الغيبة استنهاض لوعي الأمّة والمهدي(عج) امتداد لخطّ الرّسالة في الإمامة

الغيبة استنهاض لوعي الأمّة والمهدي(عج) امتداد لخطّ الرّسالة في الإمامة

بسم الله الرحمن الرحيم

خطبتا صلاة الجمعة لسماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله

ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء فيهما:

الغيبة استنهاض لوعي الأمّة

والمهدي(عج) امتداد لخطّ الرّسالة في الإمامة

كتاب الله والإمامة:

جاء في الحديث عن رسول الله(ص): «إنّي مخلّف فيكم الثقلين؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي، لن تضلّوا ما تمسَّكتم بهما، وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض»، فما دام كتاب الله موجوداً في واقع المسلمين، فإنَّ إماماً من هذه العترة لا بدَّ من أن يكون موجوداً معه، لتتكامل هداية كتاب الله بالعترة الذين يعرّفون الناس أحكام الكتاب وآياته وآفاقه. وجاء عن رسول الله(ص): «لن تنقضي الأيَّام واللَّيالي حتى يبعث الله رجلاً من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي، يملأها عدلاً وقسطاً كما مُلئت ظلماً وجوراً». وعنه(ص):«لو لم يبقَ من الدنيا إلا يوم واحد، لطوّل الله ذلك اليوم حتى يبعث رجلاً من ولدي، يواطئ اسمه اسمي، يملأها عدلاً وقسطاً كما مُلئت ظلماً وجوراً». ذلك هو حجة الله على خلقه الإمام المهدي (عجل الله فرجه وسهّل مخرجه)، والذي نلتقي بذكرى مولده يوم الأحد القادم، في الخامس عشر من شهر شعبان.

ونحن عندما نريد أن نثير هذه المسألة في وعينا العقيدي، فإنّنا نعرف أن الله تعالى أراد للإنسان أن يصل في نهاية المطاف في الدّنيا إلى العدل الشامل الكامل، لأنّ كلّ المراحل الّتي يمرّ بها الإنسان في الدّنيا، فيها الظّلم وفيها العدل، أمّا تلك المرحلة التي أعدّ الله تعالى لها هذا الإنسان العظيم، فيراد لها أن تكون مرحلة العدل كلّه، الذي يطرد الظلم كلّه.

الأئمّة(ع): مسؤوليّة الدّعوة

وعلى ضوء هذا، نستطيع أن نؤكّد حقيقةً إيمانيةً إماميةً، وهي أنّ الأئمة ـ كما ورد عن رسول الله(ص) ـ إثنا عشر إماماً، فقد ورد عنه(ص): «الخلفاء إثنا عشر كلّهم من قريش»، وهذا لا ينطبق إلاّ على أئمَّة أهل البيت(ع)، ولكنَّ الله تعالى جعل للأئمة(ع) منذ عليّ(ع) إلى الإمام الحسن العسكري(ع)، مهمةً رساليةً يدعون فيها إلى الله، ويفصّلون للناس تفاصيل الشريعة، ويعلّمونهم أحكام الله، ويبعدونهم عن كلِّ ضلال وانحراف.

ونحن عندما نقرأ تراثهم(ع)، نجد أنّهم لم يتركوا أيّ قضية يحتاج المسلمون إلى أن يعرفوا حكمها، ولم يكن هناك أيّ خطٍّ يريد الله للمسلمين أن يسيروا عليه على أساس الاستقامة، إلاّ وبيّنه الأئمة(ع) لهم، ولذلك عندما سئل الإمام المهدي(عج): لمن نرجع وأنت تبدأ الغيبة عن الأنظار؟ كان جوابه(عج): «وأما الحوادث الواقعة، فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا، فإنّهم حجتي عليكم، وأنا حجة الله عليهم»، لأنَّ رواة الأحاديث رووا عن الأئمة(ع) كل ما يحتاجه الناس، فهم ليسوا بحاجة إلى من يعرّفهم أحكام الله، فالكتاب وأحاديث النبي(ص) والعترة(ع) كلّها بين أيديهم.

ولذلك لم يجد العلماء طيلة أيام الغيبة الكبرى التي ما زالت مستمرّةً، أية مشكلة في ما يجتهدون فيه لتعريف النَّاس الأحكام الشرعية، حتى في ما كان يستجدّ من أحداثٍ لم تكن موجودةً في بدايات الرِّسالة، لأنّ القواعد الإسلامية الشاملة تتكفّل ببيان الأحكام التي ترتبط بالتطورات التي تتحرك في حياة الناس، فهناك حال اكتفاء من خلال كتاب الله وسنّة نبيّه(ص) وأحاديث أهل البيت(ع) التي هي أحاديث رسول الله(ص)...

الغيبة: استعدادٌ للعدل الشّامل

ولقد أعدّ الله سبحانه الإمام الحجّة لهذه المرحلة التي لا نعرف مداها، وترك للناس الخيار فيما يأخذون به وفيما يتركونه بعد أن أقام عليهم الحجة، وترك لهم أن يطوّروا أوضاعهم المادية والمعنوية، حتى تأتي المرحلة الكبرى التي يتنفّس فيها العالم كلّه إسلاماً... ولذلك، فإنّنا لسنا بحاجة إلى أن نستعير من التيارات التي استحدثها الإنسان قوانين وأحكاماً لنطوّر الإسلام من خلالها، لأن الإسلام هو الذي يطوّر الحياة ولا يخضع لتطوراتها، وإن اجتهاد المجتهدين يمكنه أن يشرح للناس كيف يتحرَّكون ويتطوّرون، ونحن عندما نلتقي ببعض حالات التخلّف، فليس مردّ ذلك إلى الإسلام، بل سببه تخلّف الذهنيات التي تجعل البعض يعتبر نفسه ممثّلاً للإسلام، في الوقت الذي لا يملك أي عمق أو امتداد له، سواء ممّن يعتبرون أنفسهم من علماء الدين أو من المثقفين.

وهناك نقطة لا بدَّ من أن نشير إليها في مسألة الغيبة، وهي أن البعض قد يتصور أن الإمام(عج) لا يظهر خوفاً من اضطهاد الظالمين له، وقد جاء في بعض الآيات ما يمكن أن يوحي إلى هؤلاء بذلك: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا}(النور:55)، وأيضاً في بعض الزيارات يُخاطَب بـ"أيها الخائف"... ونحن لا نوافق على ذلك، لأن الإمام المهدي(عج) غاب من خلال حكمة الله، ومن خلال أنّ الله سبحانه وتعالى أعدّه ليكون إماماً للعالم كلّه، في المرحلة التي يحوّل فيها العالم إلى إسلام متجسّد متحرك في القانون والسياسة والأمن والاقتصاد وما إلى ذلك.

غيبة القوّة لا الضعف

ولذلك، فإنّ طبيعة موقع الإمام(عج) في المهمة التي أُعدّ لها هي طبيعة القوّة، فهي المهمّة الّتي تقتضي أن يغيّر من خلالها العالم ويسقط الظلم والظالمين والاستكبار والمستكبرين، وليست طبيعته الخوف. أمّا امتداد الغيبة كلّ هذه الفترة الطّويلة، فقد انطلق من خلال حكمة الله تعالى الذي يملك العمر في طوله وقصره، وقد تحدث الله تعالى عن نوح(ع) أنه لبث في قومه ألف سنة إلاّ خمسين عاماً، وربما امتدت حياته فيما بعد الطوفان آلاف السنين، ولذلك ليس لأحد أن يتحدث بشكل سلبي عن هذا العمر الطويل. أمّا دوره(ع)، فهو أن يعدّ الحياة من أجل أن تستقبل العدل الشامل.

ارتباط الرّسالة والقيادة

ولذلك، فإنّ ارتباطنا به ليس ارتباطاً شخصياً، كما تصوّره بعض الأدعية، بل إنّ علاقتنا به هي علاقة الإمامة والرسالة والقيادة التي تتحرّك في مستوى العالم كلّه لتغيّره على صورة الإسلام. فإذا كنتم مخلصين لذكراه، وللالتزام بإمامته، فإنّ عليكم أن تصنعوا في كل موقع من مواقعكم عدلاً؛ أن تصنعوا العدل في بيوتكم، وفي أسواقكم، وفي سياستكم واقتصادكم، وفي كلّ حركتكم، لأنّ الإخلاص هو أن نخطِّط لأن نكون المسلمين العادلين الذين يساندون كل قضية للعدل في العالم، حتى لو كان العدل في مواقع غير إسلامية، أن ندعمه بالتأييد وبرفض الظلم في العالم كلّه، وقد ورد في أحاديث أئمة أهل البيت(ع): «إن الله أوحى إلى نبيّ من أنبيائه في مملكة جبار من الجبّارين، أن ائتِ هذا الجبّار: وقل له: إني إنما استعملتك لتكفّ عني أصوات المظلومين، فإني لن أدع ظلامتهم وإن كانوا كفاراً»، فالظلم لا دين له، والعدل لا دين له.

إن ارتباطنا بالإمام المهدي(عج) ليس ارتباطاً عاطفياً، وإن كنا نحبّه ونواليه كما نحبّ أهل البيت(ع) ونواليهم، ولكن علاقتنا به كعلاقتنا برسول الله(ص) وبكل الأئمّة(ع)، هي علاقة رسالة، ولذلك علينا أن نحوّل هذا الحب وهذه الولاية إلى حركة في سبيل الإسلام، دعوةً وشريعةً وسياسةً ومواجهةً للاستكبار كلّه وللكفر كلّه.

"اللهمَّ عجّل فرجه، وسهّل مخرجه، واجعلنا من أنصاره وأعوانه والمستشهَدين بين يديه".

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، فماذا هناك؟        

فلسطين: حصار بغطاء عربي

يحظى الحصار الإسرائيلي للفلسطينيين ـ وخصوصاً في قطاع غزة ـ بتغطية وتأييد عربيين، حيث تقفل المعابر التي تتيح لهم الحصول على حاجياتهم الغذائية والدوائية الأساسية. ولا يشفع للفلسطينيين في غزة، أنهم يتواصلون مع أشقائهم في مصر عبر رفح، لأنّ هذا المعبر يخضع بدوره لإجراءات الحصار. أمَّا الذين حاولوا اختراق هذا الحصار عبر الأنفاق، فكان مصيرهم الموت خنقاً من خلال تدمير الأنفاق عليهم، في إخبار عربي جديد للإسرائيليين، بأنكم لستم وحدكم الذين تمارسون الحصار والضغط على الشعب الفلسطيني، في سياق خطة أميركية إسرائيلية يشترك فيها بعض العرب، ولا يمكن تبرئة السلطة الفلسطينية نفسها من مفاعيلها.

ويتم ذلك كلّه في الوقت الذي يستعدُّ العدو لبناء مستوطنات جديدة في الضفة الغربية، أو توسيع المستوطنات القائمة لنقل المزيد من الأسر اليهودية إليها، فيما العمل جارٍ لتهجير المزيد من الفلسطينيين وتشريدهم في العالم.

ومن اللافت للمراقبين للواقع الفلسطيني، قيام بعض أركان السلطة باقتراح استبدال الدولة الفلسطينية المستقلّة على حدود الرابع من حزيران التي تجهضها إسرائيل، بدولة مشتركة واحدة ثنائية القومية اليهودية والعربية، ما يدل على حال الانهيار التي يعانيها فريق السلطة في قيادته الحالية، وقبوله بالتعايش مع الاحتلال على حساب الحقوق الفلسطينية الثابتة، الأمر الذي يمثِّل تنازلاً فلسطينياً جديداً للعدو الذي يرفض فكرة الدولة المشتركة، فهو يفكر ويعمل لدولة يهودية صافية ليس للعرب أيّ موقع فيها. والجميع يعرف أن اليهود بتحالفهم مع أمريكا وبعض دول أوروبا، يتابعون الضغط على الواقع العربي لتقديم التنازلات للدولة العبرية، حتى لا يبقى هناك أية فرصة للدولة الفلسطينية المستقلة القابلة للحياة، لأن الغرب ليس على استعداد للضغط على اليهود الذين يسيطرون على سياسته وأوضاعه الاقتصادية، مستغلّين هذا الموت في الواقع العربي إزاء حقوقه الحيوية وقضاياه المصيرية، الذي يفرضه القائمون على البلاد العربية وعلى شعوبهم.

إنّنا نقول للعالم العربي والفلسطيني، إذا كان الشعب غير قادر على تحرير أرضه في المرحلة الحالية، فإنَّ الأجيال القادمة ستعمل على إحداث تغييرات مهمة لمصلحة العدالة للشعوب، ذلك أنّ استمرار الانتفاضة من جيل إلى جيل سيحقق في النهاية للشعب الفلسطيني أهدافه الكبرى، لأنه "ما ضاع حق وراءه مطالب".

الإدارة الأمريكية: انتهاكاتٌ لسيادة الدول ودعمٌ للإرهاب

وفي المشهد الأمريكي، كان لافتاً حديث الرئيس الأميركي عن أن روسيا اجتاحت بلداً مستقلاً مجاوراً، وهددت حكومةً منتخبةً ديمقراطياً، وأن هذا العمل وما يماثله غير مقبول في القرن الحادي والعشرين، وهو الأمر الذي يبعث على الغثيان، لأن الرئيس الأميركي هو أول من سن هذه السنّة في هذا القرن باجتياحه أفغانستان والعراق، وبتأييده الحرب الإسرائيلية على حكومة منتخبة ديمقراطياً، كما في حرب العدو على الحكومة الفلسطينية التي شكلتها "حماس"، والتي اعترف العالم كلّه بأنها جاءت بعد انتخابات نزيهة وشريفة، كما أن بوش نفسه هو الذي بارك الحرب الإسرائيلية على لبنان، وأراد لها أن تمتد وتتوسّع ليسقط لبنان وشعبه وبنيته التحتية في قبضة الكيان الصهيوني، وإن لم يستطع أن يحقق ما كان يصبو إليه.

إننا في الوقت الذي نرفض كلَّ أشكال الظلم والعدوان، نجد في الإدارة الأميركية الحالية الصورة الأكثر بشاعة في الانتهاكات الفاضحة لسيادات الدول وحقوق الشعوب وقضايا حقوق الإنسان، وفي دعم الإرهاب والأنظمة المستبدة، ولذلك، فإنّ آخر من يمكنه أن يتحدث عن قضايا مماثلة هو الرئيس الأمريكي ونائبه اللّذان أشعلا العالم بالحروب، ودمّرا مواقع حيويةً ومهمةً في الاقتصاد العالمي.

وفي جانب آخر، نرى أنَّ عقلية الحصار بدأت تفرض نفسها في العلاقات الدولية، بحيث تسعى دول الاستكبار لفرض حصارٍ على دول الممانعة التي ترفض شروطها المذلة، وقد لاحظنا في هذه الأيام، أنَّ ثمة أساطيل بحرية فرنسية وبريطانية وأميركية توجهت إلى الخليج بعد قيامها بمناورات مشتركة تحدث الإعلام عن أنها تحاكي القيام بإجراء محتمل ضد إيران، وذلك بعدما أصدر الاتحاد الأوروبي قراراً جديداً أجاز فيه فرض عقوبات قوية ضد إيران.

إسرائيل: تهديدات واستعداد لحروب جديدة

إنّنا نرى في هذه التحركات، الجديدة تمهيداً لعدوانٍ اقتصادي وسياسي، وربما عسكري، ضدّ إيران، لإجبارها على الرضوخ للشروط الأميركية الإسرائيلية، والتخلّي عن حقوقها المشروعة في البرنامج النووي السلمي، الأمر الذي يستدعي استعداداً على مختلف المستويات لمواجهة المرحلة المقبلة التي تشتدُّ فيها الضغوط من كلِّ حدب وصوب على مواقع الممانعة، لشعور المستكبرين بأن الوقت لا يعمل لمصلحتهم، ولاستعجالهم القيام بإجراءات عدوانية تصعيدية، وهو ما يفترض مواجهته بالوحدة في الواقع العربي والإسلامي، وبالاستعداد لمواجهة أي طارىء.

وليس بعيداً من ذلك، نشهد تهديدات إسرائيلية جديدة بعد مناورات عدوانية في الجولان تحاكي المناورات البحرية الغربية الأخيرة، وبعد حديث لوزير حرب العدو عن أنَّ هذه التدريبات ليست عبثاً، وعن أن العدو لن يسمح بأن تخلَّ المقاومة بالتوازن القائم.

ونحن في الوقت الذي نشعر بخطورة التحركات الصهيونية، وباستعداد العدو على جميع المستويات بما قد يمهِّد لعدوان إسرائيلي جديد ضد لبنان، نستغرب صمت الكثيرين في لبنان حيال هذه التهديدات، وعدم أخذها على محمل الجد، كما نستغرب تصاعد الجدل حول سلاح المقاومة بالطريقة التي يريدها العدو، في عملية تسجيل نقاط سياسية، بدلاً من أن ينفتح الجميع على آلية عملية تقود إلى إعداد خطة ميدانية لمواجهة أي عدوان إسرائيلي محتمل.

لبنان: الطبقة السياسية لا تؤمن بشيء اسمه وطن

وفي لبنان أيضاً، شهدنا في الأيام الفائتة فصلاً جديداً من فصول العبث السياسي تحت قبة البرلمان، في استعراض للعضلات الكلامية الخطابية التي يُحسن البعض كتابتها، ويخفق نوّاب الأمة حتى في قراءتها، ولكنّهم ينجحون في استثارة الغرائز وتهييج الشارع من أجل الوصول إلى أصوات الناخبين من نافذة الحساسيات الحزبية والمذهبية، ولتغدو المؤسسة التشريعية شارعاً متخلفاً في لغته وأسلوبه ومفرداته، وليأخذ الناس من هذه النخبة السياسية منسوباً كبيراً من الحقد بدلاً من المحبة والرحمة والصداقة التي يمكن لها أن تبني بلداً على أسس متينة راسخة، وليساهم ذلك كله في توفير المناخات الملائمة للمجرمين الذين يتسللون من خلالها لارتكاب جرائمهم، كما جرى في طرابلس قبل يومين.

إننا نقول للبنانيين: هذه هي الطبقة التي أنتجتموها وجعلتموها مسؤولةً عنكم وعن قضاياكم في المؤسسة التشريعية، وهذه هي الأسماء التي أدمنتموها في انتخاباتكم التي تتحرَّك غريزياً، بحيث يشعر هؤلاء بأنَّ أفضل وسيلة أمامهم للعودة إلى الندوة النيابية، تتمثل بتحريك الخلافات السياسية وإيقاظ الحساسيات المذهبية، ولو أدى ذلك إلى إحراق البلد وإجهاض مسيرة إنقاذه.

إن هذه الطبقة لا ترقى إلى مستوى لبنان، ولا إلى مستوى قضايا الأمة في هذا الواقع العالمي المضطرب، ولذلك ندعو اللبنانيين إلى ممارسة حقهم الطبيعي في إبعاد هؤلاء عن العبث بمصيرهم، والقيام بما تفرضه عليهم المسؤولية الوطنية العليا، بمنع هذه النماذج من العودة إلى البرلمان، إذا كان هناك من يملك أن يتحرك بإحساس وطني وبمنسوب نقدي رفيع. 

إننا في حاجة إلى جيلٍ جديد من السياسيين يؤمن بربّه من خلال أنَّ الله محبة وأنه الرحمن الرحيم، ويتحمل مسؤولية وطنه بإخلاص وعقلانية، ويتحرك في عملية الحساب للذين كانوا ولا يزالون مشكلة لبنان ولم يستطيعوا أن يكونوا الحلّ، لأنَّ التاريخ الدامي لا يزال يفرض نفسه على حركتهم في الحاضر من أجل دماء جديدة وعصبيات وأحقاد متحركة... ويبقى للمحاور الإقليمية والدولية حركيتها في لبنان الساحة، لأنّه لم يبق في النظام الطائفي الذي يزرع الطائفية في العقول والمشاعر والواقع من يؤمن بأنَّ هناك شيئاً اسمه لبنان أو الوطن.

مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 13 شعبان 1429 هـ  الموافق: 15/08/2008 م

بسم الله الرحمن الرحيم

خطبتا صلاة الجمعة لسماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله

ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء فيهما:

الغيبة استنهاض لوعي الأمّة

والمهدي(عج) امتداد لخطّ الرّسالة في الإمامة

كتاب الله والإمامة:

جاء في الحديث عن رسول الله(ص): «إنّي مخلّف فيكم الثقلين؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي، لن تضلّوا ما تمسَّكتم بهما، وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض»، فما دام كتاب الله موجوداً في واقع المسلمين، فإنَّ إماماً من هذه العترة لا بدَّ من أن يكون موجوداً معه، لتتكامل هداية كتاب الله بالعترة الذين يعرّفون الناس أحكام الكتاب وآياته وآفاقه. وجاء عن رسول الله(ص): «لن تنقضي الأيَّام واللَّيالي حتى يبعث الله رجلاً من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي، يملأها عدلاً وقسطاً كما مُلئت ظلماً وجوراً». وعنه(ص):«لو لم يبقَ من الدنيا إلا يوم واحد، لطوّل الله ذلك اليوم حتى يبعث رجلاً من ولدي، يواطئ اسمه اسمي، يملأها عدلاً وقسطاً كما مُلئت ظلماً وجوراً». ذلك هو حجة الله على خلقه الإمام المهدي (عجل الله فرجه وسهّل مخرجه)، والذي نلتقي بذكرى مولده يوم الأحد القادم، في الخامس عشر من شهر شعبان.

ونحن عندما نريد أن نثير هذه المسألة في وعينا العقيدي، فإنّنا نعرف أن الله تعالى أراد للإنسان أن يصل في نهاية المطاف في الدّنيا إلى العدل الشامل الكامل، لأنّ كلّ المراحل الّتي يمرّ بها الإنسان في الدّنيا، فيها الظّلم وفيها العدل، أمّا تلك المرحلة التي أعدّ الله تعالى لها هذا الإنسان العظيم، فيراد لها أن تكون مرحلة العدل كلّه، الذي يطرد الظلم كلّه.

الأئمّة(ع): مسؤوليّة الدّعوة

وعلى ضوء هذا، نستطيع أن نؤكّد حقيقةً إيمانيةً إماميةً، وهي أنّ الأئمة ـ كما ورد عن رسول الله(ص) ـ إثنا عشر إماماً، فقد ورد عنه(ص): «الخلفاء إثنا عشر كلّهم من قريش»، وهذا لا ينطبق إلاّ على أئمَّة أهل البيت(ع)، ولكنَّ الله تعالى جعل للأئمة(ع) منذ عليّ(ع) إلى الإمام الحسن العسكري(ع)، مهمةً رساليةً يدعون فيها إلى الله، ويفصّلون للناس تفاصيل الشريعة، ويعلّمونهم أحكام الله، ويبعدونهم عن كلِّ ضلال وانحراف.

ونحن عندما نقرأ تراثهم(ع)، نجد أنّهم لم يتركوا أيّ قضية يحتاج المسلمون إلى أن يعرفوا حكمها، ولم يكن هناك أيّ خطٍّ يريد الله للمسلمين أن يسيروا عليه على أساس الاستقامة، إلاّ وبيّنه الأئمة(ع) لهم، ولذلك عندما سئل الإمام المهدي(عج): لمن نرجع وأنت تبدأ الغيبة عن الأنظار؟ كان جوابه(عج): «وأما الحوادث الواقعة، فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا، فإنّهم حجتي عليكم، وأنا حجة الله عليهم»، لأنَّ رواة الأحاديث رووا عن الأئمة(ع) كل ما يحتاجه الناس، فهم ليسوا بحاجة إلى من يعرّفهم أحكام الله، فالكتاب وأحاديث النبي(ص) والعترة(ع) كلّها بين أيديهم.

ولذلك لم يجد العلماء طيلة أيام الغيبة الكبرى التي ما زالت مستمرّةً، أية مشكلة في ما يجتهدون فيه لتعريف النَّاس الأحكام الشرعية، حتى في ما كان يستجدّ من أحداثٍ لم تكن موجودةً في بدايات الرِّسالة، لأنّ القواعد الإسلامية الشاملة تتكفّل ببيان الأحكام التي ترتبط بالتطورات التي تتحرك في حياة الناس، فهناك حال اكتفاء من خلال كتاب الله وسنّة نبيّه(ص) وأحاديث أهل البيت(ع) التي هي أحاديث رسول الله(ص)...

الغيبة: استعدادٌ للعدل الشّامل

ولقد أعدّ الله سبحانه الإمام الحجّة لهذه المرحلة التي لا نعرف مداها، وترك للناس الخيار فيما يأخذون به وفيما يتركونه بعد أن أقام عليهم الحجة، وترك لهم أن يطوّروا أوضاعهم المادية والمعنوية، حتى تأتي المرحلة الكبرى التي يتنفّس فيها العالم كلّه إسلاماً... ولذلك، فإنّنا لسنا بحاجة إلى أن نستعير من التيارات التي استحدثها الإنسان قوانين وأحكاماً لنطوّر الإسلام من خلالها، لأن الإسلام هو الذي يطوّر الحياة ولا يخضع لتطوراتها، وإن اجتهاد المجتهدين يمكنه أن يشرح للناس كيف يتحرَّكون ويتطوّرون، ونحن عندما نلتقي ببعض حالات التخلّف، فليس مردّ ذلك إلى الإسلام، بل سببه تخلّف الذهنيات التي تجعل البعض يعتبر نفسه ممثّلاً للإسلام، في الوقت الذي لا يملك أي عمق أو امتداد له، سواء ممّن يعتبرون أنفسهم من علماء الدين أو من المثقفين.

وهناك نقطة لا بدَّ من أن نشير إليها في مسألة الغيبة، وهي أن البعض قد يتصور أن الإمام(عج) لا يظهر خوفاً من اضطهاد الظالمين له، وقد جاء في بعض الآيات ما يمكن أن يوحي إلى هؤلاء بذلك: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا}(النور:55)، وأيضاً في بعض الزيارات يُخاطَب بـ"أيها الخائف"... ونحن لا نوافق على ذلك، لأن الإمام المهدي(عج) غاب من خلال حكمة الله، ومن خلال أنّ الله سبحانه وتعالى أعدّه ليكون إماماً للعالم كلّه، في المرحلة التي يحوّل فيها العالم إلى إسلام متجسّد متحرك في القانون والسياسة والأمن والاقتصاد وما إلى ذلك.

غيبة القوّة لا الضعف

ولذلك، فإنّ طبيعة موقع الإمام(عج) في المهمة التي أُعدّ لها هي طبيعة القوّة، فهي المهمّة الّتي تقتضي أن يغيّر من خلالها العالم ويسقط الظلم والظالمين والاستكبار والمستكبرين، وليست طبيعته الخوف. أمّا امتداد الغيبة كلّ هذه الفترة الطّويلة، فقد انطلق من خلال حكمة الله تعالى الذي يملك العمر في طوله وقصره، وقد تحدث الله تعالى عن نوح(ع) أنه لبث في قومه ألف سنة إلاّ خمسين عاماً، وربما امتدت حياته فيما بعد الطوفان آلاف السنين، ولذلك ليس لأحد أن يتحدث بشكل سلبي عن هذا العمر الطويل. أمّا دوره(ع)، فهو أن يعدّ الحياة من أجل أن تستقبل العدل الشامل.

ارتباط الرّسالة والقيادة

ولذلك، فإنّ ارتباطنا به ليس ارتباطاً شخصياً، كما تصوّره بعض الأدعية، بل إنّ علاقتنا به هي علاقة الإمامة والرسالة والقيادة التي تتحرّك في مستوى العالم كلّه لتغيّره على صورة الإسلام. فإذا كنتم مخلصين لذكراه، وللالتزام بإمامته، فإنّ عليكم أن تصنعوا في كل موقع من مواقعكم عدلاً؛ أن تصنعوا العدل في بيوتكم، وفي أسواقكم، وفي سياستكم واقتصادكم، وفي كلّ حركتكم، لأنّ الإخلاص هو أن نخطِّط لأن نكون المسلمين العادلين الذين يساندون كل قضية للعدل في العالم، حتى لو كان العدل في مواقع غير إسلامية، أن ندعمه بالتأييد وبرفض الظلم في العالم كلّه، وقد ورد في أحاديث أئمة أهل البيت(ع): «إن الله أوحى إلى نبيّ من أنبيائه في مملكة جبار من الجبّارين، أن ائتِ هذا الجبّار: وقل له: إني إنما استعملتك لتكفّ عني أصوات المظلومين، فإني لن أدع ظلامتهم وإن كانوا كفاراً»، فالظلم لا دين له، والعدل لا دين له.

إن ارتباطنا بالإمام المهدي(عج) ليس ارتباطاً عاطفياً، وإن كنا نحبّه ونواليه كما نحبّ أهل البيت(ع) ونواليهم، ولكن علاقتنا به كعلاقتنا برسول الله(ص) وبكل الأئمّة(ع)، هي علاقة رسالة، ولذلك علينا أن نحوّل هذا الحب وهذه الولاية إلى حركة في سبيل الإسلام، دعوةً وشريعةً وسياسةً ومواجهةً للاستكبار كلّه وللكفر كلّه.

"اللهمَّ عجّل فرجه، وسهّل مخرجه، واجعلنا من أنصاره وأعوانه والمستشهَدين بين يديه".

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، فماذا هناك؟        

فلسطين: حصار بغطاء عربي

يحظى الحصار الإسرائيلي للفلسطينيين ـ وخصوصاً في قطاع غزة ـ بتغطية وتأييد عربيين، حيث تقفل المعابر التي تتيح لهم الحصول على حاجياتهم الغذائية والدوائية الأساسية. ولا يشفع للفلسطينيين في غزة، أنهم يتواصلون مع أشقائهم في مصر عبر رفح، لأنّ هذا المعبر يخضع بدوره لإجراءات الحصار. أمَّا الذين حاولوا اختراق هذا الحصار عبر الأنفاق، فكان مصيرهم الموت خنقاً من خلال تدمير الأنفاق عليهم، في إخبار عربي جديد للإسرائيليين، بأنكم لستم وحدكم الذين تمارسون الحصار والضغط على الشعب الفلسطيني، في سياق خطة أميركية إسرائيلية يشترك فيها بعض العرب، ولا يمكن تبرئة السلطة الفلسطينية نفسها من مفاعيلها.

ويتم ذلك كلّه في الوقت الذي يستعدُّ العدو لبناء مستوطنات جديدة في الضفة الغربية، أو توسيع المستوطنات القائمة لنقل المزيد من الأسر اليهودية إليها، فيما العمل جارٍ لتهجير المزيد من الفلسطينيين وتشريدهم في العالم.

ومن اللافت للمراقبين للواقع الفلسطيني، قيام بعض أركان السلطة باقتراح استبدال الدولة الفلسطينية المستقلّة على حدود الرابع من حزيران التي تجهضها إسرائيل، بدولة مشتركة واحدة ثنائية القومية اليهودية والعربية، ما يدل على حال الانهيار التي يعانيها فريق السلطة في قيادته الحالية، وقبوله بالتعايش مع الاحتلال على حساب الحقوق الفلسطينية الثابتة، الأمر الذي يمثِّل تنازلاً فلسطينياً جديداً للعدو الذي يرفض فكرة الدولة المشتركة، فهو يفكر ويعمل لدولة يهودية صافية ليس للعرب أيّ موقع فيها. والجميع يعرف أن اليهود بتحالفهم مع أمريكا وبعض دول أوروبا، يتابعون الضغط على الواقع العربي لتقديم التنازلات للدولة العبرية، حتى لا يبقى هناك أية فرصة للدولة الفلسطينية المستقلة القابلة للحياة، لأن الغرب ليس على استعداد للضغط على اليهود الذين يسيطرون على سياسته وأوضاعه الاقتصادية، مستغلّين هذا الموت في الواقع العربي إزاء حقوقه الحيوية وقضاياه المصيرية، الذي يفرضه القائمون على البلاد العربية وعلى شعوبهم.

إنّنا نقول للعالم العربي والفلسطيني، إذا كان الشعب غير قادر على تحرير أرضه في المرحلة الحالية، فإنَّ الأجيال القادمة ستعمل على إحداث تغييرات مهمة لمصلحة العدالة للشعوب، ذلك أنّ استمرار الانتفاضة من جيل إلى جيل سيحقق في النهاية للشعب الفلسطيني أهدافه الكبرى، لأنه "ما ضاع حق وراءه مطالب".

الإدارة الأمريكية: انتهاكاتٌ لسيادة الدول ودعمٌ للإرهاب

وفي المشهد الأمريكي، كان لافتاً حديث الرئيس الأميركي عن أن روسيا اجتاحت بلداً مستقلاً مجاوراً، وهددت حكومةً منتخبةً ديمقراطياً، وأن هذا العمل وما يماثله غير مقبول في القرن الحادي والعشرين، وهو الأمر الذي يبعث على الغثيان، لأن الرئيس الأميركي هو أول من سن هذه السنّة في هذا القرن باجتياحه أفغانستان والعراق، وبتأييده الحرب الإسرائيلية على حكومة منتخبة ديمقراطياً، كما في حرب العدو على الحكومة الفلسطينية التي شكلتها "حماس"، والتي اعترف العالم كلّه بأنها جاءت بعد انتخابات نزيهة وشريفة، كما أن بوش نفسه هو الذي بارك الحرب الإسرائيلية على لبنان، وأراد لها أن تمتد وتتوسّع ليسقط لبنان وشعبه وبنيته التحتية في قبضة الكيان الصهيوني، وإن لم يستطع أن يحقق ما كان يصبو إليه.

إننا في الوقت الذي نرفض كلَّ أشكال الظلم والعدوان، نجد في الإدارة الأميركية الحالية الصورة الأكثر بشاعة في الانتهاكات الفاضحة لسيادات الدول وحقوق الشعوب وقضايا حقوق الإنسان، وفي دعم الإرهاب والأنظمة المستبدة، ولذلك، فإنّ آخر من يمكنه أن يتحدث عن قضايا مماثلة هو الرئيس الأمريكي ونائبه اللّذان أشعلا العالم بالحروب، ودمّرا مواقع حيويةً ومهمةً في الاقتصاد العالمي.

وفي جانب آخر، نرى أنَّ عقلية الحصار بدأت تفرض نفسها في العلاقات الدولية، بحيث تسعى دول الاستكبار لفرض حصارٍ على دول الممانعة التي ترفض شروطها المذلة، وقد لاحظنا في هذه الأيام، أنَّ ثمة أساطيل بحرية فرنسية وبريطانية وأميركية توجهت إلى الخليج بعد قيامها بمناورات مشتركة تحدث الإعلام عن أنها تحاكي القيام بإجراء محتمل ضد إيران، وذلك بعدما أصدر الاتحاد الأوروبي قراراً جديداً أجاز فيه فرض عقوبات قوية ضد إيران.

إسرائيل: تهديدات واستعداد لحروب جديدة

إنّنا نرى في هذه التحركات، الجديدة تمهيداً لعدوانٍ اقتصادي وسياسي، وربما عسكري، ضدّ إيران، لإجبارها على الرضوخ للشروط الأميركية الإسرائيلية، والتخلّي عن حقوقها المشروعة في البرنامج النووي السلمي، الأمر الذي يستدعي استعداداً على مختلف المستويات لمواجهة المرحلة المقبلة التي تشتدُّ فيها الضغوط من كلِّ حدب وصوب على مواقع الممانعة، لشعور المستكبرين بأن الوقت لا يعمل لمصلحتهم، ولاستعجالهم القيام بإجراءات عدوانية تصعيدية، وهو ما يفترض مواجهته بالوحدة في الواقع العربي والإسلامي، وبالاستعداد لمواجهة أي طارىء.

وليس بعيداً من ذلك، نشهد تهديدات إسرائيلية جديدة بعد مناورات عدوانية في الجولان تحاكي المناورات البحرية الغربية الأخيرة، وبعد حديث لوزير حرب العدو عن أنَّ هذه التدريبات ليست عبثاً، وعن أن العدو لن يسمح بأن تخلَّ المقاومة بالتوازن القائم.

ونحن في الوقت الذي نشعر بخطورة التحركات الصهيونية، وباستعداد العدو على جميع المستويات بما قد يمهِّد لعدوان إسرائيلي جديد ضد لبنان، نستغرب صمت الكثيرين في لبنان حيال هذه التهديدات، وعدم أخذها على محمل الجد، كما نستغرب تصاعد الجدل حول سلاح المقاومة بالطريقة التي يريدها العدو، في عملية تسجيل نقاط سياسية، بدلاً من أن ينفتح الجميع على آلية عملية تقود إلى إعداد خطة ميدانية لمواجهة أي عدوان إسرائيلي محتمل.

لبنان: الطبقة السياسية لا تؤمن بشيء اسمه وطن

وفي لبنان أيضاً، شهدنا في الأيام الفائتة فصلاً جديداً من فصول العبث السياسي تحت قبة البرلمان، في استعراض للعضلات الكلامية الخطابية التي يُحسن البعض كتابتها، ويخفق نوّاب الأمة حتى في قراءتها، ولكنّهم ينجحون في استثارة الغرائز وتهييج الشارع من أجل الوصول إلى أصوات الناخبين من نافذة الحساسيات الحزبية والمذهبية، ولتغدو المؤسسة التشريعية شارعاً متخلفاً في لغته وأسلوبه ومفرداته، وليأخذ الناس من هذه النخبة السياسية منسوباً كبيراً من الحقد بدلاً من المحبة والرحمة والصداقة التي يمكن لها أن تبني بلداً على أسس متينة راسخة، وليساهم ذلك كله في توفير المناخات الملائمة للمجرمين الذين يتسللون من خلالها لارتكاب جرائمهم، كما جرى في طرابلس قبل يومين.

إننا نقول للبنانيين: هذه هي الطبقة التي أنتجتموها وجعلتموها مسؤولةً عنكم وعن قضاياكم في المؤسسة التشريعية، وهذه هي الأسماء التي أدمنتموها في انتخاباتكم التي تتحرَّك غريزياً، بحيث يشعر هؤلاء بأنَّ أفضل وسيلة أمامهم للعودة إلى الندوة النيابية، تتمثل بتحريك الخلافات السياسية وإيقاظ الحساسيات المذهبية، ولو أدى ذلك إلى إحراق البلد وإجهاض مسيرة إنقاذه.

إن هذه الطبقة لا ترقى إلى مستوى لبنان، ولا إلى مستوى قضايا الأمة في هذا الواقع العالمي المضطرب، ولذلك ندعو اللبنانيين إلى ممارسة حقهم الطبيعي في إبعاد هؤلاء عن العبث بمصيرهم، والقيام بما تفرضه عليهم المسؤولية الوطنية العليا، بمنع هذه النماذج من العودة إلى البرلمان، إذا كان هناك من يملك أن يتحرك بإحساس وطني وبمنسوب نقدي رفيع. 

إننا في حاجة إلى جيلٍ جديد من السياسيين يؤمن بربّه من خلال أنَّ الله محبة وأنه الرحمن الرحيم، ويتحمل مسؤولية وطنه بإخلاص وعقلانية، ويتحرك في عملية الحساب للذين كانوا ولا يزالون مشكلة لبنان ولم يستطيعوا أن يكونوا الحلّ، لأنَّ التاريخ الدامي لا يزال يفرض نفسه على حركتهم في الحاضر من أجل دماء جديدة وعصبيات وأحقاد متحركة... ويبقى للمحاور الإقليمية والدولية حركيتها في لبنان الساحة، لأنّه لم يبق في النظام الطائفي الذي يزرع الطائفية في العقول والمشاعر والواقع من يؤمن بأنَّ هناك شيئاً اسمه لبنان أو الوطن.

مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 13 شعبان 1429 هـ  الموافق: 15/08/2008 م

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية