ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:
في المنهج القرآني استقلال العقل في التفكير والانتماء
مسؤولية الفكر والانتماء
في التربية الإسلامية، يريد الله تعالى للإنسان، الذي خلق له عقلاً مستقلاً وشخصيةً مسؤولة، أن لا يخضع عقله لأي إنسان، بل أن ينفتح على أيّ فكر يلتزمه أو أيّ انتماء ينتمي إليه، من خلال دراسته بمسؤولية ومن خلال اقتناعه، ليقدّم حساب ما يفكّر فيه أو ما ينتمي إليه أو يتّبعه لله تعالى، لأنّه سيقف أمام الله عزّ وجلّ في موقف الحساب، وسيسأله عن القاعدة التي اعتمدها في تفكيره وفي تحديد انتمائه.
وقد تحدث القرآن الكريم كثيراً عن المسؤولية الفردية، وأن الإنسان يتحمّل المسؤولية عن كل ما يقوم به، فهو الذي يتحمل مسؤولية أخطائه التي لا يتحملها غيره، وهذا ما نقرأه في قوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى* وأن سعيه سوف يُرى} [النجم:39-40]، فكل إنسان له سعيه الذي يتحمّل مسؤوليته، خطأً كان أو صواباً، ولا يتحمّل أحد عنه مسؤولية خطئه مهما كان قريباً منه: {واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جازٍ عن والده شيئاً} [لقمان:33].
ويُنقل عن النبي(ص)، أنه اجتمع إليه أقرب الناس منه في مرضه الذي قُبض فيه، وهم عمه العباس بن عبد المطلب، وعمّته صفية، وابنته الصدّيقة السيدة الزهراء(ع)، فالتفت(ص) إليهم وقال: "يا عباس بن عبد المطلب، يا عمّ رسول الله، إعمل لما عند الله فإني لا أغني عنك من الله شيئاً. يا صفية بنت عبد المطلب، يا عمّة رسول الله، إعملي لما عند الله فإني لا أغني عنك من الله شيئاً. يا فاطمة بنت محمد، يا بنت رسول الله، إعملي لما عند الله فإني لا أغني عنك من الله شيئاً".فليس بين الله وبين أحد من عباده قرابة، حتى لو كان نبيّاً أو وليّاً، وإنما يتقرّب الأنبياء والأولياء إلى الله تعالى بعملهم.
في هذا المجال، يحدثنا الله تعالى عن بعض الكافرين الذين يدعون بعض المسلمين إلى السير معهم في خط الضلال على أن يتحملوا هم مسؤوليتهم، والله تعالى يصوّر لنا هذه المسألة بقوله: {وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون* وليحملنَّ أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون} [العنكبوت:12-13].
موقف المتبوعين من التابعين
وقد أثار الله سبحانه وتعالى هذه المسألة في القرآن الكريم، في الحوار بين التابعين الذين يغمضون أعينهم والمتبوعين، قال تعالى: {إذ تبرّأ الذين اتُّبعواـ وهم الزعامات والقيادات والطغاة ـ من الذين اتَّبعوا ورأوا العذاب وتقطّعت بهم الأسباب ـ أي انقطعت كل العلاقات التي كانت تجمعهم في الدنيا من خلال الأحزاب والتيارات ـ وقال الذين اتَّبعوا لو أن لنا كرّةـ لو يعيدنا الله إلى الدنيا ـ فنتبرّأ منهم كما تبرّأوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار} [البقرة:166-167].
وفي مشهد آخر، يقول تعالى: {وبرزوا لله جميعاًـ حيث جمع الله الزعامات والقيادات والظالمين والمظلومين في صعيدٍ واحد ـ فقال الضعفاء للذين استكبروا إنّا كنا لكم تبعاً ـ فقد كنا من جماعتكم، وكنا نقاتل من أجلكم، ونقوّي ملككم، فردّوا لنا الجميل ـ فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيءـ خذوا عنا ولو جزءاً بسيطاً من العذاب في مقابل ما قدّمناه لكم ـ قالوا لو هدانا الله لهديناكمـ نحن لم نأخذ بالهداية التي بيّنها الله لنا وللناس ـ سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص} [إبراهيم:21]، ثم يحيلونهم إلى الشيطان، ليحمّلوه مسؤولية أعمالهم، ولكن الشيطان ذكي ويتقن سياسة الخبث والمكر والحيلة، فيردّ عليهم {وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ـ الله وعدكم بأن كلاً منكم سوف يرى عمله، شراً كان أو خيراً، ووعدكم بدخول الجنة أو النار، أما أنا، فإن شغلي هو أن أكذب عليكم وأجمّل لكم القبيح، كما هو حال السياسيين في عصرنا ـ ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ـ فالله أعطاكم العقل وأنزل إليكم الرسالات، فلماذا لم تفكروا فيها وتتبعوها؟ ـ ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخيّ إني كفرت بما أشركتموني من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم} [إبراهيم:22].
وفي آية أخرى يقول تعالى: {ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون قال الذين حقّ عليهم القول ـ صدر عليهم الحكم ـ ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرّأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون* وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون} [القصص:62-64].
الحوار بين المستكبرين والمستضعفين
ويقول تعالى في سورة سبأ: {ولو ترى إذ الظالمون ـ الذين ظلموا أنفسهم بالشرك والمعصية والكفر ـ موقوفون عند ربهم يُرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين ـ فقد ضللتمونا وأغويتمونا، فأنتم تتحمّلون مسؤوليتنا ـ قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم ـ فلماذا نتحمّل نحن مسؤوليتكم ولا تتحمّلونها أنتم وقد أعطاكم الله عقلاً، وأرسل إليكم الرسل ـ بل كنتم مجرمين وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار ـ فقد كنتم تستغلون حاجاتنا ونقاط ضعفنا، وتخططون عن طريق الحيل لتجتذبونا إليكم ـ إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً وأسرّوا الندامة ـ ولكنّها ندامة من دون فائدة ـ لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون} [سبأ:31-33].
لذلك، لا بد للإنسان من أن يتحمّل مسؤولية نفسه، وأن يفكر في موقفه بين يدي ربه عندما يأتي السؤال من الله: {وقفوهم إنهم مسؤولون} [الصافات:24]، {يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله}[الانفطار:19]، فالله تعالى يريد للإنسان أن يبقى عقله معه، فلا يخضعه لأي إنسان آخر، لأن العقل هو حجة الله على الإنسان، وعلى الإنسان أن يتحمل مسؤولية عمله واختياره أمام الله عندما يقوم للحساب، لأنه سيحشر وحده ويحاسب وحده. لذلك على الإنسان أن لا يفكر في حاضره في الدنيا فقط، بل أن يفكر في الدار الآخرة، كما جاء في قوله تعالى: {وابتغِ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنسَ نصيبك من الدنيا} [القصص:77]، {يوم لا ينفع مال ولا بنون* إلا من أتى الله بقلب سليم} [الشعراء:88-89].
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله... اتقوا الله، وراقبوا الله تعالى في سرّكم وعلانيتكم، وفي كل ما تفعلونه وتتركونه، وفي كل مواقفكم وعلاقاتكم، وفي كل حربكم وسلمكم، وفي كل أوضاعكم فيما تواجهون به حركة العالم من حولكم، ولاسيما من قبل المستكبرين الذين يصادرون حياة الناس وسياستهم واقتصادهم، فماذا هناك؟
إسرائيل: استباحة بريّة وجوية للعواصم العربية
يجول المسؤولون الإسرائيليون والأمريكيون في العواصم العربية ـ جيئةً وذهاباً ـ كما تجول الطائرات الأمريكية والإسرائيلية في سماء أكثر من عاصمة إسلامية وعربية، من أفغانستان إلى العراق إلى لبنان إلى بلدان أخرى، وصولاً إلى فلسطين المحتلة.
وعلى بُعد شهر من الزمن، وهو الوقت الذي يستعد فيه الكيان الصهيوني للاحتفال بالذكرى الستين لقيامه على حساب الشعب الفلسطيني، تتوالى لقاءات مسؤولي العدو بالمسؤولين العرب، وتُشرَّع لهم الندوات الحوارية والمنابر الإعلامية، مع كل ما يعنيه ذلك من امتهان للشعب الفلسطيني، واستخفاف بحقوقه، والرقص على مأساته اليومية في المجازر والحصار المضروب عليه، والإمعان في تجويعه لدفعه إلى الاستسلام.
وإلى جانب ذلك، تتواصل لقاءات رئيس السلطة الفلسطينية مع رئيس وزراء العدو، من دون أن يحصل منه على شيء في مسألة تخفيف المعاناة القاسية عن الشعب الفلسطيني، وبالتالي، فهو لن يحصل على أيّ شيء فيما يخص المسألة السياسية والتفاوضية، لتكون هذه اللقاءات وسيلةً من وسائل تمرير الوقت الضائع الذي يساعد إسرائيل على استكمال استراتيجيتها، كما يساعد الإدارة الأمريكية المحافظة في الحصول على تأييد اللوبي اليهودي في أمريكا.
أما وزيرة خارجية العدو التي حلّت ضيفةً على منتدى الدوحة في قطر، فقد حاولت ـ من هناك ـ أن ترسم للعرب استراتيجية يتنكّرون فيها لتاريخهم وحاضرهم ومستقبلهم، لينخرطوا في جبهة عربية ـ إسرائيلية تواجه إيران، ولتسعى هذه الجبهة إلى تحقيق تفاهم سياسي وأمني يتصدى لما أسمته "التهديد الإيراني"، وقد جاء ذلك في الوقت الذي أظهرت استطلاعات للرأي جرت مؤخراً، أن غالبية العرب ينظرون إلى إسرائيل كعدوّ، ولا يعتبرون أن إيران تشكّل خطراً عليهم أو تهديداً لهم.
إننا نلاحظ هبوطاً مخيفاً على مستوى الموقف الرسمي العربي، بالتوازي مع تصاعد حركة المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي والأمريكي، كما نلحظ ضغطاً أمريكياً متوالياً على الأنظمة العربية لدفعها إلى الابتعاد عن إيران والاقتراب من الكيان الصهيوني، لتعديل التوازن الذي يعتبر الأمريكيون أنه اختل لمصلحة قوى المقاومة والممانعة في المنطقة منذ هزيمة إسرائيل في تموز من العام 2006، إلى التخبّط الأمريكي في العراق، وصولاً إلى معركة غزة الأخيرة.
السياسة الأمريكية: حذر من إيران وتدمير في العراق
إن مشكلة إيران لدى أمريكا وإسرائيل،هي في كونها تنفتح على حركات المقاومة في لبنان وفلسطين والعراق، إلى جانب انفتاحها على العالم العربي كله، في علاقات صداقة وتعاون سياسي واقتصادي، وتكامل أمني في مسألة الدفاع عن أمن الخليج، ولكن المطلوب أمريكياً من إيران، هو أن تنخرط في الخط المعادي لقضايا الأمة، وأن تنفتح على أمريكا وإسرائيل، وأن تبقى في سياق دول العالم الثالث، فلا تفكر في تحديث اقتصادها، ولا في الانفتاح على المشاريع العلمية في إطار ملفها النووي السلمي، ولذلك يُطلب من العرب ـ على مستوى الكثير من الأنظمة ـ أن يلوّحوا لها بخيارات الفتنة تارةً، أو أن يفتحوا أبوابهم لعدوّها وعدوّ الأمة تارةً أخرى، ضمن محاولات تهويلية للضغط عليها، وفي سياق متزامن مع الضغوط الأمريكية للتفاوض معها حول الواقع العراقي.
إننا نقول لبعض العرب ممن يستعجلون اللقاء مع الصهاينة: رويداً رويداً، وإذا كنتم لا تحسبون حسابات شعوبكم، فعليكم أن تدرسوا الواقع جيداً من حولكم، لتعرفوا أن إسرائيل التي لا يمكن أن تتخلى عن خطها البياني في ارتكاب المجازر ضد العرب، كما فعلت وتفعل بالفلسطينيين، وكما فعلت باللبنانيين والسوريين والمصريين... إن إسرائيل هذه، لا يمكن أن تكون صديقةً للعرب إلا على طريقة الصداقة بين الذئب والحمل، وإن إسرائيل النووية لا يمكن أن تكون المخلّص للعرب من تهديد مزعوم لجارٍ إسلامي لا يطمح إلا للتكامل معهم على المستوى النووي السلمي، وإن هذه "الجبهة" التي تدعوكم وزيرة الخارجية الصهيونية إلى الانخراط فيها، تقع في دائرة الخطر والتدمير الكبير للواقع العربي والإسلامي ولواقع المنطقة بأكملها.
وإننا في الوقت نفسه، نحذّر من الحركة الاستكبارية التدميرية في العراق، والتي يتحرك فيها الموساد الإسرائيلي جنباً إلى جنب مع الأمريكيين، إضافةً إلى التطابق في الدور بين الطائرات الأمريكية التي تقصف المدنيين الأبرياء في مدينة الصدر والبصرة وغيرهما، وبين الطائرات الإسرائيلية التي تقصف المدنيين في غزة وغيرها، من دون أن يُنكر عليهما أحد إرهابهما وبطشهما، ثم تلقي الإدارة الأمريكية باللائمة في وصول الوضع في العراق إلى هذا المستوى على إيران، في الوقت الذي يعرف الجميع، أن ما يصيب العراقيين من مآسٍ وآلام وفوضى تدميرية، تتحمّل مسؤوليته القوات الأمريكية المحتلة، التي خلقت هذا الواقع، وعملت على رعايته لحساب خططها الساعية للسيطرة على منابع النفط، والإمساك بالمواقع الاستراتيجية في المنطقة.
لبنان: تمديد للفراغ السياسي
أما في لبنان، فنلتقي ببشرى أمريكية جديدة زفّتها إلينا "رايس"، وتبشّر فيها باستمرار الفراغ في الرئاسة الأولى، على أساس أنه لا "يُضير الأمريكيين"، على حدّ قولها، وتدعو إلى التمديد للمجلس النيابي الحالي، وكل ذلك في نطاق الديمقراطية التي تحمل الإدارة الأمريكية رسالتها التبشيرية إلى منطقتنا.
إننا أمام ذلك نسأل اللبنانيين، كما نسأل العرب في مبادرتهم: هل أبقت الإدارة الأمريكية لهم من شيء يختبئون خلفه؟ وهل بقي هناك مَن يشك في الدور الأمريكي التعطيلي الذي يريد للأزمة أن تستمر وتُرحَّل إلى العام القادم؟!
إننا نعتقد أن لبنان لا يزال يتحرك في داخل المأزق الذي تشرف المخابرات المركزية الأمريكية وإدارتها السياسية عليه، لإبقاء الأزمة في دائرة التعقيد، ولتحريك الجدل السياسي العقيم الذي يدير المسألة على أساس مسؤولية هذا الفريق أو ذاك، بينما يعرف الجميع أن المسألة في تعقيداتها السياسية ليست لبنانية، بل هي خاضعة للعبث الأمريكي بالواقع العربي كله، والذي يشرف حتى على الاتهامات التي تلقيها هذه الجهة العربية على الجهة العربية الأخرى أو العكس، حيال المسألة اللبنانية.
وهكذا، يستمر لبنان في الحلقة المفرغة، والدوّامة الخانقة التي تنطلق فيها الخطابات الاستهلاكية التي تثير الحديث عن حقوق المواطن الذي أضحى فريسة للتراشق الكلامي الاستهلاكي، ولغول الجوع الذي يفتح فاه ليبتلع الفقراء والمستضعفين من دون أن يسأل عن طوائفهم ومذاهبهم وخطوطهم السياسية، ولوحش الغلاء الذي يأكل مدّخراتهم الصغيرة، ليترك دولة مهشّمة في صورة الزعامات التي لا ترى إلا نفسها، ولا تتطلّع إلى الناس إلا كأرقام قابلة للاستخدام في لعبة الإثارة السياسية والطائفية والمذهبية التي أكلت الكثير من البلد، ولم يبقَ منه إلا القليل.
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:
في المنهج القرآني استقلال العقل في التفكير والانتماء
مسؤولية الفكر والانتماء
في التربية الإسلامية، يريد الله تعالى للإنسان، الذي خلق له عقلاً مستقلاً وشخصيةً مسؤولة، أن لا يخضع عقله لأي إنسان، بل أن ينفتح على أيّ فكر يلتزمه أو أيّ انتماء ينتمي إليه، من خلال دراسته بمسؤولية ومن خلال اقتناعه، ليقدّم حساب ما يفكّر فيه أو ما ينتمي إليه أو يتّبعه لله تعالى، لأنّه سيقف أمام الله عزّ وجلّ في موقف الحساب، وسيسأله عن القاعدة التي اعتمدها في تفكيره وفي تحديد انتمائه.
وقد تحدث القرآن الكريم كثيراً عن المسؤولية الفردية، وأن الإنسان يتحمّل المسؤولية عن كل ما يقوم به، فهو الذي يتحمل مسؤولية أخطائه التي لا يتحملها غيره، وهذا ما نقرأه في قوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى* وأن سعيه سوف يُرى} [النجم:39-40]، فكل إنسان له سعيه الذي يتحمّل مسؤوليته، خطأً كان أو صواباً، ولا يتحمّل أحد عنه مسؤولية خطئه مهما كان قريباً منه: {واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جازٍ عن والده شيئاً} [لقمان:33].
ويُنقل عن النبي(ص)، أنه اجتمع إليه أقرب الناس منه في مرضه الذي قُبض فيه، وهم عمه العباس بن عبد المطلب، وعمّته صفية، وابنته الصدّيقة السيدة الزهراء(ع)، فالتفت(ص) إليهم وقال: "يا عباس بن عبد المطلب، يا عمّ رسول الله، إعمل لما عند الله فإني لا أغني عنك من الله شيئاً. يا صفية بنت عبد المطلب، يا عمّة رسول الله، إعملي لما عند الله فإني لا أغني عنك من الله شيئاً. يا فاطمة بنت محمد، يا بنت رسول الله، إعملي لما عند الله فإني لا أغني عنك من الله شيئاً".فليس بين الله وبين أحد من عباده قرابة، حتى لو كان نبيّاً أو وليّاً، وإنما يتقرّب الأنبياء والأولياء إلى الله تعالى بعملهم.
في هذا المجال، يحدثنا الله تعالى عن بعض الكافرين الذين يدعون بعض المسلمين إلى السير معهم في خط الضلال على أن يتحملوا هم مسؤوليتهم، والله تعالى يصوّر لنا هذه المسألة بقوله: {وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون* وليحملنَّ أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون} [العنكبوت:12-13].
موقف المتبوعين من التابعين
وقد أثار الله سبحانه وتعالى هذه المسألة في القرآن الكريم، في الحوار بين التابعين الذين يغمضون أعينهم والمتبوعين، قال تعالى: {إذ تبرّأ الذين اتُّبعواـ وهم الزعامات والقيادات والطغاة ـ من الذين اتَّبعوا ورأوا العذاب وتقطّعت بهم الأسباب ـ أي انقطعت كل العلاقات التي كانت تجمعهم في الدنيا من خلال الأحزاب والتيارات ـ وقال الذين اتَّبعوا لو أن لنا كرّةـ لو يعيدنا الله إلى الدنيا ـ فنتبرّأ منهم كما تبرّأوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار} [البقرة:166-167].
وفي مشهد آخر، يقول تعالى: {وبرزوا لله جميعاًـ حيث جمع الله الزعامات والقيادات والظالمين والمظلومين في صعيدٍ واحد ـ فقال الضعفاء للذين استكبروا إنّا كنا لكم تبعاً ـ فقد كنا من جماعتكم، وكنا نقاتل من أجلكم، ونقوّي ملككم، فردّوا لنا الجميل ـ فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيءـ خذوا عنا ولو جزءاً بسيطاً من العذاب في مقابل ما قدّمناه لكم ـ قالوا لو هدانا الله لهديناكمـ نحن لم نأخذ بالهداية التي بيّنها الله لنا وللناس ـ سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص} [إبراهيم:21]، ثم يحيلونهم إلى الشيطان، ليحمّلوه مسؤولية أعمالهم، ولكن الشيطان ذكي ويتقن سياسة الخبث والمكر والحيلة، فيردّ عليهم {وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ـ الله وعدكم بأن كلاً منكم سوف يرى عمله، شراً كان أو خيراً، ووعدكم بدخول الجنة أو النار، أما أنا، فإن شغلي هو أن أكذب عليكم وأجمّل لكم القبيح، كما هو حال السياسيين في عصرنا ـ ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ـ فالله أعطاكم العقل وأنزل إليكم الرسالات، فلماذا لم تفكروا فيها وتتبعوها؟ ـ ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخيّ إني كفرت بما أشركتموني من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم} [إبراهيم:22].
وفي آية أخرى يقول تعالى: {ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون قال الذين حقّ عليهم القول ـ صدر عليهم الحكم ـ ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرّأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون* وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون} [القصص:62-64].
الحوار بين المستكبرين والمستضعفين
ويقول تعالى في سورة سبأ: {ولو ترى إذ الظالمون ـ الذين ظلموا أنفسهم بالشرك والمعصية والكفر ـ موقوفون عند ربهم يُرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين ـ فقد ضللتمونا وأغويتمونا، فأنتم تتحمّلون مسؤوليتنا ـ قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم ـ فلماذا نتحمّل نحن مسؤوليتكم ولا تتحمّلونها أنتم وقد أعطاكم الله عقلاً، وأرسل إليكم الرسل ـ بل كنتم مجرمين وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار ـ فقد كنتم تستغلون حاجاتنا ونقاط ضعفنا، وتخططون عن طريق الحيل لتجتذبونا إليكم ـ إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً وأسرّوا الندامة ـ ولكنّها ندامة من دون فائدة ـ لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون} [سبأ:31-33].
لذلك، لا بد للإنسان من أن يتحمّل مسؤولية نفسه، وأن يفكر في موقفه بين يدي ربه عندما يأتي السؤال من الله: {وقفوهم إنهم مسؤولون} [الصافات:24]، {يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله}[الانفطار:19]، فالله تعالى يريد للإنسان أن يبقى عقله معه، فلا يخضعه لأي إنسان آخر، لأن العقل هو حجة الله على الإنسان، وعلى الإنسان أن يتحمل مسؤولية عمله واختياره أمام الله عندما يقوم للحساب، لأنه سيحشر وحده ويحاسب وحده. لذلك على الإنسان أن لا يفكر في حاضره في الدنيا فقط، بل أن يفكر في الدار الآخرة، كما جاء في قوله تعالى: {وابتغِ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنسَ نصيبك من الدنيا} [القصص:77]، {يوم لا ينفع مال ولا بنون* إلا من أتى الله بقلب سليم} [الشعراء:88-89].
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله... اتقوا الله، وراقبوا الله تعالى في سرّكم وعلانيتكم، وفي كل ما تفعلونه وتتركونه، وفي كل مواقفكم وعلاقاتكم، وفي كل حربكم وسلمكم، وفي كل أوضاعكم فيما تواجهون به حركة العالم من حولكم، ولاسيما من قبل المستكبرين الذين يصادرون حياة الناس وسياستهم واقتصادهم، فماذا هناك؟
إسرائيل: استباحة بريّة وجوية للعواصم العربية
يجول المسؤولون الإسرائيليون والأمريكيون في العواصم العربية ـ جيئةً وذهاباً ـ كما تجول الطائرات الأمريكية والإسرائيلية في سماء أكثر من عاصمة إسلامية وعربية، من أفغانستان إلى العراق إلى لبنان إلى بلدان أخرى، وصولاً إلى فلسطين المحتلة.
وعلى بُعد شهر من الزمن، وهو الوقت الذي يستعد فيه الكيان الصهيوني للاحتفال بالذكرى الستين لقيامه على حساب الشعب الفلسطيني، تتوالى لقاءات مسؤولي العدو بالمسؤولين العرب، وتُشرَّع لهم الندوات الحوارية والمنابر الإعلامية، مع كل ما يعنيه ذلك من امتهان للشعب الفلسطيني، واستخفاف بحقوقه، والرقص على مأساته اليومية في المجازر والحصار المضروب عليه، والإمعان في تجويعه لدفعه إلى الاستسلام.
وإلى جانب ذلك، تتواصل لقاءات رئيس السلطة الفلسطينية مع رئيس وزراء العدو، من دون أن يحصل منه على شيء في مسألة تخفيف المعاناة القاسية عن الشعب الفلسطيني، وبالتالي، فهو لن يحصل على أيّ شيء فيما يخص المسألة السياسية والتفاوضية، لتكون هذه اللقاءات وسيلةً من وسائل تمرير الوقت الضائع الذي يساعد إسرائيل على استكمال استراتيجيتها، كما يساعد الإدارة الأمريكية المحافظة في الحصول على تأييد اللوبي اليهودي في أمريكا.
أما وزيرة خارجية العدو التي حلّت ضيفةً على منتدى الدوحة في قطر، فقد حاولت ـ من هناك ـ أن ترسم للعرب استراتيجية يتنكّرون فيها لتاريخهم وحاضرهم ومستقبلهم، لينخرطوا في جبهة عربية ـ إسرائيلية تواجه إيران، ولتسعى هذه الجبهة إلى تحقيق تفاهم سياسي وأمني يتصدى لما أسمته "التهديد الإيراني"، وقد جاء ذلك في الوقت الذي أظهرت استطلاعات للرأي جرت مؤخراً، أن غالبية العرب ينظرون إلى إسرائيل كعدوّ، ولا يعتبرون أن إيران تشكّل خطراً عليهم أو تهديداً لهم.
إننا نلاحظ هبوطاً مخيفاً على مستوى الموقف الرسمي العربي، بالتوازي مع تصاعد حركة المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي والأمريكي، كما نلحظ ضغطاً أمريكياً متوالياً على الأنظمة العربية لدفعها إلى الابتعاد عن إيران والاقتراب من الكيان الصهيوني، لتعديل التوازن الذي يعتبر الأمريكيون أنه اختل لمصلحة قوى المقاومة والممانعة في المنطقة منذ هزيمة إسرائيل في تموز من العام 2006، إلى التخبّط الأمريكي في العراق، وصولاً إلى معركة غزة الأخيرة.
السياسة الأمريكية: حذر من إيران وتدمير في العراق
إن مشكلة إيران لدى أمريكا وإسرائيل،هي في كونها تنفتح على حركات المقاومة في لبنان وفلسطين والعراق، إلى جانب انفتاحها على العالم العربي كله، في علاقات صداقة وتعاون سياسي واقتصادي، وتكامل أمني في مسألة الدفاع عن أمن الخليج، ولكن المطلوب أمريكياً من إيران، هو أن تنخرط في الخط المعادي لقضايا الأمة، وأن تنفتح على أمريكا وإسرائيل، وأن تبقى في سياق دول العالم الثالث، فلا تفكر في تحديث اقتصادها، ولا في الانفتاح على المشاريع العلمية في إطار ملفها النووي السلمي، ولذلك يُطلب من العرب ـ على مستوى الكثير من الأنظمة ـ أن يلوّحوا لها بخيارات الفتنة تارةً، أو أن يفتحوا أبوابهم لعدوّها وعدوّ الأمة تارةً أخرى، ضمن محاولات تهويلية للضغط عليها، وفي سياق متزامن مع الضغوط الأمريكية للتفاوض معها حول الواقع العراقي.
إننا نقول لبعض العرب ممن يستعجلون اللقاء مع الصهاينة: رويداً رويداً، وإذا كنتم لا تحسبون حسابات شعوبكم، فعليكم أن تدرسوا الواقع جيداً من حولكم، لتعرفوا أن إسرائيل التي لا يمكن أن تتخلى عن خطها البياني في ارتكاب المجازر ضد العرب، كما فعلت وتفعل بالفلسطينيين، وكما فعلت باللبنانيين والسوريين والمصريين... إن إسرائيل هذه، لا يمكن أن تكون صديقةً للعرب إلا على طريقة الصداقة بين الذئب والحمل، وإن إسرائيل النووية لا يمكن أن تكون المخلّص للعرب من تهديد مزعوم لجارٍ إسلامي لا يطمح إلا للتكامل معهم على المستوى النووي السلمي، وإن هذه "الجبهة" التي تدعوكم وزيرة الخارجية الصهيونية إلى الانخراط فيها، تقع في دائرة الخطر والتدمير الكبير للواقع العربي والإسلامي ولواقع المنطقة بأكملها.
وإننا في الوقت نفسه، نحذّر من الحركة الاستكبارية التدميرية في العراق، والتي يتحرك فيها الموساد الإسرائيلي جنباً إلى جنب مع الأمريكيين، إضافةً إلى التطابق في الدور بين الطائرات الأمريكية التي تقصف المدنيين الأبرياء في مدينة الصدر والبصرة وغيرهما، وبين الطائرات الإسرائيلية التي تقصف المدنيين في غزة وغيرها، من دون أن يُنكر عليهما أحد إرهابهما وبطشهما، ثم تلقي الإدارة الأمريكية باللائمة في وصول الوضع في العراق إلى هذا المستوى على إيران، في الوقت الذي يعرف الجميع، أن ما يصيب العراقيين من مآسٍ وآلام وفوضى تدميرية، تتحمّل مسؤوليته القوات الأمريكية المحتلة، التي خلقت هذا الواقع، وعملت على رعايته لحساب خططها الساعية للسيطرة على منابع النفط، والإمساك بالمواقع الاستراتيجية في المنطقة.
لبنان: تمديد للفراغ السياسي
أما في لبنان، فنلتقي ببشرى أمريكية جديدة زفّتها إلينا "رايس"، وتبشّر فيها باستمرار الفراغ في الرئاسة الأولى، على أساس أنه لا "يُضير الأمريكيين"، على حدّ قولها، وتدعو إلى التمديد للمجلس النيابي الحالي، وكل ذلك في نطاق الديمقراطية التي تحمل الإدارة الأمريكية رسالتها التبشيرية إلى منطقتنا.
إننا أمام ذلك نسأل اللبنانيين، كما نسأل العرب في مبادرتهم: هل أبقت الإدارة الأمريكية لهم من شيء يختبئون خلفه؟ وهل بقي هناك مَن يشك في الدور الأمريكي التعطيلي الذي يريد للأزمة أن تستمر وتُرحَّل إلى العام القادم؟!
إننا نعتقد أن لبنان لا يزال يتحرك في داخل المأزق الذي تشرف المخابرات المركزية الأمريكية وإدارتها السياسية عليه، لإبقاء الأزمة في دائرة التعقيد، ولتحريك الجدل السياسي العقيم الذي يدير المسألة على أساس مسؤولية هذا الفريق أو ذاك، بينما يعرف الجميع أن المسألة في تعقيداتها السياسية ليست لبنانية، بل هي خاضعة للعبث الأمريكي بالواقع العربي كله، والذي يشرف حتى على الاتهامات التي تلقيها هذه الجهة العربية على الجهة العربية الأخرى أو العكس، حيال المسألة اللبنانية.
وهكذا، يستمر لبنان في الحلقة المفرغة، والدوّامة الخانقة التي تنطلق فيها الخطابات الاستهلاكية التي تثير الحديث عن حقوق المواطن الذي أضحى فريسة للتراشق الكلامي الاستهلاكي، ولغول الجوع الذي يفتح فاه ليبتلع الفقراء والمستضعفين من دون أن يسأل عن طوائفهم ومذاهبهم وخطوطهم السياسية، ولوحش الغلاء الذي يأكل مدّخراتهم الصغيرة، ليترك دولة مهشّمة في صورة الزعامات التي لا ترى إلا نفسها، ولا تتطلّع إلى الناس إلا كأرقام قابلة للاستخدام في لعبة الإثارة السياسية والطائفية والمذهبية التي أكلت الكثير من البلد، ولم يبقَ منه إلا القليل.