الإمام الحسن(ع) في ذكرى ولادته:
علمٌ وأخلاقٌ ومظلوميّة تحكي سيرته
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:
الإمام الحسن(ع) والرّعاية النبويّة
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}(الأحزاب:33).
في الخامس عشر من هذا الشهر، شهر رمضان المبارك، كان الحسن بن عليّ (عليهما السلام) أوَّل وليد لعلي(ع) وزوجته السيدة فاطمة(ع)، وقد عاش الإمام الحسن(ع) في أحضان رسول الله(ص) كأخيه الإمام الحسين(ع) الذي شاركه هذا الاحتضان النبويّ، وقد ورد أن رسول الله(ص) كان يضمّهما إليه، ويحملهما على كتفه، ليعرّف المسلمين أنه يحبّهما حبّ الأب لأولاده. وقد ورد في حديث البخاري عن رسول الله(ص) أنّه قال: "الحسن والحسين ريحانتاي في الدنيا"، كما ورد عنه(ص) أيضاً: "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة"، وورد عنه(ص) في مناجاته لله تعالى: "اللهمَّ إني أحبّهما، فأحبّهما وأحبّ من يحبّهما".
وينقل كتّاب سيرته أنَّه كان أشبه النَّاس برسول الله(ص) في صورته الجسدية، وقد ورد عن أنس بن مالك أنّه قال: "لم يكن أحدٌ أشبه برسول الله(ص) من الحسن بن علي". وعن الإمام الصادق عن أبيه عن جدّه زين العابدين (عليهم السلام) قال: "إن الحسن بن علي بن أبي طالب كان أعبد الناس في زمانه وأزهدهم ـ مع أنَّ المال كان بين يديه ـ وأفضلهم ـ علماً وعملاً وأخلاقاً ـ وكان إذا حجّ حجّ ماشياً، وربما مشى حافياً ـ تواضعاً لله تعالى، واحتراماً للسير إلى بيت الله الحرام، وكان لا يمر في شيء من أحواله إلا ذَكَرَ الله سبحانه، حيث كان ذكر الله لا يغيب عن لسانه في أيِّ حال من حالاته، لأنَّ نور الله تعالى كان يشرق في عقله، ويملأ قلبه، ويسير معه في حركته، وكان(ع) ممن باع نفسه لله وأخلص كل حياته له سبحانه، تماماً كأبيه عليّ(ع) ـ وكان أصدق النَّاس لهجةً، وأفضلهم منطقاً ـ كان إذا تكلَّم تكلم بالبليغ من القول ممّا ينفذ إلى عقول الناس وقلوبهم وينفتح بهم على خطِّ الهدى ـ وكان(ع) إذا بلغ المسجد رفع رأسه ويقول: "إلهي ضيفك ببابك ـ وضيافة الله لعباده هي رحمته وعفوه ولطفه ومحبته ـ يا محسن قد أتاك المسيء، فتجاوز عن قبيح ما عندي بجميل ما عندك يا كريم".
عظمته الرّوحيّة والفكريّة
ونحن نعرف أنّ الإمام الحسن(ع) كان في أرفع درجة من العصمة الروحية والأخلاقيَّة والفكريَّة، فقد كان يعيش في طفولته روحانية رسول الله(ص)، إلى جانب روحانية والدته السيدة المعصومة فاطمة الزهراء(ع)، وكان يعيش مع الله في صحبة أبيه الّذي كان ينطلق في المحبة المطلقة لله سبحانه، حتى إنّه كان يقول يسمعه: "فهبني يا إلهي صبرت على عذابك، فكيف أصبر على فراقك، وهبني صبرت على حرّ نارك، فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك"...
ويروي صاحب السيرة، محمَّد بن إسحاق: "ما بلغ أحدٌ من الشرف بعد رسول الله ـ من الهيبة والتقدير والاحترام والتعظيم ـ ما بلغ الحسن بن علي، كان يُبسط له على داره، فإذا خرج وجلس انقطع الطريق ـ كانوا لا يمرون أمامه هيبةً له ـ فما يمر أحد من خلق الله إجلالاً له، فإذا علم قام ودخل بيته فيمرّ الناس". وفي رواية أخرى: "ولقد رأيته في طريق مكَّة نزل عن راحلته فمشى، فما من أحد من خلق الله إلاّ نزل ومشى، حتى رأيت سعد بن أبي وقاص قد نزل ومشى إلى جانبه". وعن واصل بن عطاء قال: "كان الحسن بن علي عليه سيماء الأنبياء، وبهاء الملوك".
وعاش الحسن(ع) طفولته مع أبيه وجدّه وأمّه، فكانت شخصيّته خلاصة قيمهم الروحيَّة، وسموّهم الأخلاقي الروحاني، وعلمهم الغزير. تقول بعض كتب السيرة، إنه كان يأتي إلى المسجد وهو طفل ويستمع إلى جدّه وهو يعظ الناس، فيحفظ كلّ ما يقوله(ص)، ويأتي إلى أمه ليحدّثها عما قاله جدّه في موعظته للناس، ثم يأتي عليّ(ع)، فتحدّثه الزهراء(ع) عمَّا قاله رسول الله، فيسألها: هل كنت معنا؟ فتقول(ع): إن ابني هذا يحدثني بذلك.
وكان(ع) منذ طفولته يراقب إخلاص أمه لله وللناس، حتّى إنّه كان يشاهدها في صلاة الليل وهي تدعو للمؤمنين والمؤمنات ولا تدعو لنفسها، مع أن الزهراء(ع) كانت من خلال الجهد الذي تقوم به في شؤون بيتها، والحمل المتتابع، ضعيفة البدن، وكانت تعيش وضعاً صحياً صعباً حتى آخر حياتها، فالتفت هذا الصبي الصغير الطاهر، وسألها: "يا أماه، لم لا تدعين لنفسك؟" فقالت(ع): "يا بني، الجار ثم الدار".
وكان الإمام الحسن(ع) من أكرم الناس، حتى إنّه خرج من ماله مرتين، وقاسم الله تعالى ماله ثلاث مرات.
رعاية الوحدة الإسلاميّة
كما كان (ع) رفيق أبيه في كلِّ ملمَّاته وبلاءاته وأوضاعه، وصاحبه في رعايته الوحدة الإسلامية، على الرغم من أنّ الخلافة كانت حقه الذي فرضه الله على المسلمين، والّذي بلّغهم إيّاه رسول الله(ص) في قوله: "من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه، اللَّهمّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحقَّ معه حيثما دار". وكان عليّ(ع) يعتمد عليه في معالجة ما حدث من بعض الفتن في الكوفة، إذ وقف(ع) مع الناس، وأخذ يعرّفهم من هو عليّ وما هي عظمته، وأنّه أسبق الناس إلى الإسلام وأقربهم إلى الله تعالى.
الحسن(ع) في حكمه ومواعظه
وعاش الإمام الحسن(ع) مع أبيه كرفيق له في كلِّ قضاياه، وكان الناس يسألون عليّاً(ع) بعض الأسئلة في وقت يكون مشغولاً، فكان يحيلهم إلى ولده الحسن(ع) الذي كان يجيبهم، وكان(ع) يمضي كل ما قاله الحسن(ع). ثم بعد استشهاد الإمام عليّ(ع)، امتدَّت الفتنة التي أطلقها معاوية ضد عليّ(ع)، فنقلها إلى الإمام الحسن(ع) الذي بايعه المسلمون في الكوفة، وحدثت أمور انتهت إلى قرار رأى فيه الحسن(ع) أنّ مصلحة المسلمين هي في أن يهادن معاوية، لأنّ الواقع الإسلامي كان في وضع معرَّضٍ للانهيار.
ودسّ معاوية السمّ للإمام الحسن(ع) على يد زوجته جعدة بنت الأشعث، فاستشهد(ع) مسموماً، وأوصى أخاه الحسين بأن يُدفن عند قبر جده رسول الله(ص)، ولكنّ بني أمية بزعامة أمّ المؤمنين، رفضوا أن يُدفن الحسن(ع) عند قبر جدّه(ص)، وكان الحسن(ع) قد أوصى أخاه(ع) بأن لا يهرق في أمره ملء محجمة دماً، وهكذا دفن في مكان آخر.
وروي عن جنادة بن أبي أمية قال: "زرته عندما كان يجود بنفسه ـ في حال الاحتضار ـ فقلت له: يا مولاي، ما لك لا تعالج نفسك؟" فقال(ع): "يا عبد الله بماذا أعالج الموت"؟ فقلت: "إنّا لله وإنّا إليه راجعون. ثم قلت: عظني يا بن رسول الله"، قال: "نعم، استعدَّ لسفرك ـ وهو السَّفر للآخرة ـ وحصّل زادك قبل حلول أجلك واعلم أنك تطلب الدنيا والموت يطلبك، ولا تحمل همّ يومك الذي لم يأتِ على يومك الذي أنت فيه، واعلم أنك لا تكسب من المال شيئاً فوق قوتك إلاّ كنت فيه خازناً لغيرك ـ عندما تجمع المال، فإنّك تستفيد مما تأكله وتلبسه وتسكن فيه وتتلذَّذ به، أمّا الباقي فإنّه للورثة ـ واعلم أن الدنيا في حلالها حساب، وفي حرامها عقاب، وفي الشبهات عتاب، فأَنْزِل الدنيا بمنـزلة الميتة، خذ منها ما يكفيك، فإن كان حلالاً كنت قد زهدت فيه، وإن كان حراماً لم يكن فيه وزر، فأخذت منه كما أخذت من الميتة، وإن كان العتاب فالعتاب يسير. واعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً ـ ولذلك لا بدَّ من أن يكون عملك في الدنيا مما ينجّيك عند الله يوم القيامة ـ وإذا أردت عزّاً بلا عشيرة، وهيبةً بلا سلطان، فاخرج من ذلّ معصية الله إلى عزّ طاعته ـ والعزَّة بطاعة الله ومحبته والقرب منه سبحانه ـ وإذا نازعتْك إلى صحبة الرجال حاجةٌ، فاصحب مَن إذا صحبته زانك، وإذا خدمته صانك، وإذا أردت منه معونةً أعانك، وإن قلتَ صدّق قولك، وإن صلت شدّ صولك، وإن مددت يدك بفضلٍ مدّها، وإن بدت منك ثلمة سدّها، وإن رأى منك حسنةً عدّها، وإن سألته أعطاك، وإن سكت عنه ابتداك، وإن نزلتْ بك إحدى الملمَّات واساك، مَن لا تأتيك منه البوائق، ولا تختلف عليك منه الطرائق، ولا يخذلك عند الحقائق، وإن تنازعتما منقسماً (أو منفساً) آثرك". قال جنادة: ثم انقطع نَفَسُه، واصفّر لونه حتى خشيت عليه.
هذا هو الإمام الحسن بن علي(ع)، الذي عاش الإسلام كلّه في حضن جدّه وأمه وفي عقل أبيه، وتحمّل مسؤوليَّته عن الواقع الإسلامي، وعانى الكثير من الحاقدين والمنحرفين، ولقي ربَّه وهو في أعلى درجات القرب منه. فالسلام عليه يوم وُلد، ويوم استُشهد، ويوم يبعث حيّاً.
الخطبة الثانية
عباد الله... اتقوا الله، فماذا هناك؟
الإدارة الأمريكية: صانعة الإرهاب والحروب في العالم
في المشهد الأميركيّ، نلتقي بتصريح نائب الرئيس، ديك تشيني، في اتهامه روسيا بالرّجوع إلى أساليب الترويع التي كانت متّبعةً خلال الحرب الباردة، وتمرير الأسلحة إلى إيران وسوريا، وهي تعلم ـ على حدّ قوله ـ أن هذا السلاح "سيصل إلى منظمات إرهابية من فصائل الانتفاضة، كحماس والجهاد في فلسطين وحزب الله في لبنان، معتبراً أنَّ صفقات السلاح الروسي تعرّض فرص السلام في المنطقة للخطر.
ونحن نلاحظ أن الإدارة الأمريكية تتابع ممارسة الترويع للشعوب، فتقتل ـ في شكل مباشر ـ المدنيين الأبرياء مستهدفةً إياهم بطائراتها المتطوّرة وبالقصف الوحشيّ، وهو ما تمارسه في أفغانستان التي أحصت إحدى منظمات حقوق الإنسان عدد المدنيين الذين قتلوا من خلال عمليات القصف الأمريكي الذي تضاعف ثلاثة أضعاف بين عامي 2006م و2007م، فقد قتلت 929 مدنياً على الأقل في عام 2006م، و1633 مدنياً في عام 2007م، أمّا في هذه السنة، فقد قتلت في الأشهر السبعة الأولى أكثر من 540 مدنياً، من دون احتساب ضحايا غارة "هراة" التي حصدت 90 مدنياً من النساء والأطفال والشيوخ والشباب الأبرياء، هذا إضافةً إلى آلاف القتلى الذين قتلتهم في احتلالها العراق، ما يضع أمريكا في المرتبة الأولى في قائمة الإرهاب ضد الشعوب.
إنَّنا نسأل نائب الرئيس الأمريكي "تشيني"، الذي خطَّط لحروب أمريكا ضد العالم العربي والإسلامي، عن صفقات السلاح الأمريكي التي أرسلتها إدارته إلى الدولة اليهودية في عدوانها المتكرر على لبنان، من أجل تدمير بنيته التحتية، وتوفير الإمكانات للمجازر الوحشية التي ارتكبتها إسرائيل في قانا ومروحين وصريفا والغازية والشياح وغيرها، والقنابل الذكية والعنقودية التي ما زالت تقتل اللبنانيين من المزارعين والمدنيين، فضلاً عن مساعدة أميركا لها في تطوير سلاحها النوويّ الذي يمثِّل الترسانة الذرية الكبرى في المنطقة، وتزويدها بأكثر الأسلحة تطوّراً، وإلحاقها بمنظومتها الصاروخية، ما يشجِّع مسؤوليها وجيشها على تهديد الشعب اللبناني بحروب مستقبلية قادمة ضدّه، كما يشجّعهم على قتل المزيد من المدنيين الفلسطينيين بالقصف الوحشي من طائراتها ومدافعها الصاروخية، الأمر الذي أبعد المسألة الفلسطينية عن مسارات الحلول التي يتحدثون عنها، وأدخلها في متاهات الحصار والمآسي وحرب التجويع، وشجّع إسرائيل على العبث بما يسمّونه عملية السلام في بناء المستوطنات والجدار الفاصل ومصادرة القدس ومعها حق العودة للاجئين.
إنَّ الإدارة الأمريكية تمثل حركة الدولة التي تصنع الحروب، وتمنع السلام، وتحرِّك استراتيجيتها لخلق التوترات الأمنية في العالم، وخصوصاً العالم الإسلامي الذي تخطِّط للإطباق على سياسته وثروته وأمنه، من أجل السيطرة على أوضاعه لحساب إمبراطوريتها الكونيّة وقوة حليفتها إسرائيل. ولعلَّ حركتها في خلق الفوضى الأمنية في القوقاز لتطويق روسيا سياسياً، وتهديدها بالدرع الصاروخي لإضعافها في تلك المنطقة، هي الشاهد على الاستراتيجية التي تخطط لها هذه الإدارة لإبقاء العالم في قبضة الفوضى التي قد تدفع الاتحاد الأوروبي معها في تعقيد علاقاته بأكثر من موقع من مواقع الصراع.
ومن جانب آخر، يتحدث الإعلام العسكري الأمريكي عن أن وحدات أميركية متخصّصة قامت بتدريب عناصر أمنية لبنانية رسمية على مكافحة الإرهاب، ونحن لا نمانع من حصول قوى الأمن اللبناني على الخبرة في مواجهة الإرهاب وظواهره المتعدّدة، ولكن لبنان بحاجة إلى أن يملك القوة في مواجهة الإرهاب الإسرائيلي الذي لا يزال يواصل ضغطه العدواني على اللبنانيين جوّاً وبراً وبحراً، وخصوصاً في اختراقات طائراته المتكرّرة للأجواء اللبنانية، من دون أن تملك قوات اليونفيل منعه، لأن الولايات المتحدة الأمريكية لا توافق على ذلك، ولأنّ مجلس الأمن غير قادر على إدانة إسرائيل على عدم التزامها بالقرارات الدولية، بما فيها القرار 1701، لأنّ أمريكا بالمرصاد لأيِّ قرار يدينها. وإلى جانب ذلك، يواصل وزير حرب العدو تهديداته للبنان، في سياق رسائل سياسية وأمنية تفوح منها رائحة التفويض الأمريكي للعدو للدخول على خط الحوار اللبناني الداخلي، وهو ما ينبغي مواجهته بكل دقة وحزم.
خدعة مكافحة الإرهاب
إن مسألة مكافحة الإرهاب التي تتاجر بها الإدارة الأمريكية ليست مسألةً واقعيةً، بل إنّها تمثّل العنوان السياسي والأمني لمحاصرة كل الجماعات العربية والإسلامية الرافضة للسياسة الأمريكية، للقضاء على مقاومتها، ومنعها من الأخذ بأسباب الحرية في تقرير مصيرها، وذلك من خلال المسؤولين عن حكم هذه البلدان في المنطقة، الذين وظّفتهم أمريكا لتحويل بلادهم إلى سجنٍ لشعوبهم بفعل قوانين الطوارئ والمخابرات المحلية التي تسيطر عليها المخابرات الأمريكية، الأمر الذي يؤدّي إلى المزيد من المواجهة للوجود الأمريكي.
ولقد سقطت القوات الأمريكية في أفغانستان والعراق وباكستان تحت تأثير المقاومة الشعبية التي تواجه الجيش الأمريكي الذي بدأت قواته تخسر الآلاف من جنوده من القتلى وعشرات الآلاف من الجرحى، فضلاً عن الدمار النفسي الذي يسقط جنوده في حركتهم في الحرب، حيث اقتربت نسبة الانتحار في الجيش الأمريكي في هذه السنة من نسبة الانتحار لدى المدنيين للمرة الأولى منذ حرب فيتنام، فقد اعترف مسؤولون في الجيش الأمريكي بأن 93 جندياً انتحروا في هذه السنة، وهو رقمٌ يقترب من الرقم القياسي الذي سجّل عام 2007 وبلغ 115 جندياً، مؤكِّدين أنّ هذا الوضع "لم يحصل منذ أواخر الستينات ومطلع السبعينات أو حتى خلال حرب فيتنام".
إنّنا نستوحي من هذه الإحصاءات أنّ الجنود الأمريكيين لم يقتنعوا بهذه الحرب، وخصوصاً عندما يواجهون المآسي التي يعانيها الشعب الذي يحاربونه، ولا سيما في قتل الأطفال والنساء والمدنيين الأبرياء، وتشريد الناس من بيوتهم، وتدمير بناهم التحتية، وصولاً إلى منعهم من الحصول على الخدمات الحيوية الإنسانية في بلادهم، ما يجعلهم يشعرون بأنّهم يمارسون الجريمة ضد الإنسانية في حربهم هذه.
لبنان: مصالحات وحوارات وطنية
أما في لبنان، فلا يزال الخطاب المتوتر الذي يثيره بعض السياسيين ضد خصومهم يسيطر على الذهنية العامة، من خلال الجدل الذي يسجّل فيه كل فريق نقطةً سلبيةً على الآخر، بالطريقة التي تتشنّج فيها التفسيرات، ويُحرِّف فيها الكلام، ما يزيد الموقف توتراً لحسابات داخلية أو خارجية، أو يزيد من تعقيد العلاقات مع هذه الدولة الشقيقة أو تلك، بما يؤدي إلى تعطيل التقارب وإبعاد التفاهم في القضايا التي تربط البلد بمحيطه، ما قد يشير إلى أن الإيحاءات الخارجية الإقليمية والدولية لا تزال تفرض نفسها على الحركة السياسية في الوطن.
إنّنا، أمام هذا الواقع، ندعو الجميع إلى اللقاء حول المصالحات التي حدثت في الشمال، وتأكيد العمل من أجل درء الفتنة، وصنع السلام، وإعادة التواصل بين المواطنين، والإفساح في المجال للتعاون من أجل بناء الوطن على أسس سليمة، وانفتاح المواطن على مواطنه بعيداًً من التعقيدات المذهبية والطائفية والزنازين السياسية الشخصانية، واعتماد الخطاب الوحدوي الوطني، والأخذ بأسباب الوحدة الإسلامية، ورفض الترويج للفتنة العمياء، والخلافات العقيمة والغيبوبة في كهوف التراكمات التاريخية، وإبعاد الحاضر والمستقبل عن الاهتمامات الكبرى والقضايا المصيرية.
كما نؤكِّد ضرورة توسعة حركة الحوار بين الأفرقاء على مستوى الزعامات السياسية والقواعد الشعبية، ليكون لبنان وطن الحوار الذي يلتقي فيه الشمال بالجنوب، والجبل بالعاصمة، في الوقت الذي على الدولة أن تواكب ذلك بعملية التنمية على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسيَّة والأمنية، وذلك من خلال اتخاذ الحكومة قراراتٍ اقتصاديةٍ أكثر شجاعةً فيما يتصل بأمور العمّال والموظفين، وترتيب أوضاع الطبقات الفقيرة التي أصبحت تمثل أكثرية الشعب اللبناني بعدما كادت الطبقة المتوسّطة أن تختفي بفعل الغلاء الفاحش ومشاكل الواقع الاقتصادي، وذلك من ضمن الإمكانات المتاحة التي يمكن تطويرها وتنميتها بالمزيد من الاتصالات بالدول العربية والأجنبية التي تتحدث دائماً عن اهتمامها بلبنان ومساعدتها له.
وفي هذا الجو، إنّنا نطالب بإعادة تفعيل قانون "من أين لك هذا"؟ لمحاسبة الذي أثروا من مال الدولة، وصادروا أملاكها البرية والبحرية، لتثبت هذه الحكومة المسمَّاة حكومة الوحدة الوطنية، بأنّها للوطن كلّه، لا لأصحاب النفوذ الذين يهدرون المال العام لحساب جماعاتهم، ويعطون الرشاوى لمصلحة انتخاباتهم.
إنّ الشعب اللبناني يطالب بحكومة الوطن لا بحكومة أو دولة الأشخاص الذين ما زالوا ينقلون البلد من مشكلة إلى مشكلة، بعيداً من أيّ حل واقعي لأوضاعه المعقّدة، لأنَّ الكثيرين منهم أصبحوا هم المشكلة وليس الحلّ، لأنّهم أدمنوا الشخصانية والطائفية والمذهبية، ولم يدمنوا الوطنية التي تتَّسع للجميع.
وأخيراً، إنّنا نريد للبنانيين أن يحرصوا على حماية أمنهم السياسي إلى جانب أمنهم الاجتماعي والاقتصادي، وأن لا يسقطوا أمام أيَّة محاولة تعمل على نقل البلد من مناخ المصالحات إلى تعزيز واقع الانقسامات، وأن يواجهوا جرائم الاغتيال، كتلك التي حدثت في الجبل قبل يومين، بالمزيد من التماسك والإصرار على التّضامن، ورفض العودة إلى أجواء الفتنة التي يعمل لها العدو، من خلال سعيه إلى اختراق الساحة الداخلية بجرائم الاغتيال المتنقلّة التي سبق وحذّرتُ منها، ومن أن العدو يعدّ العدة لكي تكون المرحلة المقبلة مرحلة اغتيالات وتصفيات لا تطاول فئةً بعينها، ولا تستهدف فريقاً فحسب، بل تستهدف أمن البلد والمقاومة والشعب. |