الفساد في الأرض يصنعه الإنسان

الفساد في الأرض يصنعه الإنسان
ألقى سماحة آية الله العظمى، السيد محمد حسين فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته: 

الفساد في الأرض يصنعه الإنسان

خلق الكون بهدف إعماره
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41].
إن الله تعالى خلق هذا الكون للإنسان، بهدف القيام بإصلاحه في كل مجالاته، ليعيش الناس في الأرض في سكينة، وطمأنينة، واستقرار، وحياة طيبة كريمة، وبهذه الحال، يشعر الإنسان بحرية إرادته في الخير، وبحرية قراره، وبسلامة مصيره.

ولهذا، فإن الله تعالى عندما حدّث الملائكة عن خليفته في الأرض، {قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك} [البقرة:30]، حدثهم عن الإنسان الذي سيمارس الخلافة في الأرض لقدرته على تحمّل المسؤولية في إعمار الأرض وإدارتها وتحريكها، حتى تتحوّل هذه الأرض الجرداء إلى ساحة تتفجّر فيها الأنهار، وينطلق فيها العمران، وتنشأ فيها المجتمعات التي تتواصل وتتكامل وتتعاون.

وقد أرسل الله الأنبياء من أجل أن يُصلحوا بين الناس، وأنزل الكتب من أجل أن يتفاعل الناس مع تعاليم الله بالعدل الذي به حياة المجتمعات، وبه ازدهار الأرض عندما يأخذ كل ذي حق حقه.

الانطلاق بالفساد في الأرض
ولكن الناس انطلقوا من خلال غرائزهم ونفوسهم الأمّارة بالسوء، فتحركوا بأطماعهم وشهواتهم، وأصبح القويّ يظلم الضعيف، والغنيّ يستغل الفقير، والحاكم يقهر شعبه، وأصبح المستكبرون يقهرون المستضعفين، ويمنعونهم من تقرير مصيرهم، ومن حرية قرارهم وإرادتهم، ويصادرون ثرواتهم، ويتدخّلون في كل أمورهم.

ولسنا نرى أنّ قضية الفساد تنطلق من قضاء الله وقدره، بمعنى أنّ الأزمات الاقتصادية أو المشاكل الأمنية، أو المشاكل الاجتماعية لا تأتي بشكل مباشر من الله تعالى. فالبعض يعتقد أن الله هو الذي أنزل عليه المرض أو الإفلاس، لكن الإنسان المؤمن عليه أن يعتقد أن الله جعل لكل عمل داءً، وجعل لكل داء دواءً. فأنت مرضت لأنه جرت عليك أسباب المرض، وأنت افتقرت لأنك لم تكن تعرف مقومات عملك أو لم تخلص فيه، فلكل شيء سبب حتى الأشياء التكوينية؛ فعندما يحدث الفيضان، فإنما يحصل بسبب الأوضاع التي أودعها الله في الكون، أو الأمراض التي تحدث كما هو الآن انفلونزا الخنازير، والخنـزير حرّمه الله للأضرار الكثيرة التي يختزنها، ومن الطبيعي أن يتولّد منه بعض الأمراض أو من غيره، فأغلب الأمراض التي تحدث في الكون إنما تحدث لأن الناس لا تحافظ على الشروط والأسباب الصحية،  فالدولة عندما لا تراعي الشروط الصحية ولا تراقب الظروف السلبية في الغذاء، فمن الطبيعي أن تكثر الأمراض.

لذلك، لا بد لكل دولة من أن يكون لها سياسة صحية تحافظ فيها على مواطنيها، وأيضاً عندما تحدث حالة من البطالة تؤدي إلى مشاكل حياتية يفقد فيها المواطنون قدرتهم على إعالة أنفسهم وعوائلهم. إذاً، لا بد من سياسة اقتصادية تراعي حاجات البلد والمواطنين فيه، كذلك الفساد الأخلاقي، مثل المتاجرة بالنساء أو بالرجال أو الأطفال، وفي بعض الدول يشرعون الزواج المثليّ، هؤلاء الذين يعملون على نشر الرذيلة وعدم العفّة. وهناك أناس يذهبون إلى الحج ويصومون ويصلّون، ومع ذلك فإنهم يبيعون الخمر والمحرّمات، بحجة أنه إذا لم يبع الخمر فلن يشتري منه أحد، مع أن الله حرّم عليه ذلك، وجعل رزقه منحصراً في الحلال. وأنتم تعرفون أن الناس الذين يتاجرون بالحرام، أصبح لديهم أموال، ولكنهم مبتلون بالكثير من المشاكل.

والله تعالى يقول: {ظهر الفساد في البرّ والبحر [القرصنة في البحر، ويتحدث البعض عن أن ذلك ينطلق من السياسات المتعمّدة لدى بعض الدول]بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا [فأنت تأكل ما تزرعه فتذوق عملك، وعندما تصبح مبتلى بالفقر أو المرض فأنت تذوق نتائج عملك] لعلهم يرجعون}.

البلاءات تصنعها أيدي الإنسان
ويقول تعالى:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ [وهي كل بلاء يحدث للناس، وليس فقد الأهل والأحباب] فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [فالمصيبة في صحتك ومالك وأوضاعك السياسية وغيرها من خلال ما زرعت]وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ* وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ [مهما كنت قوياً فلست أقوى من الله] وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [الشورى:30-31]، فإذا أراد الله تعالى أن يعاقبك نتيجة عملك، فهل يستطيع أن يدافع أحد عنك أمام الله؟

ويقول تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً [وهذه تنطبق علينا في لبنان] مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ [فكنت ترى لبنان مملوءاً بالمصطافين والسوّاح] فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ [فلم يشكروا لنعمة، وشكر النعمة هو أن تعمل فيها بما يحبّه الله ويرضاه] فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ [الأزمات الاقتصادية] وَالْخَوْفِ [بسبب الحروب] بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112]. ويقول تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال:53]، فالخارج ينطلق من الداخل، وأنت تتحرك من خلال ما تفكر فيه.

على هذا الأساس، نحن الآن نعيش واقعاً معيناً، لنفكِّرْ ـ ولو باختصار ـ لدينا موسم انتخابات الآن، ونحن نسأل: كم نسبة الذين يفكّرون في اختيار الشخص الذي يتحمّل مسؤولية مصالح الناس وحريتهم؟ مَنْ يفهم ويدرس هذا السياسي في أفكاره وعلاقاته بهذه الدولة أو تلك؟ ومن أين مصدر ثروته؟ وقد نقلت بعض الصحف الأمريكية (نيويورك تايمز) أن الانتخابات النيابية اللبنانية هي من أغلى الانتخابات في العالم، لأن بعض الدول البترولية تصرف مئات الملايين من الدولارات من أجل إنجاح فريقها، حتى إن بعض المشايخ مستعدون لأن يقبضوا لمصلحة هذا الناخب أو ذاك...

مسؤولية الفساد السياسي
هذا فساد سياسي يتحمّل مسؤوليته كل أولئك الذين يبيعون أصواتهم ويصوّتون من دون دراسة المرشحين. وهؤلاء الذين تنتخبونهم سيشرّعون لكم القوانين التي تتصل بحياتكم، فمن يتحمّل مسؤولية ذلك؟ أنتم تتحمّلون هذه المسؤولية أمام الله إذا سألكم عن ذلك. حتى الأزمة الاقتصادية اللبنانية فإننا نسأل: من أين أتت الخمسون مليار دولار كدَين على لبنان؟ من خلال هؤلاء الذين نهبوا الدولة ونشروا الفساد في إداراتها، ومع ذلك، فإننا نصوّت لهم، لأن فلاناً هو زعيم الطائفة وهو كبير الطائفة!

وقد ورد عن رسول الله(ص): "إن الله لا يعذّب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم [الناس يرون كيف أن هؤلاء الخاصة يقومون بالمنكر] وهم قادرون على أن ينكروه [ولم ينكروه] فإذا فعلوا ذلك عذّب الله العامة والخاصة". وورد عنه(ص): "ما اختلفت أمة بعد نبيّها إلا ظهر أهل باطلها على حقها". وعنه(ص): "إن المعصية إذا عمل بها العبد سرّاً لم تضرّ إلا عاملها، وإذا عمل بها علانيةً ولم يغيّر عليه [لم يُنكر عليه] أضرّت العامة".

ويقول الإمام عليّ(ع): "إنما أُهْلِكَ من كان قبلكم أنهم منعوا الناس الحق فاشتروه [يدفعون الرشوى من أجل أن يحصلوا على حقوقهم، وهذه محل ابتلائنا في هذا البلد] وأخذوهم بالباطل فاقتدوه". ويقول رسول الله(ص): "إن الله لا يقدّس أمةً لا يأخذ الضعيف حقّه من القوي وهو غير متعتع". وعنه(ص): "كيف يقدّس الله قوماً لا يؤخذ لضعيفهم من شريرهم".
وفي الحديث عن الإمام عليّ(ع): "قوام الدّين والدّنيا بأربعة: عالِمٍ يستعمل علمه، وجاهلٍ لا يستنكف أن يتعلّم، وجوادٍ لا يبخل بمعروفه، وفقيرٍ لا يبيع آخرته بدنياه، فإذا ضيّع العالم علمه، استنكف الجاهل أن يتعلّم، وإذا بخل الغنيّ بمعروفه، باع الفقير آخرته بدنياه".وفي قصة الزواج، ألاحظ أن هناك عُرفاً جديداً، وهو أن الآباء يبيعون بناتهم بالدولارات، فتراهم يشترطون مائة ألف دولار أو ألف ليرة ذهبية كمهر، ويتفاصلون فيما بينهم كما لو أنهم يبيعون بقرةً، خصوصاً بعض الآباء الذي يحرص على أن تتزوّج ابنته من غني، ولا يهمه أن يكون متعلّماً أو غير متعلّم، متديّناً أو غير متديّن، والبعض يجبر ابنته على القبول به. وعليكم أن تعرفوا أن كل بنت تُجبر على الزواج من شخص بغير رضاها، تستطيع أن تخرج من جلسة العقد وتتزوّج من تشاء، لأنه لا ولاية للأب بأن يزوّج ابنته بغير رضاها. فكل زواج بالإكراه والغصب باطل، ومعنى أنه باطل يعني كأنه لم يكن. وفي الحديث عن رسول الله(ص): "إذا جاءكم من ترضون خلُقه ودينه فزوّجوه [لا تمتنعوا عن تزويجه لأن أوضاعه المادية عادية] إلاّ تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير". ونلاحظ على ذلك أن كثيراً من شبابنا لا يتزوّجون لأنهم لا يستطيعون أن يدفعوا المهر، وبذلك فإننا نشارك بفساد المجتمع.

الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم

العرب: تجميل صورة الحكومة الصّهيونيّة
ينشط الكثيرون في المواقع العربية الرسمية لتجميل صورة الحكومة الصهيونية اليمينية، عبر استقبال رمزها الأول الذي لم يدع مجالاً للشك في أنه لن يقدّم إلى العرب حتى فُتات حقوقهم، حيث أعلن عن رفضه الانسحاب من الجولان، وتحدث بكل صراحة عن رفضه مبدأ الدولة الفلسطينية، ورَبَطَ ما أسماه السلام بالأمن والازدهار، وكأنه يقول للعرب: أعطونا السلام وتعاونوا معنا في مجال الأمن والاستخبارات ضد الأحرار في بلادكم وفي فلسطين، تحصلوا على الازدهار تحت حراب الذلّ والاحتلال.

ومع ذلك، فرئيس حكومة العدوّ، يجد هناك ـ في المواقع العربية الرسمية ـ من يتعاون معه، ويفتح له ذراعيه، ويستقبله ويمهّد له السبل للدخول إلى المواقع العربية الأخرى، ويستمع إلى كلماته في وجوب المساعدة لمحاربة من يسمّيهم العدو "الإرهابيين"، ولا ندري إذا كان الواقع العربي الرسمي مهيّأً للقفز فوق الاعتبارات الشعبية والدخول في جبهة موحّدة مع إسرائيل ضد إيران كما اقترح العدوّ، بعدما زحفت ثقافة الهزيمة والاستسلام إلى نفوس هؤلاء إلى المستوى الذي باتوا فيه يفكرون في التنسيق مع الكيان الغاصب، وينظرون إلى إيران كعقدة ينبغي التخلّص منها وحصارها بعدما زادت من إحراجهم في تبنّيها القضايا العربية والإسلامية، وعلى رأسها قضية فلسطين التي يسعون للتحرر منها وإراحة عروشهم ومواقعهم.

إنّ الحديث الذي يدور في هذه الأيام في كواليس السياسة العربية الرسمية، هو في كيف يقترب العرب من "نتنياهو" مع أنه لم يفسح في المجال لهم حتى لحفظ ماء وجوههم، وكيف تتخلّى الأنظمة العربية الرسمية عن مسألة حقّ العودة أو تجعلها على رفّ المبادرة العربية، وكيف يمكن مجاراة العدو فيما يطرحه حول القدس ليرتفع العلم الفلسطيني في مكانٍ ما منها، وإن بقيت تحت الاحتلال، ليُصار بعدها إلى الحديث عن تقدّم عملية السلام على جثة القضية الفلسطينية التي يُراد لنعشها أن يُرفع على الأكفّ العربية وحتى الإسلامية، لتقديمه إلى الحكومة اليمينية، لتعلن بدورها عن وفاة المأسوف على حياتها المسمّاة: فلسطين، وبالتالي الدولة الفلسطينية.

إنّنا نحذر من أنّ الخطة التي بدأ العمل بها، تقضي بتوسيع دائرة التعاون الأمني مع العدو داخل فلسطين المحتلة وخارجها، تحت عنوان تفعيل أجهزة الأمن الفلسطينية الرسمية تارةً، والتصدي لمحاولات زعزعة الأمن والاستقرار أخرى، على أساس الاستجابة لمتطلّبات العدو الأمنية، وإن اقتضى ذلك استباحة الأمن العربي والإسلامي بكامله لحسابه، كما أن الخطة تقضي بتوسيع دائرة الاعتراف بإسرائيل لتشمل العالم الإسلامي كله، لأنّ المطلوب أميركياً وإسرائيلياً، وأكاد أقول عربياً، هو تطويق الفلسطينيين بالمسلمين بدلاً من الاستعانة بكلِّ الطاقات العربية والإسلامية لاسترجاع الحقوق الإسلامية والعربية المستباحة في فلسطين.

إننا نحذّر من الاستجابة لهذه الخطَّة الجهنَّمية الخطيرة التي بدأت ملامحها بالبروز، حيث يُراد الاحتفال بالذكرى الواحدة والستين لاغتصاب فلسطين، غربياً، وإسرائيلياً، وحتى عربياً، في ظل البرقيات التي بدأت تصل إلى مسؤولي العدو للتهنئة بما يسمّى "الاستقلال"، وفي ظل الرسائل السياسية الخطيرة التي يحملها حتى الموفدون الدينيون...

زيارة البابا: توظيف لمصلحة العدوّ
وفي هذه الأجواء، يبرز الحرص الشديد على استغلال زيارة البابا وتوظيفها في نطاق الاحتفالية العالمية بهذا الكيان الغاصب، الذي يُراد للعرب والمسلمين أن يشاركوا فيها تحت عنوان: "مصالحة اليهود ومصافحة العرب والمسلمين"... لأن المطلوب هو أن يتصالح الجميع مع اليهود المحتلين بشروطهم، وأن يخضع العرب للجوانب الشكلية في المصافحة التي تعني ـ أولاً وآخراً ـ تخلّيهم عن حقوقهم، وبالتالي عن عزتهم وكرامتهم وحضورهم بين الأمم.

ونحن ـ في المناسبة ـ نحيّي المسلمين والمسيحيين في فلسطين المحتلة، الذين نبّهوا البابا إلى خطورة ما يذهب إليه، وإلى ضرورة وقوفه مع الشعب الفلسطيني المظلوم والمضطهَد، والذي يمثل النموذج الأبرز في البشرية الذي ينبغي لرسالات السماء أن تجعله في رأس اهتماماتها والتزاماتها، لأنه نموذج المظلومية التي انطلقت النبوّات للدفاع عنها ولحمايتها تحت عنوان تطبيق العدل ومحاربة الظلم الذي يمثل الاحتلال أفظع أنواعه وأبشعها.

ونحن نتساءل كما تساءل الكثيرون: لماذا لم يقم البابا بزيارة غزة التي نعتقد أن السيد المسيح(ع) لو كان موجوداً لزارها واطّلع من أهلها المظلومين والمضطهدين، والذين تعرضوا لأبشع عمليات القتل والإبادة، على أوضاعهم، وانطلق في أجواء الدفاع عنهم واحتضان أيتامهم ومساكينهم، لأنهم يمثلون النموذج الحيّ لرسالته السامية في العالم؟

إنّنا نحذَّر من أن تتحوَّل المواقع الدينية الرسمية إلى ما يشبه المظلة التي تحمي المجرمين وسرّاق الأوطان، لأن ذلك سيمهّد السبيل لمحارق جماعية لا تصيب شعباً بعينه أو أمةً لوحدها، بل تصيب البشرية كلها، وتسقط السلام العالمي الذي بات أنشودةً سياسيةً ودينيةً في العصر الذي يتعرّض فيه الإنسان لأبشع أنواع الظلم والقتل والاضطهاد، ويُراد للرموز الدينية أن تتحرك في نطاق الديكور الذي يوزِّع دفء الكلمات على المضطهدين، فيما تأكل نيران الحروب واقعهم ومستقبلهم.

إبادة أمريكيّة للمستضعفين
وليس بعيداً من ذلك، نطلُّ على حرب أمريكا على المستضعفين في أفغانستان وباكستان، والتي يتعرَّض فيها المدنيون هناك لما يشبه حرب الإبادة، في قصف الطيران الأميركي الوحشي لبيوت الطين التي يُطمر تحتها الفقراء تحت عناوين مكافحة الإرهاب، وقد رفض الأميركيون طلب الرئيس الأفغاني وقف هذا القصف بحجَّة أننا "لا نستطيع أن نحارب وأيدينا مربوطة خلف ظهورنا"، كما قال مستشار الرئيس الأميركي للأمن القومي... وكأن المسألة هي أن تمنح هذه الضربات الجيش الأميركي تفوقاً نوعياً على المدنيين العزّل، لتستعيد أمريكا المهزومة هيبتها على حساب فقراء العالم ومسحوقيه...

لبنان: أولويّة الحفاظ على الأمن الدّاخليّ
ونصل إلى لبنان الغارق في الهموم الانتخابية حتى أذنيه، لنلاحظ أن تصاعد الحدّة في الخطاب الانتخابي لا يحجب الصورة عن المخاطر الكبرى التي برزت من خلال الاختراق الإسرائيلي للبنية الاجتماعية السياسية اللبنانية، في حجم الهجمة التجسسية التي لم توفِّر الجسم الرسمي في الدولة أو النسيج الشعبي الداخلي.

لقد أظهرت أرقام الشبكات الاستخبارية المتهاوية إلى الآن، أن حزب العملاء ليس حزباً عادياً في لبنان، فهو حزب "وحدوي" يضم أفراداً من كل الطوائف اللبنانية، ولا يخضع إلا لمبدأ العمالة ومفاهيم التجسسية التي لا تقيم وزناً لمصطلحات الحرية والاستقلال، ولا تأخذها الملامة عند سماع مفردات الخيانة العظمى، أو الجريمة الكبرى، لأن لهؤلاء حساباتهم التي لا تنفصل عن حسابات العدو، وإن ذهب الخطاب الداخلي بعيداً في السجالات التي أطلقت الدخان السياسي الكثيف الذي جعل الغشاوة السياسية الظرفية تمنع الكثيرين من رصد الخطر الداهم المتمثل بالعدو وشبكاته العنكبوتية الخطيرة.

إننا نرى في هذه الهجمة الاستخبارية الصهيونية على لبنان ما يشبه الحرب المفتوحة، ونرى في الدعوة الأميركية إلى نزع سلاح المقاومة تنسيقاً مسبقاً مع العدو للاستفراد بلبنان وجعله فريسةً للاختراق الأمني ثم العسكري، وصولاً إلى استباحته بالكامل. ولذلك فإننا ندعو المقاومة والجيش وأجهزة الدولة، إلى التنبّه لهذه الهجمة الماكرة، والعمل على تفكيكها سياسياً وأمنياً. وندعو المجاهدين إلى التزام أعلى درجات الجهوزية، والسعي لاختراق ساحة العدو الداخلية، وكشف عناصر ضعفه بالطريقة نفسها التي يحاول من خلالها اختراق الداخل اللبناني، لأن الحفاظ على الأمن اللبناني الداخلي هو أولوية كبرى ينبغي للجميع أن يكرّس اهتماماته السياسية وغير السياسية لحسابها، قبل أن تصبح المحطات السياسية اللبنانية، من انتخابية وغيرها، مناسبات ملائمة يستغلّها العدو لتسديد ضرباته الإرهابية إلى لبنان والمنطقة.

ألقى سماحة آية الله العظمى، السيد محمد حسين فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته: 

الفساد في الأرض يصنعه الإنسان

خلق الكون بهدف إعماره
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41].
إن الله تعالى خلق هذا الكون للإنسان، بهدف القيام بإصلاحه في كل مجالاته، ليعيش الناس في الأرض في سكينة، وطمأنينة، واستقرار، وحياة طيبة كريمة، وبهذه الحال، يشعر الإنسان بحرية إرادته في الخير، وبحرية قراره، وبسلامة مصيره.

ولهذا، فإن الله تعالى عندما حدّث الملائكة عن خليفته في الأرض، {قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك} [البقرة:30]، حدثهم عن الإنسان الذي سيمارس الخلافة في الأرض لقدرته على تحمّل المسؤولية في إعمار الأرض وإدارتها وتحريكها، حتى تتحوّل هذه الأرض الجرداء إلى ساحة تتفجّر فيها الأنهار، وينطلق فيها العمران، وتنشأ فيها المجتمعات التي تتواصل وتتكامل وتتعاون.

وقد أرسل الله الأنبياء من أجل أن يُصلحوا بين الناس، وأنزل الكتب من أجل أن يتفاعل الناس مع تعاليم الله بالعدل الذي به حياة المجتمعات، وبه ازدهار الأرض عندما يأخذ كل ذي حق حقه.

الانطلاق بالفساد في الأرض
ولكن الناس انطلقوا من خلال غرائزهم ونفوسهم الأمّارة بالسوء، فتحركوا بأطماعهم وشهواتهم، وأصبح القويّ يظلم الضعيف، والغنيّ يستغل الفقير، والحاكم يقهر شعبه، وأصبح المستكبرون يقهرون المستضعفين، ويمنعونهم من تقرير مصيرهم، ومن حرية قرارهم وإرادتهم، ويصادرون ثرواتهم، ويتدخّلون في كل أمورهم.

ولسنا نرى أنّ قضية الفساد تنطلق من قضاء الله وقدره، بمعنى أنّ الأزمات الاقتصادية أو المشاكل الأمنية، أو المشاكل الاجتماعية لا تأتي بشكل مباشر من الله تعالى. فالبعض يعتقد أن الله هو الذي أنزل عليه المرض أو الإفلاس، لكن الإنسان المؤمن عليه أن يعتقد أن الله جعل لكل عمل داءً، وجعل لكل داء دواءً. فأنت مرضت لأنه جرت عليك أسباب المرض، وأنت افتقرت لأنك لم تكن تعرف مقومات عملك أو لم تخلص فيه، فلكل شيء سبب حتى الأشياء التكوينية؛ فعندما يحدث الفيضان، فإنما يحصل بسبب الأوضاع التي أودعها الله في الكون، أو الأمراض التي تحدث كما هو الآن انفلونزا الخنازير، والخنـزير حرّمه الله للأضرار الكثيرة التي يختزنها، ومن الطبيعي أن يتولّد منه بعض الأمراض أو من غيره، فأغلب الأمراض التي تحدث في الكون إنما تحدث لأن الناس لا تحافظ على الشروط والأسباب الصحية،  فالدولة عندما لا تراعي الشروط الصحية ولا تراقب الظروف السلبية في الغذاء، فمن الطبيعي أن تكثر الأمراض.

لذلك، لا بد لكل دولة من أن يكون لها سياسة صحية تحافظ فيها على مواطنيها، وأيضاً عندما تحدث حالة من البطالة تؤدي إلى مشاكل حياتية يفقد فيها المواطنون قدرتهم على إعالة أنفسهم وعوائلهم. إذاً، لا بد من سياسة اقتصادية تراعي حاجات البلد والمواطنين فيه، كذلك الفساد الأخلاقي، مثل المتاجرة بالنساء أو بالرجال أو الأطفال، وفي بعض الدول يشرعون الزواج المثليّ، هؤلاء الذين يعملون على نشر الرذيلة وعدم العفّة. وهناك أناس يذهبون إلى الحج ويصومون ويصلّون، ومع ذلك فإنهم يبيعون الخمر والمحرّمات، بحجة أنه إذا لم يبع الخمر فلن يشتري منه أحد، مع أن الله حرّم عليه ذلك، وجعل رزقه منحصراً في الحلال. وأنتم تعرفون أن الناس الذين يتاجرون بالحرام، أصبح لديهم أموال، ولكنهم مبتلون بالكثير من المشاكل.

والله تعالى يقول: {ظهر الفساد في البرّ والبحر [القرصنة في البحر، ويتحدث البعض عن أن ذلك ينطلق من السياسات المتعمّدة لدى بعض الدول]بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا [فأنت تأكل ما تزرعه فتذوق عملك، وعندما تصبح مبتلى بالفقر أو المرض فأنت تذوق نتائج عملك] لعلهم يرجعون}.

البلاءات تصنعها أيدي الإنسان
ويقول تعالى:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ [وهي كل بلاء يحدث للناس، وليس فقد الأهل والأحباب] فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [فالمصيبة في صحتك ومالك وأوضاعك السياسية وغيرها من خلال ما زرعت]وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ* وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ [مهما كنت قوياً فلست أقوى من الله] وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [الشورى:30-31]، فإذا أراد الله تعالى أن يعاقبك نتيجة عملك، فهل يستطيع أن يدافع أحد عنك أمام الله؟

ويقول تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً [وهذه تنطبق علينا في لبنان] مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ [فكنت ترى لبنان مملوءاً بالمصطافين والسوّاح] فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ [فلم يشكروا لنعمة، وشكر النعمة هو أن تعمل فيها بما يحبّه الله ويرضاه] فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ [الأزمات الاقتصادية] وَالْخَوْفِ [بسبب الحروب] بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112]. ويقول تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال:53]، فالخارج ينطلق من الداخل، وأنت تتحرك من خلال ما تفكر فيه.

على هذا الأساس، نحن الآن نعيش واقعاً معيناً، لنفكِّرْ ـ ولو باختصار ـ لدينا موسم انتخابات الآن، ونحن نسأل: كم نسبة الذين يفكّرون في اختيار الشخص الذي يتحمّل مسؤولية مصالح الناس وحريتهم؟ مَنْ يفهم ويدرس هذا السياسي في أفكاره وعلاقاته بهذه الدولة أو تلك؟ ومن أين مصدر ثروته؟ وقد نقلت بعض الصحف الأمريكية (نيويورك تايمز) أن الانتخابات النيابية اللبنانية هي من أغلى الانتخابات في العالم، لأن بعض الدول البترولية تصرف مئات الملايين من الدولارات من أجل إنجاح فريقها، حتى إن بعض المشايخ مستعدون لأن يقبضوا لمصلحة هذا الناخب أو ذاك...

مسؤولية الفساد السياسي
هذا فساد سياسي يتحمّل مسؤوليته كل أولئك الذين يبيعون أصواتهم ويصوّتون من دون دراسة المرشحين. وهؤلاء الذين تنتخبونهم سيشرّعون لكم القوانين التي تتصل بحياتكم، فمن يتحمّل مسؤولية ذلك؟ أنتم تتحمّلون هذه المسؤولية أمام الله إذا سألكم عن ذلك. حتى الأزمة الاقتصادية اللبنانية فإننا نسأل: من أين أتت الخمسون مليار دولار كدَين على لبنان؟ من خلال هؤلاء الذين نهبوا الدولة ونشروا الفساد في إداراتها، ومع ذلك، فإننا نصوّت لهم، لأن فلاناً هو زعيم الطائفة وهو كبير الطائفة!

وقد ورد عن رسول الله(ص): "إن الله لا يعذّب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم [الناس يرون كيف أن هؤلاء الخاصة يقومون بالمنكر] وهم قادرون على أن ينكروه [ولم ينكروه] فإذا فعلوا ذلك عذّب الله العامة والخاصة". وورد عنه(ص): "ما اختلفت أمة بعد نبيّها إلا ظهر أهل باطلها على حقها". وعنه(ص): "إن المعصية إذا عمل بها العبد سرّاً لم تضرّ إلا عاملها، وإذا عمل بها علانيةً ولم يغيّر عليه [لم يُنكر عليه] أضرّت العامة".

ويقول الإمام عليّ(ع): "إنما أُهْلِكَ من كان قبلكم أنهم منعوا الناس الحق فاشتروه [يدفعون الرشوى من أجل أن يحصلوا على حقوقهم، وهذه محل ابتلائنا في هذا البلد] وأخذوهم بالباطل فاقتدوه". ويقول رسول الله(ص): "إن الله لا يقدّس أمةً لا يأخذ الضعيف حقّه من القوي وهو غير متعتع". وعنه(ص): "كيف يقدّس الله قوماً لا يؤخذ لضعيفهم من شريرهم".
وفي الحديث عن الإمام عليّ(ع): "قوام الدّين والدّنيا بأربعة: عالِمٍ يستعمل علمه، وجاهلٍ لا يستنكف أن يتعلّم، وجوادٍ لا يبخل بمعروفه، وفقيرٍ لا يبيع آخرته بدنياه، فإذا ضيّع العالم علمه، استنكف الجاهل أن يتعلّم، وإذا بخل الغنيّ بمعروفه، باع الفقير آخرته بدنياه".وفي قصة الزواج، ألاحظ أن هناك عُرفاً جديداً، وهو أن الآباء يبيعون بناتهم بالدولارات، فتراهم يشترطون مائة ألف دولار أو ألف ليرة ذهبية كمهر، ويتفاصلون فيما بينهم كما لو أنهم يبيعون بقرةً، خصوصاً بعض الآباء الذي يحرص على أن تتزوّج ابنته من غني، ولا يهمه أن يكون متعلّماً أو غير متعلّم، متديّناً أو غير متديّن، والبعض يجبر ابنته على القبول به. وعليكم أن تعرفوا أن كل بنت تُجبر على الزواج من شخص بغير رضاها، تستطيع أن تخرج من جلسة العقد وتتزوّج من تشاء، لأنه لا ولاية للأب بأن يزوّج ابنته بغير رضاها. فكل زواج بالإكراه والغصب باطل، ومعنى أنه باطل يعني كأنه لم يكن. وفي الحديث عن رسول الله(ص): "إذا جاءكم من ترضون خلُقه ودينه فزوّجوه [لا تمتنعوا عن تزويجه لأن أوضاعه المادية عادية] إلاّ تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير". ونلاحظ على ذلك أن كثيراً من شبابنا لا يتزوّجون لأنهم لا يستطيعون أن يدفعوا المهر، وبذلك فإننا نشارك بفساد المجتمع.

الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم

العرب: تجميل صورة الحكومة الصّهيونيّة
ينشط الكثيرون في المواقع العربية الرسمية لتجميل صورة الحكومة الصهيونية اليمينية، عبر استقبال رمزها الأول الذي لم يدع مجالاً للشك في أنه لن يقدّم إلى العرب حتى فُتات حقوقهم، حيث أعلن عن رفضه الانسحاب من الجولان، وتحدث بكل صراحة عن رفضه مبدأ الدولة الفلسطينية، ورَبَطَ ما أسماه السلام بالأمن والازدهار، وكأنه يقول للعرب: أعطونا السلام وتعاونوا معنا في مجال الأمن والاستخبارات ضد الأحرار في بلادكم وفي فلسطين، تحصلوا على الازدهار تحت حراب الذلّ والاحتلال.

ومع ذلك، فرئيس حكومة العدوّ، يجد هناك ـ في المواقع العربية الرسمية ـ من يتعاون معه، ويفتح له ذراعيه، ويستقبله ويمهّد له السبل للدخول إلى المواقع العربية الأخرى، ويستمع إلى كلماته في وجوب المساعدة لمحاربة من يسمّيهم العدو "الإرهابيين"، ولا ندري إذا كان الواقع العربي الرسمي مهيّأً للقفز فوق الاعتبارات الشعبية والدخول في جبهة موحّدة مع إسرائيل ضد إيران كما اقترح العدوّ، بعدما زحفت ثقافة الهزيمة والاستسلام إلى نفوس هؤلاء إلى المستوى الذي باتوا فيه يفكرون في التنسيق مع الكيان الغاصب، وينظرون إلى إيران كعقدة ينبغي التخلّص منها وحصارها بعدما زادت من إحراجهم في تبنّيها القضايا العربية والإسلامية، وعلى رأسها قضية فلسطين التي يسعون للتحرر منها وإراحة عروشهم ومواقعهم.

إنّ الحديث الذي يدور في هذه الأيام في كواليس السياسة العربية الرسمية، هو في كيف يقترب العرب من "نتنياهو" مع أنه لم يفسح في المجال لهم حتى لحفظ ماء وجوههم، وكيف تتخلّى الأنظمة العربية الرسمية عن مسألة حقّ العودة أو تجعلها على رفّ المبادرة العربية، وكيف يمكن مجاراة العدو فيما يطرحه حول القدس ليرتفع العلم الفلسطيني في مكانٍ ما منها، وإن بقيت تحت الاحتلال، ليُصار بعدها إلى الحديث عن تقدّم عملية السلام على جثة القضية الفلسطينية التي يُراد لنعشها أن يُرفع على الأكفّ العربية وحتى الإسلامية، لتقديمه إلى الحكومة اليمينية، لتعلن بدورها عن وفاة المأسوف على حياتها المسمّاة: فلسطين، وبالتالي الدولة الفلسطينية.

إنّنا نحذر من أنّ الخطة التي بدأ العمل بها، تقضي بتوسيع دائرة التعاون الأمني مع العدو داخل فلسطين المحتلة وخارجها، تحت عنوان تفعيل أجهزة الأمن الفلسطينية الرسمية تارةً، والتصدي لمحاولات زعزعة الأمن والاستقرار أخرى، على أساس الاستجابة لمتطلّبات العدو الأمنية، وإن اقتضى ذلك استباحة الأمن العربي والإسلامي بكامله لحسابه، كما أن الخطة تقضي بتوسيع دائرة الاعتراف بإسرائيل لتشمل العالم الإسلامي كله، لأنّ المطلوب أميركياً وإسرائيلياً، وأكاد أقول عربياً، هو تطويق الفلسطينيين بالمسلمين بدلاً من الاستعانة بكلِّ الطاقات العربية والإسلامية لاسترجاع الحقوق الإسلامية والعربية المستباحة في فلسطين.

إننا نحذّر من الاستجابة لهذه الخطَّة الجهنَّمية الخطيرة التي بدأت ملامحها بالبروز، حيث يُراد الاحتفال بالذكرى الواحدة والستين لاغتصاب فلسطين، غربياً، وإسرائيلياً، وحتى عربياً، في ظل البرقيات التي بدأت تصل إلى مسؤولي العدو للتهنئة بما يسمّى "الاستقلال"، وفي ظل الرسائل السياسية الخطيرة التي يحملها حتى الموفدون الدينيون...

زيارة البابا: توظيف لمصلحة العدوّ
وفي هذه الأجواء، يبرز الحرص الشديد على استغلال زيارة البابا وتوظيفها في نطاق الاحتفالية العالمية بهذا الكيان الغاصب، الذي يُراد للعرب والمسلمين أن يشاركوا فيها تحت عنوان: "مصالحة اليهود ومصافحة العرب والمسلمين"... لأن المطلوب هو أن يتصالح الجميع مع اليهود المحتلين بشروطهم، وأن يخضع العرب للجوانب الشكلية في المصافحة التي تعني ـ أولاً وآخراً ـ تخلّيهم عن حقوقهم، وبالتالي عن عزتهم وكرامتهم وحضورهم بين الأمم.

ونحن ـ في المناسبة ـ نحيّي المسلمين والمسيحيين في فلسطين المحتلة، الذين نبّهوا البابا إلى خطورة ما يذهب إليه، وإلى ضرورة وقوفه مع الشعب الفلسطيني المظلوم والمضطهَد، والذي يمثل النموذج الأبرز في البشرية الذي ينبغي لرسالات السماء أن تجعله في رأس اهتماماتها والتزاماتها، لأنه نموذج المظلومية التي انطلقت النبوّات للدفاع عنها ولحمايتها تحت عنوان تطبيق العدل ومحاربة الظلم الذي يمثل الاحتلال أفظع أنواعه وأبشعها.

ونحن نتساءل كما تساءل الكثيرون: لماذا لم يقم البابا بزيارة غزة التي نعتقد أن السيد المسيح(ع) لو كان موجوداً لزارها واطّلع من أهلها المظلومين والمضطهدين، والذين تعرضوا لأبشع عمليات القتل والإبادة، على أوضاعهم، وانطلق في أجواء الدفاع عنهم واحتضان أيتامهم ومساكينهم، لأنهم يمثلون النموذج الحيّ لرسالته السامية في العالم؟

إنّنا نحذَّر من أن تتحوَّل المواقع الدينية الرسمية إلى ما يشبه المظلة التي تحمي المجرمين وسرّاق الأوطان، لأن ذلك سيمهّد السبيل لمحارق جماعية لا تصيب شعباً بعينه أو أمةً لوحدها، بل تصيب البشرية كلها، وتسقط السلام العالمي الذي بات أنشودةً سياسيةً ودينيةً في العصر الذي يتعرّض فيه الإنسان لأبشع أنواع الظلم والقتل والاضطهاد، ويُراد للرموز الدينية أن تتحرك في نطاق الديكور الذي يوزِّع دفء الكلمات على المضطهدين، فيما تأكل نيران الحروب واقعهم ومستقبلهم.

إبادة أمريكيّة للمستضعفين
وليس بعيداً من ذلك، نطلُّ على حرب أمريكا على المستضعفين في أفغانستان وباكستان، والتي يتعرَّض فيها المدنيون هناك لما يشبه حرب الإبادة، في قصف الطيران الأميركي الوحشي لبيوت الطين التي يُطمر تحتها الفقراء تحت عناوين مكافحة الإرهاب، وقد رفض الأميركيون طلب الرئيس الأفغاني وقف هذا القصف بحجَّة أننا "لا نستطيع أن نحارب وأيدينا مربوطة خلف ظهورنا"، كما قال مستشار الرئيس الأميركي للأمن القومي... وكأن المسألة هي أن تمنح هذه الضربات الجيش الأميركي تفوقاً نوعياً على المدنيين العزّل، لتستعيد أمريكا المهزومة هيبتها على حساب فقراء العالم ومسحوقيه...

لبنان: أولويّة الحفاظ على الأمن الدّاخليّ
ونصل إلى لبنان الغارق في الهموم الانتخابية حتى أذنيه، لنلاحظ أن تصاعد الحدّة في الخطاب الانتخابي لا يحجب الصورة عن المخاطر الكبرى التي برزت من خلال الاختراق الإسرائيلي للبنية الاجتماعية السياسية اللبنانية، في حجم الهجمة التجسسية التي لم توفِّر الجسم الرسمي في الدولة أو النسيج الشعبي الداخلي.

لقد أظهرت أرقام الشبكات الاستخبارية المتهاوية إلى الآن، أن حزب العملاء ليس حزباً عادياً في لبنان، فهو حزب "وحدوي" يضم أفراداً من كل الطوائف اللبنانية، ولا يخضع إلا لمبدأ العمالة ومفاهيم التجسسية التي لا تقيم وزناً لمصطلحات الحرية والاستقلال، ولا تأخذها الملامة عند سماع مفردات الخيانة العظمى، أو الجريمة الكبرى، لأن لهؤلاء حساباتهم التي لا تنفصل عن حسابات العدو، وإن ذهب الخطاب الداخلي بعيداً في السجالات التي أطلقت الدخان السياسي الكثيف الذي جعل الغشاوة السياسية الظرفية تمنع الكثيرين من رصد الخطر الداهم المتمثل بالعدو وشبكاته العنكبوتية الخطيرة.

إننا نرى في هذه الهجمة الاستخبارية الصهيونية على لبنان ما يشبه الحرب المفتوحة، ونرى في الدعوة الأميركية إلى نزع سلاح المقاومة تنسيقاً مسبقاً مع العدو للاستفراد بلبنان وجعله فريسةً للاختراق الأمني ثم العسكري، وصولاً إلى استباحته بالكامل. ولذلك فإننا ندعو المقاومة والجيش وأجهزة الدولة، إلى التنبّه لهذه الهجمة الماكرة، والعمل على تفكيكها سياسياً وأمنياً. وندعو المجاهدين إلى التزام أعلى درجات الجهوزية، والسعي لاختراق ساحة العدو الداخلية، وكشف عناصر ضعفه بالطريقة نفسها التي يحاول من خلالها اختراق الداخل اللبناني، لأن الحفاظ على الأمن اللبناني الداخلي هو أولوية كبرى ينبغي للجميع أن يكرّس اهتماماته السياسية وغير السياسية لحسابها، قبل أن تصبح المحطات السياسية اللبنانية، من انتخابية وغيرها، مناسبات ملائمة يستغلّها العدو لتسديد ضرباته الإرهابية إلى لبنان والمنطقة.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية