التزام الأمانة يؤدِّي إلى الإيمان والخيانة أقبح الأخلاق

التزام الأمانة يؤدِّي إلى الإيمان والخيانة أقبح الأخلاق

بسم الله الرحمن الرحيم

خطبتا صلاة الجمعة لسماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله

 

ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:

التزام الأمانة يؤدِّي إلى الإيمان

والخيانة أقبح الأخلاق

الأمانة قيمة إسلامية إنسانية

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد وهو يتحدث عن عناصر فلاح المؤمنين: {والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون} [المؤمنون:8]، ويقول تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها} [النساء:58].

الأمانة هي قيمة إسلامية إنسانية أخلاقية، تنطلق من عهدٍ بين صاحب المال الذي يتركه على نحو الأمانة، وبين الذي يحتفظ بالأمانة، فصاحب المال يعطي الإنسان المؤتمَن الثقة به بأنه سيحفظ له أمانته، والمؤتمَن يعطيه العهد بأنه سوف يحفظ أمانته ويرعاها ولا يخونها. والأمانة لا تقتصر على المال فحسب، بل إنها تمثل كل أمر يتكفّل الإنسان بحفظه ويتحمّل مسؤوليته، في ما يحمّله الآخرون من مسؤولية، فالزوجة أمانة الله عند زوجها، والعكس صحيح، من خلال العقد الذي يربط بينهما، حيث يلتزم كل منهما بحقوق الآخر، فحق كل منهما عند الآخر هو أمانة لا بد من أن يرعاها ويحفظها ويؤدّيها إليه.

وهكذا تمتد الأمانة لتشمل المسؤوليات التي يتحمّلها العامِل عند صاحب العمل، من خلال العقد الذي يلتزم فيه العامل بأن يقوم بكل ما تفرضه عليه وظيفته تجاه صاحب العمل، وصاحب العمل يمثل الأمانة من خلال تقديم ما يجب أن يقدِّمه للعامل جزاء عمله. وتمتد المسألة في الأمانة إلى الأمانة على المجتمع، فالمجتمع يمثل المسؤولية الكبيرة التي يتحمّلها كل أفراده، وهو أمانة الله عندهم جميعاً، وعليهم أن يحفظوه من السقوط والتمزّق والانهيار والفتنة، ومن كل ما يُسقط قضاياه وأوضاعه في جميع المجالات، فكل إنسان في المجتمع مؤتمن بأن يؤدي للحياة الاجتماعية التي ترتبط بها قضايا الناس ومصالحهم، كل ما يحفظ هذه الحياة وينمّيها ويرعاها.

وتمتد المسألة إلى الوطن كله، فالوطن هو أمانة الله عند المواطنين، بأن يحفظوه من كل من يريد إسقاطه، أو يفرض الاستكبار عليه، أو يعمل على إثارة الفتن بين أفراده. وتنطلق المسألة إلى كل حكومة تقود الناس وتحكمهم؛ فالحاكم مسؤول عن أداء الأمانة التي حمّله إياها الشعب عندما ارتضوه حاكماً، وعليه أن يؤدي إليهم حقوقهم في رعاية أمورهم وتدبيرها، وقضاء حاجاتهم، وتأكيد حرياتهم وأصالتهم. وعندما ينتخب الناس أشخاصاً ليمثلوهم في تقرير ما يصلحهم وتأمين ما يحتاجونه في المجلس النيابي أو الشورى أو في الجمعيات والمؤسسات المختلفة، فإن هذا الصوت الذي يحصلون عليه، هو أمانة، وهو يحمّلهم مسؤولية أن لا يخونوا هذا الصوت الذي أعطاهم هذه الثقة، فلا ينطلقوا في أيّ مشروع يسقط الواقع، ويؤثّر تأثيراً سلبياً على الأمة والوطن.

مسؤولية الأمانة وآثارها

وقد جاء في القرآن الكريم: {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون} [الأنفال:27]، فخيانة الأمانة لا تتصل بالشخص نفسه، بل بالشعب كله، والوطن كله، والحياة كلها، ولذلك علينا أن نرعى الأمانة. وقد ورد عن رسول الله(ص) وهو يريد أن يعرّفنا معيار القيمة الكبرى للإنسان، قوله(ص): "لا تنظروا إلى كثرة صلاتهم وصومهم، وكثرة الحج والمعروف، وطنطنتهم بالليل والنهار، ولكن انظروا إلى صدق الحديث وأداء الأمانة"، فإذا صدقوا في أحاديثهم ولم يأخذوا بأسباب الكذب، وأدوا الأمانات إلى أهلها، يمكن أن تحكموا عليهم بالإيمان، ويكونون ممن يحبّهم الله ويرضاهم.

وفي حديث للإمام عليّ(ع): "أفضل الإيمان الأمانة، وأقبح الأخلاق الخيانة"، لأن الأمانة تدل على أنّ هذا الإنسان يتحمّل مسؤولية ما ائتمن عليه، بينما الخيانة تدل على عكس ذلك، وأنّ هذا الإنسان لا يتحمّل مسؤولية ما يؤتمن عليه. وورد أيضاً عن الإمام الباقر(ع): "ثلاث لم يجعل الله عزّ وجلّ لأحد فيهن رخصة: أداء الأمانة إلى البرّ والفاجر ـ لا فرق بين أن يكون الذي ائتمنك إنساناً طيباً صالحاً أو فاجراً فاسقاً ـ والوفاء بالعهد للبرّ والفاجر، وبرّ الوالدين برّين كانا أو فاجرين".

ويقول الإمام الصادق(ع): "اتقوا الله، وعليكم بأداء الأمانة إلى من ائتمنكم، فلو أن قاتل أمير المؤمنين ائتمنني على أمانة لأدّيتها إليه". فكم هي جريمة ابن ملجم الذي قتل أمير المؤمنين(ع)، ومع ذلك، فإن الصادق(ع) يقول إنّه يلتزم بتأدية الأمانة إليه إذا قَبِل منه ذلك. وهذا ما نقوله لكل من يستحلّ أموال غير المسلمين، كأولئك الذين يختلسون المال من البنوك في المغتربات أو ما إلى ذلك، فإن ذلك حرام في حرام في حرام.

حفظ الأمانة

وفي كلام للإمام عليّ(ع): "لا تخن من ائتمنك وإن خانك"، فلو خانك شخص وعاد وائتمنك على شيء وقبلت أمانته، فعليك أن تحفظ له أمانته. وعن رسول الله(ص): "لا إيمان لمن لا أمانة له"، فالله تعالى لا يعتبر الإنسان مؤمناً وإن نطق بالشهادتين ما لم يؤدِّ الأمانة، لأنّه بذلك يكون مؤمن اللفظ ولكنه كافر العمل. وعنه(ص): "من خان أمانةً في الدنيا ولم يردّها إلى أهلها، ثم أدركه الموت، مات على غير ملّتي، ويلقى الله وهو عليه غضبان".

وجاء في قوله تعالى: {إنّا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً} [الأحزاب:72]. ويعلّق الإمام عليّ(ع) على هذه الآية الكريمة، فيقول: "ثم أداء الأمانة، فقد خاب من ليس من أهلها، إنها عُرضت على السموات المبنية، والأرضين المدحوّة، والجبال ذات الطول المنصوبة، فلا أطول ولا أعرض ولا أعلى ولا أعظم منها، ولو امتنع شيء من طول أو عرض أو قوة أو عزّ لامتنعن، ولكن أشفقن من العقوبة، وعقلن ما جهل من هو أضعف منهن، وهو الإنسان، إنه كان ظلوماً جهولاً". وقد فُسِّرت الأمانة في هذه الآية بأمانة التكليف والمسؤوليات التي حمّلها الله تعالى للإنسان في ما أمره به ونهاه عنه.

لذلك علينا أن نرتفع إلى مستوى الالتزام بالقيم الأخلاقية التي تحفظنا في مجتمعاتنا، وتجعلنا نرتفع إلى مواقع القرب من الله.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، فماذا هناك؟

إسرائيل: مفاوضات وهمية تدميرية

في المشهد الصهيوني، يتوزع قادة العدو الأدوار في تجاذب سياسي يستحضر مواقع السلطة في المستقبل، ولا يلغي لعبة المكر السياسي في المفاوضات مع السلطة الفلسطينية، التي يلعب فيها العدو على الوقت الضائع، وتفكيك المطالب الفلسطينية الواحد تلو الآخر، وتأخير البحث في مسألة القدس وصولاً إلى إخراجها من دائرة التفاوض كلياً، لأن الصهاينة يتطلعون إلى احتواء القدس على جميع المستويات، لتفتح لهم ـ هذه المدينة الروحية ـ أبواب القداسة المطلة على التاريخ، ولتشرّع أمامهم أبواب العالم في مضمونها الديني الذي يعملون على تزويره في الحديث عن هيكل سليمان، وفي سعيهم لهدم المسجد الأقصى، ومنع العرب والمسلمين من التفاعل مع مواقعهم المقدسة، ومن التواصل الروحي والعملي مع مسرى نبيهم ومعراجه.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن العدو يلعب على المفاوض الفلسطيني في طرح تبديل الأراضي، لإبقاء المستوطنات والجدار الفاصل الذي يُراد له أن يكون خط الحدود الذي ينهي الدولة الفلسطينية القابلة للحياة، ومع ذلك، فإن رئيس وزراء العدو يحاول تهدئة خواطر الصهاينة وطمأنتهم بأن أي اتفاق من هذا النوع لن يُبصر النور في التطبيق العملي إلا بعد عشر سنوات.

وفي ضوء ذلك، تبرز الأهداف الإسرائيلية والأميركية الخبيثة من وراء مشروع المفاوضات الذي يراد له أن يُضيّق الخناق على الفلسطينيين، ويسقط حلم الدولة من وعيهم وسعيهم، وأن يُقدّم للإدارة الأميركية مكسباً سياسياً تستطيع استخدامه لحساب المرشح الجمهوري في الانتخابات الأميركية القادمة، وذلك عبر التوقيع على إعلان مبادئ عامة تساهم في تضييع القضية الفلسطينية أكثر، وتمنح العرب مزيداً من الأوهام السياسية في قضاياهم المصيرية.

إننا نحذر السلطة الفلسطينية من متابعة السير في هذا الخط التدميري للقضية من خلال مفاوضات من هذا النوع، وندعوها إلى الإفساح في المجال للمقاومة الفاعلة التي تستطيع أن تكبح جماح المشروع الإسرائيلي، وليُصار إلى إعادة إنتاج القضية بالحركة السياسية والجهادية الفاعلة، التي تحمل الشعارات الواقعية في حركة الخطة التحريرية، والتي تجزم بأن ما أخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة، وليبقى كيان العدو مهتزاً بفعل المقاومة الفاعلة التي تستطيع أن تخلط الأوراق في المنطقة لحساب القضية المركزية للعرب والمسلمين.

ومن جانب آخر، فإن التهديدات المتلاحقة التي يطلقها وزير الحرب الصهيوني، والمتزامنة مع المناورات المكثفة التي يجريها جيش العدو، إضافةً إلى الحديث الدائم عن خطط جاهزة للهجوم على إيران، قد يدخل في التجاذبات الصهيونية الداخلية، كما أنه يدخل في نطاق التخطيط المستمر للعدو لاختراق الساحة العربية والإسلامية الداخلية ومواقع الممانعة، عندما يجد أن الظروف باتت ملائمةً وأن ثمة استرخاءً ما في ساحتنا قد يشجعه على القيام بمغامرة جديدة.

العالم العربي: انفتاح مذلّ على إسرائيل

ومن المؤسف أن العالم العربي ـ والعالم الإسلامي ـ لم يأخذ هذا التطور التهديدي على محمل الجد، بل إن أوضاع حكامهم وفاعلياتهم لا تزال مشغولةً بالانحناءات الذليلة للموقع الأمريكي الذي يدفعهم إلى الانفتاح على إسرائيل، والانغلاق على حركات المقاومة والممانعة والتحرير. وربما كان من سلبيات هذه الأوضاع، أن العلاقات بين البلدان العربية لا تخضع للمصالح الحيوية ومواجهة التحديات الكبرى، انطلاقاً من بعض التعقيدات الشخصية أو الإقليمية أو الدولية، حتى إننا نلاحظ صعوبة التلاقي بين المسؤولين العرب في هذه الدولة أو تلك، بينما نجد انفتاحاً على إسرائيل بالرغم من احتلالها لفلسطين الأرض والإنسان، وحصارها الخانق للشعب الفلسطيني، واجتياحها للقرى والمدن والمخيّمات، وقصفها الوحشي للمناطق المدنية، واعتقالاتها اليومية للشباب الفلسطيني، ومصادرتها للأراضي المحتلة لبناء المستوطنات والجدار الفاصل، ورفضها المطالب المشروعة للشعب الفلسطيني، ما قد يوحي بأن أكثر البلدان العربية قد نفضت أيديها من المسؤولية عن فلسطين، واكتفت بالمقررات الإنشائية التي لا تمنح الفلسطينيين حلاً لمشاكلهم، بينما تتابع اللقاءات بالمسؤولين اليهود من دون أن تحقق أيّ مطلب للشعب الفلسطيني، بل إن بعض هذه الدول يشارك الدولة اليهودية في حصارها لقطاع غزة بحجة الاتفاقات الدبلوماسية مع إسرائيل وربما مع أمريكا. وهذا هو الذي يجعل الآخرين من دول الغرب والشرق يحتقرون العالم العربي في قضاياه المصيرية، ولاسيما في قضية العراق المحتل من قبل أمريكا التي دمرت البنية التحتية، وأثارت الفوضى في أوضاعه، ونهبت ثرواته الطبيعية، وخططت للاستيلاء على نفطه، وضغطت على قراراته في تحقيق السيادة والحرية لشعبه، بفعل الخطط المرسومة للبقاء طويلاً في أرضه، وربما لبناء قواعد عسكرية في مناطقه الاستراتيجية، ولم نجد للجامعة العربية أيّ صوت فاعل في رفض الاحتلال والاهتمام بآلام الشعب العراقي والتعاون مع المسؤولين فيه على حلّ مشاكله الكثيرة.

لبنان: وطن الساحة لا وطن الدولة

أما لبنان، فلا يزال يعيش في الدوامة السياسية التي تحكمها لعبة الكرة المتمثلة بالوطن التي تتقاذفها أرجل اللاعبين في تسجيل النقاط بعضهم على بعض في ساحة آثر اللاعبون فيها عدم الاحتكام للحكم الخبير الأمين، بحيث بات الواقع السياسي يفتقد في دراسته الأمور، العقلية القضائية العادلة التي تدرس الظروف المحيطة بالموضوع الذي تختلف فيه وجهات النظر، ولذلك رأينا كيف تنطلق الأحكام بشكلٍ عشوائي، وبأسلوب التخوين المتبادل والإسقاط العدواني، حتى إن لغة الحوار الإعلامي تحوّلت إلى ما يشبه المهاترات حتى في داخل مؤسسات الدولة، من خلال خلفيات تختزن المشاعر المتوترة الحاقدة. ولعل الخطورة تكمن في أن هذه اللغة في الصراع السياسي أصبحت لغة الشارع المتحزب والمتمذهب والمتطيّف، فلم تعد المحبة هي العمق الإنساني للشعب، ولم تعد الرحمة هي الوسيلة التي تعبّر عن العلاقات الوطنية، ولم تتحول المؤسسات إلى موقع لتبادل الأفكار بشكل عقلاني حضاري هادئ، بل تحوّلت إلى الأساليب الحادة المثيرة التي لا تدرس الأمور بموضوعية بحيث تتحول التخطئة إلى ما يشبه العداوة...

إننا نرى أننا في لبنان، في أمس الحاجة إلى مباشرة الدخول في حوار المختلفين الذين يرصدون مصلحة بلدهم قبل رصدهم مصالحهم الخاصة، ولا بد لهذا الحوار من أن يسلك طريقه إلى المؤسسات بطريقة عملية مدروسة.

هذا من جانب، ومن جانب آخر، فان الأوضاع الأمنية القلقة في أكثر من منطقة في لبنان أصبحت تمثل الخوف لدى المواطنين الذين لا يعرفون كيف تتحرك الفتنة حتى في الموقع الواحد، كما أن الحديث السياسي في الإعلام يثير المعلومات عن الأموال التي تجتذب الناس، ولاسيما الفقراء منهم، إلى المواقف المتوترة، والانتماءات الخاصة، والمذهبيات الخانقة، سواء من الداخل أو الخارج، من أجل تنفيذ بعض المخططات المؤدية إلى إثارة الأوضاع في الواقع الإقليمي من خلال تعقيدات الواقع المحلي الداخلي... وهناك أكثر من حارسٍ للفتنة، وموظف للإثارة، ومشجع للتطرف، ومساعد للإرهاب، لأن لبنان لا يزال ساحةً للتجارب الخارجية التي تحاول أن تجمع المواطنين حول مشاريعها، مستغلةً الضغوط القاسية التي تتحرك في حياتهم الخاصة والعامة، ما قد يؤدي إلى سقوط القتلى والجرحى والتهجير لحسابات مشبوهة لا علاقة لها بالوطن والمواطن، ولاسيما في هذا الجو العاصف بالرياح الدولية المتحركة في ساحات الصراع التي تذكِّر العالم بالحرب الباردة التي تثير في وجدانهم القلق والمخاوف من الحرب الحارة في مناطق النفوذ لهذا المحور الدولي أو ذاك، وهذا ما نريد للبنانيين وللعرب والمسلمين أن يتنبّهوا له، حتى لا يسقطوا في محرقة الكبار الذين يستفيدون من الفتنة المشتعلة التي يثيرونها في ملاعب الصغار.

وأخيراً، إن الناس يستقبلون هذا الشهر المبارك ليجدوا في مواجهتهم الغلاء الفاحش، والظلام الدامس، والظمأ المحرق، والجوع المؤلم، دون أن يجدوا من الحكومة إلا المزيد من الكلام في الوعود التي يقطعها هذا الوزير أو ذاك، والتي تبقى في نطاق التمنيات أو تنتظر في أدراج المسؤولين الذين تتزايد وعودهم وتتناقص أفعالهم.

إننا نحذر من إدخال القضايا المعيشية في متاهات اللعبة السياسية التي قد تسقط الهيكل على رؤوس الجميع، وعلينا أن نلتفت إلى أن الواقع في لبنان يلتقي بأوضاع الصراع في المنطقة التي تختزن فيها العلاقات الدولية الكثير من حالات الحذر المعقَّد، وأنّ هذا البلد يفقد لبنان في ارتباك علاقاته الداخلية والخارجية أكثر آفاق الأمل، لأن المطلوب هو أن يبقى وطن الساحة بفعل توظيف المخابرات الإقليمية والدولية لاهتزازاته الأمنية والسياسية، وللجدل العقيم، والطموح الهزيل، والامتداد للمصالح الدولية، ولا يراد له أن يكون وطن الدولة التي يلتقي مسؤولوها ومواطنوها على وحدة اللبنانيين وصناعة المستقبل.

مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 5 شهر رمضان 1429 هـ   الموافق: 05/09/2008 م

بسم الله الرحمن الرحيم

خطبتا صلاة الجمعة لسماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله

 

ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:

التزام الأمانة يؤدِّي إلى الإيمان

والخيانة أقبح الأخلاق

الأمانة قيمة إسلامية إنسانية

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد وهو يتحدث عن عناصر فلاح المؤمنين: {والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون} [المؤمنون:8]، ويقول تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها} [النساء:58].

الأمانة هي قيمة إسلامية إنسانية أخلاقية، تنطلق من عهدٍ بين صاحب المال الذي يتركه على نحو الأمانة، وبين الذي يحتفظ بالأمانة، فصاحب المال يعطي الإنسان المؤتمَن الثقة به بأنه سيحفظ له أمانته، والمؤتمَن يعطيه العهد بأنه سوف يحفظ أمانته ويرعاها ولا يخونها. والأمانة لا تقتصر على المال فحسب، بل إنها تمثل كل أمر يتكفّل الإنسان بحفظه ويتحمّل مسؤوليته، في ما يحمّله الآخرون من مسؤولية، فالزوجة أمانة الله عند زوجها، والعكس صحيح، من خلال العقد الذي يربط بينهما، حيث يلتزم كل منهما بحقوق الآخر، فحق كل منهما عند الآخر هو أمانة لا بد من أن يرعاها ويحفظها ويؤدّيها إليه.

وهكذا تمتد الأمانة لتشمل المسؤوليات التي يتحمّلها العامِل عند صاحب العمل، من خلال العقد الذي يلتزم فيه العامل بأن يقوم بكل ما تفرضه عليه وظيفته تجاه صاحب العمل، وصاحب العمل يمثل الأمانة من خلال تقديم ما يجب أن يقدِّمه للعامل جزاء عمله. وتمتد المسألة في الأمانة إلى الأمانة على المجتمع، فالمجتمع يمثل المسؤولية الكبيرة التي يتحمّلها كل أفراده، وهو أمانة الله عندهم جميعاً، وعليهم أن يحفظوه من السقوط والتمزّق والانهيار والفتنة، ومن كل ما يُسقط قضاياه وأوضاعه في جميع المجالات، فكل إنسان في المجتمع مؤتمن بأن يؤدي للحياة الاجتماعية التي ترتبط بها قضايا الناس ومصالحهم، كل ما يحفظ هذه الحياة وينمّيها ويرعاها.

وتمتد المسألة إلى الوطن كله، فالوطن هو أمانة الله عند المواطنين، بأن يحفظوه من كل من يريد إسقاطه، أو يفرض الاستكبار عليه، أو يعمل على إثارة الفتن بين أفراده. وتنطلق المسألة إلى كل حكومة تقود الناس وتحكمهم؛ فالحاكم مسؤول عن أداء الأمانة التي حمّله إياها الشعب عندما ارتضوه حاكماً، وعليه أن يؤدي إليهم حقوقهم في رعاية أمورهم وتدبيرها، وقضاء حاجاتهم، وتأكيد حرياتهم وأصالتهم. وعندما ينتخب الناس أشخاصاً ليمثلوهم في تقرير ما يصلحهم وتأمين ما يحتاجونه في المجلس النيابي أو الشورى أو في الجمعيات والمؤسسات المختلفة، فإن هذا الصوت الذي يحصلون عليه، هو أمانة، وهو يحمّلهم مسؤولية أن لا يخونوا هذا الصوت الذي أعطاهم هذه الثقة، فلا ينطلقوا في أيّ مشروع يسقط الواقع، ويؤثّر تأثيراً سلبياً على الأمة والوطن.

مسؤولية الأمانة وآثارها

وقد جاء في القرآن الكريم: {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون} [الأنفال:27]، فخيانة الأمانة لا تتصل بالشخص نفسه، بل بالشعب كله، والوطن كله، والحياة كلها، ولذلك علينا أن نرعى الأمانة. وقد ورد عن رسول الله(ص) وهو يريد أن يعرّفنا معيار القيمة الكبرى للإنسان، قوله(ص): "لا تنظروا إلى كثرة صلاتهم وصومهم، وكثرة الحج والمعروف، وطنطنتهم بالليل والنهار، ولكن انظروا إلى صدق الحديث وأداء الأمانة"، فإذا صدقوا في أحاديثهم ولم يأخذوا بأسباب الكذب، وأدوا الأمانات إلى أهلها، يمكن أن تحكموا عليهم بالإيمان، ويكونون ممن يحبّهم الله ويرضاهم.

وفي حديث للإمام عليّ(ع): "أفضل الإيمان الأمانة، وأقبح الأخلاق الخيانة"، لأن الأمانة تدل على أنّ هذا الإنسان يتحمّل مسؤولية ما ائتمن عليه، بينما الخيانة تدل على عكس ذلك، وأنّ هذا الإنسان لا يتحمّل مسؤولية ما يؤتمن عليه. وورد أيضاً عن الإمام الباقر(ع): "ثلاث لم يجعل الله عزّ وجلّ لأحد فيهن رخصة: أداء الأمانة إلى البرّ والفاجر ـ لا فرق بين أن يكون الذي ائتمنك إنساناً طيباً صالحاً أو فاجراً فاسقاً ـ والوفاء بالعهد للبرّ والفاجر، وبرّ الوالدين برّين كانا أو فاجرين".

ويقول الإمام الصادق(ع): "اتقوا الله، وعليكم بأداء الأمانة إلى من ائتمنكم، فلو أن قاتل أمير المؤمنين ائتمنني على أمانة لأدّيتها إليه". فكم هي جريمة ابن ملجم الذي قتل أمير المؤمنين(ع)، ومع ذلك، فإن الصادق(ع) يقول إنّه يلتزم بتأدية الأمانة إليه إذا قَبِل منه ذلك. وهذا ما نقوله لكل من يستحلّ أموال غير المسلمين، كأولئك الذين يختلسون المال من البنوك في المغتربات أو ما إلى ذلك، فإن ذلك حرام في حرام في حرام.

حفظ الأمانة

وفي كلام للإمام عليّ(ع): "لا تخن من ائتمنك وإن خانك"، فلو خانك شخص وعاد وائتمنك على شيء وقبلت أمانته، فعليك أن تحفظ له أمانته. وعن رسول الله(ص): "لا إيمان لمن لا أمانة له"، فالله تعالى لا يعتبر الإنسان مؤمناً وإن نطق بالشهادتين ما لم يؤدِّ الأمانة، لأنّه بذلك يكون مؤمن اللفظ ولكنه كافر العمل. وعنه(ص): "من خان أمانةً في الدنيا ولم يردّها إلى أهلها، ثم أدركه الموت، مات على غير ملّتي، ويلقى الله وهو عليه غضبان".

وجاء في قوله تعالى: {إنّا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً} [الأحزاب:72]. ويعلّق الإمام عليّ(ع) على هذه الآية الكريمة، فيقول: "ثم أداء الأمانة، فقد خاب من ليس من أهلها، إنها عُرضت على السموات المبنية، والأرضين المدحوّة، والجبال ذات الطول المنصوبة، فلا أطول ولا أعرض ولا أعلى ولا أعظم منها، ولو امتنع شيء من طول أو عرض أو قوة أو عزّ لامتنعن، ولكن أشفقن من العقوبة، وعقلن ما جهل من هو أضعف منهن، وهو الإنسان، إنه كان ظلوماً جهولاً". وقد فُسِّرت الأمانة في هذه الآية بأمانة التكليف والمسؤوليات التي حمّلها الله تعالى للإنسان في ما أمره به ونهاه عنه.

لذلك علينا أن نرتفع إلى مستوى الالتزام بالقيم الأخلاقية التي تحفظنا في مجتمعاتنا، وتجعلنا نرتفع إلى مواقع القرب من الله.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، فماذا هناك؟

إسرائيل: مفاوضات وهمية تدميرية

في المشهد الصهيوني، يتوزع قادة العدو الأدوار في تجاذب سياسي يستحضر مواقع السلطة في المستقبل، ولا يلغي لعبة المكر السياسي في المفاوضات مع السلطة الفلسطينية، التي يلعب فيها العدو على الوقت الضائع، وتفكيك المطالب الفلسطينية الواحد تلو الآخر، وتأخير البحث في مسألة القدس وصولاً إلى إخراجها من دائرة التفاوض كلياً، لأن الصهاينة يتطلعون إلى احتواء القدس على جميع المستويات، لتفتح لهم ـ هذه المدينة الروحية ـ أبواب القداسة المطلة على التاريخ، ولتشرّع أمامهم أبواب العالم في مضمونها الديني الذي يعملون على تزويره في الحديث عن هيكل سليمان، وفي سعيهم لهدم المسجد الأقصى، ومنع العرب والمسلمين من التفاعل مع مواقعهم المقدسة، ومن التواصل الروحي والعملي مع مسرى نبيهم ومعراجه.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن العدو يلعب على المفاوض الفلسطيني في طرح تبديل الأراضي، لإبقاء المستوطنات والجدار الفاصل الذي يُراد له أن يكون خط الحدود الذي ينهي الدولة الفلسطينية القابلة للحياة، ومع ذلك، فإن رئيس وزراء العدو يحاول تهدئة خواطر الصهاينة وطمأنتهم بأن أي اتفاق من هذا النوع لن يُبصر النور في التطبيق العملي إلا بعد عشر سنوات.

وفي ضوء ذلك، تبرز الأهداف الإسرائيلية والأميركية الخبيثة من وراء مشروع المفاوضات الذي يراد له أن يُضيّق الخناق على الفلسطينيين، ويسقط حلم الدولة من وعيهم وسعيهم، وأن يُقدّم للإدارة الأميركية مكسباً سياسياً تستطيع استخدامه لحساب المرشح الجمهوري في الانتخابات الأميركية القادمة، وذلك عبر التوقيع على إعلان مبادئ عامة تساهم في تضييع القضية الفلسطينية أكثر، وتمنح العرب مزيداً من الأوهام السياسية في قضاياهم المصيرية.

إننا نحذر السلطة الفلسطينية من متابعة السير في هذا الخط التدميري للقضية من خلال مفاوضات من هذا النوع، وندعوها إلى الإفساح في المجال للمقاومة الفاعلة التي تستطيع أن تكبح جماح المشروع الإسرائيلي، وليُصار إلى إعادة إنتاج القضية بالحركة السياسية والجهادية الفاعلة، التي تحمل الشعارات الواقعية في حركة الخطة التحريرية، والتي تجزم بأن ما أخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة، وليبقى كيان العدو مهتزاً بفعل المقاومة الفاعلة التي تستطيع أن تخلط الأوراق في المنطقة لحساب القضية المركزية للعرب والمسلمين.

ومن جانب آخر، فإن التهديدات المتلاحقة التي يطلقها وزير الحرب الصهيوني، والمتزامنة مع المناورات المكثفة التي يجريها جيش العدو، إضافةً إلى الحديث الدائم عن خطط جاهزة للهجوم على إيران، قد يدخل في التجاذبات الصهيونية الداخلية، كما أنه يدخل في نطاق التخطيط المستمر للعدو لاختراق الساحة العربية والإسلامية الداخلية ومواقع الممانعة، عندما يجد أن الظروف باتت ملائمةً وأن ثمة استرخاءً ما في ساحتنا قد يشجعه على القيام بمغامرة جديدة.

العالم العربي: انفتاح مذلّ على إسرائيل

ومن المؤسف أن العالم العربي ـ والعالم الإسلامي ـ لم يأخذ هذا التطور التهديدي على محمل الجد، بل إن أوضاع حكامهم وفاعلياتهم لا تزال مشغولةً بالانحناءات الذليلة للموقع الأمريكي الذي يدفعهم إلى الانفتاح على إسرائيل، والانغلاق على حركات المقاومة والممانعة والتحرير. وربما كان من سلبيات هذه الأوضاع، أن العلاقات بين البلدان العربية لا تخضع للمصالح الحيوية ومواجهة التحديات الكبرى، انطلاقاً من بعض التعقيدات الشخصية أو الإقليمية أو الدولية، حتى إننا نلاحظ صعوبة التلاقي بين المسؤولين العرب في هذه الدولة أو تلك، بينما نجد انفتاحاً على إسرائيل بالرغم من احتلالها لفلسطين الأرض والإنسان، وحصارها الخانق للشعب الفلسطيني، واجتياحها للقرى والمدن والمخيّمات، وقصفها الوحشي للمناطق المدنية، واعتقالاتها اليومية للشباب الفلسطيني، ومصادرتها للأراضي المحتلة لبناء المستوطنات والجدار الفاصل، ورفضها المطالب المشروعة للشعب الفلسطيني، ما قد يوحي بأن أكثر البلدان العربية قد نفضت أيديها من المسؤولية عن فلسطين، واكتفت بالمقررات الإنشائية التي لا تمنح الفلسطينيين حلاً لمشاكلهم، بينما تتابع اللقاءات بالمسؤولين اليهود من دون أن تحقق أيّ مطلب للشعب الفلسطيني، بل إن بعض هذه الدول يشارك الدولة اليهودية في حصارها لقطاع غزة بحجة الاتفاقات الدبلوماسية مع إسرائيل وربما مع أمريكا. وهذا هو الذي يجعل الآخرين من دول الغرب والشرق يحتقرون العالم العربي في قضاياه المصيرية، ولاسيما في قضية العراق المحتل من قبل أمريكا التي دمرت البنية التحتية، وأثارت الفوضى في أوضاعه، ونهبت ثرواته الطبيعية، وخططت للاستيلاء على نفطه، وضغطت على قراراته في تحقيق السيادة والحرية لشعبه، بفعل الخطط المرسومة للبقاء طويلاً في أرضه، وربما لبناء قواعد عسكرية في مناطقه الاستراتيجية، ولم نجد للجامعة العربية أيّ صوت فاعل في رفض الاحتلال والاهتمام بآلام الشعب العراقي والتعاون مع المسؤولين فيه على حلّ مشاكله الكثيرة.

لبنان: وطن الساحة لا وطن الدولة

أما لبنان، فلا يزال يعيش في الدوامة السياسية التي تحكمها لعبة الكرة المتمثلة بالوطن التي تتقاذفها أرجل اللاعبين في تسجيل النقاط بعضهم على بعض في ساحة آثر اللاعبون فيها عدم الاحتكام للحكم الخبير الأمين، بحيث بات الواقع السياسي يفتقد في دراسته الأمور، العقلية القضائية العادلة التي تدرس الظروف المحيطة بالموضوع الذي تختلف فيه وجهات النظر، ولذلك رأينا كيف تنطلق الأحكام بشكلٍ عشوائي، وبأسلوب التخوين المتبادل والإسقاط العدواني، حتى إن لغة الحوار الإعلامي تحوّلت إلى ما يشبه المهاترات حتى في داخل مؤسسات الدولة، من خلال خلفيات تختزن المشاعر المتوترة الحاقدة. ولعل الخطورة تكمن في أن هذه اللغة في الصراع السياسي أصبحت لغة الشارع المتحزب والمتمذهب والمتطيّف، فلم تعد المحبة هي العمق الإنساني للشعب، ولم تعد الرحمة هي الوسيلة التي تعبّر عن العلاقات الوطنية، ولم تتحول المؤسسات إلى موقع لتبادل الأفكار بشكل عقلاني حضاري هادئ، بل تحوّلت إلى الأساليب الحادة المثيرة التي لا تدرس الأمور بموضوعية بحيث تتحول التخطئة إلى ما يشبه العداوة...

إننا نرى أننا في لبنان، في أمس الحاجة إلى مباشرة الدخول في حوار المختلفين الذين يرصدون مصلحة بلدهم قبل رصدهم مصالحهم الخاصة، ولا بد لهذا الحوار من أن يسلك طريقه إلى المؤسسات بطريقة عملية مدروسة.

هذا من جانب، ومن جانب آخر، فان الأوضاع الأمنية القلقة في أكثر من منطقة في لبنان أصبحت تمثل الخوف لدى المواطنين الذين لا يعرفون كيف تتحرك الفتنة حتى في الموقع الواحد، كما أن الحديث السياسي في الإعلام يثير المعلومات عن الأموال التي تجتذب الناس، ولاسيما الفقراء منهم، إلى المواقف المتوترة، والانتماءات الخاصة، والمذهبيات الخانقة، سواء من الداخل أو الخارج، من أجل تنفيذ بعض المخططات المؤدية إلى إثارة الأوضاع في الواقع الإقليمي من خلال تعقيدات الواقع المحلي الداخلي... وهناك أكثر من حارسٍ للفتنة، وموظف للإثارة، ومشجع للتطرف، ومساعد للإرهاب، لأن لبنان لا يزال ساحةً للتجارب الخارجية التي تحاول أن تجمع المواطنين حول مشاريعها، مستغلةً الضغوط القاسية التي تتحرك في حياتهم الخاصة والعامة، ما قد يؤدي إلى سقوط القتلى والجرحى والتهجير لحسابات مشبوهة لا علاقة لها بالوطن والمواطن، ولاسيما في هذا الجو العاصف بالرياح الدولية المتحركة في ساحات الصراع التي تذكِّر العالم بالحرب الباردة التي تثير في وجدانهم القلق والمخاوف من الحرب الحارة في مناطق النفوذ لهذا المحور الدولي أو ذاك، وهذا ما نريد للبنانيين وللعرب والمسلمين أن يتنبّهوا له، حتى لا يسقطوا في محرقة الكبار الذين يستفيدون من الفتنة المشتعلة التي يثيرونها في ملاعب الصغار.

وأخيراً، إن الناس يستقبلون هذا الشهر المبارك ليجدوا في مواجهتهم الغلاء الفاحش، والظلام الدامس، والظمأ المحرق، والجوع المؤلم، دون أن يجدوا من الحكومة إلا المزيد من الكلام في الوعود التي يقطعها هذا الوزير أو ذاك، والتي تبقى في نطاق التمنيات أو تنتظر في أدراج المسؤولين الذين تتزايد وعودهم وتتناقص أفعالهم.

إننا نحذر من إدخال القضايا المعيشية في متاهات اللعبة السياسية التي قد تسقط الهيكل على رؤوس الجميع، وعلينا أن نلتفت إلى أن الواقع في لبنان يلتقي بأوضاع الصراع في المنطقة التي تختزن فيها العلاقات الدولية الكثير من حالات الحذر المعقَّد، وأنّ هذا البلد يفقد لبنان في ارتباك علاقاته الداخلية والخارجية أكثر آفاق الأمل، لأن المطلوب هو أن يبقى وطن الساحة بفعل توظيف المخابرات الإقليمية والدولية لاهتزازاته الأمنية والسياسية، وللجدل العقيم، والطموح الهزيل، والامتداد للمصالح الدولية، ولا يراد له أن يكون وطن الدولة التي يلتقي مسؤولوها ومواطنوها على وحدة اللبنانيين وصناعة المستقبل.

مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 5 شهر رمضان 1429 هـ   الموافق: 05/09/2008 م

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية