كـلام السّوء ممحقـة للدّيـن

كـلام السّوء ممحقـة للدّيـن

بسم الله الرحمن الرحيم

خطبتا صلاة الجمعة لسماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله

 

ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:

كـلام السّوء ممحقـة للدّيـن

الموقف من الجاهلين

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينـزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوّاً مبيناً} [الإسراء:53]، ويقول سبحانه وتعالى: {خذ العفو وأْمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} [الأعراف:199]، وفي آية أخرى يقول تعالى: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً} [الفرقان:63]...

كيف نكلّم الناس؟ وكيف نواجه كلمات الجهل التي توجَّه إلينا؟ إنَّ الإسلام يريد للإنسان عندما يُكلِّم الناس، أيّاً كانوا، سواء كانوا من عائلته أو من أقربائه أو من أصدقائه أو من أعدائه، أن لا يُطلق لنفسه الحرية في أن يتكلّم معهم بكلام انفعالي يتضمّن الكلمات القبيحة والفاحشة التي لا تحترم إنسانيتهم، وأن يكون مهذّباً في كلماته وفي ردود فعله إذا أراد الآخرون من الجاهلين أن يخلقوا له مشكلةً ليثيروا معه خلافاً، وليفتحوا معه معركةً، بحيث يوجّهون إليه كلاماً قبيحاً ليكون ردّ فعله كلاماً قبيحاً مماثلاً لكلامهم، وليتراشقوا بالكلمات، وعند ذلك تحدث المعركة.

إنّ الله تعالى يريد للإنسان أن يُعرِض عن الجاهلين، وأن يهملهم، وأن يتصرف معهم كما لو أنهم لم يتكلموا بشيء، ليجعلهم ذلك يشعرون بالاحتقار، لأنّ الردّ عليهم يوحي بالاحترام لهم، بينما الإهمال يدلّ على احتقار الآخر لهم، ولذا قال تعالى: {وأعرض عن الجاهلين}، ويتحدث الله تعالى عن ردّ فعل عباده الصالحين على ما قوله الجاهلون من كلام فاحش أو قبيح، فيقول سبحانه: {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً}، قد يخاطبك بعض الناس بمثل هذا الكلام الفاحش ليخلقوا لك مشكلة، وليفتحوا معك معركة، لذلك عليك أن تهملهم وتُعرض عنهم، وتتفادى الدخول معهم في معركة، لأن ذلك هو الذي يجعل تصرّفاتهم معك في موضع احتقار.

لسان العاقل

إنّ الله تعالى يريد للإنسان أن يكون مهذّباً في كلامه، وهذا ما كانت عليه سيرة النبي(ص) فيما حدّثنا الله عنه بقوله تعالى: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك} [آل عمران:159]، ولذلك كان النبي(ص) يمثل أعلى درجات الإنسانية في كلامه مع الذين معه أو مع الذين ضده، فلم يُسمع منه أيّ كلمة سوء. والله تعالى يوصي النبي(ص) أن يبلّغ عباد الله أن يقولوا التي هي أحسن عندما يتكلمون بأي كلمة مع الآخرين، وأن يختاروا الكلمات الأحسن كما يختارون البضاعة الجيدة بدلاً من الرديئة، وأن يفكّروا في الكلمة التي يطلقونها للإنسان الآخر.

وهذا ما عبّر عنه أمير المؤمنين(ع) في قوله: "إنّ لسان المؤمن من وراء قلبه، وإنّ قلب المنافق من وراء لسانه"، قالوا: "كيف ذلك"؟ قال(ع): "لأن المؤمن إذا أراد أن يتكلّم بكلام، فإن كان خيراً أبداه، وإن كان شراً واراه، وإنّ المنافق يتكلّم بما أتى على لسانه، لا يدري ماذا له وماذا عليه". وقد ورد في الآية الكريمة: {فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديداً} [النساء:9]، فالله تعالى يريد للإنسان أن يكون قوله سليماً خالياً من خلل الفساد، ومصيباً للعدل، وموافقاً للشرع.

النهي عن الفحش والتفحّش

وعندما نأتي إلى الأحاديث الواردة عن النبي(ص) والأئمة من أهل بيته(ع) في هذا المورد، فإننا نقرأ في حديث رسول الله(ص) قوله: "إياكم والفحش ـ وهو الكلام القبيح، ومنه الكلام الذي يُستحى منه ـ فإن الله عزّ وجلّ لا يحبّ الفاحش المتفحّش". وعنه(ص) في رواية أخطر من الأولى، يقول(ص): "الجنة حرام على كل فاحش أن يدخلها"، قد يصلي الإنسان صلاة الليل، ويذهب إلى الحج والعمرة والزيارة، ولكن إذا كان كلامه فاحشاً مع زوجته وأولاده ومع الناس الذين يتعاطى معهم، فإنّه لا يسمح له بالدخول إلى الجنّة حتى لو كان عنده ما عنده من العبادات، لأن الجنة إنما هي لمن يكون كلامه حسناً طيّباً. لذلك على الإنسان أن ينظّف لسانه قبل أن ينطلق إلى الآخرة.

وعنه(ص): "ما كان الفحش في شيء قط إلا شانه ـ ما دخل الفحش في كلام إلا كان كلاماً معيباً ـ ولا كان الحياء في شيء قط إلا زانه"، وعنه(ص): "إن من شرّ عباد الله من تُكره مجالسته لفحشه"، وعنه(ص): "إن الله يحبّ الحييّ المتعفف، ويبغض البذيء السائل المُلحِف"، وعنه(ص): "لو كان الفحش خلقاً لكان شرّ خلق الله، ولو كان مثالاً لكان مثال سوء".

وعن أمير المؤمنين(ع) أنه قال: "الفحش والتفحّش ليسا من الإسلام"، لأن ذلك لا ينسجم مع أخلاقية الإسلام. وعنه(ع): "أسفه السفهاء المتبجِّح بفحش الكلام"، ويقول الإمام الباقر(ع): "قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يُقال لكم، فإن الله يبغض اللعّان السبّاب الطعّان على المؤمنين"، وعنه(ع): "سلاح اللئام قبيح الكلام"، وعن الإمام الصادق(ع): "البّذاء من الجفاء، والجفاء في النار"، ويقول(ع): "من خاف الناس لسانه فهو في النار"، لأنّه بذلك يتحرك في خط النفاق لا في خط الإيمان.

إن الإسلام يريد أن يعلّمنا كيف نكون إنسانيين ومهذّبين، وكيف نطلق كلامنا بالطريقة التي تفتح عقول الناس علينا بدلاً من أن تغلقها عنا، ولذلك علينا أن نربي أنفسنا وأولادنا على الكلام الأحسن، لأن ذلك هو الذي يحبّه الله، وأن نبتعد عن الكلام القبيح الذي يبغضه الله، {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} [المطففين:26].

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، فماذا هناك؟

إيران: تقدّم علمي وتكنولوجي يهزّ كيان العدو

يكشف موقف العدو الصهيوني من الإعلان الإيراني عن إطلاق قمر صناعي، الموقف الحقيقي للغرب بعامة، وللكيان الصهيوني على وجه الخصوص، من الملف النووي الإيراني السلمي، فالجمهورية الإسلامية تمثّل التهديد الاستراتيجي الأكبر للعدو بحسب تصريحات مسؤوليه الأخيرة، لأن إيران استطاعت القيام بقفزة علمية تكنولوجية تُخيف كل هؤلاء الذين يريدون لبلادنا وشعوبنا أن تبقى مستهلكةً لمنتجاتهم، كما تخيفهم كونها تنطلق من الموقع الاستقلالي الحر غير الخاضع لأي محور دولي، والمساند والداعم للشعوب المستضعفة وطلاب الحرية، وعلى رأسهم الشعب الفلسطيني الذي تخلّى عنه العرب وتركته أمم الأرض يواجه مصيره أمام الوحش الصهيوني المدعوم أمريكياً ودولياً.

إننا نلاحظ أن العدو يعيش حال إحباط داخلية بالنظر إلى ما توصلت إليه الجمهورية الإسلامية من تقدّم علمي وتكنولوجي وصناعي، وهو يتحدث عن البنية التحتية الصناعية الإيرانية بأنها "بنية قوية"، وعن أن الفضاء "لم يعد حكراً على إسرائيل"، في اعتراف ضمني بأن ضرب إيران سيكلفه الكثير، وأنه لن يحقق أهدافه وغاياته، وأن الجمهورية الإسلامية تختلف في الذهنية والموقف والحركة عن تلك الدول التي انهزمت أمام العدو ورفعت الرايات البيض واستسلمت للرؤية الأمريكية ولكل التهاويل النفسية والإعلامية التي تحرّكت ضدها.

وفي الوقت الذي لا تفكّر الجمهورية الإسلامية في إيران في الاعتداء على أية دولة أخرى، ولا تضمر السوء لأية دولة عربية أو إسلامية، إلا أنّها لن تسمح لأي محور إقليمي أو دولي بالاعتداء عليها، ونحن نعرف أن لديها من الإمكانات ما يُتيح لها الدفاع عن نفسها وعن الأمة، ولذلك فإننا ندعو الدول العربية والإسلامية إلى الاستفادة من العرض الإيراني لها بالمساعدة في المجالات النووية السلمية وفي التجارب الفضائية، لأنّنا نعتقد أن الإعلان الإسرائيلي عن أن إيران تمثل "التهديد الأكبر" لوجود إسرائيل، يمثل اعترافاً حاسماً في أن من يقف في موقع العداوة الأولى لإسرائيل، يمثل أعلى معايير الصداقة مع العرب والمسلمين.

الإدارة الأمريكية: إصرار على الجريمة المتنقّلة

وفي جانب آخر، نتابع الفوضى الهدّامة التي حركتها أمريكا في العراق وأفغانستان، والأوضاع المثيرة المتحركة في الصومال والسودان وفلسطين وبعض مناطق أفريقيا، بفعل التدخل الأمريكي الذي يبحث عن الثروات الضخمة الكامنة في بعض هذه البلدان، ولاسيما النفط، والمواقع الاستراتيجية الأمنية والاقتصادية التي يراد السيطرة عليها في مناطق الصراع، الأمر الذي يجعل العالم الإسلامي يخضع لحرب داخلية وخارجية متحركة وحشية دائمة، وقد رأينا كيف أن أمريكا بدأت تطرد حلفاءها من أجل سياسة جديدة تخدم مصالحها وتطلق في آفاقها الحرب ضد الإرهاب، كما يحدث الآن في باكستان، البلد الإسلامي الذي يعيش الفوضى الأمنية والخلل الاقتصادي. وهذا ما ينبغي للعالم الإسلامي أن يفكر فيه، ليعرف أن التزام بعض دوله بالسياسة الأمريكية، لن يحقق له التقدم والعدل والخير والاقتصاد القوي، لأن أمريكا سوف تسقط الهيكل على رؤوس الجميع، بمن فيهم أولئك الذين يخضعون لها، بعدما تمتص حيوية وجودهم، وتصادر ثرواتهم، وتصبح في غنى عنهم، وخصوصاً عندما تخطط لإثارة الفتن العرقية والمذهبية والإقليمية بينهم، بحيث تتمزَّق كياناتهم وتتقاتل شعوبهم، ولا يستفيد من ذلك إلا الاستكبار الأمريكي وحلفاؤه، كإسرائيل، وحتى دول الاتحاد الأوروبي.

وعلينا أن نلتفت إلى ما يجري في الجزائر، وإلى التفجيرات الأخيرة التي قتلت وجرحت المئات، لنعرف أن هذه الاستهانة بأرواح الناس، وهذا الإصرار على الجريمة المتنقلة، يمثل خدمةً للمستكبرين الذين لا يريدون لبلادنا أن تستقر، ويريدون للفوضى أن تنهش جسدها وتمنع تطورها وتقدمها، سواء التفت من يقوم بهذه الجرائم إلى ذلك أو لم يلتفت.

ونلتقي في هذه المرحلة التي تضج بالحرب المدمّرة في منطقة القوقاز، بالصراع العسكري والسياسي بين روسيا وجورجيا، من خلال الخلافات التي يختفي فيها الصراع بين الغرب الأمريكي والأوروبي ودول حلف الأطلسي، وبين روسيا، في الخطط المرسومة التي يراد لها تطويق الاتحاد الروسي والسيطرة على منطقة القوقاز من أجل إضعافه بطريقة وبأخرى، ولكن روسيا تحاول استعادة مركز القوة بالرغم من الضغوط التهويلية التي يثيرها الغرب بما قد يجر الأوضاع إلى ما يشبه الحرب الباردة، بيد أنّنا ـ مع ذلك ـ نلاحظ أن الدول الكبرى تبقي الصراع العسكري في إطار محدود، بحيث تقتصر عمليات الاجتياح على الدول الصغيرة فقط، لأن أي اجتياح يجعل الأوضاع في أعلى مواقع الخطر الذي قد يصل إلى التهديد النووي، ولذلك فإن المسألة تبقى في نطاق تجاذب القوة الذي لا بد من أن ينتهي إلى الحلول الواقعية في أسلوب التفاوض والتهويل والتهديد الفارغ.

لبنان: تشنّج سياسي ومماطلة في المعالجات الاجتماعية

أما في لبنان، فإن المطلوب هو الابتعاد عن التشنّج السياسي الذي قد يمارسه البعض من القائمين على المحاور الداخلية لاستعراض القوة على الصعيد الطائفي أو المذهبي، ليثبت كل فريق أنه الأقوى في موقعه، في طائفته أو مذهبه، وهذا ما بدأنا نسمعه من التصريحات المتشنّجة، ومن استعادة المشاكل التي عاشها البلد بين فريق وآخر في الماضي القريب...

إننا ندعو الجميع إلى أن يرتفعوا إلى المستوى الوطني الذي ينفتح فيه المسؤولون والسياسيون على قضايا المواطنين، ليتحسّسون آلامهم مما لا فرق فيه بين طائفة وطائفة، ومذهب ومذهب، فالجميع محرومون وجائعون، وهم يطالبون هذه الحكومة بالاهتمام بحلّ مشاكلهم، ويريدون للقائمين على شؤون السياسة أن يبادروا إلى مواجهة الواقع بإخلاصٍ ووعيٍ وانفتاح، ليعود لبنان بلداً للعدل وللخير وللمحبة وللوحدة وللعيش المشترك، ولا يبقى مجرد مِزقٍ متناثرة على صورة التمزيق الطائفي والمذهبي والحزبي والشخصاني...

إن لبنان الهادىء التوافقي الحواري المنفتح على صناعة المستقبل الكبير الذي يتناسب مع دوره المميز الذي يتمثل بعبقرياته الثقافية الإنسانية، هو الوطن الذي يحتضن أبناءه ويمنح المنطقة الكثير من الإيجابيات السياسية والثقافية.

وعلى الذين يتعقدون من أي توافق بين اللبنانيين بما يؤدي إلى إسقاط الفتنة، ولاسيما بين المسلمين، سواء كان جزئياً أو كلياً، أن يتقوا الله في بلادهم على مستوى الوطن والمواطن الإنسان.

وأخيراً... إننا أمام هذه الكارثة التي يعيشها الناس على المستوى الاجتماعي، وعلى مستوى فقدان الحدّ الأدنى من الخدمات، وخصوصاً في مسألتي المياه والكهرباء، وصولاً إلى مسألة تصحيح الأجور وما يعانيه العمال والموظفون ومحدودو الدخل، نستغرب حال اللامبالاة من المسؤولين حيال معاناة الناس، وانخراطهم في سجال سياسي حول القضايا المعيشية بالطريقة التي تشير إلى أن الجميع يتبرأون من دم هذا الصدّيق.

إننا نحذّر من أن هذه المماطلة في المعالجة، وهذا التباطؤ في الحركة، سيدفع الناس إلى تصعيد احتجاجاتهم بالطريقة التي تزيد الواقع الاجتماعي والأمني تعقيداً، ونقول للجميع: إننا لا نمانع من أن ينطلق حواركم الذي يستمر الجدل حوله توسعةً وتضييقاً، ولكنَّ ثمّة أموراً لا يمكن أن تنتظر، وخصوصاً تلك التي تتصل بالوضع الاجتماعي والاقتصادي للناس على أبواب شهر رمضان المبارك، وعلى أبواب العام الدراسي القادم.

أيها الناس... أيها المسؤولون: احذروا صولة الفقراء، احذروا حركة العمّال والمستضعفين والمحرومين، قبل أن يلفظكم الواقع، لأن المستقبل سيقول فيكم كلمته على كل حال.

مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 20 شعبان 1429 هـ  الموافق: 22/08/2008 م

بسم الله الرحمن الرحيم

خطبتا صلاة الجمعة لسماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله

 

ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:

كـلام السّوء ممحقـة للدّيـن

الموقف من الجاهلين

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينـزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوّاً مبيناً} [الإسراء:53]، ويقول سبحانه وتعالى: {خذ العفو وأْمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} [الأعراف:199]، وفي آية أخرى يقول تعالى: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً} [الفرقان:63]...

كيف نكلّم الناس؟ وكيف نواجه كلمات الجهل التي توجَّه إلينا؟ إنَّ الإسلام يريد للإنسان عندما يُكلِّم الناس، أيّاً كانوا، سواء كانوا من عائلته أو من أقربائه أو من أصدقائه أو من أعدائه، أن لا يُطلق لنفسه الحرية في أن يتكلّم معهم بكلام انفعالي يتضمّن الكلمات القبيحة والفاحشة التي لا تحترم إنسانيتهم، وأن يكون مهذّباً في كلماته وفي ردود فعله إذا أراد الآخرون من الجاهلين أن يخلقوا له مشكلةً ليثيروا معه خلافاً، وليفتحوا معه معركةً، بحيث يوجّهون إليه كلاماً قبيحاً ليكون ردّ فعله كلاماً قبيحاً مماثلاً لكلامهم، وليتراشقوا بالكلمات، وعند ذلك تحدث المعركة.

إنّ الله تعالى يريد للإنسان أن يُعرِض عن الجاهلين، وأن يهملهم، وأن يتصرف معهم كما لو أنهم لم يتكلموا بشيء، ليجعلهم ذلك يشعرون بالاحتقار، لأنّ الردّ عليهم يوحي بالاحترام لهم، بينما الإهمال يدلّ على احتقار الآخر لهم، ولذا قال تعالى: {وأعرض عن الجاهلين}، ويتحدث الله تعالى عن ردّ فعل عباده الصالحين على ما قوله الجاهلون من كلام فاحش أو قبيح، فيقول سبحانه: {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً}، قد يخاطبك بعض الناس بمثل هذا الكلام الفاحش ليخلقوا لك مشكلة، وليفتحوا معك معركة، لذلك عليك أن تهملهم وتُعرض عنهم، وتتفادى الدخول معهم في معركة، لأن ذلك هو الذي يجعل تصرّفاتهم معك في موضع احتقار.

لسان العاقل

إنّ الله تعالى يريد للإنسان أن يكون مهذّباً في كلامه، وهذا ما كانت عليه سيرة النبي(ص) فيما حدّثنا الله عنه بقوله تعالى: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك} [آل عمران:159]، ولذلك كان النبي(ص) يمثل أعلى درجات الإنسانية في كلامه مع الذين معه أو مع الذين ضده، فلم يُسمع منه أيّ كلمة سوء. والله تعالى يوصي النبي(ص) أن يبلّغ عباد الله أن يقولوا التي هي أحسن عندما يتكلمون بأي كلمة مع الآخرين، وأن يختاروا الكلمات الأحسن كما يختارون البضاعة الجيدة بدلاً من الرديئة، وأن يفكّروا في الكلمة التي يطلقونها للإنسان الآخر.

وهذا ما عبّر عنه أمير المؤمنين(ع) في قوله: "إنّ لسان المؤمن من وراء قلبه، وإنّ قلب المنافق من وراء لسانه"، قالوا: "كيف ذلك"؟ قال(ع): "لأن المؤمن إذا أراد أن يتكلّم بكلام، فإن كان خيراً أبداه، وإن كان شراً واراه، وإنّ المنافق يتكلّم بما أتى على لسانه، لا يدري ماذا له وماذا عليه". وقد ورد في الآية الكريمة: {فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديداً} [النساء:9]، فالله تعالى يريد للإنسان أن يكون قوله سليماً خالياً من خلل الفساد، ومصيباً للعدل، وموافقاً للشرع.

النهي عن الفحش والتفحّش

وعندما نأتي إلى الأحاديث الواردة عن النبي(ص) والأئمة من أهل بيته(ع) في هذا المورد، فإننا نقرأ في حديث رسول الله(ص) قوله: "إياكم والفحش ـ وهو الكلام القبيح، ومنه الكلام الذي يُستحى منه ـ فإن الله عزّ وجلّ لا يحبّ الفاحش المتفحّش". وعنه(ص) في رواية أخطر من الأولى، يقول(ص): "الجنة حرام على كل فاحش أن يدخلها"، قد يصلي الإنسان صلاة الليل، ويذهب إلى الحج والعمرة والزيارة، ولكن إذا كان كلامه فاحشاً مع زوجته وأولاده ومع الناس الذين يتعاطى معهم، فإنّه لا يسمح له بالدخول إلى الجنّة حتى لو كان عنده ما عنده من العبادات، لأن الجنة إنما هي لمن يكون كلامه حسناً طيّباً. لذلك على الإنسان أن ينظّف لسانه قبل أن ينطلق إلى الآخرة.

وعنه(ص): "ما كان الفحش في شيء قط إلا شانه ـ ما دخل الفحش في كلام إلا كان كلاماً معيباً ـ ولا كان الحياء في شيء قط إلا زانه"، وعنه(ص): "إن من شرّ عباد الله من تُكره مجالسته لفحشه"، وعنه(ص): "إن الله يحبّ الحييّ المتعفف، ويبغض البذيء السائل المُلحِف"، وعنه(ص): "لو كان الفحش خلقاً لكان شرّ خلق الله، ولو كان مثالاً لكان مثال سوء".

وعن أمير المؤمنين(ع) أنه قال: "الفحش والتفحّش ليسا من الإسلام"، لأن ذلك لا ينسجم مع أخلاقية الإسلام. وعنه(ع): "أسفه السفهاء المتبجِّح بفحش الكلام"، ويقول الإمام الباقر(ع): "قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يُقال لكم، فإن الله يبغض اللعّان السبّاب الطعّان على المؤمنين"، وعنه(ع): "سلاح اللئام قبيح الكلام"، وعن الإمام الصادق(ع): "البّذاء من الجفاء، والجفاء في النار"، ويقول(ع): "من خاف الناس لسانه فهو في النار"، لأنّه بذلك يتحرك في خط النفاق لا في خط الإيمان.

إن الإسلام يريد أن يعلّمنا كيف نكون إنسانيين ومهذّبين، وكيف نطلق كلامنا بالطريقة التي تفتح عقول الناس علينا بدلاً من أن تغلقها عنا، ولذلك علينا أن نربي أنفسنا وأولادنا على الكلام الأحسن، لأن ذلك هو الذي يحبّه الله، وأن نبتعد عن الكلام القبيح الذي يبغضه الله، {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} [المطففين:26].

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، فماذا هناك؟

إيران: تقدّم علمي وتكنولوجي يهزّ كيان العدو

يكشف موقف العدو الصهيوني من الإعلان الإيراني عن إطلاق قمر صناعي، الموقف الحقيقي للغرب بعامة، وللكيان الصهيوني على وجه الخصوص، من الملف النووي الإيراني السلمي، فالجمهورية الإسلامية تمثّل التهديد الاستراتيجي الأكبر للعدو بحسب تصريحات مسؤوليه الأخيرة، لأن إيران استطاعت القيام بقفزة علمية تكنولوجية تُخيف كل هؤلاء الذين يريدون لبلادنا وشعوبنا أن تبقى مستهلكةً لمنتجاتهم، كما تخيفهم كونها تنطلق من الموقع الاستقلالي الحر غير الخاضع لأي محور دولي، والمساند والداعم للشعوب المستضعفة وطلاب الحرية، وعلى رأسهم الشعب الفلسطيني الذي تخلّى عنه العرب وتركته أمم الأرض يواجه مصيره أمام الوحش الصهيوني المدعوم أمريكياً ودولياً.

إننا نلاحظ أن العدو يعيش حال إحباط داخلية بالنظر إلى ما توصلت إليه الجمهورية الإسلامية من تقدّم علمي وتكنولوجي وصناعي، وهو يتحدث عن البنية التحتية الصناعية الإيرانية بأنها "بنية قوية"، وعن أن الفضاء "لم يعد حكراً على إسرائيل"، في اعتراف ضمني بأن ضرب إيران سيكلفه الكثير، وأنه لن يحقق أهدافه وغاياته، وأن الجمهورية الإسلامية تختلف في الذهنية والموقف والحركة عن تلك الدول التي انهزمت أمام العدو ورفعت الرايات البيض واستسلمت للرؤية الأمريكية ولكل التهاويل النفسية والإعلامية التي تحرّكت ضدها.

وفي الوقت الذي لا تفكّر الجمهورية الإسلامية في إيران في الاعتداء على أية دولة أخرى، ولا تضمر السوء لأية دولة عربية أو إسلامية، إلا أنّها لن تسمح لأي محور إقليمي أو دولي بالاعتداء عليها، ونحن نعرف أن لديها من الإمكانات ما يُتيح لها الدفاع عن نفسها وعن الأمة، ولذلك فإننا ندعو الدول العربية والإسلامية إلى الاستفادة من العرض الإيراني لها بالمساعدة في المجالات النووية السلمية وفي التجارب الفضائية، لأنّنا نعتقد أن الإعلان الإسرائيلي عن أن إيران تمثل "التهديد الأكبر" لوجود إسرائيل، يمثل اعترافاً حاسماً في أن من يقف في موقع العداوة الأولى لإسرائيل، يمثل أعلى معايير الصداقة مع العرب والمسلمين.

الإدارة الأمريكية: إصرار على الجريمة المتنقّلة

وفي جانب آخر، نتابع الفوضى الهدّامة التي حركتها أمريكا في العراق وأفغانستان، والأوضاع المثيرة المتحركة في الصومال والسودان وفلسطين وبعض مناطق أفريقيا، بفعل التدخل الأمريكي الذي يبحث عن الثروات الضخمة الكامنة في بعض هذه البلدان، ولاسيما النفط، والمواقع الاستراتيجية الأمنية والاقتصادية التي يراد السيطرة عليها في مناطق الصراع، الأمر الذي يجعل العالم الإسلامي يخضع لحرب داخلية وخارجية متحركة وحشية دائمة، وقد رأينا كيف أن أمريكا بدأت تطرد حلفاءها من أجل سياسة جديدة تخدم مصالحها وتطلق في آفاقها الحرب ضد الإرهاب، كما يحدث الآن في باكستان، البلد الإسلامي الذي يعيش الفوضى الأمنية والخلل الاقتصادي. وهذا ما ينبغي للعالم الإسلامي أن يفكر فيه، ليعرف أن التزام بعض دوله بالسياسة الأمريكية، لن يحقق له التقدم والعدل والخير والاقتصاد القوي، لأن أمريكا سوف تسقط الهيكل على رؤوس الجميع، بمن فيهم أولئك الذين يخضعون لها، بعدما تمتص حيوية وجودهم، وتصادر ثرواتهم، وتصبح في غنى عنهم، وخصوصاً عندما تخطط لإثارة الفتن العرقية والمذهبية والإقليمية بينهم، بحيث تتمزَّق كياناتهم وتتقاتل شعوبهم، ولا يستفيد من ذلك إلا الاستكبار الأمريكي وحلفاؤه، كإسرائيل، وحتى دول الاتحاد الأوروبي.

وعلينا أن نلتفت إلى ما يجري في الجزائر، وإلى التفجيرات الأخيرة التي قتلت وجرحت المئات، لنعرف أن هذه الاستهانة بأرواح الناس، وهذا الإصرار على الجريمة المتنقلة، يمثل خدمةً للمستكبرين الذين لا يريدون لبلادنا أن تستقر، ويريدون للفوضى أن تنهش جسدها وتمنع تطورها وتقدمها، سواء التفت من يقوم بهذه الجرائم إلى ذلك أو لم يلتفت.

ونلتقي في هذه المرحلة التي تضج بالحرب المدمّرة في منطقة القوقاز، بالصراع العسكري والسياسي بين روسيا وجورجيا، من خلال الخلافات التي يختفي فيها الصراع بين الغرب الأمريكي والأوروبي ودول حلف الأطلسي، وبين روسيا، في الخطط المرسومة التي يراد لها تطويق الاتحاد الروسي والسيطرة على منطقة القوقاز من أجل إضعافه بطريقة وبأخرى، ولكن روسيا تحاول استعادة مركز القوة بالرغم من الضغوط التهويلية التي يثيرها الغرب بما قد يجر الأوضاع إلى ما يشبه الحرب الباردة، بيد أنّنا ـ مع ذلك ـ نلاحظ أن الدول الكبرى تبقي الصراع العسكري في إطار محدود، بحيث تقتصر عمليات الاجتياح على الدول الصغيرة فقط، لأن أي اجتياح يجعل الأوضاع في أعلى مواقع الخطر الذي قد يصل إلى التهديد النووي، ولذلك فإن المسألة تبقى في نطاق تجاذب القوة الذي لا بد من أن ينتهي إلى الحلول الواقعية في أسلوب التفاوض والتهويل والتهديد الفارغ.

لبنان: تشنّج سياسي ومماطلة في المعالجات الاجتماعية

أما في لبنان، فإن المطلوب هو الابتعاد عن التشنّج السياسي الذي قد يمارسه البعض من القائمين على المحاور الداخلية لاستعراض القوة على الصعيد الطائفي أو المذهبي، ليثبت كل فريق أنه الأقوى في موقعه، في طائفته أو مذهبه، وهذا ما بدأنا نسمعه من التصريحات المتشنّجة، ومن استعادة المشاكل التي عاشها البلد بين فريق وآخر في الماضي القريب...

إننا ندعو الجميع إلى أن يرتفعوا إلى المستوى الوطني الذي ينفتح فيه المسؤولون والسياسيون على قضايا المواطنين، ليتحسّسون آلامهم مما لا فرق فيه بين طائفة وطائفة، ومذهب ومذهب، فالجميع محرومون وجائعون، وهم يطالبون هذه الحكومة بالاهتمام بحلّ مشاكلهم، ويريدون للقائمين على شؤون السياسة أن يبادروا إلى مواجهة الواقع بإخلاصٍ ووعيٍ وانفتاح، ليعود لبنان بلداً للعدل وللخير وللمحبة وللوحدة وللعيش المشترك، ولا يبقى مجرد مِزقٍ متناثرة على صورة التمزيق الطائفي والمذهبي والحزبي والشخصاني...

إن لبنان الهادىء التوافقي الحواري المنفتح على صناعة المستقبل الكبير الذي يتناسب مع دوره المميز الذي يتمثل بعبقرياته الثقافية الإنسانية، هو الوطن الذي يحتضن أبناءه ويمنح المنطقة الكثير من الإيجابيات السياسية والثقافية.

وعلى الذين يتعقدون من أي توافق بين اللبنانيين بما يؤدي إلى إسقاط الفتنة، ولاسيما بين المسلمين، سواء كان جزئياً أو كلياً، أن يتقوا الله في بلادهم على مستوى الوطن والمواطن الإنسان.

وأخيراً... إننا أمام هذه الكارثة التي يعيشها الناس على المستوى الاجتماعي، وعلى مستوى فقدان الحدّ الأدنى من الخدمات، وخصوصاً في مسألتي المياه والكهرباء، وصولاً إلى مسألة تصحيح الأجور وما يعانيه العمال والموظفون ومحدودو الدخل، نستغرب حال اللامبالاة من المسؤولين حيال معاناة الناس، وانخراطهم في سجال سياسي حول القضايا المعيشية بالطريقة التي تشير إلى أن الجميع يتبرأون من دم هذا الصدّيق.

إننا نحذّر من أن هذه المماطلة في المعالجة، وهذا التباطؤ في الحركة، سيدفع الناس إلى تصعيد احتجاجاتهم بالطريقة التي تزيد الواقع الاجتماعي والأمني تعقيداً، ونقول للجميع: إننا لا نمانع من أن ينطلق حواركم الذي يستمر الجدل حوله توسعةً وتضييقاً، ولكنَّ ثمّة أموراً لا يمكن أن تنتظر، وخصوصاً تلك التي تتصل بالوضع الاجتماعي والاقتصادي للناس على أبواب شهر رمضان المبارك، وعلى أبواب العام الدراسي القادم.

أيها الناس... أيها المسؤولون: احذروا صولة الفقراء، احذروا حركة العمّال والمستضعفين والمحرومين، قبل أن يلفظكم الواقع، لأن المستقبل سيقول فيكم كلمته على كل حال.

مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 20 شعبان 1429 هـ  الموافق: 22/08/2008 م

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية