ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:
الحسن(ع): الشخصَّية الإماميَّة: يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز:{إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}(الأحزاب:33).
في السَّابع من شهر صفر الذي صادف يوم أمس، كانت ذكرى وفاة الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب(ع)، وابن فاطمة الزهراء(ع)، والّذي دسَّت له زوجته السّم، بإغراء وتشجيع من معاوية الذي وعدها بأن يزوّجها من ابنه ثم أخلف وعده. وكانت زوجته من عائلة الأشعث، وهي عائلة معقّدة حاقدة على أهل البيت(ع)، ولا نعرف ما هي الظروف التي جعلت الإمام الحسن(ع) يتزوَّج من هذه العائلة!
وفي هذه المناسبة، لا بدَّ لنا من أن نتعرف هذه الشّخصيّة الإماميّة المميّزة، من خلال حركتها في كلّ تاريخها الإسلامي، والتي عاشت أكثر من مأساة وأكثر من مشكلة، فكانت في القمة الروحية والأخلاقية الإسلامية، وكان(ع) رحب الصّدر حتّى مع أعدائه، على الرّغم مما أحاط به من الأوضاع القلقة.
وكان، كما يتحدّث عنه المؤرّخون، أشبه الناس برسول الله (ص) خَلقاً وخُلقاً، وكانوا إذا اشتاقوا إلى رسول الله(ص) نظروا إليه.
وكان رسولُ الله(ص) قد احتضنه مع أخيه الحسين(ع) في طفولتهما الأولى، ومنحهما الوسام الذي لم يعطه أحداً، لا من ناحية عاطفية، لأنه {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}(النَّجم:3-4)، ولكن من خلال ما يتطلّع إليه في مستقبلهما في خدمة رسالته وخدمة الأمة الإسلامية، حيث كان يقول: «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة»، «من أحبهما فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني».
ونحن في هذا الموقف، نستنطق شهادة الإمام زين العابدين(ع) بعمِّه الحسن(ع) فيما روي عنه:
«كان عمّي الحسن أعبد النَّاس في زمانه، وأزهدهم وأفضلهم، وكان إذا حجَّ حج ماشياً، وربما مشى حافياً ـ تواضعاً لله، متحمّلاً المشقة والتعب والجهد في الرحلة إلى بيته الحرام ـ وكان إذا ذكر الموت بكى، وإذا ذكر القبر بكى، وإذا ذكر البعث والنشور بكى، وإذا ذكر الممرّ على الصراط بكى، وإذا ذكر العرض على الله تعالى شهق شهقةً يُغشى عليه منها، وكان إذا قام في صلاته ترتعد فرائصه بين يدي ربِّه عزَّ وجلَّ، وكان إذا ذكر الجنة والنار اضطرب اضطراب السّليم ـ المريض ـ وسأل الله الجنة، وتعوّذ من النار، وكان لا يقرأ من كتاب الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا} إلا قال: لبيك اللهم لبيك ـ حيث يعتبر أن الله يخاطبه ويدعوه يناديه ويوجهه ـ ولم ير في شيء من أحواله إلا ذاكراً لله سبحانه».
والإمام زين العابدين(ع)، أراد من خلال هذا الحديث، أن ينبه إلى أحقيّة الموت، والقبر، والمرور على الصراط، والبعث، والنشور، والعرض على الله، لأنّها تمثّل مراحل المصير إلى الله سبحانه وتعالى، ليستعدّ الإنسان للموت، فلا يموت إلا وهو في طاعة الله، كما قال سبحانه: {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(آل عمران/102)، وكما جاء في سورة يوسف(ع):{تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}(يوسف/101).
الإمام الحسن(ع): حامل لواء علي(ع):
ونقرأ أيضاً، أنّ علياً(ع) كان يعتمده في المشاكل الصعبة، فقد أرسله إلى الكوفة، عندما بويع الإمام علي(ع) بالخلافة، وبعد أن تمرد والي الكوفة عليه، وأثار الفوضى بين المسلمين. وعندما وصل الإمام الحسن(ع) إلى الكوفة، خاطب الناس قائلاً: «أيُّها الناس، إنّا جئنا ندعوكم إلى الله وكتابه وسنَّة رسوله، وإلى أفقه من تفقَّه من المسلمين ـ فعليٌّ(ع) هو الأفقه بين المسلمين ـ وأعدل من تعدّلون، وأفضل من تفضّلون، وأوفى من تبايعون ـ في وفائه بالعهد ـ من لم يعيه القرآن، ولم تجهّله السنة ـ فقد ملأ القرآن عقله وقلبه وكلَّ مشاعره وكلَّ حياته، وسار على سنَّة رسول الله (ص) ـ ولم تعقد به السَّابقة ـ كان الأسبق ـ إلى من قرّبه الله تعالى ورسوله قرابتين؛ قرابة الدين، ـ فهو أوَّل من أسلم ـ وقرابة الرّحم ـ فهو ابن عم رسول الله(ص) ـ إلى من سبق الناس إلى كل مأثرة ـ كل فضيلة ـ وإلى من كفى الله به رسوله والناس متخاذلون، فقرب منه ـ من النبي(ص) ـ وهم متباعدون، وصلّى معه وهم مشركون ـ وقد قال علي(ع) في مناجاته لربِّه: لم يسبقني بالصلاة إلا رسول الله ـ وقاتل معه وهم منهزمون، وبارز معه ـ الأعداء والأبطال ـ وهم محجمون، وصدّقه وهم يكذّبون، إلى من لم تردّ له ولا تكافأ له سابقة»، فهو الأعلى في كل سابقة لكل فضيلة.
وكان الإمام الحسن(ع) يقول: «إذا أردت عزاً بلا عشيرة، وهيبة بلا سلطان، فاخرج من ذلِّ معصية الله إلى عزّ طاعته».
الإمام الحسن(ع) والخلافة:
وقد بُويع بالخلافة بعد شهادة أبيه علي(ع) في أوضاع معقّدة، دخل فيها الكثير من المنافقين من رؤساء العشائر الذين اشتراهم معاوية بالمال، وسارع إلى قتال معاوية الذي دعا بالخلافة لنفسه، ولكنّ الذين ساروا معه في الجيش كانوا يتحركون وفق تعليمات معاوية، حتى إنَّ بعض أبناء عمّه، وهو عبيد الله بن عباس، أرسل إليه معاوية مالاً كثيراً، فترك القيادة وانسحب، حتى حاول المنافقون في جيشه اغتياله وطعنوه في فخذه.
ولذلك، رأى(ع) أن مسألة الحرب لن تكون حرباً متكافئة، لأنَّ الناس كانوا متعبين من الحروب، ولأنّ معاوية كان قد اشترى أكثر الناس بالأموال، ولأنّه أيضاً رأى أنّ هناك فرصةً لأن يسود السلام في الواقع الإسلامي، على طريقة أبيه(ع): «لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين»، فكانت الهدنة التي سميت صلحاً مع معاوية، والذي لم يلتزم بأيِّ شرط من شروطها.
وهكذا ـ أيُّها الأحبة ـ رجع الإمام الحسن(ع) إلى المدينة من أجل أن يُرشد الناس إلى الله سبحانه وتعالى، ومن أجل أن يتولّى القيادة الروحية والفكرية والإسلامية في كلِّ المجالات، وكانت له هيبة وحكمة.
الحسن(ع): الناصح الحكيم:
وعن سمو أخلاقه وحكمته، تحدّثنا كتب السيرة، أنّه كان ذات يوم سائراً مع أهل بيته في المدينة، وجاء شخص شامي، ممن عبّأهم معاوية في بغض علي(ع) وأهل بيته، فسأل الشامي: من هذا؟ فقيل له: هذا الحسن بن علي بن أبي طالب، فبدأ يسبّ علياً ويشتمه، ويسبّ الحسن ويشتمه، ولكن الإمام الحسن(ع) قال له: «السلام عليك ـ وتبسّم في وجهه، وقال له: أيُّها الشيخ أظنك غريباً، ولعلّ لك حاجة، فلو استعنت بنا لأعنّاك، ولو سألتنا لأعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا حمّلناك». فلمّا سمع الشّامي كلام الإمام(ع)، تفاجأ بردة فعله وأخلاقه، فقال: فولّيت عنه وما على الأرض أحدٌ أحبّ إليّ منه.
وينقل أيضاً في سيرته، أنّه كان له جار يهودي، وكان حاقداً عليه، فكان يطلب من خادمه أن يرمي الأوساخ أمام منـزل الإمام الحسن(ع)، يريد بذلك افتعال مشكلة معه، ولكن الإمام كان لا يحرّك ساكناً، إلى أن تعب اليهودي فامتنع عن ذلك، فأرسل إليه الإمام الحسن(ع) أنّك كنت ترسل إلينا هديةً، فلماذا امتنعت عن ذلك؟ فخجل هذا اليهودي.
ومما يروى عنه، أنّه كان يوماً جالساً ـ وقد كان معروفاً أنّه من أشدّ الناس هيبةً، وقيل إنّ رسول الله(ص) قال لابنته فاطمة الزهراء(ع)، إنّه أورث ابنها هيبته وسؤدده ـ كان جالساً أمام منـزله، فانقطعت المارّة، فقيل له ذلك، فأحبَّ أن لا يزعج الناس، فدخل إلى بيته.
الإمام الحسن(ع) في مواعظه:
ونقرأ في مواعظه: «يا بن آدم، عفّ عن محارم الله تكن عابداً، وارض بما قسم الله تكن غنياً، وأحسن جوار من جاورك تكن مسلماً ـ لأن رسول الله (ص) أوصى بالجار كثيراً ـ وصاحب الناس بمثل ما تحب أن يصاحبوك به تكن عادلاً»، ثم قال: «إنَّه كان بين أيديكم أقوامٌ يجمعون كثيراً ـ المال الكثير ـ ويبنون مشيداً ـ البناء الواسع ـ ويأملون بعيداً ـ بالحياة الطويلة ـ أصبح جمعهم بوراً ـ هالكاً ـ وعملهم غروراً، ومساكنهم قبوراً. يا بن آدم، لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك ـ فأكبر ما يكون الإنسان يوم ولادته، وكلُّ يوم يمضي ينقص فيه عمره ـ فخذ مما في يديك ـ من المال ـ لما بين يديك ـ لما تقدم إليه ـ فإن المؤمن يتزوّد، والكافر يتمتّع».
وهكذا، استشهد الإمام الحسن(ع) بالسمّ الذي دسَّته له زوجته جعدة بنت الأشعث، بإغراء من معاوية، وحضرته الوفاة، فأوصى أخاه الحسين(ع): «أوصيك يا حسين بمن خلّفت من أهلي وولدي وأهل بيتك ـ أنت الخليفة عليهم والوصي عليهم ـ أن تصفح عن مُسيئهم، وتقبل من مُحسنهم، وتكون لهم خلفاً ووالداً، وأن تدفنّي مع رسول الله، فإني أحقُّ به وببيته، فإن أبوا عليك ـ لم يدعوك تفعل ذلك ـ فأنشدك الله بالقرابة التي قرّب الله منك، والرحم الماسّة من رسول الله، أن لا تهرق في أمري ملء محجمة من دم، حتى نلقى رسول الله فنختصم إليه». ولكن ما حصل، إنّ مروان اعترض، وجاؤوا بزوجة رسول الله(ص)، وقالت: "لا تدفنوا في بيتي من لا أحب"، وعارض بنو هاشم ذلك، ولكن الإمام الحسين(ع) نفّذ وصية أخيه(ع)، ورفض إراقة الدم في ذلك، ودفن الإمام الحسن(ع) في البقيع.
فالسّلام عليه يوم ولد، ويوم استشهد، ويوم يبعث حياً.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
استمرار الحملة الوحشيّة على غزّة:
بدأت إسرائيل حملةً وحشيةً هستيريةً ضد قطاع غزة، وذلك بتدمير بعض مناطقها، وتحذير سكانها من البقاء في بيوتهم، وهي تعتمد في ذلك على دعم أمريكا وبعض الحلفاء الأوروبيين، وربما بعض العرب، لاتخاذ كل الإجراءات الكفيلة بتغيير الوضع في غزة، لأنَّ المطلوب إسرائيلياً وأمريكياً هو إسقاط الحالة الإسلامية التي تُمثّلها "حماس" وبقية فصائل الانتفاضة. وقد أعلن وزير حرب العدو، أنه أمر جيش الاحتلال بالاستعداد لشنّ عدوان واسع على غزة، مهدداً بتصفية قادة "حماس" من دون تمييز ونلاحظ أنَّ هذه الاستعدادات الصهيونية تشير إلى أنَّ العدو فشل في إيجاد حلولٍ لصواريخ المقاومة التي فعلت فعلها في رسم معالم توازن أمني جديد مع العدوّ، وأثّرت تأثيراً كبيراً في مستوطني العدو في أكثر من مستوطنة، كما أن ممارسات العدوّ الإرهابية في الاجتياح والاغتيال، لم تستطع أن تحقق له الأمن أمام تصميم المجاهدين على المقاومة في مواجهة عدوانه.
وقد استغلّت إسرائيل التعقيدات الداخلية الفلسطينية بين فتح وحماس، إذ مكّنتها من أن تجد نفسها حرّةً في الضَّغط على غزة وعلى الشَّعب الفلسطيني بأجمعه، ولذلك فإنها لا تزال تضغط وتقتل وتحاصر وتعتقل الناس في الضفَّة الغربية، من دون أن تجد في واقع السُّلطة موقفاً قوياً يهدِّد العلاقات معها ويربك الأوضاع الدولية، بما فيها الإدارة الأمريكية، بما يؤدي إلى تخريب الخطط المرسومة لخداع الشعب الفلسطيني التي يتحرك بها "بلير"، إضافةً إلى المشرفين على خارطة الطريق... هذا إضافةً إلى صمت الجامعة العربية المستهجَن على كل هذا العدوان المتحرك والتدمير المرسوم.
العالم العربي: مات سياسياً:
لقد قرَّرت إسرائيل أنَّ العالم العربي مات سياسياً، ولذلك فإنها تمارس حريتها في إبقاء الاحتلال، وفي تحويل فلسطين إلى سجن واسع لشعبها، من دون أن يحرك العرب ساكناً، حتى إن مسألة الحصار الخانقة أُردفت بتهديد عربي للفلسطينيين بكسر أيديهم وأرجلهم إذا تجرأوا على تجاوز الحدود من أجل تخفيف جوعهم ومعالجة أمراضهم وإنارة بلادهم.
وفي جانب آخر، لا يزال الرئيس الأمريكي يحاول أن يفسد العلاقات العربية ـ الإيرانية، ساعياً لإقناع العرب بأنَّ إيران هي العدوّ الذي يمثل الخطر على أمنهم ومصالحهم، وذلك من أجل أن يتحركوا لتأييد السياسة الأمريكية، في الوقت الذي تتوسل أمريكا إيران للدخول في مفاوضات معها حول الأمن في العراق، تخفيفاً عن جنودها من ضربات المقاومة التحريرية.
الجمهوريَّة الإسلامية: حرب علمية وسياسية:
ولا تزال مسألة الملف النووي الإيراني السلمي تثير الجدل الذي ربما تحوّل إلى حالة إرباك للأوروبيين، الذين يصرُّون ـ تحت الضغط الأمريكي ـ على إقرار العقوبات في مجلس الأمن، بالرغم من تقارير وكالة الطاقة النووية من جهة، وأجهزة الاستخبارات الأمريكية من جهة أخرى، والتي تجزم بعدم وجود برنامج نووي عسكري في إيران.
وفي السّياق عينه، فإنَّ الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي تجاوزت العام التاسع والعشرين على قيامها بفعل الثورة الإسلامية التحريرية التي قادها الإمام الخميني، استطاعت أن تأخذ بأسباب القوة بالرّغم من الحرب المفروضة عليها عسكرياً، كما في الماضي، واقتصادياً وعملياً وسياسياً، كما في الحاضر، ونرجو أن تستكمل عملية صنع القوة، وذلك من خلال ثورة التصنيع التي تستطيع من خلالها الدفاع عن نفسها ومواجهة التحدي ضدها، ونأمل لهذه الجمهورية أن تتابع الخطَّ الإسلامي الحضاري الأصيل الذي يرفض التخلّف، ويحرك الأجيال الجديدة للانفتاح الحالي والمستقبلي على القاعدة الإسلامية الفكرية الثقافية في كل مواقع المجتمع، ولا سيما في الجامعات، لتمهّد السبيل لحركة إسلامية كبيرة منفتحة على العالم كله.
ويبقى العالم الإسلامي يعاني الضغوط الدامية التي يواجه فيها المجازر الوحشية من خلال الاحتلال والخطوط التكفيرية، كما في العراق وأفغانستان وباكستان والصومال وبعض بلدان أفريقيا، وذلك من خلال الصراعات المتحركة في سياسات الدول الكبرى في تحريك قواها العسكرية التي فقدت الكثير من قدرتها في مواجهة مقاومة الشعوب، حتى إن بعض دول الحلف الأطلسي بدأت تنسحب من أفغانستان نتيجة الخسائر في جنودها، بحيث إن أمريكا بدأت تصرخ من خلال عجزها، طالبةً من دول أوروبا وغيرها أن تشارك في هذه القوات.
إننا في الوقت الذي نتحفّظ على بعض الخطوط الثقافية العقيدية لدى بعض القوى الإسلامية، نلاحظ أنها تواجه الاحتلال بكلِّ قوة، لتعطيه درساً عنيفاً بأن الاحتلال لن يحل مشكلته، وأن الحرب ضد ما يسميه الإرهاب لن يصل به إلى نتيجة، لأن الشعوب لا تسقط أمام نقاط الضعف، بل تعمل على تجميع عناصر القوة.
لبنان: تعطيل المبادرات وتحريك الفتن السياسية:
أما لبنان، فلا تزال الإدارة الأمريكية وحلفاؤها في الداخل، تعمل لإثارة الدوامة التي تنقل الأزمة اللبنانية من موقع قلق إلى موقع أكثر قلقاً، ومن تعقيد إلى تعقيد أكبر، لأنها ترفض أية مشاركة حقيقية قد توحي باستقرار الوضع لحساب استمرار المقاومة في حركتها ضد العدوّ، انطلاقاً من الاستراتيجية الأمريكية في حماية الأمن الإسرائيلي في الحاضر والمستقبل، ورفض أية قوة رادعة للعدوان، والسعي لإسقاط كلِّ عناصر الممانعة التي تمثل حصن الأمة وقاعدتها الأصيلة في مواجهة العدو.
ولذلك عملت أمريكا على إنهاء حركة المبادرة العربية، عندما أدخلتها في التعقيدات المحلية المتداخلة مع الخلافات العربية، لتدفع بالواقع اللبناني إلى اتهام فريقٍ لفريق، وإلى إثارة التشنج الكلامي الذي يثير المشاعر، ويحاول أن يؤسس لمناخات الفتنة السياسية والحزبية والمذهبية والطائفية التي تثير التعقيدات بين هذه الفئة أو تلك، أو في داخل هذه الطائفة أو تلك الطائفة، وصولاً إلى استقواء زعامة على زعامة، إلى جانب المواعظ التقليدية التي تنطلق في أسلوب ديني يختزن في داخله بعض الحساسيات السياسية.
إنَّ الشَّعب اللُّبناني يخشى من استعادة الأوضاع السلبيَّة التي يتحرك فيها التفجير الأمني والسياسي، ويدخل فيها الأفرقاء الإقليميون والدوليون، حيث لم يعد اللبنانيون يمثلون فريقاً وطنياً واحداً، وشعباً قوياً متماسكاً، وهذا ما يواجهونه من خلال حركة المبادرات الخارجية التي تتدخل في الصغير والكبير من شؤونهم، وتضم هذا الفريق إلى هذه الدولة، وذاك الفريق إلى تلك الدولة. أمّا المساعدات، فهي للزعامات التي يراد لها أن توزِّعها على أوضاعها الخاصة للحصول على مصالحها السياسية... ويبقى الشعب جائعاً محروماً، لا يملك أن يحصل على مقومات العيش الكريم، ولكنه ـ بحسب الخطة المرسومة ـ يأكل من الهتافات والشعارات، ويصفق لمن يتحرك به نحو خطوط الاستعباد أكثر مما ينطلق به إلى خطوط الحرية والسيادة والاستقلال.
عماد مغنية: عطاء وشهادة وفجر انتصار:
وأخيراً، إننا نلتقي باستشهاد القائد الإسلامي والمقاوم الكبير الحاج عماد مغنية، الذي عاش حياته مقاتلاً ومجاهداً رسالياً، فكانت حياةً مليئةً بالعطاء في سبيل الله، وفي مواجهة الصهيونية التي شرَّدت شعباً بكامله، ودمَّرت كل أوضاعه، واستباحت أرضه، وقتلت إنسانه، وزرعت الإرهاب في طول المنطقة العربية والإسلامية.
لقد مضى هذا الاسم الذي شكّل هاجساً للعدو، ولغزاً للاستكبار العالمي... مضى إلى ربه شهيداً، بعدما صاغ حركة إبداع فريدة في المسيرة الجهادية التي هزمت إسرائيل، وفتحت عيون العرب والمسلمين على فجر جديد للانتصار، أطلّ على مرحلة جديدة، بدأت تشعر الشعوب العربية والإسلامية معه بأنّ العدو لم يعد ذلك البعبع الذي يخيف المنطقة ويروّع العالم.
إننا أمام هذه الجريمة الجبانة، نرى أنّ مسيرة المقاومة قادرة على الاستمرار بالزخم عينه، وبالقوة نفسها التي تتصدَّى لكلِّ أشكال الاحتلال والإرهاب، ونقول للإدارة الأميركية، إنَّ العالم بدونها سيكون هو العالم الأفضل، لأنه العالم الذي تتحرك به الشعوب في خطوط الحرية والعدل، لا العالم الذي ينتج الوحشية والإرهاب والقتل والدمار كما تفعل أمريكا وإسرائيل.
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:
الحسن(ع): الشخصَّية الإماميَّة: يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز:{إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}(الأحزاب:33).
في السَّابع من شهر صفر الذي صادف يوم أمس، كانت ذكرى وفاة الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب(ع)، وابن فاطمة الزهراء(ع)، والّذي دسَّت له زوجته السّم، بإغراء وتشجيع من معاوية الذي وعدها بأن يزوّجها من ابنه ثم أخلف وعده. وكانت زوجته من عائلة الأشعث، وهي عائلة معقّدة حاقدة على أهل البيت(ع)، ولا نعرف ما هي الظروف التي جعلت الإمام الحسن(ع) يتزوَّج من هذه العائلة!
وفي هذه المناسبة، لا بدَّ لنا من أن نتعرف هذه الشّخصيّة الإماميّة المميّزة، من خلال حركتها في كلّ تاريخها الإسلامي، والتي عاشت أكثر من مأساة وأكثر من مشكلة، فكانت في القمة الروحية والأخلاقية الإسلامية، وكان(ع) رحب الصّدر حتّى مع أعدائه، على الرّغم مما أحاط به من الأوضاع القلقة.
وكان، كما يتحدّث عنه المؤرّخون، أشبه الناس برسول الله (ص) خَلقاً وخُلقاً، وكانوا إذا اشتاقوا إلى رسول الله(ص) نظروا إليه.
وكان رسولُ الله(ص) قد احتضنه مع أخيه الحسين(ع) في طفولتهما الأولى، ومنحهما الوسام الذي لم يعطه أحداً، لا من ناحية عاطفية، لأنه {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}(النَّجم:3-4)، ولكن من خلال ما يتطلّع إليه في مستقبلهما في خدمة رسالته وخدمة الأمة الإسلامية، حيث كان يقول: «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة»، «من أحبهما فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني».
ونحن في هذا الموقف، نستنطق شهادة الإمام زين العابدين(ع) بعمِّه الحسن(ع) فيما روي عنه:
«كان عمّي الحسن أعبد النَّاس في زمانه، وأزهدهم وأفضلهم، وكان إذا حجَّ حج ماشياً، وربما مشى حافياً ـ تواضعاً لله، متحمّلاً المشقة والتعب والجهد في الرحلة إلى بيته الحرام ـ وكان إذا ذكر الموت بكى، وإذا ذكر القبر بكى، وإذا ذكر البعث والنشور بكى، وإذا ذكر الممرّ على الصراط بكى، وإذا ذكر العرض على الله تعالى شهق شهقةً يُغشى عليه منها، وكان إذا قام في صلاته ترتعد فرائصه بين يدي ربِّه عزَّ وجلَّ، وكان إذا ذكر الجنة والنار اضطرب اضطراب السّليم ـ المريض ـ وسأل الله الجنة، وتعوّذ من النار، وكان لا يقرأ من كتاب الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا} إلا قال: لبيك اللهم لبيك ـ حيث يعتبر أن الله يخاطبه ويدعوه يناديه ويوجهه ـ ولم ير في شيء من أحواله إلا ذاكراً لله سبحانه».
والإمام زين العابدين(ع)، أراد من خلال هذا الحديث، أن ينبه إلى أحقيّة الموت، والقبر، والمرور على الصراط، والبعث، والنشور، والعرض على الله، لأنّها تمثّل مراحل المصير إلى الله سبحانه وتعالى، ليستعدّ الإنسان للموت، فلا يموت إلا وهو في طاعة الله، كما قال سبحانه: {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(آل عمران/102)، وكما جاء في سورة يوسف(ع):{تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}(يوسف/101).
الإمام الحسن(ع): حامل لواء علي(ع):
ونقرأ أيضاً، أنّ علياً(ع) كان يعتمده في المشاكل الصعبة، فقد أرسله إلى الكوفة، عندما بويع الإمام علي(ع) بالخلافة، وبعد أن تمرد والي الكوفة عليه، وأثار الفوضى بين المسلمين. وعندما وصل الإمام الحسن(ع) إلى الكوفة، خاطب الناس قائلاً: «أيُّها الناس، إنّا جئنا ندعوكم إلى الله وكتابه وسنَّة رسوله، وإلى أفقه من تفقَّه من المسلمين ـ فعليٌّ(ع) هو الأفقه بين المسلمين ـ وأعدل من تعدّلون، وأفضل من تفضّلون، وأوفى من تبايعون ـ في وفائه بالعهد ـ من لم يعيه القرآن، ولم تجهّله السنة ـ فقد ملأ القرآن عقله وقلبه وكلَّ مشاعره وكلَّ حياته، وسار على سنَّة رسول الله (ص) ـ ولم تعقد به السَّابقة ـ كان الأسبق ـ إلى من قرّبه الله تعالى ورسوله قرابتين؛ قرابة الدين، ـ فهو أوَّل من أسلم ـ وقرابة الرّحم ـ فهو ابن عم رسول الله(ص) ـ إلى من سبق الناس إلى كل مأثرة ـ كل فضيلة ـ وإلى من كفى الله به رسوله والناس متخاذلون، فقرب منه ـ من النبي(ص) ـ وهم متباعدون، وصلّى معه وهم مشركون ـ وقد قال علي(ع) في مناجاته لربِّه: لم يسبقني بالصلاة إلا رسول الله ـ وقاتل معه وهم منهزمون، وبارز معه ـ الأعداء والأبطال ـ وهم محجمون، وصدّقه وهم يكذّبون، إلى من لم تردّ له ولا تكافأ له سابقة»، فهو الأعلى في كل سابقة لكل فضيلة.
وكان الإمام الحسن(ع) يقول: «إذا أردت عزاً بلا عشيرة، وهيبة بلا سلطان، فاخرج من ذلِّ معصية الله إلى عزّ طاعته».
الإمام الحسن(ع) والخلافة:
وقد بُويع بالخلافة بعد شهادة أبيه علي(ع) في أوضاع معقّدة، دخل فيها الكثير من المنافقين من رؤساء العشائر الذين اشتراهم معاوية بالمال، وسارع إلى قتال معاوية الذي دعا بالخلافة لنفسه، ولكنّ الذين ساروا معه في الجيش كانوا يتحركون وفق تعليمات معاوية، حتى إنَّ بعض أبناء عمّه، وهو عبيد الله بن عباس، أرسل إليه معاوية مالاً كثيراً، فترك القيادة وانسحب، حتى حاول المنافقون في جيشه اغتياله وطعنوه في فخذه.
ولذلك، رأى(ع) أن مسألة الحرب لن تكون حرباً متكافئة، لأنَّ الناس كانوا متعبين من الحروب، ولأنّ معاوية كان قد اشترى أكثر الناس بالأموال، ولأنّه أيضاً رأى أنّ هناك فرصةً لأن يسود السلام في الواقع الإسلامي، على طريقة أبيه(ع): «لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين»، فكانت الهدنة التي سميت صلحاً مع معاوية، والذي لم يلتزم بأيِّ شرط من شروطها.
وهكذا ـ أيُّها الأحبة ـ رجع الإمام الحسن(ع) إلى المدينة من أجل أن يُرشد الناس إلى الله سبحانه وتعالى، ومن أجل أن يتولّى القيادة الروحية والفكرية والإسلامية في كلِّ المجالات، وكانت له هيبة وحكمة.
الحسن(ع): الناصح الحكيم:
وعن سمو أخلاقه وحكمته، تحدّثنا كتب السيرة، أنّه كان ذات يوم سائراً مع أهل بيته في المدينة، وجاء شخص شامي، ممن عبّأهم معاوية في بغض علي(ع) وأهل بيته، فسأل الشامي: من هذا؟ فقيل له: هذا الحسن بن علي بن أبي طالب، فبدأ يسبّ علياً ويشتمه، ويسبّ الحسن ويشتمه، ولكن الإمام الحسن(ع) قال له: «السلام عليك ـ وتبسّم في وجهه، وقال له: أيُّها الشيخ أظنك غريباً، ولعلّ لك حاجة، فلو استعنت بنا لأعنّاك، ولو سألتنا لأعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا حمّلناك». فلمّا سمع الشّامي كلام الإمام(ع)، تفاجأ بردة فعله وأخلاقه، فقال: فولّيت عنه وما على الأرض أحدٌ أحبّ إليّ منه.
وينقل أيضاً في سيرته، أنّه كان له جار يهودي، وكان حاقداً عليه، فكان يطلب من خادمه أن يرمي الأوساخ أمام منـزل الإمام الحسن(ع)، يريد بذلك افتعال مشكلة معه، ولكن الإمام كان لا يحرّك ساكناً، إلى أن تعب اليهودي فامتنع عن ذلك، فأرسل إليه الإمام الحسن(ع) أنّك كنت ترسل إلينا هديةً، فلماذا امتنعت عن ذلك؟ فخجل هذا اليهودي.
ومما يروى عنه، أنّه كان يوماً جالساً ـ وقد كان معروفاً أنّه من أشدّ الناس هيبةً، وقيل إنّ رسول الله(ص) قال لابنته فاطمة الزهراء(ع)، إنّه أورث ابنها هيبته وسؤدده ـ كان جالساً أمام منـزله، فانقطعت المارّة، فقيل له ذلك، فأحبَّ أن لا يزعج الناس، فدخل إلى بيته.
الإمام الحسن(ع) في مواعظه:
ونقرأ في مواعظه: «يا بن آدم، عفّ عن محارم الله تكن عابداً، وارض بما قسم الله تكن غنياً، وأحسن جوار من جاورك تكن مسلماً ـ لأن رسول الله (ص) أوصى بالجار كثيراً ـ وصاحب الناس بمثل ما تحب أن يصاحبوك به تكن عادلاً»، ثم قال: «إنَّه كان بين أيديكم أقوامٌ يجمعون كثيراً ـ المال الكثير ـ ويبنون مشيداً ـ البناء الواسع ـ ويأملون بعيداً ـ بالحياة الطويلة ـ أصبح جمعهم بوراً ـ هالكاً ـ وعملهم غروراً، ومساكنهم قبوراً. يا بن آدم، لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك ـ فأكبر ما يكون الإنسان يوم ولادته، وكلُّ يوم يمضي ينقص فيه عمره ـ فخذ مما في يديك ـ من المال ـ لما بين يديك ـ لما تقدم إليه ـ فإن المؤمن يتزوّد، والكافر يتمتّع».
وهكذا، استشهد الإمام الحسن(ع) بالسمّ الذي دسَّته له زوجته جعدة بنت الأشعث، بإغراء من معاوية، وحضرته الوفاة، فأوصى أخاه الحسين(ع): «أوصيك يا حسين بمن خلّفت من أهلي وولدي وأهل بيتك ـ أنت الخليفة عليهم والوصي عليهم ـ أن تصفح عن مُسيئهم، وتقبل من مُحسنهم، وتكون لهم خلفاً ووالداً، وأن تدفنّي مع رسول الله، فإني أحقُّ به وببيته، فإن أبوا عليك ـ لم يدعوك تفعل ذلك ـ فأنشدك الله بالقرابة التي قرّب الله منك، والرحم الماسّة من رسول الله، أن لا تهرق في أمري ملء محجمة من دم، حتى نلقى رسول الله فنختصم إليه». ولكن ما حصل، إنّ مروان اعترض، وجاؤوا بزوجة رسول الله(ص)، وقالت: "لا تدفنوا في بيتي من لا أحب"، وعارض بنو هاشم ذلك، ولكن الإمام الحسين(ع) نفّذ وصية أخيه(ع)، ورفض إراقة الدم في ذلك، ودفن الإمام الحسن(ع) في البقيع.
فالسّلام عليه يوم ولد، ويوم استشهد، ويوم يبعث حياً.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
استمرار الحملة الوحشيّة على غزّة:
بدأت إسرائيل حملةً وحشيةً هستيريةً ضد قطاع غزة، وذلك بتدمير بعض مناطقها، وتحذير سكانها من البقاء في بيوتهم، وهي تعتمد في ذلك على دعم أمريكا وبعض الحلفاء الأوروبيين، وربما بعض العرب، لاتخاذ كل الإجراءات الكفيلة بتغيير الوضع في غزة، لأنَّ المطلوب إسرائيلياً وأمريكياً هو إسقاط الحالة الإسلامية التي تُمثّلها "حماس" وبقية فصائل الانتفاضة. وقد أعلن وزير حرب العدو، أنه أمر جيش الاحتلال بالاستعداد لشنّ عدوان واسع على غزة، مهدداً بتصفية قادة "حماس" من دون تمييز ونلاحظ أنَّ هذه الاستعدادات الصهيونية تشير إلى أنَّ العدو فشل في إيجاد حلولٍ لصواريخ المقاومة التي فعلت فعلها في رسم معالم توازن أمني جديد مع العدوّ، وأثّرت تأثيراً كبيراً في مستوطني العدو في أكثر من مستوطنة، كما أن ممارسات العدوّ الإرهابية في الاجتياح والاغتيال، لم تستطع أن تحقق له الأمن أمام تصميم المجاهدين على المقاومة في مواجهة عدوانه.
وقد استغلّت إسرائيل التعقيدات الداخلية الفلسطينية بين فتح وحماس، إذ مكّنتها من أن تجد نفسها حرّةً في الضَّغط على غزة وعلى الشَّعب الفلسطيني بأجمعه، ولذلك فإنها لا تزال تضغط وتقتل وتحاصر وتعتقل الناس في الضفَّة الغربية، من دون أن تجد في واقع السُّلطة موقفاً قوياً يهدِّد العلاقات معها ويربك الأوضاع الدولية، بما فيها الإدارة الأمريكية، بما يؤدي إلى تخريب الخطط المرسومة لخداع الشعب الفلسطيني التي يتحرك بها "بلير"، إضافةً إلى المشرفين على خارطة الطريق... هذا إضافةً إلى صمت الجامعة العربية المستهجَن على كل هذا العدوان المتحرك والتدمير المرسوم.
العالم العربي: مات سياسياً:
لقد قرَّرت إسرائيل أنَّ العالم العربي مات سياسياً، ولذلك فإنها تمارس حريتها في إبقاء الاحتلال، وفي تحويل فلسطين إلى سجن واسع لشعبها، من دون أن يحرك العرب ساكناً، حتى إن مسألة الحصار الخانقة أُردفت بتهديد عربي للفلسطينيين بكسر أيديهم وأرجلهم إذا تجرأوا على تجاوز الحدود من أجل تخفيف جوعهم ومعالجة أمراضهم وإنارة بلادهم.
وفي جانب آخر، لا يزال الرئيس الأمريكي يحاول أن يفسد العلاقات العربية ـ الإيرانية، ساعياً لإقناع العرب بأنَّ إيران هي العدوّ الذي يمثل الخطر على أمنهم ومصالحهم، وذلك من أجل أن يتحركوا لتأييد السياسة الأمريكية، في الوقت الذي تتوسل أمريكا إيران للدخول في مفاوضات معها حول الأمن في العراق، تخفيفاً عن جنودها من ضربات المقاومة التحريرية.
الجمهوريَّة الإسلامية: حرب علمية وسياسية:
ولا تزال مسألة الملف النووي الإيراني السلمي تثير الجدل الذي ربما تحوّل إلى حالة إرباك للأوروبيين، الذين يصرُّون ـ تحت الضغط الأمريكي ـ على إقرار العقوبات في مجلس الأمن، بالرغم من تقارير وكالة الطاقة النووية من جهة، وأجهزة الاستخبارات الأمريكية من جهة أخرى، والتي تجزم بعدم وجود برنامج نووي عسكري في إيران.
وفي السّياق عينه، فإنَّ الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي تجاوزت العام التاسع والعشرين على قيامها بفعل الثورة الإسلامية التحريرية التي قادها الإمام الخميني، استطاعت أن تأخذ بأسباب القوة بالرّغم من الحرب المفروضة عليها عسكرياً، كما في الماضي، واقتصادياً وعملياً وسياسياً، كما في الحاضر، ونرجو أن تستكمل عملية صنع القوة، وذلك من خلال ثورة التصنيع التي تستطيع من خلالها الدفاع عن نفسها ومواجهة التحدي ضدها، ونأمل لهذه الجمهورية أن تتابع الخطَّ الإسلامي الحضاري الأصيل الذي يرفض التخلّف، ويحرك الأجيال الجديدة للانفتاح الحالي والمستقبلي على القاعدة الإسلامية الفكرية الثقافية في كل مواقع المجتمع، ولا سيما في الجامعات، لتمهّد السبيل لحركة إسلامية كبيرة منفتحة على العالم كله.
ويبقى العالم الإسلامي يعاني الضغوط الدامية التي يواجه فيها المجازر الوحشية من خلال الاحتلال والخطوط التكفيرية، كما في العراق وأفغانستان وباكستان والصومال وبعض بلدان أفريقيا، وذلك من خلال الصراعات المتحركة في سياسات الدول الكبرى في تحريك قواها العسكرية التي فقدت الكثير من قدرتها في مواجهة مقاومة الشعوب، حتى إن بعض دول الحلف الأطلسي بدأت تنسحب من أفغانستان نتيجة الخسائر في جنودها، بحيث إن أمريكا بدأت تصرخ من خلال عجزها، طالبةً من دول أوروبا وغيرها أن تشارك في هذه القوات.
إننا في الوقت الذي نتحفّظ على بعض الخطوط الثقافية العقيدية لدى بعض القوى الإسلامية، نلاحظ أنها تواجه الاحتلال بكلِّ قوة، لتعطيه درساً عنيفاً بأن الاحتلال لن يحل مشكلته، وأن الحرب ضد ما يسميه الإرهاب لن يصل به إلى نتيجة، لأن الشعوب لا تسقط أمام نقاط الضعف، بل تعمل على تجميع عناصر القوة.
لبنان: تعطيل المبادرات وتحريك الفتن السياسية:
أما لبنان، فلا تزال الإدارة الأمريكية وحلفاؤها في الداخل، تعمل لإثارة الدوامة التي تنقل الأزمة اللبنانية من موقع قلق إلى موقع أكثر قلقاً، ومن تعقيد إلى تعقيد أكبر، لأنها ترفض أية مشاركة حقيقية قد توحي باستقرار الوضع لحساب استمرار المقاومة في حركتها ضد العدوّ، انطلاقاً من الاستراتيجية الأمريكية في حماية الأمن الإسرائيلي في الحاضر والمستقبل، ورفض أية قوة رادعة للعدوان، والسعي لإسقاط كلِّ عناصر الممانعة التي تمثل حصن الأمة وقاعدتها الأصيلة في مواجهة العدو.
ولذلك عملت أمريكا على إنهاء حركة المبادرة العربية، عندما أدخلتها في التعقيدات المحلية المتداخلة مع الخلافات العربية، لتدفع بالواقع اللبناني إلى اتهام فريقٍ لفريق، وإلى إثارة التشنج الكلامي الذي يثير المشاعر، ويحاول أن يؤسس لمناخات الفتنة السياسية والحزبية والمذهبية والطائفية التي تثير التعقيدات بين هذه الفئة أو تلك، أو في داخل هذه الطائفة أو تلك الطائفة، وصولاً إلى استقواء زعامة على زعامة، إلى جانب المواعظ التقليدية التي تنطلق في أسلوب ديني يختزن في داخله بعض الحساسيات السياسية.
إنَّ الشَّعب اللُّبناني يخشى من استعادة الأوضاع السلبيَّة التي يتحرك فيها التفجير الأمني والسياسي، ويدخل فيها الأفرقاء الإقليميون والدوليون، حيث لم يعد اللبنانيون يمثلون فريقاً وطنياً واحداً، وشعباً قوياً متماسكاً، وهذا ما يواجهونه من خلال حركة المبادرات الخارجية التي تتدخل في الصغير والكبير من شؤونهم، وتضم هذا الفريق إلى هذه الدولة، وذاك الفريق إلى تلك الدولة. أمّا المساعدات، فهي للزعامات التي يراد لها أن توزِّعها على أوضاعها الخاصة للحصول على مصالحها السياسية... ويبقى الشعب جائعاً محروماً، لا يملك أن يحصل على مقومات العيش الكريم، ولكنه ـ بحسب الخطة المرسومة ـ يأكل من الهتافات والشعارات، ويصفق لمن يتحرك به نحو خطوط الاستعباد أكثر مما ينطلق به إلى خطوط الحرية والسيادة والاستقلال.
عماد مغنية: عطاء وشهادة وفجر انتصار:
وأخيراً، إننا نلتقي باستشهاد القائد الإسلامي والمقاوم الكبير الحاج عماد مغنية، الذي عاش حياته مقاتلاً ومجاهداً رسالياً، فكانت حياةً مليئةً بالعطاء في سبيل الله، وفي مواجهة الصهيونية التي شرَّدت شعباً بكامله، ودمَّرت كل أوضاعه، واستباحت أرضه، وقتلت إنسانه، وزرعت الإرهاب في طول المنطقة العربية والإسلامية.
لقد مضى هذا الاسم الذي شكّل هاجساً للعدو، ولغزاً للاستكبار العالمي... مضى إلى ربه شهيداً، بعدما صاغ حركة إبداع فريدة في المسيرة الجهادية التي هزمت إسرائيل، وفتحت عيون العرب والمسلمين على فجر جديد للانتصار، أطلّ على مرحلة جديدة، بدأت تشعر الشعوب العربية والإسلامية معه بأنّ العدو لم يعد ذلك البعبع الذي يخيف المنطقة ويروّع العالم.
إننا أمام هذه الجريمة الجبانة، نرى أنّ مسيرة المقاومة قادرة على الاستمرار بالزخم عينه، وبالقوة نفسها التي تتصدَّى لكلِّ أشكال الاحتلال والإرهاب، ونقول للإدارة الأميركية، إنَّ العالم بدونها سيكون هو العالم الأفضل، لأنه العالم الذي تتحرك به الشعوب في خطوط الحرية والعدل، لا العالم الذي ينتج الوحشية والإرهاب والقتل والدمار كما تفعل أمريكا وإسرائيل.