ألقى سماحة آية الله العظمى السيد ،محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء فيهما:
الكلام... محاسن ومساوئ
الكلمة: مفتاح العلاقة مع الآخر
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا}(الإسراء:53)، ويقول تعالى: {وَهُدُوا إلى الطَّيِّبِ مِنَ القَوْلِ وَهُدُوا إلى صِرَاطِ الحَمِيدِ}(الحج:24)، ويقول سبحانه: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}(البقرة:83).
في هذه الآيات الكريمة، وفي الخطِّ الإسلامي في علاقة الإنسان بالإنسان، سواء كان قريباً أو بعيداً، لا بد من أن ينطلق منه الكلام ليفتح عقل الآخر، أو ليفتح قلب الآخر، أو ليجذب حياة الآخر إليه، لأن الكلمة التي يتكلم بها الإنسان قد تكون كلمةً طيبةً تفتح للإنسان مشاعره وأحاسيسه، وتقرّبه إلى من يوجّه إليه الكلمة، وتجمع المجتمع في حالات الصراع والنزاع، وقد تكون كلمةً سيئةً في مضمونها، فتبعّد ولا تقرّب، وتفرّق ولا تجمع، وتغلق العقل وتمنعه من أن ينفتح على إيجابية التفكير، وتغلق القلب عن كل نبضات الخير، وتغلق الحياة عن كل علاقة الإنسان بالإنسان.
الأنبياء وطيِّب الكلام
فالكلمة هي الجسر الذي يعبر الإنسان من خلاله نحو الإنسان الآخر، وقد حدّثنا الله تعالى عن الأنبياء كلِّهم بأنّهم كانوا يطلقون الكلمة للناس فيقرّبوهم إلى الله، ويدفعونهم إلى أن يفكروا بعقولهم، وإلى أن ينفتحوا على المحبة، وكان شعار كل نبيّ لقومه قبل أن يعذّبهم الله نتيجة كفرهم، أو بعد أن يعذّبهم الله: {وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ}(الأعراف:79). كان الأنبياء يعيشون في أنفسهم الانفتاح على الناس، فتنفتح لهم عقولهم وقلوبهم وحياتهم لينطلقوا في خط الخير.
وقد حدّثنا الله تعالى عن رسوله محمد(ص) أنه كان ليّن القلب واللسان، فكانت كلماته الكلمات الليّنة التي لا قسوة فيها، لأنه كان نبيّ الرحمة لا نبيّ القسوة، وكانت رحمته للناس في قلبه كما كانت رحمته للناس في لسانه، وقد ورد: «الكلمة الطيبة صدقة»، فكما أنك تتصدّق على إنسان بمالٍ لتقضي حاجته، كذلك عندما تحدِّثه بالكلمة الطيبة، فإنك تتصدَّق عليه بإحسانك وشعورك، فتحلّ له مشكلته النفسية.
مسؤولية الكلام
وقد تحدَّث الله تعالى عن بعض الناس الذين يسيئون مسؤولية الكلمة، سواء أكانوا في بيوتهم أم في مجتمعاتهم، وهي كلمة الفحش. والفحش هو الكلام الذي يتجاوز الحدّ الإنساني والحدّ الطيّب والحسن، ويعرّفه اللغويون بأنَّه القبيح من القول، والفاحشة والفحشاء هي القبيح من الفعل، والمتفحّش هو الذي يتكلّف سبّ الناس، بحيث يكون ديدنه السباب، فيسبّ أولاده وزوجته وإخوانه وعمّاله وموظفيه والناس من حوله.
وقد ورد في الحديث عن رسول الله(ص): «إياكم والفحشـ الكلام الفاحش القبيح، سواء كان سبّاً وشتماً، أو كان من الكلام الذي يخجل الإنسان من سماعه، كما هو حال بعض الناس الذي لا يخجل من أن يواجه الآخرين بالفحش والكلام البذيء، حتى في حياته العائلية عندما يخاطب زوجته وأولاده والناس من حوله ـ فإن الله لا يحبّ الفاحش المتفحّش».
