نداء الله للمسلمين: تمسكوا بكتاب الله وكونوا إخوة مألفة قلوبهم

نداء الله للمسلمين: تمسكوا بكتاب الله وكونوا إخوة مألفة قلوبهم
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته: 

نداء الله للمسلمين:
تمسكوا بكتاب الله وكونوا إخوة مألفة قلوبهم

 

المنهج الإسلامي الإيماني:
يقول الله سبحانه تعالى في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(آل عمران:102-105).
يريد الله تعالى في هذه الآيات الكريمة، أن يبيّن للمسلمين المؤمنين المنهج الإسلامي الذي يؤكد التزامهم بالإسلام، من خلال وقوفهم في خطِّ الوحدة الإسلامية، والتزامهم بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورفضهم للتفرّق والاختلاف والتمزّق، بعد أن أقام الله تعالى عليهم الحجّة من خلال كتابه وسنّة رسوله(ص).

قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ـ كيف نتقي الله حقّ تقاته؟ بأن نراقب الله عزّ وجلّ في كلِّ أمورنا الخاصة والعامة، بحيث نشعر برقابته علينا في كلِّ مكان؛ في البيت؛ في السوق، في المجتمع... وفي كلِّ الحالات؛ في الحرب وفي السلم، وعند الالتزام بأيِّ خطّ، سواء في الخطِّ السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي، بحيث يكون الله تعالى هو كلّ شيء في عقل الإنسان وقلبه وكلّ حياته. وقد ورد في بعض الأحاديث:«خف الله كأنَّك تراه، فإن كنت لا تراه فإنه يراك، فإن كنت ترى أنّه لا يراك فقد كفرت، وإن كنت تعلم أنه يراك ثمّ برزت له بالمعصية، فقد جعلته من أهون الناظرين إليك»، فإذا عرف الإنسان أن الله يراقبه في ما يقوم به في السرِّ والعلن، وهو الذي{يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}(غافر:19)، فكيف يمكن له أن يبارزه في المعصية؟ وقد ورد في الحديث، أنّ التقوى هي «أن لا يجدك الله حيث نهاك، ولا يفقدك حيث أمرك».

إرادة الله في الوجود:
وعلينا أن نعرف أنّه كما بداية وجودنا كانت من خلال إرادة الله، الذي أودع في النطفة سرّ الحياة، وحوّل النطفة إلى علقة، والعلقة إلى مضغة، وحوّل المضغة إلى عظام، وكسا العظام لحماً، فاستمرار وجودنا في الدنيا مستمد منه، وغداً، عندما ينتهي وجودنا في هذه الدنيا، لن يكون هناك إلاّ الله: {وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَرْدًا}(مريم:95)، وعندما يقف الإنسان ليقدّم حسابه أمام الله، سيقول تعالى له:{اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ اليَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}(الإسراء:14)، ليجد أن كلَّ شيء مسجَّل فيه. لذلك، يركّز الله تعالى على مسألة أنَّ الإنسان قد يبدأ مسلماً، ولكنّه قد ينحرف بفعل قرناء السوء وأصدقاء الضلال، والتعقيدات الموجودة في المجتمع، أو من خلال بعض الأحزاب التي قد ينخرط فيها بعض المسلمين، والتي تنكر في مبادئها وجود الله أو رسالة رسول الله(ص) أو الشريعة الإسلامية التي أمر بها الله تعالى، فقد تجد إنساناً يحمل عنوان الإسلام، ولكنّه ينتمي إلى الأحزاب الضّالّة والكافرة، أو يخضع للاستكبار الأمريكي والأوروبي والحكّام الظالمين، أو ينخرط في المخابرات المحلية أو الإقليمية أو الدولية، فكيف يكون مسلماً وهو في هذا الخطّ؟

الإسلام حبل الله:
لذلك، على الإنسان أن يحافظ على انتمائه للإسلام حتّى موته ـوَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ـ وهو ما عبّر عنه النبي يوسف(ع) عندما أراد أن يشكر ربّه على نعمه، فقال، كما جاء في الكتاب الكريم:{رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}(يوسف:101)، وكما جاء في دعاء الإمام زين العابدين(ع):«وعمّرني ما كان عمري بذلة في طاعتك، فإن كان عمري مرتعاً للشيطان فاقبضني إليك قبل أن يسبق مقتك إليّ، أو يستحكم غضبك عليّ». فعلى الإنسان أن يعمل ليبقى إسلامه مستمراً، بحيث يلقى الله وهو مسلم.

النّقطة الثَّانية، هي أنّ الله سبحانه وتعالى يريد للمجتمع الإسلامي، في العالم كلّه، أن يتمسَّك بحبل الله، وهو القرآن الكريم، الذي {لَا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ}(فصِّلت:42)، والإسلام هو حبل الله، والله سبحانه يريد للمسلمين جميعاً أن يتمسّكوا بحبله أمام الهزاهز والزلازل، لأن حبل الله هو الحبل القويّ المتين الذي ينقذ الإنسان:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ـ كما يتفرّق المسلمون الآن، بحيث تحوّلت المذاهب إلى أديان، وأصبح بعض المسلمين يكفّر بعضهم بعضاً، ويقتل بعضهم بعضاً، وقد ورد عن النبي(ص):«كلُّ المسلم على المسلم حرام». لذلك أمرنا الله تعالى بأن نتمسّك بحبله، لنكون القوّة التي ترهب أعداء الله، ونحن نرى كيف أنّ المستكبرين يتحرّكون لإسقاط القوة الإسلامية، بحيث إذا فكّر أيّ بلد مسلم في أن تكون له القوّة، فإنّهم يتحركون لمنعه من ذلك، وهذا ما نراه في التعاطي الاستكباري مع الملّف النووي الإيراني، لأنّهم لا يريدون للعالم الإسلامي أن يحصل على القوّة والخبرة العلمية ـ وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً ـ كنتم قبائل متفرّقة، وعشائر متحاربة، فوحّدكم الله بالإسلام ـفَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ ـ لأنّه لا يؤلّف بين القلوب إلاّ الله، وقد خاطب الله تعالى نبيّه، وهو أقرب الناس إليه بقوله تعالى:{لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ}(الأنفال:63) ـفَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(آل عمران:103).مسؤوليَّة الدعوة إلى الإسلام:

ثم يحمّل الله تعالى المؤمنين جميعاً مسؤوليَّة الدعوة إلى الإسلام، لأنَّ الدعوة ليست مسؤولية العلماء فقط، وإن كان كثير من العلماء لم يعد لهم شغل بالدعوة، بل هي مسؤولية الأمة، قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(آل عمران/104-105).هذا هو المنهج الإسلامي الذي يريد الله لنا أن نلتزمه، لنكون الأمة الإسلامية التي تلتزم الإسلام كلّه، فلا نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض، وأن نأخذ بأسباب الوحدة الإسلامية حتى لو اختلفنا في مذاهبنا وسياساتنا، وأن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، ولا نختلف ونتفرّق، لأنّ ذلك يضعف الواقع الإسلامي، ويقوّي موقع الأعداء، فهل نستجيب لنداء الله؟

الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتَّقوا الله،
 وواجهوا الموقف بنظم أمركم، وصلاح ذات بينكم، والسير في خطِّ طاعة الله في أمره ونهيه، والوقوف في وجه الظالمين والمستكبرين، ولنخطط لنكون الأقوياء في مواجهة التحديات الموجّهة ضدّ أمتنا، فماذا هناك؟

استراتيجية الإدارة الأمريكية في العراق:
تستمرّ حركة الإدارة الأمريكية في زيادة الضغط على الدول العربية المسمّاة بالدول المعتدلة لتنفيذ استراتيجيتها في المنطقة، في محاولةٍ للتعويض عن فشلها السياسي والأمني في العراق، بعد أن تكبّد الاحتلال ـ إلى الآن ـ ما يزيد عن أربعة آلاف قتيل وعشرين ألف جريح، إلى غيرهم من المضطربين عصبيّاً.

ولذلك، فإنّ المطلوب أمريكياً، هو مساعدة الاحتلال الأمريكي في استراتيجيته في العراق، ليبقى طويلاً في إدارة الوضع العراقي، والسيطرة على ثرواته الطبيعية، ولا سيما البترول، ولتمتدّ حركته في تشجيع ما يسمّى "الفوضى الخلاّقة" التي حوّلت حياة الشعب العراقي إلى جحيمٍ يحترقُ بناره أطفال العراق ونساؤه وشيوخه وشبابه، الذين تقصفهم الطائرات الأمريكية بحجة أنّهم أهداف معادية، لتبرر جريمتها بعد ذلك بأنها أخطأت في تحديد الهدف، في الوقت الذي يعرف الجميع، أن القنابل والصواريخ لا تصيب إلا العوائل الآمنة في بيوتها، ولا سيما في مدينة الصدر التي عاشت الحرمان في أبشع صوره، حتى فَقَدَ سكان هذه المدينة من المستضعفين أبسط شروط الحياة.

وإننا نخشى أن يكون في خلفيَّات مؤتمر جوار العراق الذي عُقد في الكويت، حصول أمريكا على موقف داعم من الدول العربية والأوروبية والمنظمات الدولية، من أجل إنقاذ الاحتلال الأمريكي من الورطة التي وضع نفسه فيها، والرمال المتحرّكة التي غرقت أقدام جنوده فيها، ما ترك تأثيره على الرأي العام الأمريكي الداخلي الذي فَقَدَ الثقة بإدارته، وقد بدأنا نسمع بقوّةٍ الأصوات الأمريكية الشعبية المطالبة بانسحاب الجيش الأمريكي من العراق.

وفي هذه المناسبة، فإننا كنَّا نأمل أن يكون مؤتمر الكويت مناسبةً للمطالبة بانسحاب الاحتلال من العراق، ودعوة بعض الدول العربية إلى منع دخول المتطرفين والإرهابيين إلى العراق واستباحته بمجازر وحشية ضد شعبه باسم الإسلام، والامتناع عن إثارة الجدل التاريخي في عناصر الفتنة المذهبية تنفيساً عن تعقيدات قد تختفي خلف بعض الأنظمة العربية المغلّفة بعناوين دينية في الإطار المذهبي، ولكنّها تتحرك ـ من خلالها ـ لأهداف سياسية، وخصوصاً أنَّ الخطة الأمريكية التي استهدفت احتلال العراق كانت تتحرك من أجل إضعاف هذا البلد، بقطع النظر عن رأينا الثابت في نظامه الطاغي البائد، حتى لا تبقى هناك أيَّةُ قوةٍ في أية دولة عربية كبرى توازن قوة إسرائيل، تحت تأثير التلويح بانقسامات طائفية وعرقية نخشى أن تتحوّل إلى انقسامات دستورية، مما لم تعترض عليه أكثر من دولة من الدول المسمّاة دول الاعتدال العربي.

وفي السياق نفسه، يتأكّد السعي الأمريكي لتطبيع العلاقات العربية مع إسرائيل، باسم مشروع السلام الذي يتحدّث عن دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل، لاستكمال خطوط مؤتمر "أنابوليس" الفاشل الذي لم يُحقِّق للعرب وللفلسطينيين أيَّة نتيجة إيجابية في حقوقهم المشروعة، لأن المطلوب أمريكياً هو إبراز إسرائيل بصورة الدولة الباحثة عن السلام.

ومن هنا، فإنّنا نؤكد أن أمريكا تكذب عندما تتحدث عن السلام العادل للشعب الفلسطيني، أو الدولة الفلسطينية القابلة للحياة، لأنّها في كل تاريخها تبيع العرب بعض التصريحات الضبابية بطريقة استهلاكية مخادعة لا تعني شيئاً، لأن كل القضية عندها هي المحافظة على تفوّق إسرائيل العسكري والسياسي والاقتصادي والأمني، على أساس تأكيد الدولة اليهودية التي يلتزم بها كلُّ يهود العالم، في الوقت الذي تقف بوجه القرارات الدَّولية التي أقرّت حقَّ العودة للشعب الفلسطيني إلى أرضه.

وفي هذا الجوّ، تأتي زيارة وزيرة الخارجيّة الأمريكية إلى بعض الدول العربية لتأكيد المصلحة الإسرائيلية حتَّى على حساب مصلحة العرب؛ لأنَّ الإدارة الأمريكية ليست في وارد الضغط على إسرائيل للحدِّ من الغطرسة الإسرائيلية ووحشيّتها التي تواجه بها الشعب الفلسطيني، في مصادرة أراضيه، وإقامة الجدار العازل، وبناء المستوطنات، وخصوصاً في مرحلة الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي يتنافس فيها الحزبان الأمريكيان، الديمقراطي والجمهوري، بشكلٍ هستيري للحصول على تأييد اللوبي اليهودي في أمريكا، من غير أن يحسب الفريقان حساب المسلمين والعرب، في أمريكا وخارجها، لأنّ هؤلاء لم يستطيعوا أن يصنعوا من وجودهم قوةً فاعلةً ومؤثّرةً على قرارات الإدارات الأمريكية المتعاقبة، وعلى الرأي العام الأمريكي، في الحقوق الشرعية للعالم العربي والإسلامي.

إعلان المنامة صياغة أمريكية:
ومن جانبٍ آخر، فقد طالعنا إعلان المنامة بحديثه عن الخشية من التسلّح النووي الإيراني الذي نفته إيران، من دون أن يذكر، ولو ببضع كلمات، المجازر الإسرائيلية الوحشية ضد الشعب الفلسطيني، ومن دون أن يتوقف عند الترسانة النووية الإسرائيلية الهائلة التي تحظى بحماية غربية، في الوقت الذي لم توقّع إسرائيل معاهدة حظر التجارب النووية التي وقّعتها إيران.

وفي المناسبة، فقد أعلنت وزيرة الخارجية الأمريكية مؤخَّراً، أنَّه يتوجب على حركة حماس أن تتخلّى عن العنف، وأن توقف إطلاق الصواريخ على جنوب إسرائيل لكي تبرهن أنّها مستعدّة للسلام، وكأنها تبرِّر للعدو أية مجزرة جديدة قد يرتكبها ضد الشعب الفلسطيني، من دون أن توجِّه هذا النداء إلى حليفتها إسرائيل التي تقوم بالاغتيالات والاجتياحات للمدن والقرى والمخيّمات الفلسطينية، حتى في الضفة الغربية التي تخضع للسلطة الفلسطينيّة، والتي لم ينطلق منها أي صاروخ على العدو، ولم تطلب "رايس" من إسرائيل الامتناع عن العنف التجويعي الغذائي والدوائي والحصار للخدمات الحيوية للمواطنين في غزة، ومحاولة إذلال الفلسطينيين على المعابر وأبواب الجدار العازل، والقصف الوحشي بالطائرات الأمريكية التي لا تفرّق بين مقاوم ومدني!!

مسؤولية إنقاذ الشعب الفلسطيني:
إننا ـ أمام هذا الواقع ـ نهيب بالعرب والمسلمين أن يتحمّلوا مسؤوليتهم ضدّ إسرائيل وأمريكا، في الدفاع عن الشعب الفلسطيني الذي يواجه أكثر الوسائل وحشيةً في القصف والحصار، وعلى المسؤولين جميعاً أن يتقوا الله، فلا يمتنعوا عن مدّ يد المساعدة إلى هذا الشعب المنكوب بالاحتلال وبالحرب المتنقلة بين موقع وموقع في كلِّ فلسطين، حتى لا يكون موقفهم منسجماً مع الموقف الصهيوني. لذلك، فإنَّ عليهم أن يتمرَّدوا على التَّعليمات الأمريكية التي تمنع فريقها من المسؤولين العرب والمسلمين من مساعدة الشعب الفلسطيني، لإبقائه وحيداً في مواجهة النازية الدولية التي تدعم إسرائيل في كلِّ محارقها الفلسطينية.

أمريكا: زيارات تفعيل الأزمات في المنطقة:
وليس بعيداً عن ذلك، تتحرك زيارات المندوبين الأمريكيين الذين يؤكِّدون الخطَّ السياسي لإدارتهم، في إبقاء الأزمات الداخلية في أكثر من بلد عربي رهينة مصالحها الاستراتيجية في حركة إدارة أزمة المنطقة، في ضغوطها على لبنان وفلسطين وسوريا وإيران، بما تثيره من عناصر الفرقة بين اللبنانيين، أو تعقيد العلاقات مع سوريا وإيران، باتهامهما بأنهما تمثلان المشكلة في أوضاع لبنان من جهة، وفي العراق من جهة أخرى.

وقد كانت زيارة مساعد وزير الخارجية الأمريكية "ولش" إلى لبنان، إحدى وسائل إرباك الوضع السياسي الداخلي، من خلال أنها أظهرت وكأنّ هناك علاقة عضوية بين بعض القيادات السياسية اللبنانية والإدارة الأمريكية، التي وعدتهم ببذل كل جهودها في دعمهم لأجل حصولهم على القوة التي تتوازن مع قوة الفريق الآخر، حتى بات اللبنانيون يشعرون بأن هذه الإدارة قد تحوّلت إلى فريق لبناني يتدخّل في أدقّ تفاصيل السياسة اللبنانية الداخلية، وهو ما ظهر جليّاً في تبشير هذا المسؤول الأمريكي اللبنانيين بأنَّهم سيواجهون صيفاً حاراً من خلال الطريق المسدود الذي وصلت إليه الأزمة وسقطت فيه المبادرات، بما في ذلك المبادرة العربية التي يعرف الجميع أنَّ أمريكا لم تعترف بها بشكل فاعل، ولذلك فقد ضغطت على أكثر من دولة عربية لعدم حضور القمة العربية، أو لإضعاف مستوى التمثيل، إضافةً إلى المقاطعة اللبنانية للقمة التي كان من جدول أعمالها دراسة المبادرة العربية، في محاولةٍ للوصول إلى آلية موضوعية تضمن تحقيق نقاطها، من خلال إجماع عربي على تفسيرها.

تأزّم داخلي وانشقاق وطنيّ:
أمَّا لبنان، فإن الانقسام السياسي بين معارضة وموالاة، وصل إلى درجة لا يُسمح فيها للّقاء والحوار حول القضايا المختلَف عليها، وهو ما يوحي بأن لبنان لم يعد موحَّداً على أساس المواطنة، بل إنَّ الخلفيات الكامنة وراء كثير من الخطوط السياسية، تنطلق من لبنان الذي يستسلم لذهنيّة الضعف العربي، فيسقط تحت تأثير السياسة الأمريكية التي تدفعه باتّجاه المزيد من التأزّمات الداخليّة، والانشقاق الوطني، والمزيد من الانخراط في الواقع العربي المنفتح على الصداقة الإسرائيلية من جهة أخرى، مع التصريحات العنترية التي توحي بالفتنة والعنف والنفاق الطائفي. ويبقى الشعب يعاني من آلامه وجوعه وحرمانه وفقدانه للخدمات الحيوية التي يتجمّد الواقع عندها بشكل مجنون.

والسؤال: أما آن لشمس هذا البلد أن تشرق،أم أنه مكتوب عليه أن يبقى في اللَّيل الذي يغني له كلُّ المطربين في عالمنا العربي؟ أما آن لنا أن ننادي الفجر ليطلَّ بنوره على واقعنا؟!

ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته: 

نداء الله للمسلمين:
تمسكوا بكتاب الله وكونوا إخوة مألفة قلوبهم

 

المنهج الإسلامي الإيماني:
يقول الله سبحانه تعالى في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(آل عمران:102-105).
يريد الله تعالى في هذه الآيات الكريمة، أن يبيّن للمسلمين المؤمنين المنهج الإسلامي الذي يؤكد التزامهم بالإسلام، من خلال وقوفهم في خطِّ الوحدة الإسلامية، والتزامهم بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورفضهم للتفرّق والاختلاف والتمزّق، بعد أن أقام الله تعالى عليهم الحجّة من خلال كتابه وسنّة رسوله(ص).

قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ـ كيف نتقي الله حقّ تقاته؟ بأن نراقب الله عزّ وجلّ في كلِّ أمورنا الخاصة والعامة، بحيث نشعر برقابته علينا في كلِّ مكان؛ في البيت؛ في السوق، في المجتمع... وفي كلِّ الحالات؛ في الحرب وفي السلم، وعند الالتزام بأيِّ خطّ، سواء في الخطِّ السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي، بحيث يكون الله تعالى هو كلّ شيء في عقل الإنسان وقلبه وكلّ حياته. وقد ورد في بعض الأحاديث:«خف الله كأنَّك تراه، فإن كنت لا تراه فإنه يراك، فإن كنت ترى أنّه لا يراك فقد كفرت، وإن كنت تعلم أنه يراك ثمّ برزت له بالمعصية، فقد جعلته من أهون الناظرين إليك»، فإذا عرف الإنسان أن الله يراقبه في ما يقوم به في السرِّ والعلن، وهو الذي{يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}(غافر:19)، فكيف يمكن له أن يبارزه في المعصية؟ وقد ورد في الحديث، أنّ التقوى هي «أن لا يجدك الله حيث نهاك، ولا يفقدك حيث أمرك».

إرادة الله في الوجود:
وعلينا أن نعرف أنّه كما بداية وجودنا كانت من خلال إرادة الله، الذي أودع في النطفة سرّ الحياة، وحوّل النطفة إلى علقة، والعلقة إلى مضغة، وحوّل المضغة إلى عظام، وكسا العظام لحماً، فاستمرار وجودنا في الدنيا مستمد منه، وغداً، عندما ينتهي وجودنا في هذه الدنيا، لن يكون هناك إلاّ الله: {وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَرْدًا}(مريم:95)، وعندما يقف الإنسان ليقدّم حسابه أمام الله، سيقول تعالى له:{اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ اليَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}(الإسراء:14)، ليجد أن كلَّ شيء مسجَّل فيه. لذلك، يركّز الله تعالى على مسألة أنَّ الإنسان قد يبدأ مسلماً، ولكنّه قد ينحرف بفعل قرناء السوء وأصدقاء الضلال، والتعقيدات الموجودة في المجتمع، أو من خلال بعض الأحزاب التي قد ينخرط فيها بعض المسلمين، والتي تنكر في مبادئها وجود الله أو رسالة رسول الله(ص) أو الشريعة الإسلامية التي أمر بها الله تعالى، فقد تجد إنساناً يحمل عنوان الإسلام، ولكنّه ينتمي إلى الأحزاب الضّالّة والكافرة، أو يخضع للاستكبار الأمريكي والأوروبي والحكّام الظالمين، أو ينخرط في المخابرات المحلية أو الإقليمية أو الدولية، فكيف يكون مسلماً وهو في هذا الخطّ؟

الإسلام حبل الله:
لذلك، على الإنسان أن يحافظ على انتمائه للإسلام حتّى موته ـوَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ـ وهو ما عبّر عنه النبي يوسف(ع) عندما أراد أن يشكر ربّه على نعمه، فقال، كما جاء في الكتاب الكريم:{رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}(يوسف:101)، وكما جاء في دعاء الإمام زين العابدين(ع):«وعمّرني ما كان عمري بذلة في طاعتك، فإن كان عمري مرتعاً للشيطان فاقبضني إليك قبل أن يسبق مقتك إليّ، أو يستحكم غضبك عليّ». فعلى الإنسان أن يعمل ليبقى إسلامه مستمراً، بحيث يلقى الله وهو مسلم.

النّقطة الثَّانية، هي أنّ الله سبحانه وتعالى يريد للمجتمع الإسلامي، في العالم كلّه، أن يتمسَّك بحبل الله، وهو القرآن الكريم، الذي {لَا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ}(فصِّلت:42)، والإسلام هو حبل الله، والله سبحانه يريد للمسلمين جميعاً أن يتمسّكوا بحبله أمام الهزاهز والزلازل، لأن حبل الله هو الحبل القويّ المتين الذي ينقذ الإنسان:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ـ كما يتفرّق المسلمون الآن، بحيث تحوّلت المذاهب إلى أديان، وأصبح بعض المسلمين يكفّر بعضهم بعضاً، ويقتل بعضهم بعضاً، وقد ورد عن النبي(ص):«كلُّ المسلم على المسلم حرام». لذلك أمرنا الله تعالى بأن نتمسّك بحبله، لنكون القوّة التي ترهب أعداء الله، ونحن نرى كيف أنّ المستكبرين يتحرّكون لإسقاط القوة الإسلامية، بحيث إذا فكّر أيّ بلد مسلم في أن تكون له القوّة، فإنّهم يتحركون لمنعه من ذلك، وهذا ما نراه في التعاطي الاستكباري مع الملّف النووي الإيراني، لأنّهم لا يريدون للعالم الإسلامي أن يحصل على القوّة والخبرة العلمية ـ وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً ـ كنتم قبائل متفرّقة، وعشائر متحاربة، فوحّدكم الله بالإسلام ـفَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ ـ لأنّه لا يؤلّف بين القلوب إلاّ الله، وقد خاطب الله تعالى نبيّه، وهو أقرب الناس إليه بقوله تعالى:{لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ}(الأنفال:63) ـفَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(آل عمران:103).مسؤوليَّة الدعوة إلى الإسلام:

ثم يحمّل الله تعالى المؤمنين جميعاً مسؤوليَّة الدعوة إلى الإسلام، لأنَّ الدعوة ليست مسؤولية العلماء فقط، وإن كان كثير من العلماء لم يعد لهم شغل بالدعوة، بل هي مسؤولية الأمة، قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(آل عمران/104-105).هذا هو المنهج الإسلامي الذي يريد الله لنا أن نلتزمه، لنكون الأمة الإسلامية التي تلتزم الإسلام كلّه، فلا نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض، وأن نأخذ بأسباب الوحدة الإسلامية حتى لو اختلفنا في مذاهبنا وسياساتنا، وأن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، ولا نختلف ونتفرّق، لأنّ ذلك يضعف الواقع الإسلامي، ويقوّي موقع الأعداء، فهل نستجيب لنداء الله؟

الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتَّقوا الله،
 وواجهوا الموقف بنظم أمركم، وصلاح ذات بينكم، والسير في خطِّ طاعة الله في أمره ونهيه، والوقوف في وجه الظالمين والمستكبرين، ولنخطط لنكون الأقوياء في مواجهة التحديات الموجّهة ضدّ أمتنا، فماذا هناك؟

استراتيجية الإدارة الأمريكية في العراق:
تستمرّ حركة الإدارة الأمريكية في زيادة الضغط على الدول العربية المسمّاة بالدول المعتدلة لتنفيذ استراتيجيتها في المنطقة، في محاولةٍ للتعويض عن فشلها السياسي والأمني في العراق، بعد أن تكبّد الاحتلال ـ إلى الآن ـ ما يزيد عن أربعة آلاف قتيل وعشرين ألف جريح، إلى غيرهم من المضطربين عصبيّاً.

ولذلك، فإنّ المطلوب أمريكياً، هو مساعدة الاحتلال الأمريكي في استراتيجيته في العراق، ليبقى طويلاً في إدارة الوضع العراقي، والسيطرة على ثرواته الطبيعية، ولا سيما البترول، ولتمتدّ حركته في تشجيع ما يسمّى "الفوضى الخلاّقة" التي حوّلت حياة الشعب العراقي إلى جحيمٍ يحترقُ بناره أطفال العراق ونساؤه وشيوخه وشبابه، الذين تقصفهم الطائرات الأمريكية بحجة أنّهم أهداف معادية، لتبرر جريمتها بعد ذلك بأنها أخطأت في تحديد الهدف، في الوقت الذي يعرف الجميع، أن القنابل والصواريخ لا تصيب إلا العوائل الآمنة في بيوتها، ولا سيما في مدينة الصدر التي عاشت الحرمان في أبشع صوره، حتى فَقَدَ سكان هذه المدينة من المستضعفين أبسط شروط الحياة.

وإننا نخشى أن يكون في خلفيَّات مؤتمر جوار العراق الذي عُقد في الكويت، حصول أمريكا على موقف داعم من الدول العربية والأوروبية والمنظمات الدولية، من أجل إنقاذ الاحتلال الأمريكي من الورطة التي وضع نفسه فيها، والرمال المتحرّكة التي غرقت أقدام جنوده فيها، ما ترك تأثيره على الرأي العام الأمريكي الداخلي الذي فَقَدَ الثقة بإدارته، وقد بدأنا نسمع بقوّةٍ الأصوات الأمريكية الشعبية المطالبة بانسحاب الجيش الأمريكي من العراق.

وفي هذه المناسبة، فإننا كنَّا نأمل أن يكون مؤتمر الكويت مناسبةً للمطالبة بانسحاب الاحتلال من العراق، ودعوة بعض الدول العربية إلى منع دخول المتطرفين والإرهابيين إلى العراق واستباحته بمجازر وحشية ضد شعبه باسم الإسلام، والامتناع عن إثارة الجدل التاريخي في عناصر الفتنة المذهبية تنفيساً عن تعقيدات قد تختفي خلف بعض الأنظمة العربية المغلّفة بعناوين دينية في الإطار المذهبي، ولكنّها تتحرك ـ من خلالها ـ لأهداف سياسية، وخصوصاً أنَّ الخطة الأمريكية التي استهدفت احتلال العراق كانت تتحرك من أجل إضعاف هذا البلد، بقطع النظر عن رأينا الثابت في نظامه الطاغي البائد، حتى لا تبقى هناك أيَّةُ قوةٍ في أية دولة عربية كبرى توازن قوة إسرائيل، تحت تأثير التلويح بانقسامات طائفية وعرقية نخشى أن تتحوّل إلى انقسامات دستورية، مما لم تعترض عليه أكثر من دولة من الدول المسمّاة دول الاعتدال العربي.

وفي السياق نفسه، يتأكّد السعي الأمريكي لتطبيع العلاقات العربية مع إسرائيل، باسم مشروع السلام الذي يتحدّث عن دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل، لاستكمال خطوط مؤتمر "أنابوليس" الفاشل الذي لم يُحقِّق للعرب وللفلسطينيين أيَّة نتيجة إيجابية في حقوقهم المشروعة، لأن المطلوب أمريكياً هو إبراز إسرائيل بصورة الدولة الباحثة عن السلام.

ومن هنا، فإنّنا نؤكد أن أمريكا تكذب عندما تتحدث عن السلام العادل للشعب الفلسطيني، أو الدولة الفلسطينية القابلة للحياة، لأنّها في كل تاريخها تبيع العرب بعض التصريحات الضبابية بطريقة استهلاكية مخادعة لا تعني شيئاً، لأن كل القضية عندها هي المحافظة على تفوّق إسرائيل العسكري والسياسي والاقتصادي والأمني، على أساس تأكيد الدولة اليهودية التي يلتزم بها كلُّ يهود العالم، في الوقت الذي تقف بوجه القرارات الدَّولية التي أقرّت حقَّ العودة للشعب الفلسطيني إلى أرضه.

وفي هذا الجوّ، تأتي زيارة وزيرة الخارجيّة الأمريكية إلى بعض الدول العربية لتأكيد المصلحة الإسرائيلية حتَّى على حساب مصلحة العرب؛ لأنَّ الإدارة الأمريكية ليست في وارد الضغط على إسرائيل للحدِّ من الغطرسة الإسرائيلية ووحشيّتها التي تواجه بها الشعب الفلسطيني، في مصادرة أراضيه، وإقامة الجدار العازل، وبناء المستوطنات، وخصوصاً في مرحلة الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي يتنافس فيها الحزبان الأمريكيان، الديمقراطي والجمهوري، بشكلٍ هستيري للحصول على تأييد اللوبي اليهودي في أمريكا، من غير أن يحسب الفريقان حساب المسلمين والعرب، في أمريكا وخارجها، لأنّ هؤلاء لم يستطيعوا أن يصنعوا من وجودهم قوةً فاعلةً ومؤثّرةً على قرارات الإدارات الأمريكية المتعاقبة، وعلى الرأي العام الأمريكي، في الحقوق الشرعية للعالم العربي والإسلامي.

إعلان المنامة صياغة أمريكية:
ومن جانبٍ آخر، فقد طالعنا إعلان المنامة بحديثه عن الخشية من التسلّح النووي الإيراني الذي نفته إيران، من دون أن يذكر، ولو ببضع كلمات، المجازر الإسرائيلية الوحشية ضد الشعب الفلسطيني، ومن دون أن يتوقف عند الترسانة النووية الإسرائيلية الهائلة التي تحظى بحماية غربية، في الوقت الذي لم توقّع إسرائيل معاهدة حظر التجارب النووية التي وقّعتها إيران.

وفي المناسبة، فقد أعلنت وزيرة الخارجية الأمريكية مؤخَّراً، أنَّه يتوجب على حركة حماس أن تتخلّى عن العنف، وأن توقف إطلاق الصواريخ على جنوب إسرائيل لكي تبرهن أنّها مستعدّة للسلام، وكأنها تبرِّر للعدو أية مجزرة جديدة قد يرتكبها ضد الشعب الفلسطيني، من دون أن توجِّه هذا النداء إلى حليفتها إسرائيل التي تقوم بالاغتيالات والاجتياحات للمدن والقرى والمخيّمات الفلسطينية، حتى في الضفة الغربية التي تخضع للسلطة الفلسطينيّة، والتي لم ينطلق منها أي صاروخ على العدو، ولم تطلب "رايس" من إسرائيل الامتناع عن العنف التجويعي الغذائي والدوائي والحصار للخدمات الحيوية للمواطنين في غزة، ومحاولة إذلال الفلسطينيين على المعابر وأبواب الجدار العازل، والقصف الوحشي بالطائرات الأمريكية التي لا تفرّق بين مقاوم ومدني!!

مسؤولية إنقاذ الشعب الفلسطيني:
إننا ـ أمام هذا الواقع ـ نهيب بالعرب والمسلمين أن يتحمّلوا مسؤوليتهم ضدّ إسرائيل وأمريكا، في الدفاع عن الشعب الفلسطيني الذي يواجه أكثر الوسائل وحشيةً في القصف والحصار، وعلى المسؤولين جميعاً أن يتقوا الله، فلا يمتنعوا عن مدّ يد المساعدة إلى هذا الشعب المنكوب بالاحتلال وبالحرب المتنقلة بين موقع وموقع في كلِّ فلسطين، حتى لا يكون موقفهم منسجماً مع الموقف الصهيوني. لذلك، فإنَّ عليهم أن يتمرَّدوا على التَّعليمات الأمريكية التي تمنع فريقها من المسؤولين العرب والمسلمين من مساعدة الشعب الفلسطيني، لإبقائه وحيداً في مواجهة النازية الدولية التي تدعم إسرائيل في كلِّ محارقها الفلسطينية.

أمريكا: زيارات تفعيل الأزمات في المنطقة:
وليس بعيداً عن ذلك، تتحرك زيارات المندوبين الأمريكيين الذين يؤكِّدون الخطَّ السياسي لإدارتهم، في إبقاء الأزمات الداخلية في أكثر من بلد عربي رهينة مصالحها الاستراتيجية في حركة إدارة أزمة المنطقة، في ضغوطها على لبنان وفلسطين وسوريا وإيران، بما تثيره من عناصر الفرقة بين اللبنانيين، أو تعقيد العلاقات مع سوريا وإيران، باتهامهما بأنهما تمثلان المشكلة في أوضاع لبنان من جهة، وفي العراق من جهة أخرى.

وقد كانت زيارة مساعد وزير الخارجية الأمريكية "ولش" إلى لبنان، إحدى وسائل إرباك الوضع السياسي الداخلي، من خلال أنها أظهرت وكأنّ هناك علاقة عضوية بين بعض القيادات السياسية اللبنانية والإدارة الأمريكية، التي وعدتهم ببذل كل جهودها في دعمهم لأجل حصولهم على القوة التي تتوازن مع قوة الفريق الآخر، حتى بات اللبنانيون يشعرون بأن هذه الإدارة قد تحوّلت إلى فريق لبناني يتدخّل في أدقّ تفاصيل السياسة اللبنانية الداخلية، وهو ما ظهر جليّاً في تبشير هذا المسؤول الأمريكي اللبنانيين بأنَّهم سيواجهون صيفاً حاراً من خلال الطريق المسدود الذي وصلت إليه الأزمة وسقطت فيه المبادرات، بما في ذلك المبادرة العربية التي يعرف الجميع أنَّ أمريكا لم تعترف بها بشكل فاعل، ولذلك فقد ضغطت على أكثر من دولة عربية لعدم حضور القمة العربية، أو لإضعاف مستوى التمثيل، إضافةً إلى المقاطعة اللبنانية للقمة التي كان من جدول أعمالها دراسة المبادرة العربية، في محاولةٍ للوصول إلى آلية موضوعية تضمن تحقيق نقاطها، من خلال إجماع عربي على تفسيرها.

تأزّم داخلي وانشقاق وطنيّ:
أمَّا لبنان، فإن الانقسام السياسي بين معارضة وموالاة، وصل إلى درجة لا يُسمح فيها للّقاء والحوار حول القضايا المختلَف عليها، وهو ما يوحي بأن لبنان لم يعد موحَّداً على أساس المواطنة، بل إنَّ الخلفيات الكامنة وراء كثير من الخطوط السياسية، تنطلق من لبنان الذي يستسلم لذهنيّة الضعف العربي، فيسقط تحت تأثير السياسة الأمريكية التي تدفعه باتّجاه المزيد من التأزّمات الداخليّة، والانشقاق الوطني، والمزيد من الانخراط في الواقع العربي المنفتح على الصداقة الإسرائيلية من جهة أخرى، مع التصريحات العنترية التي توحي بالفتنة والعنف والنفاق الطائفي. ويبقى الشعب يعاني من آلامه وجوعه وحرمانه وفقدانه للخدمات الحيوية التي يتجمّد الواقع عندها بشكل مجنون.

والسؤال: أما آن لشمس هذا البلد أن تشرق،أم أنه مكتوب عليه أن يبقى في اللَّيل الذي يغني له كلُّ المطربين في عالمنا العربي؟ أما آن لنا أن ننادي الفجر ليطلَّ بنوره على واقعنا؟!

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية