بسم الله الرحمن الرحيم
خطبتا صلاة الجمعة لسماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:
سموّ القيم الروحية: تجسيدٌ لنهج أهل البيت(ع)
الإمام الحسين(ع): تجسيدٌ لرسالة الإسلام
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرِّجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً} [الأحزاب:33].
في الأيام الماضية، التقينا بذكرى ولادة الإمام الحسين(ع)، في الثالث من شعبان، وولادة أبي الفضل العباس في الرابع منه، وولادة الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع) في الخامس منه.
إنّها الأسماء المشرقة إشراقة الروح والجهاد في سبيل الله، وإشراقة المعرفة التي تنفتح على عقول الناس لتمنحها العمق، والّتي تتحرك في نبضات قلوبهم لتعطيهم الخير والمحبة والإيمان، وتنطلق في حياتهم لتجعلها حياةً ترتكز على أساس العدل وكل ما يرضي الله.
ونحن عندما نذكر الإمام الحسين(ع) في ذكرى ولادته، فإننا نستوحي من هذه الذكرى فرح الرسالة، لأننا في الوقت الذي نعيش الحزن في عمق المأساة، نجد أن هذه المأساة تختزن الفرح؛ فرح الرسالة في حركة الإمام الحسين(ع)، وفرح انفتاح القيم الروحية الأخلاقية الإنسانية في شخصيته التي كانت تنفتح على العالم كله، وقد كان الحسين(ع) تجسيداً لجدّه(ص)، فكان عقله من عقله، وقلبه من قلبه، وحركته وحياته من حركة جدّه وحياته.
وهذا ما نستوحيه من قول النبي(ص): "حسين مني وأنا من حسين"، أي هو من حسين الرسالة، لأن الرسالة تجسّدت في النبي محمد(ص) وفي سبطيه الحسن والحسين(عليهما السلام)، كما تجسّدت في عليّ والبضعة الزهراء (عليهما السلام)، فمثّلوا الطهارة كلها؛ طهارة العقل والروح والجسد والرسالة والحركة.
ومن تصريحات الإمام الحسين(ع) التي انطلق بها في مسيرته، قوله: "لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي(ص)، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن ردّ عليّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحقّ، والله خير الحاكمين"، حيث كان(ع) ينظر إلى أمّة جدّه كمسؤولية كبرى في كل نقاط ضعفها، وفي كل حركة الفساد في داخلها، وكان يرى أن جدّه(ص) قد جعل هذه الأمة أمانةً عنده، كما كانت أمانةً عند أبيه وأخيه.
المسؤولية الرّسالية
كما نقرأ في رسالة الإمام الحسين(ع) إلى أهل البصرة عندما بدأ حركته ـ وفيها الكثير من الإيحاءات ـ قوله(ع): "أما بعد، فإن الله اصطفى محمداً على خلقه، وأكرمه بنبوّته، واختاره لرسالته، ثم قبضه إليه، وقد نصح لعباده، وبلّغ ما أُرسل به، وكنا أهله وأولياءه وأوصياءه وورثته وأحق الناس بمقامه في الناس ـ فنحن الشرعية، ولنا الحقّ في أن نقود الناس من خلال رسول الله(ص) وبأمرٍ من الله ـ فاستأثر علينا قومنا فأغضينا ـ لم نحاربهم مع أن الحق لنا ـ كراهيةً للفرقة ـ من أجل الوحدة الإسلامية ـ ومحبةً للعافية ـ لا العافية الشخصية، بل عافية الأمة كلها ـ ونحن نعلم أنّا أحق بذلك الحقّ المستحق علينا ممن تولاه، وقد بعثت رسولي إليكم بهذا الكتاب، وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه، فإن السنّة قد أميتت ـ بهذا الحكم الجائر الظالم المنحرف ـ والبدعة قد أحييت، فإن تجيبوا دعوتي وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد".
وهكذا، انطلق الإمام الحسين(ع) في حركته من أجل أن يواجه الظلم كله، وقد جاء في وصيته لابنه عليّ بن الحسين(ع): "يا بني، إياك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلا الله".
وقال(ع) للذين يحاولون أن يصلوا إلى أهدافهم من خلال معصية الله، كالكثيرين ممن يتّبعون الظالمين ليحققوا لهم بعض المصالح الشخصية: "من حاول أمراً بمعصية الله كان أفوت لما يرجو، وأسرع لمجيء ما يحذر".
وقد ورد أنّ رجلاً قال عند الحسين(ع): "إن المعروف إذا أُسدي إلى غير أهله ضاع"، فقال الحسين(ع): "ليس كذلك، ولكن تكون الصنيعة مثل وابل المطر، تصيب البرّ والفاجر"، أي عندما يقوم الإنسان بعمل الخير، فلا بدّ من أن ينطلق من أخلاقية حبّ الخير في نفسه، فيعطي الخير لكلِّ الناس، سواء كانوا يستحقونه أو لا يستحقونه. وكان(ع) يقول: "لا تتكلّف ما لا تطيق، ولا تتعرّض لما لا تدرك ـ ما لا تصل إليه ـ ولا تعد بما لا تقدر عليه، ولا تنفق إلا بقدر ما تستفيد ـ أنفق مما عندك، لا أكثر ممّا عندك ـ ولا تطلب من الجزاء إلا بقدر ما صنعت ـ فإذا كنت تطلب من الناس أن يحترموك ويعظّموك، فعليك أن تفكر ماذا صنعت لهم ـ ولا تفرح إلا بما نلت من طاعة الله، ولا تتناول إلا ما رأيت نفسك له أهلاً".
إن التزامنا بالإمام الحسين(ع) هو التزام بالرسالة والقضية والعدل وكل القيم الأخلاقية، والتزام بالعزة التي عبّر عنها(ع) في كلمته المشهورة: "والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقر إقرار العبيد"، وكلمته(ع): "هيهات منا الذلة" التي هي شعار الحسين(ع) في الحياة. فإذا كنتم تريدون الالتزام بالحسين، فعليكم أن تتحركوا كأمة لتضربوا رؤوس الأعداء، لا أن تضربوا رؤوسكم بالسيوف، وأن تجلدوا ظهور المستكبرين بالسياط، لأن الحسين رسالة وقضية.
العبّاس:المجاهد الرسالي
أما العباس(ع)، فقد كان العالم المجاهد والرسالي في كل حركته إلى جانب الإمام الحسين(ع)، ويروى أنه عندما قُطعت يمينه قال: "والله إن قطعتم يميني، إني أحامي أبداً عن ديني"، أحامي عن الدين الإسلامي الذي انطلق الحسين(ع) من أجل أن ينشره ويؤكده ويربط الناس به، وأنا لا أدافع عن الحسين(ع) من خلال العلاقة النسبية، بل من خلال كونه الإمام المفترض الطاعة، ولذلك اندفع في القتال مع الحسين(ع) من خلال الخط الإسلامي الأصيل الذي أراد الله للناس أن ينطلقوا به.
وممّا جاء عن الإمام زين العابدين(ع) في حديث عن العباس، قوله: "رحم الله العباس، فلقد آثر وأبلى وفدى أخاه بنفسه"، وقال الإمام الصادق(ع) عنه: "كان عمنا العباس بن علي نافذ البصيرة، صلب الإيمان، جاهد مع أبي عبد الله(ع) وأبلى بلاءً حسناً ومضى شهيداً". ولذلك فإن الالتزام بمحبة العباس هو التزام بحماية الدين والحفاظ على الرموز الإسلامية المقدّسة، من النبي(ص) والأئمة من أهل بيته(ع).
زين العابدين(ع) في علمه وزهده
أما الإمام زين العابدين(ع)، فقد تحدث عنه الكثيرون، ومن هؤلاء "ابن حجر" الذي يقول في "صواعقه": "زين العابدين هو الذي خلف أباه علماً وزهداً وعبادةً، وكان إذا توضّأ للصلاة اصفرّ لونه، فقيل له في ذلك، فقال: "لا تدرون بين يدي مَن أقف"، وكان عظيم التجاوز والعفو والصفح، حتى إنه سبّه رجل فتغافل عنه، فقال له: "إياك أعني"، فقال: "وعنك أعرض"، إشارة إلى الآية الكريمة: {خذ العفو وأْمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين}" [الأعراف:199].
وممّا قاله عبد الله بن الحسن عنه(ع): "كانت أمي فاطمة بنت الحسين تأمرني أن أجلس إلى خالي عليّ بن الحسين(ع)، فما جلست إليه قطُّ إلا قمت بخيرٍ أفدته، إما خشية لله تحدث في قلبي لما أرى من خشيته لله، أو علم قد استفدته منه". وقد روى سفيان بن عيينة قال: "قلت للزهري: رأيت علي بن الحسين؟ قال: نعم، لقيته، وما لقيت أحداً أفضل منه، والله ما علمت له صديقاً في السرّ ولا عدوّاً في العلانية، فقيل له: وكيف ذلك؟ قال: "لأني لم أرَ أحداً وإن كان يحبّه، إلا وهو لشدة معرفته بفضله يحسده، ولا رأيت أحداً وإن كان يبغضه، إلا وهو لشدة مداراته يداريه"... وقال: "ما رأيت هاشمياً أفضل من زين العابدين ولا أفقه منه". وعن الشافعي أنّه قال عنه(ع): "إنه أفقه أهل المدينة".
زين العابدين(ع): إمام المرحلة
ويحدثنا الإمام زين العابدين(ع) عن الصبر على الأذى فيقول: "ما تجرّعت جرعةً أحبّ إليّ من جرعة غيظ لا أكافي بها صاحبها". وعنه(ع): "ثلاث من كنّ فيه من المؤمنين كان في كنف الله، وأظلّه الله يوم القيامة في ظل عرشه، وآمنه من فزع اليوم الأكبر: رجل أعطى الناس من نفسه ما هو سائلهم ـ حيث يحبّ للناس ما يحبّ لنفسه ويكره لهم ما يكره لها ـ ورجل لم يقدّم رجلاً حتى يعلم أنه في طاعة الله أو في معصيته، ورجل لم يعب أخاه بعيب حتى ينفي ذلك العيب عن نفسه... وكفى بالمرء شغلاً بنفسه عن عيوب الناس".
ونقرأ للإمام زين العابدين(ع) ما نقله (الزهري) عنه من حديثه عن العصبية، قوله(ع): "إن العصبية التي يأثم عليها صاحبها، أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحبّ الرجل قومه، ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم".
إننا نعرف الإمام زين العابدين(ع) بكثرة عبادته وحزنه على أبيه الحسين(ع)، ولكننا عندما ندرس سيرته، وندرس المجتمع الإسلامي الذي عاش فيه ومعه، نرى أنه كان أستاذ المرحلة الإسلامية التي عاشها، وكان العلماء والمؤرِّخون والمثقفون يأتون إليه ليحصلوا منه على العلم الغزير النافع. لذلك فإننا عندما ندرس الإمام زين العابدين(ع) في كل ما روي عنه من الأحاديث، نجد أنه كان يعمل من أجل أن يرفع شأن الأمة الإسلامية في كافة المستويات، وكان(ع) يعيش مع الله من خلال أدعيته المأثورة التي نعرف من خلالها كيف كان انقطاعه إلى الله وإخلاصه له سبحانه. وعلينا أن نقرأ هذه الأدعية التي تمثل مدرسةً ثقافيةً متنوّعة الأبعاد، فيها الكثير من معرفة الله والإخلاص له، وفيها الكثير من القيم الإنسانية والاجتماعية، وكل ما يرتفع بالإنسان إلى أعلى درجات الخير والقرب من الله تعالى.
ونحن نحبّ أهل البيت(ع)، لأنهم يمثلون أعلى درجات القرب من الله والمعرفة له سبحانه والمحبة للناس والإخلاص للرسالة، فإذا كنا نتحرك في خطّ الموالاة، فعلينا أن نعمل في خطّ رسالتهم. إنّ أهل البيت (ع) ليسوا مأساةً نتذكرها، وإن كانت المأساة تحيط بحياتهم، ولكنهم رسالة كرسالة جدّهم رسول الله(ص)، وعلينا أن نتحرك لنؤكد التزامنا بهذه الرسالة، ولاسيما في هذه المرحلة التي يتحرك فيها الاستكبار العالمي لمحاربة الإسلام في عقيدته وشريعته ومنهجه.
هذا هو خطّ أهل البيت(ع)، وعلينا أن نسير في هذا الخطّ وننطلق منه، لأن الالتزام بخطّ أهل البيت(ع) هو التزام بخطّ الرسول(ص) ونهجه، ولذلك فنحن عندما نحتفل بذكراهم، فإننا نريد أن ننفتح على حياتهم وتراثهم وسيرتهم. وسلام الله عليهم يوم وُلدوا، ويوم استُشهدوا، ويوم يبعثون عند الله {في مقعد صدق عند مليك مقتدر} [القمر:55].
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله... اتقوا الله، فماذا هناك؟
فلسطين: مشهد مأساوي لتقاتل الأخوة
في فلسطين المحتلة، تسير الخطة اليهودية الاستكبارية وفق السياق المرسوم لها، فالتقاتل الفلسطيني ـ الفلسطيني يدخل مرحلةً جديدةً، حيث الأخ يطارد أخاه في غزة أو في الضفة، لتكتمل الصورة المخجلة والمعيبة في العشرات الذين يلجأون إلى الجلاّد الصهيوني الذي يحاول أن يقدّم نفسه بطريقة جديدة أمام العالم، وهو الذي صنع المأساة الكبرى للفلسطينيين.
ولا يكتمل المشهد الخطير إلا من خلال الزحف الاستيطاني الإسرائيلي على الأرض الفلسطينية في الضفة الغربية وفي القدس على وجه الخصوص، ليبلغ عدد المستوطنين في الضفة ما يقارب النصف مليون، ولتصبح المناطق التي يُحظر على الفلسطينيين الوصول إليها زهاء 38،3% من مجموع مساحة الضفة الغربية، هذا إضافةً إلى الجدار العنصري الفاصل الذي يصادر مساحات أخرى من أرض فلسطين في الضفة، حيث يطرد العدوّ الأهالي من قراهم ومزارعهم، أو يحاصرهم ويقتلهم فيها.
ونحن نتساءل أمام ذلك كله عن جدوى هذه اللقاءات الثنائية بين رئيس السلطة الفلسطينية ورئيس وزراء العدو، وعن جدوى المفاوضات الفارغة من المضمون والتي لا تحمل أي أمل بالدولة، باعتبار أن الطريقة اليهودية منذ احتلال فلسطين وقرار التقسيم في الأمم المتحدة وعودة اللاجئين، هي في المراهنة على عامل الوقت الضائع الذي يمنح الفلسطينيين أحلاماً وردية كاذبة، من دون أن تواجه إسرائيل أيّ ضغط جدي من قِبَل الأمم المتحدة والدول العربية التي رفعت للعدو راية الاستسلام البيضاء قبل أن تلوّح له بالسلام في قمة بيروت، في الوقت الذي كانت المقاومة تلقّنها المزيد من الدروس وتجبرها على الخضوع لشروطها.
إننا نقول للفلسطينيين: إنّ واقع الأنظمة العربية والجامعة العربية من حولهم يمثّل الفجيعة، وواقع الدول الإسلامية ومنظمة المؤتمر الإسلامي يمثّل واقع المأساة، من خلال خوف الإدارات والأنظمة حتى من إصدار البيانات المؤيدة لهم ولقضيتهم، ولكن الفاجعة الكبرى تتمثّل في عملية القهر الذاتي التي يجلد فيها الفلسطينيون قضيتهم على مذبح تقاتلهم الداخلي، وتبادلهم الاعتقالات في الضفة والقطاع، بالطريقة التي توحي للجميع بأن الحرص على الكيانات الخاصة أصبح أكبر من الحرص على الكيان الفلسطيني الواحد الموحّد.
إنني أناشد إخواننا الفلسطينيين أن يوقفوا هذا المسلسل، وأن يلتفتوا إلى خطورة هذا الصراع الذي قد يدفع الشعب من موقع الصمود والمواجهة، إلى موقع التعب واليأس، ليفسح في المجال للكيان الصهيوني وحلفائه، وخصوصاً الإدارة الأمريكية، لتنفيذ خطتهم الجهنمية في استكمال المشروع اليهودي ومصادرة ما تبقّى من الأرض والقرار والقضية. ونناشد من بقي لديه مخزون من الضمير والعزة والكرامة في طول العالم العربي والإسلامي وعرضه، أن يهبّ لنصرة هذا الشعب المنكوب الجريح الذي وقف الاستكبار العالمي كله ضده، دعماً للاستراتيجية الإسرائيلية، وانطلاقاً من حقده الدفين ضد العرب والعروبيين والإسلام والمسلمين.
حرب أمريكية ـ إسرائيلية ضد إيران
فإذا انتقلنا إلى الحرب السياسية والإعلامية الأمريكية والأوروبية ضد إيران، نرى أنّ هذه الحرب تأخذ في كل مرحلة عنواناً جديداً يستدعي تحشيد معظم القوى الصناعية والنووية العالمية في مواجهة إيران، في ظلّ ذرائع واهية مفادها أن المشروع النووي الإيراني السلمي قد يتحول إلى مشروع عسكري، وهو ما يستدعي عقد مؤتمر عبر الهاتف بين أمريكا والدول الغربية، إضافةً إلى روسيا والصين، ويجعل هذه الدول في حال استنفار دائم، وكأنَّ إيران أصبحت على أبواب أوروبا وأمريكا.
إننا نعلم، كما تعلم هذه الدول، أن الذي يُحرّكها هو الكيان الصهيوني الذي يواصل مسؤولوه طرق أبواب أمريكا لكي تضغط على حلفائها الأوروبيين لإبقاء هذا الملف حاراً، ولطمأنة إسرائيل التي لا تكفيها كل هذه الترسانة النووية، وكل هذه الأسلحة الأمريكية، وكل المعاهدات التي ربطتها بالنظام الصاروخي الأمريكي.
لقد دخلت المسألة النووية الإيرانية السلمية في الملف الإسرائيلي الذي تتوزّع فيه أمريكا والدول الغربية الأدوار، وآخر هذه الأدوار يتمثل في فرض حصار اقتصادي حادّ على إيران… ونحن نحذّر من أن ذلك يمثل إعلان حرب سياسية واقتصادية على دولة إسلامية كبرى لمنعها من الحصول على الخبرة العلمية والتكنولوجية، لأن هذا العالم المستكبر يرفض أن تبرز دولة إسلامية بنموذجها العلمي الحضاري وباكتفائها الذاتي، وهو ما ينبغي أن يدفع بالشعوب الإسلامية وحركات الممانعة إلى الاستعداد لمواجهة جبال الضغوط هذه بالإمكانات المتاحة وبالوسائل المناسبة.
لبنان: صيغة حضارية لتأكيد دور المقاومة
وبالعودة إلى ملفاتنا الداخلية، فقد لاحظ الجميع كيف شعر العدو بشيء من الصدمة إزاء ذكر المقاومة في البيان الوزاري باعتبارها معنيةً بتحرير الأرض ومواجهة العدو، إلى جانب الجيش والشعب في لبنان، وقد بدأ حديث العدو يتصاعد حول القوة المتزايدة للمقاومة وقدرتها على اعتراض طائرات العدو الحربية، وربما بعث برسائل جديدة إلى قوات "اليونيفيل" لكي تتصدى لذلك، وحتى يضعها في موقع المواجهة مع المقاومة، كما أنه تدخّل لدى الإدارة الأمريكية ليطالبها بعدم مساعدة الجيش اللبناني، لأنه يخشى من أن التنسيق بين الجيش والمقاومة سوف يجعله يدفع المزيد من الأثمان الباهظة إذا ما فكّر مرة أخرى في الاعتداء على لبنان.
إننا نرى في هذا الخوف الإسرائيلي ـ والذي ترافق مع قلق أمريكي حيال ما ورد في البيان الوزاري ـ ما يمكن البناء عليه في لبنان، لأننا نتطلّع إلى مقاومة تدعم الدولة ولا تلغيها، بل تتكامل مع الجيش، وتكون سنداً له في حماية إنجاز التحرير، ومنع العدوان وتحرير بقية الأرض، كما نتطلع إلى دولة تحمي المقاومين وتحترم حركتهم ومقاومتهم وجهادهم وجهدهم الكبير، ونريد للبلد كله أن يبدأ الحوار الجديّ والموضوعي حول صيغة يمكن أن تكون نموذجاً يُحتذى به في العالم العربي والإسلامي، وفي كيف يمكن لمقاومة شعبية أن تقهر العدو، ثم تؤسس مع أقطاب الوطن كلهم تلاحماً حقيقياً مع الدولة التي تقوّيها وتقوى بها.
إننا نقول للجميع في لبنان: لقد تجاوزتم مسألة الصياغة في البيان الوزاري، وبقي عليكم أن تؤسسوا الدولة القوية المسؤولة المنفتحة على هموم المواطنين ومشاكلهم وحاجاتهم، ولاسيما في مسألة الكهرباء الذي يدفع المواطن كلفتها في فاتورتين؛ واحدة لشركة الكهرباء، والثانية لصاحب المولّد، أما أسعار المحروقات، فقد أصبحت تكوي الطبقات المحرومة وتحرق ما تبقّى بجعبتهم من قدرة على الصمود المعيشي والاجتماعي.
أما الهاتف ففاتورته أيضاً اثنتان، واحدة للثابت وأخرى للمحمول، وأما الأقساط التي يدفعها المواطن في المدارس الخاصة، فتتجاوز مجموع مرتّباته خلال السنة. ويعرف القادة والزعماء أن الزراعة في لبنان تموت، إذ إن كلفة الإنتاج باتت أعلى بكثير من مردود البيع، وأن الصناعة ضعفت بفعل الأوضاع العدوانية، ولاسيما ما جرى على صناعيي الضاحية الذين لم يحصلوا على تعويض… لكنّ الزعماء في ساحة الصراع حول تشكيل الحكومة التي استولدت قيصرياً، واستولد بيانها الوزاري بالكمائن الكلامية، مشغولون عن وجود مواطنين يعيشون تحت خط الفقر وفي لهيب الحرمان.
إن المواطنين يسمعون عن الدولة ولكنهم لا يرونها، وقد أمضوا السنوات الطوال في انتظار أن يكون لهم كنفٌ فخاب أملهم، ولاسيما أن معظم من يرفعون شعارها اليوم كانوا مِنْ بين مَنْ هدَّموا هيكلها على رؤوس مواطنيها، فصاروا قادةً وتحوّلوا إلى زعماء... وقد بدأ استنفار هذا الشعب المحروم من حقوقه المعيشية، من أجل الاستعداد لحضور المهرجانات الانتخابية التي يخطط لها الكثيرون من قادة الطائفية وزعماء المذهبية، لإدخال البلد في أجواء عصبياتهم الشخصانية والحزبية... والسؤال للحكومة الجديدة: هل تعتبرون المنصب الوزاري تشريفاً تطلّون من خلاله على الناس من فوق، أو مسؤوليةً تفتشون من خلالها عن أفضل الوسائل لحلّ مشكلة المواطنين؟
إننا نتمنى أن تنطلق الحكومة في مسؤوليتها التنفيذية بشكل أمين ومخلص ومدروس ومتقن، من أجل أن تصنع الدولة المستقلة الفاعلة المسؤولة عن مواطنيها. |