء وتنكّرت لحقوق الفقراء، وعملت على نهب ثروات العالم الثالث، وضاعفت بوسائلها الصناعية من خطر الاحتباس الحراري، وتهديدها البيئة العالمية... وقد أظهرت هذه التظاهرات أن هذه الدول لا تمثل مشكلة لشعوبنا ولشعوب العالم الثالث فحسب، بل أيضاً لشعوبها ولكل المستضعفين في الأرض، الأمر الذي يستدعي تداولاً وتنسيقاً على أعلى المستويات بين كل المتضررين من دول الهيمنة والعولمة المتوحشة لحماية واقعهم وإنسانهم وتراثهم.

الانتخابات النيابية اللبنانية: تسويات داخلية وخارجية
ونصل إلى لبنان، لنلاحظ أنه في الوقت الذي ترتفع حدّة الصخب الداخلي حول الانتخابات النيابية، فإن هذه الانتخابات دخلت في خطوط المساومات الإقليمية، وأُلحقت بملفات المصالحات العربية، ورُسمت آفاقها وبعض نتائجها السعيدة أو غير السعيدة، بمعرفة من اللبنانيين أو بمعرفة بعضهم، وبموافقتهم أو من دون موافقتهم، لتبرز إلى السطح حقيقة جديدة، مفادها أن المناداة بالويل والثبور وعظائم الأمور ليست بضاعة رائجة في لبنان، وأن التسويات إن لم تنطلق في لبنان من الداخل، فسوف تأتيه من الخارج، مسقطةً كل العناوين التي احتشدت حولها مواقع وأسماء وشخصيات...

إننا نريد للبنانيين أن يفهموا جيداً اللعبة التي تتحرك من حولهم، حتى لا يكونوا حطباً للشرارات المتفرقة، وأن يعملوا على إنتاج وحدتهم مستفيدين من قراءة الظروف الإقليمية والدولية المناسبة أو غير المناسبة، وألا يسمحوا للصراخ الانتخابي بأن يستثير فيهم روح العصبية والقبلية الحزبية والمذهبية والطائفية، فقد بلغ السيل الزبى، وقد لُدغنا من الجحر مئات المرات... فهل نستفيق من سباتنا، ونعود إلى رشدنا؟

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية