ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء فيهما:
الانفتاح على مواعظ علي(ع):
إخلاصٌ لله وامتثال للولاية...
خلود علم الإمام(ع):
عندما نقرأ حركة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) في إرشاد الناس وتوجيههم، ودراسة أوضاعهم ومعالجة مشاكلهم، وفي تركيزه على الواقع السلبي الذي يحيط بأوضاعهم، والانحراف العملي الذي يحرّك خطواتهم، عندما نقرأ عليّاً(ع)، فإنّنا نلاحظ أنّه لم يكن يعالج مشاكل الجيل الذي عاش في مرحلته فحسب، وإنّما كان يعالج قضايا النَّاس في مدى الزمن، بحيث إنّنا عندما نقرأ الكثير من كلماته وخطبه، نشعر بأنّه يصوّر لنا مرحلتنا في تعقيدات أوضاعنا، ويعالج مشاكلنا، فنشعر كما لو كان(ع) حاضراً بيننا. لأنّ عظمة عليّ(ع) تمثلت في انفتاحه على العالم في كلّ حركة التاريخ، لأنّه انطلق من عمق الحقيقة في امتداد الخطِّ الإسلامي الذي يتحرّك في كل جيل.
فالإسلام الذي أنزله الله تعالى في كتابه الكريم على رسوله(ص)، وألهمه أن يبلّغه للناس، لم يكن لجيل خاص، بل كان دين الإنسان كلّه والحياة كلّها. وكان كلّ ما جاء في تراثه، سواء في أصول العقيدة، أو في أحكام الشريعة، أو في المفاهيم المرتبطة بالحياة، كان يعالج مشاكل الإنسان كلّها. وفي سيرة علي(ع)، أنه لم يتلقَّ علوماً إلاّ من رسول الله(ص)، فكان(ص) هو الحاضن والمربّي والمعلّم والموجِّه له، لأنه كان يعيش معه منذ طفولته. وكان كما قال(ع) عن علاقته برسول الله(ص): «ولقد كنت معه، أتبعه اتّباع الفصيل إثر أمه، يرفع لي في كلِّ يوم علماً من أخلاقه، ويأمرني بالاقتداء به»،حيث كان علي(ع) مع رسول الله(ص) في الليل والنهار، وفي السفر والحضر، وعندما كان ينـزل القرآن على رسول الله، كان عليّ أول من يسمعه بعده، وكان يجلس معه ليحدّثه عن آفاق القرآن وعمق معانيه، ولذلك، قال(ع) وهو يتحدّث عن ذلك: «علّمني رسول الله ألف باب من العلم فُتح لي من كلِّ باب ألف باب»، فكان لا يقتصر على حفظ ما يسمعه، بل كان يفكِّر فيه، ويستخرج منه الكثير مـمّا يحتاجه الإنسان في الحياة.
وكان رسول الله (ص) يعطيه الأصول لينطلق(ع) في تفريع الفروع على الأصول، لذلك قال فيه رسول الله (ص): «أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها»، وكأنه يقول: من أراد المدينة فعليه أن يدخل من الباب، بمعنى أنّنا لا نستطيع التعرّف إلى علم رسول الله (ص) إلاّ من خلال علم عليّ(ع). وقد أورث(ع) أبناءه هذا العلم، وأكّد هذا ما ورد عن الصَّادق(ع):«حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث علي، وحديث علي حديث رسول الله، وحديث رسول الله قول الله عزّ وجلّ»، وقد نظم في ذلك أحد الشعراء شعراً يقول فيه:
ووالِ أُناساً قولهم وحديثهمروى جدُّنا عن جبرائيل عن الباري
لذلك، فإنّ ارتباطنا بأئمة أهل البيت(ع) ينطلق من ارتباطنا برسول الله (ص)، وهذا ما يجعل مسألة الولاية للأئمة(ع) تنطلق من خلال الولاية لرسول الله(ص)، والولاية لرسول الله تنطلق من خلال الولاية لله تعالى، لأنّ النبي (ص) كان الرَّسول الذي تعهّده الله بالرعاية والوحي، وأراد له أن يكون رسولاً للناس كافة، ورحمةً للعالمين.
مواعظ أمير المؤمنين(ع) الإرشادية:
ونحن في هذا الموقف، نقتطف بعض كلمات عليّ(ع) في خطبة له لأصحابه، وربما كانت هذه الخطبة في يوم الجمعة. حيث يقول(ع) فيها، كما ورد في نهج البلاغة: «عباد الله، قد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلاّ إدباراً ـ لو درست حال المجتمع، فإنّك تجد أن الخير فيه أخذ يتراجع وينكفئ ـ ولا الشر إلاّ إقبالا ـ فالنَّاس يحقد بعضها على بعضـ بالرغم من أنّهم مسلمون، ويعادون بعضهم البعض، ويتحاسدون فيما بينهم ويتباغضون، ويؤذي بعضهم بعضاً، ويقتل بعضهم بعضاً، وهذا ما نشاهده اليوم في العالم الإسلامي الّذي أصبح الشرُّ فيه ظاهرةً كبرى ـولا الشيطان في هلاك الناس إلاّ طمعاً ـ أمّا الشيطان، فقد أصبحت له شعبية في حياة الناس، لأنّه يُحسّن لهم القبيح، ويُقبّح لهم الحسن، ويوسوس لهم في كلِّ ما يريد أن يضلّلهم فيه، ويتحرّك بهم ليبعدهم عن الله، ومع ذلك، فإنّ الناس تعبده من دون الله، وهو في الوقت نفسه يتبرأ من ذلك، كما جاء في قوله تعالى:{وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي}(إبراهيم/22). فأيّ عالم هو هذا العالم الإسلامي الذي تسيطر عليه شياطين الإنس؛ من الشيطان الأمريكي والأوروبي، إلى الشياطين العربية التي تصادر حرية الناس وحياتهم؟! ـفهذا أوان قويت عدّته، وعمّت مكيدته، وأمكنت فريسته».
ثم يطلب عليٌّ(ع) من النَّاس أن يدرسوا الواقع، سواء على مستوى المجتمع الصغير (الوطن)، أو على مستوى الأمة أو العالم، فيقول: «اضرب بطرفك حيث شئت من النَّاس، فهل تبصر إلا فقيراً يكابد فقراً ـ هل ترى إلاّ مجتمع الفقراء الذين يكابدون فقرهم دون أن يساعدهم أحد أو يعينهم، حتى لو كانوا من المسلمين والمؤمنين ـأو غنيّاً بدّل نعمة الله كفراً ـ من أصحاب الثروات الكبيرة الّذين لا يشكرون الله على نعمه، لأنّ شكر النعمة، هو أن يُعطى الفقراء والمساكين والأيتام بعض ما جعله الله أمانةً عند الإنسان ممّا جعله وكيلاً عليه، {وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي آَتَاكُمْ(النور/33)، {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالمَحْرُومِ}(الذاريات:19) ـ أو بخيلاً اتَّخذ البخل بحق الله وفراً ـ لأنّ الله فرض على النّاس الحقوق الشرعية، وأراد لهم أن يصرفوا مـمّا أعطاهم للفقراء، وقد ورد في الحديث: «إن الله فرض في أموال الأغنياء للفقراء ما يكتفون به، ولو علم أنّ الّذي فرض لا يكفيهم لزادهم»، وفي حديث آخر:«إنَّ الله شرّك الفقراء في أموال الأغنياء»، ولكن البعض يبخل في إعطاء هذه الحقوق ويوفِّرها لنفسه ـأو متمرِّداً كأنّ بأذنه عن سمع المواعظ وقراً... ـ لا يسمع الموعظة، نتيجة طنين المعاصي التي تمنعه من سماعها ـ فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، ظهر الفساد ـ في العالم، ولا سيما في العالم الإسلامي ـفلا منكر مغيّر، ولا زاجر مزدجر ـ لأنّ كل النّاس ستفد إلى الله، وكلٌّ يريد أن يكون قريباً من الله، ولكن من دون أن يتحمّل مسؤوليته في النهي عن المنكر ـأفبهذا تريدون أن تجاوروا الله في دار قدسه، وتكونوا أعزّ أوليائه عنده؟! هيهات! لا يُخدع الله عن جنته، ولا تنال مرضاته إلاّ بطاعته ـ لأنه ليس بين الله وبين أحد قرابة، حتى إن النبي (ص) كان يقول:{وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ المُسْلِمِينَ}(الزُّمر/12)، وأيضاً قال الله عنه:{قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}(الزُّمر/13)، وفي آخر خطبه له(ص) قال: «أما إنّه لا ينجي إلاّ عمل مع رحمة، ولو عصيت لهويت».
ثم يقول(ع) للوعّاظ الذين يعظون الناس، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ولكن من دون أن يلتزموا بما يعظون النّاس به: ـلعن الله الآمرين بالمعروف التاركين له، والناهين عن المنكر العاملين به».
لذلك، عندما ندرس هذا المقطع من خطبة عليّ(ع)، نشعر كأنّه حاضر بيننا يتحدّث عن مشاكلنا، لأنّنا نعيش اليوم الصّورة نفسها والواقع ذاته. لذلك علينا أن نتَّعظ بهذه الموعظة التاريخية التي تنفتح على واقع الإسلام والمسلمين، لنكون في خطِّ الله ورسوله وأهل بيته، كما أمرنا الله تعالى بقوله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}(المائدة:55)، وهكذا يكون الإخلاص لله وتكون الولاية.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله... اتَّقوا الله، وواجهوا الموقف بالتقوى والسير على خطّ الاستقامة الذي وعد الله السائرين عليه أن يشملهم برحمته، حيث لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فماذا هناك؟
مناورات ورسائل تهديد:
في فلسطين المحتلة عرض عضلات إسرائيلية، من خلال مناورات عسكرية وُصفت بأنها الأضخم منذ تأسيس الكيان الغاصب، وهي مناورات فرضتها الحالة النفسية المأزومة لإسرائيل، بمسؤوليها وجيشها ومستوطنيها، جرّاء الهزيمة القاسية التي ألحقتها المقاومة الإسلامية بها في حربها على لبنان في صيف 2006، وما رافقه من عدوان وحشي على البشر والحجر. وقد حاولت إسرائيل إرسال رسائلتطمين إلى أكثر من طرفٍ، في الوقت الذي تواصل تهديداتها العنترية لإيران وسوريا والمقاومة في لبنان.
إننا نعتقد أن هذه المناورات تحاول أن تبعث برسالة إلى الخارج، كما إلى الداخل الصهيوني، بأنّ إسرائيل لا تزال الدولة الأقوى في المنطقة، وأن جيشها هو الجيش الذي لا يُقهر، بالرغم مما واجهه من خسائر مادية ومعنوية في حربه على لبنان والمقاومة، كما تعمل هذه المناورات على إثارة حربٍ نفسية ضد العالم العربي، لئلا يفكِّر في التعبئة الجهادية ضد الكيان الصهيوني، وفي تقوية حركة الممانعة للاحتلال، سواء كان إسرائيلياً أو أمريكياً، في ظلِّ قمعٍ رسمي للشعوب من قِبَل بعض الأنظمة الخاضعة للسياسة الأمريكية، والمنفتحة على الصداقة مع العدوّ الصهيوني، بعدما أسبغت الإدارة الأمريكية عليها صفة الاعتدال.
إنَّ على شعوبنا العربية والإسلامية، ولا سيما في الظروف الحاضرة التي تتعرّض فيها المنطقة كلّها إلى الهجوم الاستكباري، والتحديات الأمريكية والأوروبية، أن ترتفع إلى مستوى الموقع التاريخي الحضاريّ للأمَّة، وأن لا تسقط أمام أيّة تهديدات عسكرية نفسيَّة تثيرها الإدارة الأمريكية ـ ومعها إسرائيل ـ من أجل هزيمة الروح وإسقاط الموقف، لأننا نملك من أسباب القوَّة أكثر من موقع، ولأنّ تجربة الحرب في تموز أثبتت قدرة المجاهدين على إنزال الخسائر بالعدو، وإسقاط مقولة "الجيش الذي لا يُقهر".
فلسطين: مقاومة ضدّ الحصار والاستيطان:
وعلى ضوء هذا، لا بد من تنمية قدرات الأمة كلها على المواجهة للتحديات، وتحريك روح المقاومة والممانعة فيها، والابتعاد عن ذهنية الضعف الذي يوحي بالهزيمة، لأنّ هذه المرحلة الخطيرة والحسّاسة التي نمر بها، تستوجب من جميع المخلصين في أمتنا الانفتاح على قضايا الحرية والعزة وبناء المستقبل على أساس القوة والثبات. وإنّنا نعتقد بأنّ العملية الأخيرة لفصائل المقاومة في غزَّة، والتي فاجأت العدوَّ وأربكته، جاءت بمثابة الردّ العملي على الحصار الوحشي لقطاع غزَّة، وقد استطاعت المقاومة أن تصيب العدو في عنفوانه، وتُظهر هزالة استعداداته في مناوراته وتهديداته.
ومن جانب آخر، فإنّ اللقاءات بين رئيس السلطة الفلسطينية ورئيس وزراء العدوّ، لا تمثل إلا مضيعةً للوقت، ومحاولة إسرائيلية لكسب تأييد الرأي العام العالمي، ولا سيما الأمريكي والأوروبي، بأنها تسعى نحو السلام، ولكنها لا تحقق للفلسطينيين أيّ مطلب من مطالبهم للحصول على حقوقهم، وقد صرّح مسؤولو العدوّ، أن إسرائيل ستواصل عمليات البناء في منطقة القدس وفي الكتل الاستيطانية الكبرى، ومعنى ذلك، أنَّ هذه المناطق ستكون جزءاً من كل اتفاق مستقبلي مع الفلسطينيين، من دون أن تنفّذ إسرائيل أيّ التزام من التزامات مؤتمر "أنابوليس"، وأهمها وقف النشاطات الاستيطانية، وإزالة الحواجز والإغلاق، في الوقت الذي لا تزال الضفة تعاني ـ بحسب بعض مسؤولي السلطة الفلسطينية ـ من نظام إغلاق محكم تمارسه إسرائيل، إضافةً إلى تعزيز إسرائيل لسياستها الاستيطانية التي تمنع أيّ إمكانية لقيام دولة فلسطينية قابلة للحياة.
أمّا الإدارة الأمريكية، فإنّها تعالج ذلك بالتصريحات الاستهلاكية التي لا تمثل أيّ ضغط على حليفتها الفضلى إسرائيل، لأنّ الخلفيات السياسية لهذه الإدارة تعمل، بالتنسيق مع حكومة العدوّ، على استكمال استراتيجيتها في مصادرة أكثر الأراضي الفلسطينية، مكتفيةً بالكلمات المنافقة المخادعة المتحدثة عن السلام الذي تضحك به على عقول بعض العرب والفلسطينيين بأنّه سوف يتم في آخر هذا العام، معتمدةً على سقوط القرارات العربية في المؤتمرات المتنوّعة تحت أقدام العدوّ.
الإدارة الأمريكية: غرق في الوحول العراقية:
أما في العراق الذي يدخل فيه الاحتلال عامه السادس، فلا تزال آلة القتل الأمريكية تستهدف المدنيّين الآمنين، بحجّة مواجهة الميليشيات المسلّحة، وتتابعنشر الفوضى في الواقع العراقي، من أجل بقاء الحصار الخدماتي والتمويني والسكني الذي يخدم سياستها، وتخطِّط لإيجاد حال من الانقسام الطائفي والسياسي، وهذا يؤكّد أنّ الاحتلال لم يستطع أن يحلّ مشكلة العراق، وأنّه أخرجه من مشكلة ليُدخله في أخرى لا تقلّ خطورةً وتعقيداً، ولا يزال الاحتلال يغرق في الوحول العراقية، وباتت خسائره تفوق الأربعة آلاف قتيل، إضافةً إلى آلاف الجرحى.
إنّ الاحتلال الأمريكي وملحقاته لم يفهم إلى الآن أنّ الشعوب العربية والإسلامية ترفض سياسته وإدارته، وتعمل على مواجهة قوّاته في كلّ مكان، وهذا ما شهدناه في أفغانستان التي لم يستطع أن يُحقّق فيها أيّ انتصار لاستراتيجيّته، بالرغم من وجود قوات حلف الأطلسي فيها، ولم يتمكّن من منح الاستقرار لهذا البلد، بل إنَّ الفوضى الأمنية قد امتدت إلى باكستان الحليفة لأمريكا.
لبنان: تعطيل للحلول السياسية والاقتصادية:
أمَّا لبنان، الّذي تطلّ عليه ذكرى الحرب المشؤومة في الثالث عشر من نيسان، فلا تزال أزمته السياسية الداخلية تراوح مكانها من دون أيّ تطوّر في اتجاه الحل، بالرغم من الحديث الاستهلاكي للموالاة والمعارضة في الالتزام بالمبادرة العربية التي اختلف العرب في تفسيرها، فأخذ بعض الدول ببعض التفسير الذي جعل منه طرفاً، وأخذ البعض الآخر بتفسير آخر، ما جعل الدول العربية تتحوّل إلى ما يشبه الفريقين في الداخل، هذا إضافةً إلى فقدان الثقة بين السياسيين اللبنانيين، بحيث لم يعد هناك لبنان واحد بالمعنى الوطني للوطن، بل هناك "لبنانان" تبعاً للتعقيدات الحزبية والمذهبية والطائفية والتدخّلات الدولية، حتى إن بعض الدول الكبرى ـ في تصريح بعض مندوبيها ـ لا تجد مشكلةً في تجميد مسألة الرئاسة، لتبقى الحكومة ممسكةً بزمام البلد بالشكل الذي يتناسب مع الخط السياسي الذي يخدم مصالحها.
أما التّضامن العربي، فإنّه يتخبّط في تعقيدات المواقف العربية المتناقضة بشأن الأزمات المتنوّعة، ولا سيما الأزمة اللبنانية والاتهامات المتبادلة بتعطيل الحلول. وهكذا نلاحظ أن بعض الذين يتحدثون عن العلاقة اللبنانية ـ السورية، يتحدثون بأسلوب يعقّد المسألة بدلاً من أن يساعد على حلّها، من خلال إثارة الخلافات والتعقيدات في أجهزة الإعلام بشكل أشبه بالحالة العدائية التي توحي بالتجميد بدلاً من الحركة.
ولذلك، فإنّ الأوضاع العربية سوف تبقى في حال التجاذب السلبي الذي يحكم العلاقات الثنائية أو الثلاثية، الأمر الذي يجعل اقتراح اجتماع وزراء الخارجية العرب اقتراحاً لا يعني شيئاً بالنسبة إلى علاقة سوريا ولبنان، لأنّ اللغة هي لغة عداوة تجريمية، لا لغة صداقة وانفتاح، ولهذا فإن هذا الجهد الذي يُبذل في اتجاه بعض اللقاءات، ستخضع نتائجه للتبريد السياسي، لتوضع في البرّاد العربي الذي وُضعت فيه أكثر القضايا العربية.
ويبقى الشعب اللبناني يواجه وحش الغلاء الذي يفترس كلَّ مدّخراته، ومشكلة الدَّين المتصاعد الذي بلغ مستوى الـ45 مليار دولار، وربما يصل قريباً بفعل فقدان التوازن الاقتصادي الحكومي إلى الخمسين مليار دولار، هذا إضافةً إلى إصدار بعض الدول العربية التعليمات لمواطنيها بالامتناع عن الاصطياف في لبنان بحجَّة اختلال الوضع الأمني الذي لا مشكلة فيه، ولكنها السياسة الضاغطة على الشعب اللبناني من بعض الأصدقاء.
إنّنا بحاجة إلى أن يرتفع الصوت عالياً للضغط على الذين يصنعون مشكلة هذا الوطن الفقير الجائع المحروم، ويزيدون في حرمانه من خلال إدخاله في متاهات الطائفية والمذهبية والحزبية، وحتى الشخصانية، ممن يريدون للناس أن يعبدوهم من دون الله في حركة الوثنية السياسية. والسؤال: إلى أين يسير لبنان؟
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء فيهما:
الانفتاح على مواعظ علي(ع):
إخلاصٌ لله وامتثال للولاية...
خلود علم الإمام(ع):
عندما نقرأ حركة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) في إرشاد الناس وتوجيههم، ودراسة أوضاعهم ومعالجة مشاكلهم، وفي تركيزه على الواقع السلبي الذي يحيط بأوضاعهم، والانحراف العملي الذي يحرّك خطواتهم، عندما نقرأ عليّاً(ع)، فإنّنا نلاحظ أنّه لم يكن يعالج مشاكل الجيل الذي عاش في مرحلته فحسب، وإنّما كان يعالج قضايا النَّاس في مدى الزمن، بحيث إنّنا عندما نقرأ الكثير من كلماته وخطبه، نشعر بأنّه يصوّر لنا مرحلتنا في تعقيدات أوضاعنا، ويعالج مشاكلنا، فنشعر كما لو كان(ع) حاضراً بيننا. لأنّ عظمة عليّ(ع) تمثلت في انفتاحه على العالم في كلّ حركة التاريخ، لأنّه انطلق من عمق الحقيقة في امتداد الخطِّ الإسلامي الذي يتحرّك في كل جيل.
فالإسلام الذي أنزله الله تعالى في كتابه الكريم على رسوله(ص)، وألهمه أن يبلّغه للناس، لم يكن لجيل خاص، بل كان دين الإنسان كلّه والحياة كلّها. وكان كلّ ما جاء في تراثه، سواء في أصول العقيدة، أو في أحكام الشريعة، أو في المفاهيم المرتبطة بالحياة، كان يعالج مشاكل الإنسان كلّها. وفي سيرة علي(ع)، أنه لم يتلقَّ علوماً إلاّ من رسول الله(ص)، فكان(ص) هو الحاضن والمربّي والمعلّم والموجِّه له، لأنه كان يعيش معه منذ طفولته. وكان كما قال(ع) عن علاقته برسول الله(ص): «ولقد كنت معه، أتبعه اتّباع الفصيل إثر أمه، يرفع لي في كلِّ يوم علماً من أخلاقه، ويأمرني بالاقتداء به»،حيث كان علي(ع) مع رسول الله(ص) في الليل والنهار، وفي السفر والحضر، وعندما كان ينـزل القرآن على رسول الله، كان عليّ أول من يسمعه بعده، وكان يجلس معه ليحدّثه عن آفاق القرآن وعمق معانيه، ولذلك، قال(ع) وهو يتحدّث عن ذلك: «علّمني رسول الله ألف باب من العلم فُتح لي من كلِّ باب ألف باب»، فكان لا يقتصر على حفظ ما يسمعه، بل كان يفكِّر فيه، ويستخرج منه الكثير مـمّا يحتاجه الإنسان في الحياة.
وكان رسول الله (ص) يعطيه الأصول لينطلق(ع) في تفريع الفروع على الأصول، لذلك قال فيه رسول الله (ص): «أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها»، وكأنه يقول: من أراد المدينة فعليه أن يدخل من الباب، بمعنى أنّنا لا نستطيع التعرّف إلى علم رسول الله (ص) إلاّ من خلال علم عليّ(ع). وقد أورث(ع) أبناءه هذا العلم، وأكّد هذا ما ورد عن الصَّادق(ع):«حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث علي، وحديث علي حديث رسول الله، وحديث رسول الله قول الله عزّ وجلّ»، وقد نظم في ذلك أحد الشعراء شعراً يقول فيه:
ووالِ أُناساً قولهم وحديثهمروى جدُّنا عن جبرائيل عن الباري
لذلك، فإنّ ارتباطنا بأئمة أهل البيت(ع) ينطلق من ارتباطنا برسول الله (ص)، وهذا ما يجعل مسألة الولاية للأئمة(ع) تنطلق من خلال الولاية لرسول الله(ص)، والولاية لرسول الله تنطلق من خلال الولاية لله تعالى، لأنّ النبي (ص) كان الرَّسول الذي تعهّده الله بالرعاية والوحي، وأراد له أن يكون رسولاً للناس كافة، ورحمةً للعالمين.
مواعظ أمير المؤمنين(ع) الإرشادية:
ونحن في هذا الموقف، نقتطف بعض كلمات عليّ(ع) في خطبة له لأصحابه، وربما كانت هذه الخطبة في يوم الجمعة. حيث يقول(ع) فيها، كما ورد في نهج البلاغة: «عباد الله، قد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلاّ إدباراً ـ لو درست حال المجتمع، فإنّك تجد أن الخير فيه أخذ يتراجع وينكفئ ـ ولا الشر إلاّ إقبالا ـ فالنَّاس يحقد بعضها على بعضـ بالرغم من أنّهم مسلمون، ويعادون بعضهم البعض، ويتحاسدون فيما بينهم ويتباغضون، ويؤذي بعضهم بعضاً، ويقتل بعضهم بعضاً، وهذا ما نشاهده اليوم في العالم الإسلامي الّذي أصبح الشرُّ فيه ظاهرةً كبرى ـولا الشيطان في هلاك الناس إلاّ طمعاً ـ أمّا الشيطان، فقد أصبحت له شعبية في حياة الناس، لأنّه يُحسّن لهم القبيح، ويُقبّح لهم الحسن، ويوسوس لهم في كلِّ ما يريد أن يضلّلهم فيه، ويتحرّك بهم ليبعدهم عن الله، ومع ذلك، فإنّ الناس تعبده من دون الله، وهو في الوقت نفسه يتبرأ من ذلك، كما جاء في قوله تعالى:{وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي}(إبراهيم/22). فأيّ عالم هو هذا العالم الإسلامي الذي تسيطر عليه شياطين الإنس؛ من الشيطان الأمريكي والأوروبي، إلى الشياطين العربية التي تصادر حرية الناس وحياتهم؟! ـفهذا أوان قويت عدّته، وعمّت مكيدته، وأمكنت فريسته».
ثم يطلب عليٌّ(ع) من النَّاس أن يدرسوا الواقع، سواء على مستوى المجتمع الصغير (الوطن)، أو على مستوى الأمة أو العالم، فيقول: «اضرب بطرفك حيث شئت من النَّاس، فهل تبصر إلا فقيراً يكابد فقراً ـ هل ترى إلاّ مجتمع الفقراء الذين يكابدون فقرهم دون أن يساعدهم أحد أو يعينهم، حتى لو كانوا من المسلمين والمؤمنين ـأو غنيّاً بدّل نعمة الله كفراً ـ من أصحاب الثروات الكبيرة الّذين لا يشكرون الله على نعمه، لأنّ شكر النعمة، هو أن يُعطى الفقراء والمساكين والأيتام بعض ما جعله الله أمانةً عند الإنسان ممّا جعله وكيلاً عليه، {وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي آَتَاكُمْ(النور/33)، {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالمَحْرُومِ}(الذاريات:19) ـ أو بخيلاً اتَّخذ البخل بحق الله وفراً ـ لأنّ الله فرض على النّاس الحقوق الشرعية، وأراد لهم أن يصرفوا مـمّا أعطاهم للفقراء، وقد ورد في الحديث: «إن الله فرض في أموال الأغنياء للفقراء ما يكتفون به، ولو علم أنّ الّذي فرض لا يكفيهم لزادهم»، وفي حديث آخر:«إنَّ الله شرّك الفقراء في أموال الأغنياء»، ولكن البعض يبخل في إعطاء هذه الحقوق ويوفِّرها لنفسه ـأو متمرِّداً كأنّ بأذنه عن سمع المواعظ وقراً... ـ لا يسمع الموعظة، نتيجة طنين المعاصي التي تمنعه من سماعها ـ فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، ظهر الفساد ـ في العالم، ولا سيما في العالم الإسلامي ـفلا منكر مغيّر، ولا زاجر مزدجر ـ لأنّ كل النّاس ستفد إلى الله، وكلٌّ يريد أن يكون قريباً من الله، ولكن من دون أن يتحمّل مسؤوليته في النهي عن المنكر ـأفبهذا تريدون أن تجاوروا الله في دار قدسه، وتكونوا أعزّ أوليائه عنده؟! هيهات! لا يُخدع الله عن جنته، ولا تنال مرضاته إلاّ بطاعته ـ لأنه ليس بين الله وبين أحد قرابة، حتى إن النبي (ص) كان يقول:{وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ المُسْلِمِينَ}(الزُّمر/12)، وأيضاً قال الله عنه:{قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}(الزُّمر/13)، وفي آخر خطبه له(ص) قال: «أما إنّه لا ينجي إلاّ عمل مع رحمة، ولو عصيت لهويت».
ثم يقول(ع) للوعّاظ الذين يعظون الناس، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ولكن من دون أن يلتزموا بما يعظون النّاس به: ـلعن الله الآمرين بالمعروف التاركين له، والناهين عن المنكر العاملين به».
لذلك، عندما ندرس هذا المقطع من خطبة عليّ(ع)، نشعر كأنّه حاضر بيننا يتحدّث عن مشاكلنا، لأنّنا نعيش اليوم الصّورة نفسها والواقع ذاته. لذلك علينا أن نتَّعظ بهذه الموعظة التاريخية التي تنفتح على واقع الإسلام والمسلمين، لنكون في خطِّ الله ورسوله وأهل بيته، كما أمرنا الله تعالى بقوله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}(المائدة:55)، وهكذا يكون الإخلاص لله وتكون الولاية.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله... اتَّقوا الله، وواجهوا الموقف بالتقوى والسير على خطّ الاستقامة الذي وعد الله السائرين عليه أن يشملهم برحمته، حيث لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فماذا هناك؟
مناورات ورسائل تهديد:
في فلسطين المحتلة عرض عضلات إسرائيلية، من خلال مناورات عسكرية وُصفت بأنها الأضخم منذ تأسيس الكيان الغاصب، وهي مناورات فرضتها الحالة النفسية المأزومة لإسرائيل، بمسؤوليها وجيشها ومستوطنيها، جرّاء الهزيمة القاسية التي ألحقتها المقاومة الإسلامية بها في حربها على لبنان في صيف 2006، وما رافقه من عدوان وحشي على البشر والحجر. وقد حاولت إسرائيل إرسال رسائلتطمين إلى أكثر من طرفٍ، في الوقت الذي تواصل تهديداتها العنترية لإيران وسوريا والمقاومة في لبنان.
إننا نعتقد أن هذه المناورات تحاول أن تبعث برسالة إلى الخارج، كما إلى الداخل الصهيوني، بأنّ إسرائيل لا تزال الدولة الأقوى في المنطقة، وأن جيشها هو الجيش الذي لا يُقهر، بالرغم مما واجهه من خسائر مادية ومعنوية في حربه على لبنان والمقاومة، كما تعمل هذه المناورات على إثارة حربٍ نفسية ضد العالم العربي، لئلا يفكِّر في التعبئة الجهادية ضد الكيان الصهيوني، وفي تقوية حركة الممانعة للاحتلال، سواء كان إسرائيلياً أو أمريكياً، في ظلِّ قمعٍ رسمي للشعوب من قِبَل بعض الأنظمة الخاضعة للسياسة الأمريكية، والمنفتحة على الصداقة مع العدوّ الصهيوني، بعدما أسبغت الإدارة الأمريكية عليها صفة الاعتدال.
إنَّ على شعوبنا العربية والإسلامية، ولا سيما في الظروف الحاضرة التي تتعرّض فيها المنطقة كلّها إلى الهجوم الاستكباري، والتحديات الأمريكية والأوروبية، أن ترتفع إلى مستوى الموقع التاريخي الحضاريّ للأمَّة، وأن لا تسقط أمام أيّة تهديدات عسكرية نفسيَّة تثيرها الإدارة الأمريكية ـ ومعها إسرائيل ـ من أجل هزيمة الروح وإسقاط الموقف، لأننا نملك من أسباب القوَّة أكثر من موقع، ولأنّ تجربة الحرب في تموز أثبتت قدرة المجاهدين على إنزال الخسائر بالعدو، وإسقاط مقولة "الجيش الذي لا يُقهر".
فلسطين: مقاومة ضدّ الحصار والاستيطان:
وعلى ضوء هذا، لا بد من تنمية قدرات الأمة كلها على المواجهة للتحديات، وتحريك روح المقاومة والممانعة فيها، والابتعاد عن ذهنية الضعف الذي يوحي بالهزيمة، لأنّ هذه المرحلة الخطيرة والحسّاسة التي نمر بها، تستوجب من جميع المخلصين في أمتنا الانفتاح على قضايا الحرية والعزة وبناء المستقبل على أساس القوة والثبات. وإنّنا نعتقد بأنّ العملية الأخيرة لفصائل المقاومة في غزَّة، والتي فاجأت العدوَّ وأربكته، جاءت بمثابة الردّ العملي على الحصار الوحشي لقطاع غزَّة، وقد استطاعت المقاومة أن تصيب العدو في عنفوانه، وتُظهر هزالة استعداداته في مناوراته وتهديداته.
ومن جانب آخر، فإنّ اللقاءات بين رئيس السلطة الفلسطينية ورئيس وزراء العدوّ، لا تمثل إلا مضيعةً للوقت، ومحاولة إسرائيلية لكسب تأييد الرأي العام العالمي، ولا سيما الأمريكي والأوروبي، بأنها تسعى نحو السلام، ولكنها لا تحقق للفلسطينيين أيّ مطلب من مطالبهم للحصول على حقوقهم، وقد صرّح مسؤولو العدوّ، أن إسرائيل ستواصل عمليات البناء في منطقة القدس وفي الكتل الاستيطانية الكبرى، ومعنى ذلك، أنَّ هذه المناطق ستكون جزءاً من كل اتفاق مستقبلي مع الفلسطينيين، من دون أن تنفّذ إسرائيل أيّ التزام من التزامات مؤتمر "أنابوليس"، وأهمها وقف النشاطات الاستيطانية، وإزالة الحواجز والإغلاق، في الوقت الذي لا تزال الضفة تعاني ـ بحسب بعض مسؤولي السلطة الفلسطينية ـ من نظام إغلاق محكم تمارسه إسرائيل، إضافةً إلى تعزيز إسرائيل لسياستها الاستيطانية التي تمنع أيّ إمكانية لقيام دولة فلسطينية قابلة للحياة.
أمّا الإدارة الأمريكية، فإنّها تعالج ذلك بالتصريحات الاستهلاكية التي لا تمثل أيّ ضغط على حليفتها الفضلى إسرائيل، لأنّ الخلفيات السياسية لهذه الإدارة تعمل، بالتنسيق مع حكومة العدوّ، على استكمال استراتيجيتها في مصادرة أكثر الأراضي الفلسطينية، مكتفيةً بالكلمات المنافقة المخادعة المتحدثة عن السلام الذي تضحك به على عقول بعض العرب والفلسطينيين بأنّه سوف يتم في آخر هذا العام، معتمدةً على سقوط القرارات العربية في المؤتمرات المتنوّعة تحت أقدام العدوّ.
الإدارة الأمريكية: غرق في الوحول العراقية:
أما في العراق الذي يدخل فيه الاحتلال عامه السادس، فلا تزال آلة القتل الأمريكية تستهدف المدنيّين الآمنين، بحجّة مواجهة الميليشيات المسلّحة، وتتابعنشر الفوضى في الواقع العراقي، من أجل بقاء الحصار الخدماتي والتمويني والسكني الذي يخدم سياستها، وتخطِّط لإيجاد حال من الانقسام الطائفي والسياسي، وهذا يؤكّد أنّ الاحتلال لم يستطع أن يحلّ مشكلة العراق، وأنّه أخرجه من مشكلة ليُدخله في أخرى لا تقلّ خطورةً وتعقيداً، ولا يزال الاحتلال يغرق في الوحول العراقية، وباتت خسائره تفوق الأربعة آلاف قتيل، إضافةً إلى آلاف الجرحى.
إنّ الاحتلال الأمريكي وملحقاته لم يفهم إلى الآن أنّ الشعوب العربية والإسلامية ترفض سياسته وإدارته، وتعمل على مواجهة قوّاته في كلّ مكان، وهذا ما شهدناه في أفغانستان التي لم يستطع أن يُحقّق فيها أيّ انتصار لاستراتيجيّته، بالرغم من وجود قوات حلف الأطلسي فيها، ولم يتمكّن من منح الاستقرار لهذا البلد، بل إنَّ الفوضى الأمنية قد امتدت إلى باكستان الحليفة لأمريكا.
لبنان: تعطيل للحلول السياسية والاقتصادية:
أمَّا لبنان، الّذي تطلّ عليه ذكرى الحرب المشؤومة في الثالث عشر من نيسان، فلا تزال أزمته السياسية الداخلية تراوح مكانها من دون أيّ تطوّر في اتجاه الحل، بالرغم من الحديث الاستهلاكي للموالاة والمعارضة في الالتزام بالمبادرة العربية التي اختلف العرب في تفسيرها، فأخذ بعض الدول ببعض التفسير الذي جعل منه طرفاً، وأخذ البعض الآخر بتفسير آخر، ما جعل الدول العربية تتحوّل إلى ما يشبه الفريقين في الداخل، هذا إضافةً إلى فقدان الثقة بين السياسيين اللبنانيين، بحيث لم يعد هناك لبنان واحد بالمعنى الوطني للوطن، بل هناك "لبنانان" تبعاً للتعقيدات الحزبية والمذهبية والطائفية والتدخّلات الدولية، حتى إن بعض الدول الكبرى ـ في تصريح بعض مندوبيها ـ لا تجد مشكلةً في تجميد مسألة الرئاسة، لتبقى الحكومة ممسكةً بزمام البلد بالشكل الذي يتناسب مع الخط السياسي الذي يخدم مصالحها.
أما التّضامن العربي، فإنّه يتخبّط في تعقيدات المواقف العربية المتناقضة بشأن الأزمات المتنوّعة، ولا سيما الأزمة اللبنانية والاتهامات المتبادلة بتعطيل الحلول. وهكذا نلاحظ أن بعض الذين يتحدثون عن العلاقة اللبنانية ـ السورية، يتحدثون بأسلوب يعقّد المسألة بدلاً من أن يساعد على حلّها، من خلال إثارة الخلافات والتعقيدات في أجهزة الإعلام بشكل أشبه بالحالة العدائية التي توحي بالتجميد بدلاً من الحركة.
ولذلك، فإنّ الأوضاع العربية سوف تبقى في حال التجاذب السلبي الذي يحكم العلاقات الثنائية أو الثلاثية، الأمر الذي يجعل اقتراح اجتماع وزراء الخارجية العرب اقتراحاً لا يعني شيئاً بالنسبة إلى علاقة سوريا ولبنان، لأنّ اللغة هي لغة عداوة تجريمية، لا لغة صداقة وانفتاح، ولهذا فإن هذا الجهد الذي يُبذل في اتجاه بعض اللقاءات، ستخضع نتائجه للتبريد السياسي، لتوضع في البرّاد العربي الذي وُضعت فيه أكثر القضايا العربية.
ويبقى الشعب اللبناني يواجه وحش الغلاء الذي يفترس كلَّ مدّخراته، ومشكلة الدَّين المتصاعد الذي بلغ مستوى الـ45 مليار دولار، وربما يصل قريباً بفعل فقدان التوازن الاقتصادي الحكومي إلى الخمسين مليار دولار، هذا إضافةً إلى إصدار بعض الدول العربية التعليمات لمواطنيها بالامتناع عن الاصطياف في لبنان بحجَّة اختلال الوضع الأمني الذي لا مشكلة فيه، ولكنها السياسة الضاغطة على الشعب اللبناني من بعض الأصدقاء.
إنّنا بحاجة إلى أن يرتفع الصوت عالياً للضغط على الذين يصنعون مشكلة هذا الوطن الفقير الجائع المحروم، ويزيدون في حرمانه من خلال إدخاله في متاهات الطائفية والمذهبية والحزبية، وحتى الشخصانية، ممن يريدون للناس أن يعبدوهم من دون الله في حركة الوثنية السياسية. والسؤال: إلى أين يسير لبنان؟