حرمة الجنة على الفاحش
وورد عن النبيّ(ص)، وهذا أخطر من الحديث الأول، وليفهمها كل إنسان لسانُه "فاحش"، وقد يكون من المصلّين الصائمين، ومن الذين يذهبون إلى الحج كل سنة، ولكن مع ذلك، فإن الناس تخجل من أن تستمع إليه لكلامه الفاحش: «الجنّة حرام على كل فاحش أن يدخلها»، لأن الملائكة تخاف على الجنة من أن يخرّبها بفحشه وبذاءة لسانه. وعنه(ص): «ما كان الفحش في شيء قطُّ إلا شانه ـ أي عابه ـ ولا كان الحياء ـ الخجل من التكلم بالكلمات الفاحشة ـ في شيء قط إلا زانه». وعنه(ص): «إنَّ الله حرّم الجنّة على كل فحّاش بذيءـ لسانه بذيء بالكلمات القذرة ـ قليل الحياء ـ لا يخجل ولا يستحي حتى في بيته أمام أولاده ـ لا يُبالي ما قال ولا ما قيل له»، أي أنّه يسبّ الناس ويسبّونه، والأمران سيّان عنده، لأنه لا يحترم الناس ولا يحترم نفسه، وفي المقابل، هو إنسان لا يحترمه الناس أيضاً.
وعن النبي(ص): «ألا أُخبركم بأبعدكم مني شبهاً»؟ قالوا: بلى يا رسول الله.. قال: «الفاحش المتفحّش البذيء». وعنه(ص): «لو كان الفحش خَلْقاً ـ مجسّداً في صورة إنسان ـ لكان شرّ خلق الله». وعنه(ص): «إنّ الفحش لو كان مثالاً لكان مثال سوء». فكما أن كلامه قبيح فإنّ صورته أيضاً قبيحة. وعنه(ص): «إن من شرّ عباد الله من تكره مجالسته لفحشه». بعض الناس لا تطيق أن تجلس معه، لأن كل كلامه قذر، حيث تكره أن تجلس إليه؛ فذلك هو من شرّ خلق الله.
وورد عن الإمام عليّ(ع): «الفحش والتفحّش ليسا من الإسلام». وعن الإمام الباقر(ع): «قولوا للناس أحسن ما تحبُّون أن يقال لكم ـ كما تحبّ أن يتكلم الناس معك، عليك أن تبادر إلى مثل ذلك مع الناس، وعليك أن تخاطبهم كما تحبّ أن يخاطبوك ـ فإن الله يبغض اللّعان السبّاب الطعّان على المؤمنين، الفاحش المتفحّش السائل المُلحف».
وورد عن الإمام الصادق(ع): «إذا قال المؤمن لأخيه "أفٍّ" خرج من ولايته ـ من ولاية الإيمان ـ وإذا قال "أنت عدوّي» ـ وما أكثرها في مجتمعاتنا التي تعيش العصبية بشتَّى أنواعها ـ كَفَرَ أحدُهما ـ لأن الله يقول: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}(لحجرات:10)، وأنت تقول: "هذا عدوّي"، فمعنى ذلك "قال الله وأقول" ـ ولا يُقبل الله من مؤمن عملاً وهو يضمر على المؤمن سوءاً».
وعنه(ع): «من خاف الناس لسانهـ بحيث يخاف الناس معاشرته لأن لسانه كالسيف ـ فهو في النار». فالنار ليست لمن لا يصلّي ولا يصوم فحسب، بل إنّ الجوانب الاجتماعية والأخلاقية لها حساب عند الله، والله يحبّ من يأخذ بالقيم الروحية والأخلاقية والإنسانية.
هذا هو حديث الإسلام، حديث رسول الله(ص) والأئمة من أهل البيت(ع). فمن رأى في نفسه شيئاً من هذا، فعليه أن يجاهد نفسه ويربيها حتى يكون الناس منه في راحة، وحتى يقبل على الله والله راضٍ عنه.
الخطبة الثانية
تهرول إسرائيل مسرعةً إلى الصالونات العربية من بواَّبة المؤتمرات الاقتصادية، واللقاءات السياسية، فقد عرف العرب ـ على مستوى الأنظمة ـ كيف يفتحون الأبواب الاقتصادية والسياسية للعدوّ وحكومته اليمينية المتطرفة، تارةً تحت عنوان "المنتدى الاقتصادي العالمي الخاص بالشرق الأوسط"، وطوراً تحت عنوان ما يسمّى عملية السلام، وفي المحصّلة، تواصل عملية التطبيع مسيرتها المتسارعة بين العدوّ وعرب "الاعتدال".
ذكرى النكبة
وفي الذكرى الحادية والستين للنكبة، نلمح مخططاً دولياً، تشترك فيه أطراف عربية وإقليمية، يعمل لنكبة شاملة تُفضي لضياع فلسطين والقضية الفلسطينية، بذريعة تقديم العرب مزيداً من التنازلات، بما فيها العمل لدفع 57 دولة إسلامية إلى الاعتراف بإسرائيل، في مقابل موافقتها على شكل معين من أشكال الدولة الفلسطينية.
الاعتدال الإسرائيلي!
لقد طوّر العرب، الذين يطلق عليهم الأميركيون تسمية "عرب الاعتدال"، من استراتيجيتهم في الاقتراب من العدو أكثر كلما قرر أن يذلّهم أكثر، وأخذوا في الاعتبار المتغيّرات التي يفرضها المحتلّون اليهود من خلال اختيارهم لحكومة أكثر تشدداً... فوجدوا أن الوسيلة الأفضل لحشر إسرائيل في الزاوية، تكمن في الانبطاح أكثر أمامها، وتقديم المزيد من العروض التنازلية لها بحجة إحراجها أكثر؟!
ولعل آخر مشاريع الانسحاق أمام العدو| ما تحدثت عنه "الفايننشال تايمز" البريطانية، من وجود "خطة عمل تناقشها دول عربية عدة تزيد خلالها من حجم الاتصالات" مع كيان العدو، بما في ذلك السماح للخطوط الجوية الصهيونية بالمرور فوق أجوائها، مع إقامة روابط اتصالات جديدة معه، لمجرد أن يتعهّد العدو للولايات المتحدة الأميركية بتجميد الاستيطان لا وقفه...
ولعلَّ هذه الأجواء هي التي دفعت أحد الأمراء العرب، والذي شغل منصب رئيس جهاز الاستخبارات، وكان سفيراً لبلاده في أكثر من موقع، إلى التفاؤل بإمكانية "تغلّب الجيل الحالي على شعور الكراهية بين العرب والفلسطينيين من جهة، والإسرائيليين من الجهة الأخرى"، كما يقول... هذا ودماءُ الفلسطينيين في غزة لم تجفَّ بعد، والتحقيقات حول المجازر الكبرى فيها لم تنتهِ... ولكن لبعض العرب أسلوبهم في نبذ الكراهية والخضوع لعدوّهم كلَّما تمادى في قتلهم أكثر... حتى في الوقت الذي يصرّح كبير حاخاماتهم بأن العرب "أفاعي وحشرات ينبغي التخلّص منها".
لقد أحرق هذا الجيل من السياسيين العرب المتملّقين للعدوّ مراحل بأكملها، وأَجْهَز على فُرص كان من الممكن أن تدفع بالعدو إلى الخضوع عند أكثر من محطَّة... وهو يتحدث في هذه الأيام بلغةٍ أقلّ ما يُقال فيها إنّها لغة العدو نفسه، عندما يُصرّح لصحافة العدو بأن إيران تمثل الخطر الداهم على المنطقة كلها... وحتى عندما يشرب أمين عام الجامعة العربية شيئاً من حليب السباع، فيعلن أنَّ الترسانة النووية الإسرائيلية هي التي تشكّل تهديداً لأمن المنطقة وليس المشروع النووي الإيراني السلمي، يُسارع رئيس كيان العدو إلى تذكيره بهجوم رئيس هذه الدولة العربية على إيران وأنها هي الخطر...
نكبة الساسة العرب
إنَّ هذا الجيل من السياسيين العرب المترهّلين، والذين يمثلون النكبة الحقيقية للأمة، هو جيل الهزيمة العربية الذي لا ينتمي إلى شعوب الأمة وتطلّعاتها، ولا إلى تراثها وأصالتها، وعلى الأمَّة ـ بطلائعها الحيّة، وطاقاتها الشابّة الطموحة، أن تبادر إلى إطلاق عجلة التّغيير والإصلاح، قبل أن يُسلّم هؤلاء بقية المواقع للعدوّ التاريخي، وللمحتل الأكثر إجراماً وحقداً في التاريخ المعاصر.
الاستجداء ليس طريقاً للخلاص
ونحن عندما نتطلَّع إلى ما يجري في باكستان وأفغانستان من قتل ودمار وتشريد للملايين، لا نرى دموعاً تُذرف في العالم إلا دموع الخوف على الترسانة النووية الباكستانية من أن تقع في أيدي المتطرفين الإسلاميين، كما يقول الأميركيون... وعندما نلتفت إلى ما يجري في العراق من ملاحقة المدنيين بالمتفجرات الحاقدة، وننظر إلى الدماء التي تسيل أنهاراً في الصومال، ونحدّق في السودان الذي تنتهكه إسرائيل تارةً، وبعض الدول المجاورة أخرى، نعرف أن حجم الهجمة على الأمة هو أكبر بكثير مما يظن البعض، وندرك أنَّ الخلاص لا يمكن أن يأتي من طريق استجداء المواقع الدولية التي لا همّ لها إلا تفتيت البلاد العربية والإسلامية، تارةً تحت عنوان مكافحة الإرهاب، وطوراً تحت عنوان المذهبية... وصولاً إلى العناوين القومية التي يُراد تحريكها من جديد في وجه كلَّ من تحدّثه نفسه أن يقف إلى جانب الشعب الفلسطيني في مواجهة جلاّديه...
ضرورة الوحدة
إننا نعتقد أن المرحلة التي تزداد خطورةً على المستويات كافةً تستدعي حركةً غير عادية من علماء الأمَّة ومرجعياتها، لإعادة رصِّ الصفوف، وإنتاج جبهة وحدوية إسلامية منيعة تعيد الأمور إلى نصابها في الساحات الداخلية، وتدفع بالطاقات الخيّرة والمبدعة إلى تحفيز خطواتها وحركتها في مواجهة عدو الأمة وقوى الاستكبار العالمية التي لا تزال تتحيَّن الفرص للانقضاض على مواقع جديدة في الأمة، على الرغم من مآزقها السياسية والاقتصادية الكبرى.
التّحضير لمواجهة العدو
أما في لبنان، الذي يقف في هذه الأيام عند منعطف سياسي يطل على تاريخ السابع عشر من أيار، الذي قدّم اتفاق الذل الذي أسقطته الجماهير المؤمنة انطلاقاً من مسجد الإمام الرضا(ع) في بئر العبد، وتواصلاً مع حركة المقاومة الباسلة، وتاريخ الخامس والعشرين من أيار الذي حمل بشائر النصر إلى الأمة كلها، لا بل إلى أحرار العالم...
إن لبنان الرسمي والسياسي والشعبي، مدعوٌّ في هذه الأيام إلى إعلان انتمائه الحقيقي إلى حقبة الانتصارات والإبداعات الخلاّقة التي قهرت العدو، وجدَّدت الانتصار عليه في حرب تموز من العام 2006، كما هو مدعو إلى نبذ أي انتماء إلى اتّفاق الذل المشؤوم الذي أُريد لمحطة السابع عشر من أيار أن تكون المنطلق لزحف احتلالي استكباري يجعل المنطقة كلها فريسةً بيد إسرائيل وأمريكا.
ذكرى التحرير
إننا عندما نطل على ذكرى التحرير بنتائجها الكبرى والحاسمة، نعرف أنها لم تكن المتنفّس للبنانيين والجنوبيين فحسب، بل كانت الفجر الذي انطلق منه نور الكرامة والعزة إلى مختلف الساحات العربية والإسلامية، ولذلك أُريد لليل الأنظمة أن يطوّق فجر هذا الانتصار، وما أعقبه من هزيمة للعدو... ومن هنا ندرك حجم الهجمة المضادة التي دفعت بالعرب على مستوى الأنظمة إلى الذّوبان أكثر في أحضان العدوّ، لأن الخطة هي أن يزحفوا إلى مواقع الذلّ خوفاً من أن تزحف إليهم جموع الحرية والكرامة والعنفوان.
الالتفاف حول المقاومة
إننا في هذه اللحظات، ووسط ضجيج السياسة، وفوضى السجال الانتخابي في الداخل، ندعو اللبنانيين جميعاً إلى الالتفاف أكثر من أيِّ وقت مضى حول مقاومتهم الشريفة، التي مثلّت وتمثل أبرز عنوان من عناوين العزَّة في الأمة، وخصوصاً في الوقت الذي يكتشف الجميع حجم الاختراق الإسرائيلي من خلال شبكاته التجسسية، ومن خلال تهاويله وتهديداته التي ترسمها تصريحات مسؤوليه ومناورات جيشه في الميدان.
إننا نريد للبنانيين أن يتلمّسوا الخطى في وحدتهم الداخلية، وألا ينخرطوا في سجالات لا تفيدهم ولا تفيد الوطن حول كلمة هنا، وفاصلة هناك، وأن يجعلوا جلّ همهم في كيف يتحرك الجميع لحماية الوطن من العدو الغادر، وكيف يقْصُروا حركتهم على النافع لهم، وعلى كل ما من شأنه أن يبني الدولة الحرة العادلة القوية.
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد ،محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء فيهما:
الكلام... محاسن ومساوئ
الكلمة: مفتاح العلاقة مع الآخر
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا}(الإسراء:53)، ويقول تعالى: {وَهُدُوا إلى الطَّيِّبِ مِنَ القَوْلِ وَهُدُوا إلى صِرَاطِ الحَمِيدِ}(الحج:24)، ويقول سبحانه: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}(البقرة:83).
في هذه الآيات الكريمة، وفي الخطِّ الإسلامي في علاقة الإنسان بالإنسان، سواء كان قريباً أو بعيداً، لا بد من أن ينطلق منه الكلام ليفتح عقل الآخر، أو ليفتح قلب الآخر، أو ليجذب حياة الآخر إليه، لأن الكلمة التي يتكلم بها الإنسان قد تكون كلمةً طيبةً تفتح للإنسان مشاعره وأحاسيسه، وتقرّبه إلى من يوجّه إليه الكلمة، وتجمع المجتمع في حالات الصراع والنزاع، وقد تكون كلمةً سيئةً في مضمونها، فتبعّد ولا تقرّب، وتفرّق ولا تجمع، وتغلق العقل وتمنعه من أن ينفتح على إيجابية التفكير، وتغلق القلب عن كل نبضات الخير، وتغلق الحياة عن كل علاقة الإنسان بالإنسان.
الأنبياء وطيِّب الكلام
فالكلمة هي الجسر الذي يعبر الإنسان من خلاله نحو الإنسان الآخر، وقد حدّثنا الله تعالى عن الأنبياء كلِّهم بأنّهم كانوا يطلقون الكلمة للناس فيقرّبوهم إلى الله، ويدفعونهم إلى أن يفكروا بعقولهم، وإلى أن ينفتحوا على المحبة، وكان شعار كل نبيّ لقومه قبل أن يعذّبهم الله نتيجة كفرهم، أو بعد أن يعذّبهم الله: {وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ}(الأعراف:79). كان الأنبياء يعيشون في أنفسهم الانفتاح على الناس، فتنفتح لهم عقولهم وقلوبهم وحياتهم لينطلقوا في خط الخير.
وقد حدّثنا الله تعالى عن رسوله محمد(ص) أنه كان ليّن القلب واللسان، فكانت كلماته الكلمات الليّنة التي لا قسوة فيها، لأنه كان نبيّ الرحمة لا نبيّ القسوة، وكانت رحمته للناس في قلبه كما كانت رحمته للناس في لسانه، وقد ورد: «الكلمة الطيبة صدقة»، فكما أنك تتصدّق على إنسان بمالٍ لتقضي حاجته، كذلك عندما تحدِّثه بالكلمة الطيبة، فإنك تتصدَّق عليه بإحسانك وشعورك، فتحلّ له مشكلته النفسية.
مسؤولية الكلام
وقد تحدَّث الله تعالى عن بعض الناس الذين يسيئون مسؤولية الكلمة، سواء أكانوا في بيوتهم أم في مجتمعاتهم، وهي كلمة الفحش. والفحش هو الكلام الذي يتجاوز الحدّ الإنساني والحدّ الطيّب والحسن، ويعرّفه اللغويون بأنَّه القبيح من القول، والفاحشة والفحشاء هي القبيح من الفعل، والمتفحّش هو الذي يتكلّف سبّ الناس، بحيث يكون ديدنه السباب، فيسبّ أولاده وزوجته وإخوانه وعمّاله وموظفيه والناس من حوله.
وقد ورد في الحديث عن رسول الله(ص): «إياكم والفحشـ الكلام الفاحش القبيح، سواء كان سبّاً وشتماً، أو كان من الكلام الذي يخجل الإنسان من سماعه، كما هو حال بعض الناس الذي لا يخجل من أن يواجه الآخرين بالفحش والكلام البذيء، حتى في حياته العائلية عندما يخاطب زوجته وأولاده والناس من حوله ـ فإن الله لا يحبّ الفاحش المتفحّش».
حرمة الجنة على الفاحش
وورد عن النبيّ(ص)، وهذا أخطر من الحديث الأول، وليفهمها كل إنسان لسانُه "فاحش"، وقد يكون من المصلّين الصائمين، ومن الذين يذهبون إلى الحج كل سنة، ولكن مع ذلك، فإن الناس تخجل من أن تستمع إليه لكلامه الفاحش: «الجنّة حرام على كل فاحش أن يدخلها»، لأن الملائكة تخاف على الجنة من أن يخرّبها بفحشه وبذاءة لسانه. وعنه(ص): «ما كان الفحش في شيء قطُّ إلا شانه ـ أي عابه ـ ولا كان الحياء ـ الخجل من التكلم بالكلمات الفاحشة ـ في شيء قط إلا زانه». وعنه(ص): «إنَّ الله حرّم الجنّة على كل فحّاش بذيءـ لسانه بذيء بالكلمات القذرة ـ قليل الحياء ـ لا يخجل ولا يستحي حتى في بيته أمام أولاده ـ لا يُبالي ما قال ولا ما قيل له»، أي أنّه يسبّ الناس ويسبّونه، والأمران سيّان عنده، لأنه لا يحترم الناس ولا يحترم نفسه، وفي المقابل، هو إنسان لا يحترمه الناس أيضاً.
وعن النبي(ص): «ألا أُخبركم بأبعدكم مني شبهاً»؟ قالوا: بلى يا رسول الله.. قال: «الفاحش المتفحّش البذيء». وعنه(ص): «لو كان الفحش خَلْقاً ـ مجسّداً في صورة إنسان ـ لكان شرّ خلق الله». وعنه(ص): «إنّ الفحش لو كان مثالاً لكان مثال سوء». فكما أن كلامه قبيح فإنّ صورته أيضاً قبيحة. وعنه(ص): «إن من شرّ عباد الله من تكره مجالسته لفحشه». بعض الناس لا تطيق أن تجلس معه، لأن كل كلامه قذر، حيث تكره أن تجلس إليه؛ فذلك هو من شرّ خلق الله.
وورد عن الإمام عليّ(ع): «الفحش والتفحّش ليسا من الإسلام». وعن الإمام الباقر(ع): «قولوا للناس أحسن ما تحبُّون أن يقال لكم ـ كما تحبّ أن يتكلم الناس معك، عليك أن تبادر إلى مثل ذلك مع الناس، وعليك أن تخاطبهم كما تحبّ أن يخاطبوك ـ فإن الله يبغض اللّعان السبّاب الطعّان على المؤمنين، الفاحش المتفحّش السائل المُلحف».
وورد عن الإمام الصادق(ع): «إذا قال المؤمن لأخيه "أفٍّ" خرج من ولايته ـ من ولاية الإيمان ـ وإذا قال "أنت عدوّي» ـ وما أكثرها في مجتمعاتنا التي تعيش العصبية بشتَّى أنواعها ـ كَفَرَ أحدُهما ـ لأن الله يقول: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}(لحجرات:10)، وأنت تقول: "هذا عدوّي"، فمعنى ذلك "قال الله وأقول" ـ ولا يُقبل الله من مؤمن عملاً وهو يضمر على المؤمن سوءاً».
وعنه(ع): «من خاف الناس لسانهـ بحيث يخاف الناس معاشرته لأن لسانه كالسيف ـ فهو في النار». فالنار ليست لمن لا يصلّي ولا يصوم فحسب، بل إنّ الجوانب الاجتماعية والأخلاقية لها حساب عند الله، والله يحبّ من يأخذ بالقيم الروحية والأخلاقية والإنسانية.
هذا هو حديث الإسلام، حديث رسول الله(ص) والأئمة من أهل البيت(ع). فمن رأى في نفسه شيئاً من هذا، فعليه أن يجاهد نفسه ويربيها حتى يكون الناس منه في راحة، وحتى يقبل على الله والله راضٍ عنه.
الخطبة الثانية
تهرول إسرائيل مسرعةً إلى الصالونات العربية من بواَّبة المؤتمرات الاقتصادية، واللقاءات السياسية، فقد عرف العرب ـ على مستوى الأنظمة ـ كيف يفتحون الأبواب الاقتصادية والسياسية للعدوّ وحكومته اليمينية المتطرفة، تارةً تحت عنوان "المنتدى الاقتصادي العالمي الخاص بالشرق الأوسط"، وطوراً تحت عنوان ما يسمّى عملية السلام، وفي المحصّلة، تواصل عملية التطبيع مسيرتها المتسارعة بين العدوّ وعرب "الاعتدال".
ذكرى النكبة
وفي الذكرى الحادية والستين للنكبة، نلمح مخططاً دولياً، تشترك فيه أطراف عربية وإقليمية، يعمل لنكبة شاملة تُفضي لضياع فلسطين والقضية الفلسطينية، بذريعة تقديم العرب مزيداً من التنازلات، بما فيها العمل لدفع 57 دولة إسلامية إلى الاعتراف بإسرائيل، في مقابل موافقتها على شكل معين من أشكال الدولة الفلسطينية.
الاعتدال الإسرائيلي!
لقد طوّر العرب، الذين يطلق عليهم الأميركيون تسمية "عرب الاعتدال"، من استراتيجيتهم في الاقتراب من العدو أكثر كلما قرر أن يذلّهم أكثر، وأخذوا في الاعتبار المتغيّرات التي يفرضها المحتلّون اليهود من خلال اختيارهم لحكومة أكثر تشدداً... فوجدوا أن الوسيلة الأفضل لحشر إسرائيل في الزاوية، تكمن في الانبطاح أكثر أمامها، وتقديم المزيد من العروض التنازلية لها بحجة إحراجها أكثر؟!
ولعل آخر مشاريع الانسحاق أمام العدو| ما تحدثت عنه "الفايننشال تايمز" البريطانية، من وجود "خطة عمل تناقشها دول عربية عدة تزيد خلالها من حجم الاتصالات" مع كيان العدو، بما في ذلك السماح للخطوط الجوية الصهيونية بالمرور فوق أجوائها، مع إقامة روابط اتصالات جديدة معه، لمجرد أن يتعهّد العدو للولايات المتحدة الأميركية بتجميد الاستيطان لا وقفه...
ولعلَّ هذه الأجواء هي التي دفعت أحد الأمراء العرب، والذي شغل منصب رئيس جهاز الاستخبارات، وكان سفيراً لبلاده في أكثر من موقع، إلى التفاؤل بإمكانية "تغلّب الجيل الحالي على شعور الكراهية بين العرب والفلسطينيين من جهة، والإسرائيليين من الجهة الأخرى"، كما يقول... هذا ودماءُ الفلسطينيين في غزة لم تجفَّ بعد، والتحقيقات حول المجازر الكبرى فيها لم تنتهِ... ولكن لبعض العرب أسلوبهم في نبذ الكراهية والخضوع لعدوّهم كلَّما تمادى في قتلهم أكثر... حتى في الوقت الذي يصرّح كبير حاخاماتهم بأن العرب "أفاعي وحشرات ينبغي التخلّص منها".
لقد أحرق هذا الجيل من السياسيين العرب المتملّقين للعدوّ مراحل بأكملها، وأَجْهَز على فُرص كان من الممكن أن تدفع بالعدو إلى الخضوع عند أكثر من محطَّة... وهو يتحدث في هذه الأيام بلغةٍ أقلّ ما يُقال فيها إنّها لغة العدو نفسه، عندما يُصرّح لصحافة العدو بأن إيران تمثل الخطر الداهم على المنطقة كلها... وحتى عندما يشرب أمين عام الجامعة العربية شيئاً من حليب السباع، فيعلن أنَّ الترسانة النووية الإسرائيلية هي التي تشكّل تهديداً لأمن المنطقة وليس المشروع النووي الإيراني السلمي، يُسارع رئيس كيان العدو إلى تذكيره بهجوم رئيس هذه الدولة العربية على إيران وأنها هي الخطر...
نكبة الساسة العرب
إنَّ هذا الجيل من السياسيين العرب المترهّلين، والذين يمثلون النكبة الحقيقية للأمة، هو جيل الهزيمة العربية الذي لا ينتمي إلى شعوب الأمة وتطلّعاتها، ولا إلى تراثها وأصالتها، وعلى الأمَّة ـ بطلائعها الحيّة، وطاقاتها الشابّة الطموحة، أن تبادر إلى إطلاق عجلة التّغيير والإصلاح، قبل أن يُسلّم هؤلاء بقية المواقع للعدوّ التاريخي، وللمحتل الأكثر إجراماً وحقداً في التاريخ المعاصر.
الاستجداء ليس طريقاً للخلاص
ونحن عندما نتطلَّع إلى ما يجري في باكستان وأفغانستان من قتل ودمار وتشريد للملايين، لا نرى دموعاً تُذرف في العالم إلا دموع الخوف على الترسانة النووية الباكستانية من أن تقع في أيدي المتطرفين الإسلاميين، كما يقول الأميركيون... وعندما نلتفت إلى ما يجري في العراق من ملاحقة المدنيين بالمتفجرات الحاقدة، وننظر إلى الدماء التي تسيل أنهاراً في الصومال، ونحدّق في السودان الذي تنتهكه إسرائيل تارةً، وبعض الدول المجاورة أخرى، نعرف أن حجم الهجمة على الأمة هو أكبر بكثير مما يظن البعض، وندرك أنَّ الخلاص لا يمكن أن يأتي من طريق استجداء المواقع الدولية التي لا همّ لها إلا تفتيت البلاد العربية والإسلامية، تارةً تحت عنوان مكافحة الإرهاب، وطوراً تحت عنوان المذهبية... وصولاً إلى العناوين القومية التي يُراد تحريكها من جديد في وجه كلَّ من تحدّثه نفسه أن يقف إلى جانب الشعب الفلسطيني في مواجهة جلاّديه...
ضرورة الوحدة
إننا نعتقد أن المرحلة التي تزداد خطورةً على المستويات كافةً تستدعي حركةً غير عادية من علماء الأمَّة ومرجعياتها، لإعادة رصِّ الصفوف، وإنتاج جبهة وحدوية إسلامية منيعة تعيد الأمور إلى نصابها في الساحات الداخلية، وتدفع بالطاقات الخيّرة والمبدعة إلى تحفيز خطواتها وحركتها في مواجهة عدو الأمة وقوى الاستكبار العالمية التي لا تزال تتحيَّن الفرص للانقضاض على مواقع جديدة في الأمة، على الرغم من مآزقها السياسية والاقتصادية الكبرى.
التّحضير لمواجهة العدو
أما في لبنان، الذي يقف في هذه الأيام عند منعطف سياسي يطل على تاريخ السابع عشر من أيار، الذي قدّم اتفاق الذل الذي أسقطته الجماهير المؤمنة انطلاقاً من مسجد الإمام الرضا(ع) في بئر العبد، وتواصلاً مع حركة المقاومة الباسلة، وتاريخ الخامس والعشرين من أيار الذي حمل بشائر النصر إلى الأمة كلها، لا بل إلى أحرار العالم...
إن لبنان الرسمي والسياسي والشعبي، مدعوٌّ في هذه الأيام إلى إعلان انتمائه الحقيقي إلى حقبة الانتصارات والإبداعات الخلاّقة التي قهرت العدو، وجدَّدت الانتصار عليه في حرب تموز من العام 2006، كما هو مدعو إلى نبذ أي انتماء إلى اتّفاق الذل المشؤوم الذي أُريد لمحطة السابع عشر من أيار أن تكون المنطلق لزحف احتلالي استكباري يجعل المنطقة كلها فريسةً بيد إسرائيل وأمريكا.
ذكرى التحرير
إننا عندما نطل على ذكرى التحرير بنتائجها الكبرى والحاسمة، نعرف أنها لم تكن المتنفّس للبنانيين والجنوبيين فحسب، بل كانت الفجر الذي انطلق منه نور الكرامة والعزة إلى مختلف الساحات العربية والإسلامية، ولذلك أُريد لليل الأنظمة أن يطوّق فجر هذا الانتصار، وما أعقبه من هزيمة للعدو... ومن هنا ندرك حجم الهجمة المضادة التي دفعت بالعرب على مستوى الأنظمة إلى الذّوبان أكثر في أحضان العدوّ، لأن الخطة هي أن يزحفوا إلى مواقع الذلّ خوفاً من أن تزحف إليهم جموع الحرية والكرامة والعنفوان.
الالتفاف حول المقاومة
إننا في هذه اللحظات، ووسط ضجيج السياسة، وفوضى السجال الانتخابي في الداخل، ندعو اللبنانيين جميعاً إلى الالتفاف أكثر من أيِّ وقت مضى حول مقاومتهم الشريفة، التي مثلّت وتمثل أبرز عنوان من عناوين العزَّة في الأمة، وخصوصاً في الوقت الذي يكتشف الجميع حجم الاختراق الإسرائيلي من خلال شبكاته التجسسية، ومن خلال تهاويله وتهديداته التي ترسمها تصريحات مسؤوليه ومناورات جيشه في الميدان.
إننا نريد للبنانيين أن يتلمّسوا الخطى في وحدتهم الداخلية، وألا ينخرطوا في سجالات لا تفيدهم ولا تفيد الوطن حول كلمة هنا، وفاصلة هناك، وأن يجعلوا جلّ همهم في كيف يتحرك الجميع لحماية الوطن من العدو الغادر، وكيف يقْصُروا حركتهم على النافع لهم، وعلى كل ما من شأنه أن يبني الدولة الحرة العادلة القوية.