ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء فيهما:
دعوة دائمة لالتزام التقوى في حياتنا الجنة مقام المتقين
التزام المسؤولية الإيمانية
يقول الله تعالى في كتابه الكريم:{وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين* الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين* والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون* أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين} [آل عمران:133-136].
من منا كمسلمين ومؤمنين لا يفكر في أن يكون مستقبله عندما يقوم الناس لرب العالمين، دخول الجنة؟ وقد بيَّن الله سبحانه في كتابه الكريم للإنسان ماذا يفعل، وكيف يبني شخصيته، في أخلاقيته، وفي مسؤوليته ليحصل على هذه الجنة، والله يريد للإنسان أن لا يتباطأ في سعيه إلى دخول الجنة، كبعض الناس الذين قد يفكرون في أن يأخذوا حريتهم في ارتكاب المعاصي والخطايا، وفي ترك ما أمر الله به ، حتى إذا بلغوا سناً متقدّمة ، فيستعدون حينها لدخول الجنة، فيعملون على أداء تكاليفهم الدينية ويذهبون إلى الحج...
ولكن المسألة، هي أن الله يريد للإنسان عندما يصل إلى سنّ البلوغ، ذكراً كان أو أنثى، أن يبدأ رحلته إلى الجنة، بحيث يتحمّل مسؤولية ما كلّفه الله به من عمل، فيطيع الله فيما أمره، وينتهي عمّا نهاه، حتى إنه جاء في التعاليم الدينية الاستحبابية، أن يبدأ الإنسان صلاته والتزاماته قبل سنّ البلوغ، حتى إذا بلغ، يكون في حال من الإقبال على الله سبحانه وتعالى، بحيث تشكّل هذه المرحلة فترة إعداد للإنسان، يبني فيها شخصيته التي تحب الله وتراقبه، وتتحمل مسؤولياتها عندما يبلغ السن التي يُكتب فيها العمل.
فالله تعالى يقول: {وسارعوا إلى مغفرة من ربّكم} أي لا تؤجّلوا التزامكم إلى سنين مستقبلكم، بل سارعوا إلى الحصول على مغفرةٍ من الله بالاستغفار. وقد ورد أنه: "لا كبيرة مع الاستغفار"؛ الاستغفار الذي يتحرك في خط التوبة، بحيث يستغفر الإنسان ربه من كل ذنوبه التي أسلفها في كل يوم، فيحصي أعماله من الصباح إلى المساء، وينظر فيما صدر منه هل فيه ما يُسخط الله ويغضبه؟ فيحاول أن يتوب إلى ربه منه ويستغفره، حتى إذا أراد أن ينام، ينام وهو مطمئن من خلال توبته واستغفاره، بأن الله سبحانه وتعالى قد غفر له ذنبه، وأنه لن يجدد هذا الذنب أو أمثاله في المستقبل.
{وجنة عرضها السموات والأرض}، وليس المقصود بالعرض هنا في مقابل الطول، بل المقصود سعتها. فالله سبحانه وتعالى يمنح عبده المؤمن حرية السكنى في هذه الجنة، وحرية الاستمتاع بكل ما فيها من المُتع واللذات وما إلى ذلك، لأن الله سبحانه لم يخلق للإنسان المؤمن حدوداً في مناطق الجنة؛ صحيح أن هناك درجات، لكن لا حدود في الجنة، فالله سبحانه وتعالى أعطى الجنة لكل من يستحقها، ليمارس فيها حريته في الاستمتاع بكل ما حشده الله له من اللذات.
العطاء وكظم الغيظ
ولكن لمن الجنة؟ {أعدَّت للمتقين}، أعدّها الله سبحانه للذين يأخذون بأسباب التقوى، وقد بيّن الله في هذه الآيات بعض صفات الأتقياء، وهم {الذين ينفقون في السراء والضراء}، الذين يعيشون مسؤولية العطاء، سواء كانوا في حال السعة أو الضيق، في حال الشدة أو الرخاء؛ هؤلاء هم أهل الجنة، والله سبحانه اعتبر الذين يبخلون على الآخرين إنما يبخلون على أنفسهم، أما الذي يقيه الله الشحّ الذي يمنعه من العطاء، فهو الذي ينال الفلاح في الدنيا والآخرة:{ومن يوق شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون} (الحشر:9).
{والكاظمين الغيظ}، والصفة الثانية للمتقين، أن المتقي لا يغضب إذا استُغضب، ولا ينفعل ويقوم بعملية ردّ فعل قوية ضد الآخر، أو يلتهب صدره وقلبه عندما يُساء إليه، بل هو الذي يعيش سعة الصدر، فإذا أغاظه أحد، سواء كان من الأقربين أو من الأبعدين، فإنه لا يفجّر غيظه، ولا يحاول التنفيس عنه، بل يحبس غيظه في صدره، فلا يقوم بأية عملية رد فعل. وقد ورد في أحاديث أهل البيت(ع)، أن أحلى ما يتصف به الإنسان المؤمن الحلم والصبر: "ما من جرعةٍ أحبّ إلى الله من جرعتين؛ جرعة غيظٍ ردّها مؤمن بحلم، وجرعة مصيبة ردّها مؤمن بصبر".
ومن أئمتنا من اتصف في أخلاقيته بصفة كظم الغيظ، وهو الإمام موسى بن جعفر(ع)، فكان لقبه الكاظم، لأنه كان يكظم غيظه عندما يغيظه الناس المعقّدون، أو الذين كانوا يسعون إلى النّيل منه بسوء، وما إلى ذلك.
{والعافين عن الناس ـ الذين إذا أساء إليهم أحد، فإنهم لا يقابلون الإساءة بالإساءة، بل يقابلون الإساءة بالحسنة، وهذا ما جاء في قوله تعالى: {ويدرأون بالحسنة السيئة} (الرعد:22)، {وأن تعفوا أقرب للتقوى} (البقرة:237)، بمعنى وإن كان لك الحقّ في أن تأخذ حقك ممن أساء إليك، ولكن العفو يمثّل التقوى ـ والله يحب المحسنين} الذين يعيشون الإحسان إلى الناس، لأن الله يأمر بالعدل والإحسان.
بين الإصرار والاستغفار
ويتابع القرآن الكريم بيانه في صفة المتقين: {والذين إذا فعلوا فاحشةً ـ وكلمة الفاحشة ربما أصبحت توحي لدى كثير من الناس، بالأعمال التي تتصل بالجانب الأخلاقي في العرض، لكن المراد من الفاحشة، هو العمل الذي يتجاوز به الإنسان الحد الذي ينبغي له أن يقف عنده، ـأو ظلموا أنفسهم ـ بالمعصية، لأن الإنسان عندما يعصي ربه فإنه يظلم نفسه، لأنه يعرّضهما لغضب الله وسخطه وعذابه في الدنيا والآخرة ـ ذكروا الله ـ سألوا أنفسهم كيف تجاوزنا هذا الحد؟ وكيف ظلمنا أنفسنا بالمعصية والله يراقبنا؟ ـ فاستغفروا لذنوبهمـ قالوا: اللهمَّ اغفر لنا هذا الذنب الذي صدر منا، ـ ومن يغفر الذنوب إلا الله ـ يغفر لكل مستغفر يطّلع على قلبه ويرى منه صدق التوبة وصدق الاستغفار.
ـ ولم يصروا على ما فعلوا ـ لأن بعض الناس قد يعتاد فعل المعصية، ويقنع نفسه بأنه لا يستطيع تركها، كالأشخاص المدمنين على المخدرات أو شرب الخمر، أو كالذين يدمنون التدخين وهم يعرفون أنه مضر، والتدخين حرام حسب فتوانا ، لكنهم يصرون على المعصية. وقد ورد في الحديث: "لا صغيرة مع الإصرار"، فالمعصية الصغيرة إذا أصر الإنسان عليها وتابعها، فإنها قد تتحول إلى كبيرة. وقد ورد عن الإمام الصادق(ع) قوله: "الإصرار هو أن يذنب الذنب، فلا يستغفر الله، ولا يحدث نفسه بتوبة، فذلك الإصرار".
وفي حديث آخر عن الإمام الصادق(ع): "لا والله، لا يقبل الله شيئاً من طاعته على الإصرار على شيء من معاصيه"، بحيث إذا أصرّ الإنسان على المعصية، فإنّ الله لا يتقبل منه الطاعة، لأنه مصر على أن يقوم بما يسخط الله ويغضبه ـ وهم يعلمون}.
الجنة جزاء المتّقين
هؤلاء المتقون، ما جزاؤهم؟{أولئك جزاؤهم مغفرةٌ من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين} الذي يحصلون على هذه الجائزة العظيمة.
لذلك، أيها الأحبة، إن الله يعد المتقين بمغفرته وجنّته، وتلك هي الجائزة الكبرى، وذلك هو الفلاح الكبير، {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}. وعلى هذا الأساس، ينبغي للإنسان أن يربي نفسه على هذه الصفات التي تجعله قريباً من الله سبحانه، وقريباً من الجنة،{يوم يقوم الناس لرب العالمين}، ويأتي النداء، لكل الذين كانوا ينفقون في السراء والضراء، والكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس، والمحسنين إليهم، والذين كانوا يستغفرون الله عندما يذنبون؛ ليقول لهم: {ادخلوها بسلام آمنين} (الحجر:46).
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله، اتقوا الله، فماذا هناك؟
فلسطين: بين التهويد والعروبة
في فلسطين المحتلة، يضع رئيس وزراء العدو الخطوط العريضة لسياسة حكومته حيال الفلسطينيين لجهة مواصلة حصار غزة، في إطار سياسة العقاب الجماعي التي تتزامن مع سلسلة المجازر والجرائم التي يرتكبها جيش الاحتلال ويسقط فيها المدنيون، بمن فيهم الأطفال... إلى جانب تمييع مسألة القدس والإعلان عن تأجيل المحادثات مع السلطة الفلسطينية حولها، لأن القدس تدخل في الخط الاستراتيجي الذي سيواصل العدو الاحتفاظ به في نطاق سياسته الاستيطانية التهويدية.
ومع أن حركة حماس قد أعلنت قبولها بإيقاف إطلاق النار، وذلك بالامتناع عن إطلاق الصواريخ في مقابل امتناع إسرائيل عن عمليات القصف والحصار والاغتيال، ولكن إسرائيل لم توافق على ذلك، لأن استراتيجيتها قائمة على الاستمرار في العدوان حسب مصلحة احتلالها، ولذلك فإنها تتابع عملياتها العدوانية في الضفة الغربية وفي إذلال الشعب الفلسطيني على المعابر، وتريد للمقاومة الفلسطينية إيقاف إطلاق الصواريخ أو المواجهة المسلحة من طرف واحد، لتستكمل خطتها في الحصول على أكبر مساحة من الأرض الفلسطينية، عبر بناء المستوطنات والجدار الفاصل، قبل الوصول إلى الدولتين اللتين لا يزال المجتمع الدولي يتحدث عنهما.
إن الفلسطينيين في السلطة قد يرتاحون للكلام الذي يسمعونه من الدول الكبرى، ولكنهم لا يرون أية ضغوط على إسرائيل لتحقيق مطالبهم في إزالة الحصار وبناء المستوطنات، كما سمعنا ذلك من وزير خارجية فرنسا الذي كان يزور الأراضي المحتلة، في الوقت الذي تقف هذه الدولة مع إسرائيل بشكل مطلق، حتى إن رئيسها صرّح بأنه "لن يصافح رئيس أية دولة لا تعترف بإسرائيل"، ولو كان ذلك على خلاف مصلحة بلده، ما يدل على التزامه بالعناوين الكبرى للسياسة الصهيونية على حساب الواقع العربي والإسلامي، انطلاقاً من التزامه بالإدارة الأمريكية في سياستها الإسرائيلية. ومن المؤسف أن بعض الدول العربية لم يحسب حساب هذه المواقف العدوانية تجاه العالم العربي والإسلامي، كما تمثلت مؤخراً بالإصرار على العقوبات ضد إيران في مجلس الأمن، بحجة احتمال تخطيط إيران للقنبلة الذرية، بالرغم من تقرير وكالة الطاقة الذرية وتقرير الاستخبارات الأمريكية اللذين ينفيان ذلك.
إننا نطالب العالم العربي والإسلامي، بأن تكون استراتيجيته في التعامل مع الدول مرتبطة أساساً بمواقفها من المصالح الحيوية للعرب والمسلمين، تماماً كما هي طريقة تلك الدول التي تضغط على مصالحنا لخدمة مصالحها الاستراتيجية، لأنها تنظر إلينا كدولٍ خاضعةٍ لها في أوضاعها العامة، الأمر الذي يهدد قضايانا المصيرية الحيوية.
هل يختم الرئيس بوش ولايته بحفل جنون؟
ومن جانب آخر، فقد عقد مؤتمر في العاصمة النيوزيلندية، ولنغتون، الذي ضم 120 دولة للتوصل إلى اتفاقية لحظر استخدام القنابل العنقودية وإنتاجها وتخزينها والاتّجار بها، ولم تشارك الولايات المتحدة الأمريكية في حضور هذا المؤتمر، وقد ذكر الوزير النيوزيلندي أن معظم الدول راعها هذا المستوى العالي من انتشار القنابل العنقودية التي استخدمتها إسرائيل في الأيام الأخيرة من حربها على لبنان في صيف العام 2006. ومن المعروف أن الولايات المتحدة الأمريكية هي التي زوّدت إسرائيل بالملايين من هذه القنابل لإلقائها على لبنان، ولاسيما الجنوب، لتقتل أكبر عدد من المدنيين، كما يحدث بين وقت وآخر.
ولذلك، فإننا نحمّل أمريكا تبعة كل قتيل أو جريح من المدنيين، وبالأخص المزارعين في الجنوب، لأنها كانت المصدر لذلك السلاح وللقنابل الذكية التي ألقتها الطائرات الحربية كهدية للبنان واللبنانيين، ولكن حلفاء أمريكا لم يحركوا ساكناً في هذه الحرب المتواصلة على المدنيين اللبنانيين، لأنهم ليسوا على استعداد لتحميلها أية مسؤولية في أية جريمةٍ تقوم بها إسرائيل.
ومن جانب آخر، فإننا لا نفهم أية ضرورة أمنية لبنانية لزيارة مسؤولين عسكريين أمريكيين كبار للبنان، أو موظفين ديبلوماسيين وإداريين كبار، فهل هذا تخطيط لإثارة بعض الأوضاع الأمنية الداخلية على مستوى الفوضى المتنقلة التي تزيد اللبنانيين المدنيين انقساماً، من خلال الاهتزاز الأمني إلى جانب الاهتزاز السياسي الذي يهز المشاعر ويعقّد النفوس، من أجل إبقاء الأزمة اللبنانية في خدمة المشاريع الأمريكية، التي بشّر بها الرئيس جورج بوش في تحريك الفوضى الخلاّقة ـ حسب تعبيره ـ لأنه لا يريد للمنطقة العربية والإسلامية استقراراً أمنياً وسياسياً واجتماعياً، باعتبار استراتيجيته الإمبراطورية في إسقاط كل المواقع المعارضة لسياسة الإدارة الأمريكية، وفي إرهاب كل قوى الممانعة والمواجهة الساعية إلى الحرية والاستقلال، وذلك تحت عنوان الحرب ضد الإرهاب؟!
والسؤال الذي قد يطرحه الناس في المنطقة: هل سيكون هناك تطورات كبيرة في المنطقة من خلال سياسة الإدارة الأمريكية على مستوى الجنون العسكري والإرهابي الذي بدأه الرئيس الأمريكي، ولاسيما بعد الخسائر التي مني بها في العراق وأفغانستان في الجانب العسكري، وعلى المستوى السياسي في لبنان وسوريا وإيران، وفي مواقف الشعوب العربية والإسلامية؟ وهل للتعليمات الموجهة من بعض الدول العربية والأوروبية للتحذير من المجيء إلى لبنان وتحذير المقيمين فيه، علاقة بهذا التطور الأمني؟ وهل يفكر هذا المجنون الإمبراطوري في أن يختم ولايته الثانية بإدخال العالم كله في حال انهيار وفوضى؟! هذا ما تراقبه المنطقة كلها.
لبنان: فوضى أمنية وخطابات نارية
أما لبنان، فقد دخل في صراع جنوني يملك الكثيرون من القائمين على شؤونه السياسية الكثير من الخطب النارية والكلمات الحربية، والاستعراضات الشخصية، والإثارات المذهبية الطائفية، التي جعلت الشارع يعيش المشاعر الحادة التي تحاول أن تجعل من الانتماء الديني والمذهبي حركة في العنف السياسي. وقد بدأ الحديث عمّن يقود الآخرين بين المسلمين والمسيحيين، وبين السنة والشيعة، والذي يراد من خلاله استعادة الأحقاد التاريخية، حتى كأننا نعيش مشكلة الخلافة والإمامة في مجتمع لا يدرك حقيقة الأمر في هذا الموقع أو ذاك، ولا يرتفع إلى مستوى الوحدة الإسلامية في الفكر الموحَّد، وفي المصير المشترك أمام الهجمات التي توجّه إلى الإسلام كله.
وقد أدى كل هذا الضجيج إلى حال من فوضى الشارع التي يتقاتل فيها المستضعفون الذين يعانون فقدان الحياة الكريمة والعيش المريح، ليشتبك بعضهم ببعض من دون هدف ومن دون قضية، ولكنه عنصر الإثارة الذي يحركه الطامحون للوصول إلى مواقعهم المذهبية والطائفية، في عملية استغلال لبعض المواقع الشعبية التي تتحرك من دون أن تعرف ضدَّ مَنْ ولمصلحة مَن، الأمر الذي جعل المعنيين بالأمور يتبرأون من كل هؤلاء، تماماً كما هي الأشباح التي تثير الحرب...
إننا نقول لكل الذين انطلقوا من خلال العصبيات الجاهلة، ولمن وراءها: إن هذه الفوضى التي أثارت الرعب في المواطنين جميعاً، وأخافتهم من أن تكون بداية حرب أهلية، لم تخدم أحداً إلا أعداء الوطن كله، ولاسيما إسرائيل، وإن أموراً كهذه لن تساهم في إعلاء زعامة فريق أو حزب أو تيار...
إننا نناشد اللبنانيين ألا يكونوا الحطب الذي يحترق به الشعب في خطط الآخرين، لأننا نخشى أن تكون اللغة الخطابية المذهبية والطائفية والحزبية هي المحرقة للوطن كله. وعلى الجميع، ولاسيما من المستضعفين الذين يتجمّعون على أبواب السفارات للهجرة، أن يصرخوا بصوت واحد: إننا نريد لبنان ساحةً للمواطنة لا للطائفية ولا لطموحات الزعامات الحاقدة.
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء فيهما:
دعوة دائمة لالتزام التقوى في حياتنا الجنة مقام المتقين
التزام المسؤولية الإيمانية
يقول الله تعالى في كتابه الكريم:{وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين* الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين* والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون* أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين} [آل عمران:133-136].
من منا كمسلمين ومؤمنين لا يفكر في أن يكون مستقبله عندما يقوم الناس لرب العالمين، دخول الجنة؟ وقد بيَّن الله سبحانه في كتابه الكريم للإنسان ماذا يفعل، وكيف يبني شخصيته، في أخلاقيته، وفي مسؤوليته ليحصل على هذه الجنة، والله يريد للإنسان أن لا يتباطأ في سعيه إلى دخول الجنة، كبعض الناس الذين قد يفكرون في أن يأخذوا حريتهم في ارتكاب المعاصي والخطايا، وفي ترك ما أمر الله به ، حتى إذا بلغوا سناً متقدّمة ، فيستعدون حينها لدخول الجنة، فيعملون على أداء تكاليفهم الدينية ويذهبون إلى الحج...
ولكن المسألة، هي أن الله يريد للإنسان عندما يصل إلى سنّ البلوغ، ذكراً كان أو أنثى، أن يبدأ رحلته إلى الجنة، بحيث يتحمّل مسؤولية ما كلّفه الله به من عمل، فيطيع الله فيما أمره، وينتهي عمّا نهاه، حتى إنه جاء في التعاليم الدينية الاستحبابية، أن يبدأ الإنسان صلاته والتزاماته قبل سنّ البلوغ، حتى إذا بلغ، يكون في حال من الإقبال على الله سبحانه وتعالى، بحيث تشكّل هذه المرحلة فترة إعداد للإنسان، يبني فيها شخصيته التي تحب الله وتراقبه، وتتحمل مسؤولياتها عندما يبلغ السن التي يُكتب فيها العمل.
فالله تعالى يقول: {وسارعوا إلى مغفرة من ربّكم} أي لا تؤجّلوا التزامكم إلى سنين مستقبلكم، بل سارعوا إلى الحصول على مغفرةٍ من الله بالاستغفار. وقد ورد أنه: "لا كبيرة مع الاستغفار"؛ الاستغفار الذي يتحرك في خط التوبة، بحيث يستغفر الإنسان ربه من كل ذنوبه التي أسلفها في كل يوم، فيحصي أعماله من الصباح إلى المساء، وينظر فيما صدر منه هل فيه ما يُسخط الله ويغضبه؟ فيحاول أن يتوب إلى ربه منه ويستغفره، حتى إذا أراد أن ينام، ينام وهو مطمئن من خلال توبته واستغفاره، بأن الله سبحانه وتعالى قد غفر له ذنبه، وأنه لن يجدد هذا الذنب أو أمثاله في المستقبل.
{وجنة عرضها السموات والأرض}، وليس المقصود بالعرض هنا في مقابل الطول، بل المقصود سعتها. فالله سبحانه وتعالى يمنح عبده المؤمن حرية السكنى في هذه الجنة، وحرية الاستمتاع بكل ما فيها من المُتع واللذات وما إلى ذلك، لأن الله سبحانه لم يخلق للإنسان المؤمن حدوداً في مناطق الجنة؛ صحيح أن هناك درجات، لكن لا حدود في الجنة، فالله سبحانه وتعالى أعطى الجنة لكل من يستحقها، ليمارس فيها حريته في الاستمتاع بكل ما حشده الله له من اللذات.
العطاء وكظم الغيظ
ولكن لمن الجنة؟ {أعدَّت للمتقين}، أعدّها الله سبحانه للذين يأخذون بأسباب التقوى، وقد بيّن الله في هذه الآيات بعض صفات الأتقياء، وهم {الذين ينفقون في السراء والضراء}، الذين يعيشون مسؤولية العطاء، سواء كانوا في حال السعة أو الضيق، في حال الشدة أو الرخاء؛ هؤلاء هم أهل الجنة، والله سبحانه اعتبر الذين يبخلون على الآخرين إنما يبخلون على أنفسهم، أما الذي يقيه الله الشحّ الذي يمنعه من العطاء، فهو الذي ينال الفلاح في الدنيا والآخرة:{ومن يوق شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون} (الحشر:9).
{والكاظمين الغيظ}، والصفة الثانية للمتقين، أن المتقي لا يغضب إذا استُغضب، ولا ينفعل ويقوم بعملية ردّ فعل قوية ضد الآخر، أو يلتهب صدره وقلبه عندما يُساء إليه، بل هو الذي يعيش سعة الصدر، فإذا أغاظه أحد، سواء كان من الأقربين أو من الأبعدين، فإنه لا يفجّر غيظه، ولا يحاول التنفيس عنه، بل يحبس غيظه في صدره، فلا يقوم بأية عملية رد فعل. وقد ورد في أحاديث أهل البيت(ع)، أن أحلى ما يتصف به الإنسان المؤمن الحلم والصبر: "ما من جرعةٍ أحبّ إلى الله من جرعتين؛ جرعة غيظٍ ردّها مؤمن بحلم، وجرعة مصيبة ردّها مؤمن بصبر".
ومن أئمتنا من اتصف في أخلاقيته بصفة كظم الغيظ، وهو الإمام موسى بن جعفر(ع)، فكان لقبه الكاظم، لأنه كان يكظم غيظه عندما يغيظه الناس المعقّدون، أو الذين كانوا يسعون إلى النّيل منه بسوء، وما إلى ذلك.
{والعافين عن الناس ـ الذين إذا أساء إليهم أحد، فإنهم لا يقابلون الإساءة بالإساءة، بل يقابلون الإساءة بالحسنة، وهذا ما جاء في قوله تعالى: {ويدرأون بالحسنة السيئة} (الرعد:22)، {وأن تعفوا أقرب للتقوى} (البقرة:237)، بمعنى وإن كان لك الحقّ في أن تأخذ حقك ممن أساء إليك، ولكن العفو يمثّل التقوى ـ والله يحب المحسنين} الذين يعيشون الإحسان إلى الناس، لأن الله يأمر بالعدل والإحسان.
بين الإصرار والاستغفار
ويتابع القرآن الكريم بيانه في صفة المتقين: {والذين إذا فعلوا فاحشةً ـ وكلمة الفاحشة ربما أصبحت توحي لدى كثير من الناس، بالأعمال التي تتصل بالجانب الأخلاقي في العرض، لكن المراد من الفاحشة، هو العمل الذي يتجاوز به الإنسان الحد الذي ينبغي له أن يقف عنده، ـأو ظلموا أنفسهم ـ بالمعصية، لأن الإنسان عندما يعصي ربه فإنه يظلم نفسه، لأنه يعرّضهما لغضب الله وسخطه وعذابه في الدنيا والآخرة ـ ذكروا الله ـ سألوا أنفسهم كيف تجاوزنا هذا الحد؟ وكيف ظلمنا أنفسنا بالمعصية والله يراقبنا؟ ـ فاستغفروا لذنوبهمـ قالوا: اللهمَّ اغفر لنا هذا الذنب الذي صدر منا، ـ ومن يغفر الذنوب إلا الله ـ يغفر لكل مستغفر يطّلع على قلبه ويرى منه صدق التوبة وصدق الاستغفار.
ـ ولم يصروا على ما فعلوا ـ لأن بعض الناس قد يعتاد فعل المعصية، ويقنع نفسه بأنه لا يستطيع تركها، كالأشخاص المدمنين على المخدرات أو شرب الخمر، أو كالذين يدمنون التدخين وهم يعرفون أنه مضر، والتدخين حرام حسب فتوانا ، لكنهم يصرون على المعصية. وقد ورد في الحديث: "لا صغيرة مع الإصرار"، فالمعصية الصغيرة إذا أصر الإنسان عليها وتابعها، فإنها قد تتحول إلى كبيرة. وقد ورد عن الإمام الصادق(ع) قوله: "الإصرار هو أن يذنب الذنب، فلا يستغفر الله، ولا يحدث نفسه بتوبة، فذلك الإصرار".
وفي حديث آخر عن الإمام الصادق(ع): "لا والله، لا يقبل الله شيئاً من طاعته على الإصرار على شيء من معاصيه"، بحيث إذا أصرّ الإنسان على المعصية، فإنّ الله لا يتقبل منه الطاعة، لأنه مصر على أن يقوم بما يسخط الله ويغضبه ـ وهم يعلمون}.
الجنة جزاء المتّقين
هؤلاء المتقون، ما جزاؤهم؟{أولئك جزاؤهم مغفرةٌ من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين} الذي يحصلون على هذه الجائزة العظيمة.
لذلك، أيها الأحبة، إن الله يعد المتقين بمغفرته وجنّته، وتلك هي الجائزة الكبرى، وذلك هو الفلاح الكبير، {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}. وعلى هذا الأساس، ينبغي للإنسان أن يربي نفسه على هذه الصفات التي تجعله قريباً من الله سبحانه، وقريباً من الجنة،{يوم يقوم الناس لرب العالمين}، ويأتي النداء، لكل الذين كانوا ينفقون في السراء والضراء، والكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس، والمحسنين إليهم، والذين كانوا يستغفرون الله عندما يذنبون؛ ليقول لهم: {ادخلوها بسلام آمنين} (الحجر:46).
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله، اتقوا الله، فماذا هناك؟
فلسطين: بين التهويد والعروبة
في فلسطين المحتلة، يضع رئيس وزراء العدو الخطوط العريضة لسياسة حكومته حيال الفلسطينيين لجهة مواصلة حصار غزة، في إطار سياسة العقاب الجماعي التي تتزامن مع سلسلة المجازر والجرائم التي يرتكبها جيش الاحتلال ويسقط فيها المدنيون، بمن فيهم الأطفال... إلى جانب تمييع مسألة القدس والإعلان عن تأجيل المحادثات مع السلطة الفلسطينية حولها، لأن القدس تدخل في الخط الاستراتيجي الذي سيواصل العدو الاحتفاظ به في نطاق سياسته الاستيطانية التهويدية.
ومع أن حركة حماس قد أعلنت قبولها بإيقاف إطلاق النار، وذلك بالامتناع عن إطلاق الصواريخ في مقابل امتناع إسرائيل عن عمليات القصف والحصار والاغتيال، ولكن إسرائيل لم توافق على ذلك، لأن استراتيجيتها قائمة على الاستمرار في العدوان حسب مصلحة احتلالها، ولذلك فإنها تتابع عملياتها العدوانية في الضفة الغربية وفي إذلال الشعب الفلسطيني على المعابر، وتريد للمقاومة الفلسطينية إيقاف إطلاق الصواريخ أو المواجهة المسلحة من طرف واحد، لتستكمل خطتها في الحصول على أكبر مساحة من الأرض الفلسطينية، عبر بناء المستوطنات والجدار الفاصل، قبل الوصول إلى الدولتين اللتين لا يزال المجتمع الدولي يتحدث عنهما.
إن الفلسطينيين في السلطة قد يرتاحون للكلام الذي يسمعونه من الدول الكبرى، ولكنهم لا يرون أية ضغوط على إسرائيل لتحقيق مطالبهم في إزالة الحصار وبناء المستوطنات، كما سمعنا ذلك من وزير خارجية فرنسا الذي كان يزور الأراضي المحتلة، في الوقت الذي تقف هذه الدولة مع إسرائيل بشكل مطلق، حتى إن رئيسها صرّح بأنه "لن يصافح رئيس أية دولة لا تعترف بإسرائيل"، ولو كان ذلك على خلاف مصلحة بلده، ما يدل على التزامه بالعناوين الكبرى للسياسة الصهيونية على حساب الواقع العربي والإسلامي، انطلاقاً من التزامه بالإدارة الأمريكية في سياستها الإسرائيلية. ومن المؤسف أن بعض الدول العربية لم يحسب حساب هذه المواقف العدوانية تجاه العالم العربي والإسلامي، كما تمثلت مؤخراً بالإصرار على العقوبات ضد إيران في مجلس الأمن، بحجة احتمال تخطيط إيران للقنبلة الذرية، بالرغم من تقرير وكالة الطاقة الذرية وتقرير الاستخبارات الأمريكية اللذين ينفيان ذلك.
إننا نطالب العالم العربي والإسلامي، بأن تكون استراتيجيته في التعامل مع الدول مرتبطة أساساً بمواقفها من المصالح الحيوية للعرب والمسلمين، تماماً كما هي طريقة تلك الدول التي تضغط على مصالحنا لخدمة مصالحها الاستراتيجية، لأنها تنظر إلينا كدولٍ خاضعةٍ لها في أوضاعها العامة، الأمر الذي يهدد قضايانا المصيرية الحيوية.
هل يختم الرئيس بوش ولايته بحفل جنون؟
ومن جانب آخر، فقد عقد مؤتمر في العاصمة النيوزيلندية، ولنغتون، الذي ضم 120 دولة للتوصل إلى اتفاقية لحظر استخدام القنابل العنقودية وإنتاجها وتخزينها والاتّجار بها، ولم تشارك الولايات المتحدة الأمريكية في حضور هذا المؤتمر، وقد ذكر الوزير النيوزيلندي أن معظم الدول راعها هذا المستوى العالي من انتشار القنابل العنقودية التي استخدمتها إسرائيل في الأيام الأخيرة من حربها على لبنان في صيف العام 2006. ومن المعروف أن الولايات المتحدة الأمريكية هي التي زوّدت إسرائيل بالملايين من هذه القنابل لإلقائها على لبنان، ولاسيما الجنوب، لتقتل أكبر عدد من المدنيين، كما يحدث بين وقت وآخر.
ولذلك، فإننا نحمّل أمريكا تبعة كل قتيل أو جريح من المدنيين، وبالأخص المزارعين في الجنوب، لأنها كانت المصدر لذلك السلاح وللقنابل الذكية التي ألقتها الطائرات الحربية كهدية للبنان واللبنانيين، ولكن حلفاء أمريكا لم يحركوا ساكناً في هذه الحرب المتواصلة على المدنيين اللبنانيين، لأنهم ليسوا على استعداد لتحميلها أية مسؤولية في أية جريمةٍ تقوم بها إسرائيل.
ومن جانب آخر، فإننا لا نفهم أية ضرورة أمنية لبنانية لزيارة مسؤولين عسكريين أمريكيين كبار للبنان، أو موظفين ديبلوماسيين وإداريين كبار، فهل هذا تخطيط لإثارة بعض الأوضاع الأمنية الداخلية على مستوى الفوضى المتنقلة التي تزيد اللبنانيين المدنيين انقساماً، من خلال الاهتزاز الأمني إلى جانب الاهتزاز السياسي الذي يهز المشاعر ويعقّد النفوس، من أجل إبقاء الأزمة اللبنانية في خدمة المشاريع الأمريكية، التي بشّر بها الرئيس جورج بوش في تحريك الفوضى الخلاّقة ـ حسب تعبيره ـ لأنه لا يريد للمنطقة العربية والإسلامية استقراراً أمنياً وسياسياً واجتماعياً، باعتبار استراتيجيته الإمبراطورية في إسقاط كل المواقع المعارضة لسياسة الإدارة الأمريكية، وفي إرهاب كل قوى الممانعة والمواجهة الساعية إلى الحرية والاستقلال، وذلك تحت عنوان الحرب ضد الإرهاب؟!
والسؤال الذي قد يطرحه الناس في المنطقة: هل سيكون هناك تطورات كبيرة في المنطقة من خلال سياسة الإدارة الأمريكية على مستوى الجنون العسكري والإرهابي الذي بدأه الرئيس الأمريكي، ولاسيما بعد الخسائر التي مني بها في العراق وأفغانستان في الجانب العسكري، وعلى المستوى السياسي في لبنان وسوريا وإيران، وفي مواقف الشعوب العربية والإسلامية؟ وهل للتعليمات الموجهة من بعض الدول العربية والأوروبية للتحذير من المجيء إلى لبنان وتحذير المقيمين فيه، علاقة بهذا التطور الأمني؟ وهل يفكر هذا المجنون الإمبراطوري في أن يختم ولايته الثانية بإدخال العالم كله في حال انهيار وفوضى؟! هذا ما تراقبه المنطقة كلها.
لبنان: فوضى أمنية وخطابات نارية
أما لبنان، فقد دخل في صراع جنوني يملك الكثيرون من القائمين على شؤونه السياسية الكثير من الخطب النارية والكلمات الحربية، والاستعراضات الشخصية، والإثارات المذهبية الطائفية، التي جعلت الشارع يعيش المشاعر الحادة التي تحاول أن تجعل من الانتماء الديني والمذهبي حركة في العنف السياسي. وقد بدأ الحديث عمّن يقود الآخرين بين المسلمين والمسيحيين، وبين السنة والشيعة، والذي يراد من خلاله استعادة الأحقاد التاريخية، حتى كأننا نعيش مشكلة الخلافة والإمامة في مجتمع لا يدرك حقيقة الأمر في هذا الموقع أو ذاك، ولا يرتفع إلى مستوى الوحدة الإسلامية في الفكر الموحَّد، وفي المصير المشترك أمام الهجمات التي توجّه إلى الإسلام كله.
وقد أدى كل هذا الضجيج إلى حال من فوضى الشارع التي يتقاتل فيها المستضعفون الذين يعانون فقدان الحياة الكريمة والعيش المريح، ليشتبك بعضهم ببعض من دون هدف ومن دون قضية، ولكنه عنصر الإثارة الذي يحركه الطامحون للوصول إلى مواقعهم المذهبية والطائفية، في عملية استغلال لبعض المواقع الشعبية التي تتحرك من دون أن تعرف ضدَّ مَنْ ولمصلحة مَن، الأمر الذي جعل المعنيين بالأمور يتبرأون من كل هؤلاء، تماماً كما هي الأشباح التي تثير الحرب...
إننا نقول لكل الذين انطلقوا من خلال العصبيات الجاهلة، ولمن وراءها: إن هذه الفوضى التي أثارت الرعب في المواطنين جميعاً، وأخافتهم من أن تكون بداية حرب أهلية، لم تخدم أحداً إلا أعداء الوطن كله، ولاسيما إسرائيل، وإن أموراً كهذه لن تساهم في إعلاء زعامة فريق أو حزب أو تيار...
إننا نناشد اللبنانيين ألا يكونوا الحطب الذي يحترق به الشعب في خطط الآخرين، لأننا نخشى أن تكون اللغة الخطابية المذهبية والطائفية والحزبية هي المحرقة للوطن كله. وعلى الجميع، ولاسيما من المستضعفين الذين يتجمّعون على أبواب السفارات للهجرة، أن يصرخوا بصوت واحد: إننا نريد لبنان ساحةً للمواطنة لا للطائفية ولا لطموحات الزعامات الحاقدة.