في ذكرى أربعين الإمام الحسين(ع):سيبقى صوته الهادر يصنع إرادة التحدي ضدّ كل الظالمين...

في ذكرى أربعين الإمام الحسين(ع):سيبقى صوته الهادر يصنع إرادة التحدي ضدّ كل الظالمين...
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء فيهما: 

في ذكرى أربعين الإمام الحسين(ع):
سيبقى صوته الهادر يصنع إرادة التحدي ضدّ كل الظالمين...

الحسين(ع) وارث الرسل:
قالها رسول الله(ص) في الحسن والحسين(ع): «من أحبّهما فقد أحبنّي(ع)، ومن أبغضهما فقد أبغضني».
وقال(ص) أيضاً:«حسين منّي وأنا من حُسين».
ونبقى في مدى الزمن، مهما امتدّت السنون، نتطلَّع إلى الحسين(ع)، ويبقى الحسين(ع) في عقولنا إماماً مفترض الطاعة، يحمل الرسالة ويبلّغها للناس ويتحمّل مسؤوليتها بكلِّ قوةٍ وإخلاص، لأنّ الحسين(ع) عاش طفولته الأولى في أحضان رسول الله(ص)، وكانت كلماته(ص) من كلماته، وعاش طفولته الثانية مع أمه فاطمة الزهراء(ع)، السيدة الطاهرة المعصومة، الّتي قال عنها رسول الله(ص) إنّها: «أمّ أبيها»، والتي عاشت معه(ص) بكلّ كيانها، وعاشت مع علي(ع) بكلِّ إخلاصها ومحبَّتها له.

وتحرّك شبابه مع أخيه الحسن(ع) في خطِّ علي(ع)، فكانا رفيقين له، يتحركان حيث تحرّك، وينطلقان حيث انطلق، وكانا يتعلَّمان منه كيف يصبر صبر الأحرار على التحديات التي تُوجّه إليه حفاظاً على الإسلام والمسلمين، وكانا يعيشان كلَّ فكره، وكلَّ حكمته، وكلَّ إبداعاته وعلمه، كما كانا يتطلَّعان إلى أفقه، وكان علي(ع) يرى فيهما الإمامين اللَّذين يرجع الناس إليهما.

لذا، فالحسين(ع) بالنسبة إلينا ليس مجرَّد شخصٍ ثائر ثار على الظلم، ولكنّه إمام في مستوى الرسالة، ونحن إذا ذكرنا الحسين(ع) ذكرنا الرسالة، وعشنا الرسالة، وتحمَّلنا مسؤولية التضحية من أجل الرسالة، وصبرنا على الأذى في حركة الرسالة؛ لأنّ الحسين(ع) كان رسالةً كلّه، فهو الإمام الذي ورث رسالات الأنبياء كلّها، وهذا ما نقرأه في زيارتنا له عندما نتوجّه إليه: «السّلام عليك يا وارث آدم صفوة الله، السّلام عليك يا وارث نوح نبي الله، السّلام عليك يا وارث إبراهيم خليل الله، السّلام عليك يا وارث موسى كليم الله، السّلام عليك يا وارث عيسى روح الله، السّلام عليك يا وارث محمد حبيب الله... أشهد أنّك كنت نوراً في الأصلاب الشامخة، والأرحام المطهَّرة، لم تنجِّسك الجاهلية بأنجاسها... وأشهد أنّك الإمام البر التقي الرضي الزّكيّ... أشهد أنّك قد أقمت الصلاة، وآتيت الزكاة، وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، وعبدت الله مخلصاً حتى أتاك اليقين».

ليس هناك موعد محدّد لنا مع الحسين(ع)، فكلّ الزمن موعدنا معه، نذكره في كل ساعة وفي كل يوم، نحبّه، نعشقه، نذوب فيه، وحتى عندما تتفجَّر دموعنا حزناً على مأساته، فإنّها تكون دموع الحبِّ والإخلاص، دموع القضية بكل ما تتضمنه من قيم، وليس دموع العاطفة فقط.

الوفاء للرسالة:
لقد انطلق الإمام الحسين(ع)، ليؤكِّد أنّه يتحرّك من خلال الوفاء لرسالة جدّه وتحمّل مسؤوليتها من أجل الأمة، لقد تعلَّم من أبيه أمير المؤمنين(ع) أن يتحمّل مسؤولية الأمة، وأن يعيش المسؤولية في سلامة الأمة، وأن يصبر في تحمّل هذه المسؤولية، كما تحمَّلها أبوه عندما أبعد عن حقه الذي فرضه الله له على لسان رسوله، عندما قال(ص): «من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه، اللهمَّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحقّ معه حيثما دار».

وتعلّم(ع) أيضاً من أبيه كيف نصر الإسلام عندما خذله بعض المسلمين، وكان(ع) يقول: «لأسلمنَّ ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن فيها جورٌ إلاّ عليَّ خاصة»، كما تعلّم منه أيضاً أن يتحمّل مسؤولية الأمة الإسلامية كلّها، على الرغم من كلِّ الآلام التي كان يعيشها في نفسه، وعلى الرّغم من كلِّ الظروف الصعبة القاسية التي أحاطت به، لأن الهدف هو نصرة الحق، وهو ما عبَّر عنه عليّ(ع) حين قال: «فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله، أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم الّتي إنما هي متاع أيام قلائل، يزول منها ما كان، كما يزول السراب، أو كما يتقشَّع السحاب، فنهضت في تلك الأحداث، حتى زاح الباطل وزهق، واطمأن الدين وتنهنه».

وعلى هذا الخطِّ، كانت كلماتُ الحسين(ع) تنطلق لتغيير الواقع الفاسد: «أيّها الناس، إن رسول الله(ص) قال: من رأى سلطاناً جائراً، مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغير ما عليه بفعل ولا بقول، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله ـ لأنَّ الساكت عن الحق شيطان أخرس ـ وقد علمتم أنَّ هؤلاء القوم ـ بني أميّة ـقد لزموا طاعة الشيطان، وتولّوا عن طاعة الرّحمن، وأظهروا الفساد، وعطلَّوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلُّوا حرام الله، وحرَّموا حلاله، وإني أحق بهذا الأمر لقرابتي من رسول الله(ص)»

.لقد أراد(ع) للأمَّة أن تتحمَّل مسؤوليَّة تغيير الواقع الفاسد الذي يبتعد عن الخطِّ الإسلامي الأصيل، وقد تقدَّم الصفوف لمواجهة الحاكم الظالم، رافعاً صوته للتّغيير ولإصلاح الواقع الإسلامي، ولا يزال هذا الصوت يتردّد في مدى الزمن، ولا يزال يهيب بالأمة الإسلامية كلّها أن تحمل هذا الصوت الحسيني ليدوّي في كلِّ المدى، ولينتقل من جيل إلى جيل، ليكون المسلمون أمةً متحركةً متغيرةً مجاهدةً منفتحةً على الحق في قضايا الإسلام والمسلمين.

مسؤوليَّة الإصلاح:
ومن هذا المنطلق، جاء قول الحسين(ع): «إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ـ لم أخرج طلباً للسلطة أو الجاه ـ «ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدِّي رسول الله(ص)»، لإصلاح الواقع الإسلاميّ من هؤلاء الذين «اتخذوا مال الله دولاً وعباده خولاً»، الذين يعملون على استعباد الناس.

لقد قال(ع) إنّي خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، لم أخرج لأدعوهم إلى الصلاة أو الصيام أو الحج، فهم يقومون بكلّ ذلك، ولكن لأجعلهم أمة العدل التي تتبنى الحاكم العادل لا الجائر، والّتي تركّز السلطة على أساس الشرعية ولا تسير وراء اللاشرعية، وتنفتح على قضايا الحرية والعزّة والكرامة، لتكون كما أرادها الله {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ}(آل عمران/110).
أريد أن أدعو الناس إلى الإصلاح، تحدِّياً لكلِّ الذين يتحركّون في خط الإفساد، «أريد أن آمر بالمعروف»، حتى يأخذ الناس بقيم المعروف «وأنهى عن المنكر»، وأعظم المنكر أن يتولّى أمور المسلمين من لا يعيشون معنى الإسلام، ممن هم من فروع هذه الشجرة الملعونة التي ذكرها القرآن، والذين كان آباؤهم ممن وقفوا ضدّ رسول الله(ص)، وضدّ الإسلام كلّه.

ثم يقول(ع) للناس: «فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق ـ لأن الله هو الحق، وهو الذي أوحى بالحق، وأراد للناس أن يسيروا به ـ ومن ردّ عليّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين». لذلك خرج الحسين(ع) إماماً، وخرج يدعو الناس إلى السير معه، لا لأهداف شخصية بل على أساس حماية الأمّة.

الحسين(ع) أمام الحوار:
وعلى هذا الخطّ، ولأنه صاحب رسالة، كان الحسين(ع) إمام الحوار، كان يريد أن يحاور هؤلاء الذين جاؤوا لقتاله ممن كانت قلوبهم معه وسيوفهم عليه، كان يريد أن يهديهم وأن يعرِّفهم الحق، وكان يدعوهم من وقتٍ لآخر من أجل أن يحاورهم ليبينَّ لهم الحقيقة، ولكنّهم باعوا أنفسهم للشيطان، وقالوا له: ما ندري ما تقول يا بن فاطمة، ولكن انزل على حكم ابن عمك. كانوا يريدون له أن يعترف بشرعية يزيد وابن زياد، بشرعية هذا الحاكم الجائر الذي استولى على الأمّة. لذلك، عندما وصلت القضية إلى الخطِّ الأحمر، وهي قضية أن يُعطي الشرعية لمن لا شرعية له، وهو الذي ثار من أجل تأكيد الشرعية، قال لهم حينها الكلمة التي لا تزال تعيش في عقول كلِّ الأحرار في مدى الزمن: «لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقرّ إقرار العبيد»، «ألا وإنّ الدعي ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين؛ بين السّلّة والذلة، وهيهات منّا الذلة! يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت، وجدود طهرت، وأنوف حمية، ونفوس أبية، من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام».

وهكذا، أبى الحسين(ع) أن يعيش إلاّ عزيزاً، وانطلق(ع) ليؤكّد للجميع ولكلّ الأجيال، أنّه رفض اللاشرعية، ورفض الظلم والانحراف عن سنّة رسول الله(ص)، لتسير الأمّة بسيرته ولتحمل شعاراته، لتجعل في كلِّ مرحلة من المراحل عاشوراء جديدة من أجل الرسالة، وكربلاء جديدة من أجل الحرية.

ولذلك، أيُّها الأحبة، عندما تمرّ بنا ذكرى الحسين(ع)، فإنّ علينا أن نعرف كيف نحتفل بها، لأنّ الحسين(ع) انطلق من أجل رسالة جدّه، ومن أجل الإصلاح في أمّة جده، ونحن نعيش في الواقع الإسلامي كلّه الفساد والإفساد، ونعيش الحكم الجائر والظالم الفاقد للشرعية، ونعيش الحكام الذين نصّبهم المستكبرون في العالم من أجل أن يحرسوا مصالحهم. إنّ ما نعيشه الآن هو ما عاشه الإمام الحسين(ع) في الواقع الإسلامي، فما عمل على تغييره وإصلاحه، هو ممّا ينبغي أن نعمل على تغييره وإصلاحه.

لذلك، ينبغي أن يكون اهتمامنا نحن شيعة الحسين(ع)، وأنصاره المخلصين له، هو كيف نحمل رسالته في عملية الإصلاح، وأن لا نتحرك بما يتحرّك به البعض من خلال التقاليد المتخلّفة في ضرب الرؤوس بالسيوف، فما الذي يستفيده الإمام الحسين(ع) منا عندما نضرب رؤوسنا بالسيف؟!

إنّ الحسين يريد منا أن نضرب الصهيونية والاستكبار بالسيف، لا أن يرتدَّ السيف إلى رؤوسنا، بل إلى رؤوس الأعداء. إنَّ الحسين لا يريد منّا أن نجلد ظهورنا بالسِّياط، بل أن نجلد ظهور المستكبرين بها، ففي كل يوم يصنعون لنا تقليداً جديداً، بعضهم يمشي على خدّه، وبعضهم يقفل لحمه بالأقفال، وبعضهم يمشي على الأربع...! فهل هكذا يكون السير مع الحسين(ع)؟! لقد ثار الإمام الحسين(ع) من أجل إسقاط يزيد، فلنثُر من أجل إسقاط بوش وإسقاط كل الذين يسيرون معه ويخضعون له، فالقضيّة هي نفسها، وإن اختلف الزّمن والأشخاص.

لذلك علينا كأمّة إسلامية، وخصوصاً الّذين يقولون إنّهم يخلصون للإمام الحسين(ع)، أن نرتفع إلى مستوى القضية التي ضحَّى الإمام الحسين(ع) من أجلها، وأن نمنع الذين يقتلون الأطفال الآن في غزّة في فلسطين، وأن نرفض بأيدينا ونفوسنا وكل عقولنا الّذين قتلوا عبدالله الرضيع، والّذين يقتلون كل الطفولة البريئة.

إنّنا نريد أن نجعل من أمتنا أمة تنطلق في طريق الحق، وبهذا نخلص للإمام الحسين(ع)، ونرتفع إلى الأفق الذي ارتفع إليه الحسين(ع)، وإلاّ كنا كما قال(ع): «إنَّ الناس عبيد الدنيا، والدين لعقٌ على ألسنتهم، يحوطونه ما درّت معايشهم، فإذا محصِّوا بالبلاء قلّ الديّانون». والسلام على الحسين، وعلى علي بن الحسين، وعلى أصحاب الحسين. والحمد لله ربِّ العالمين.

الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، وواجهوا الموقف من خلال مسؤولياتكم الكبرى في مواجهة التحدّيات الاستكبارية في كلِّ قضايا الإسلام والمسلمين، فماذا هناك؟

فلسطين: سياسة التهويد والتهديد:
عندما نتطلَّع إلى العالم الإسلامي، فما هي الصورة التي تبرز أمامنا؟ إننا نرى عالماً إسلامياً تتجاذبه المحاور السياسية الدولية، وتتقاذفه التحديات الأمنية والسياسية.

ففي فلسطين، تتوالى المجازر التي ترتكبها "إسرائيل"، الّتي تواصل سياسة التهويد والتهديد، إلى جانب عمليات القتل التي لا يتورَّع فيها العدوّ عن قتل المدنيين حتى الأطفال، ثم ينطلق رئيس وزراء العدوّ ليتحدّى العالم، وليوجّه رسالة إلى دول الاتحاد الأوروبي التي كانت طالبته برفع الحصار عن غزَّة ووقف عمليات القتل، فيقول: "لن نعتذر لأحد عن قصفنا لغزة". أما المتحدث باسم الخارجية الأمريكية، فلم يجد أمامه إلا تكرار الكلمات الأمريكية السابقة، في أن لإسرائيل "حق الدفاع عن نفسها". وإلى جانب ذلك كله، لا تزال دعوات الحوار والمصالحة بين الفلسطينيين تصطدم بالحائط المسدود أمريكياً وإسرائيلياً، ونخشى أن نقول إنّه موصود عربياً وعند بعض الدوائر الفلسطينية أيضاً...

الإدارة الأمريكية: توسيع دائرة العنف:
أما في العراق، فتكرّ سبَّحة الموت التي أتقن التكفيريون لعبتها في استهدافهم المتواصل للمدنيين، وخصوصاً زوّار الإمام الحسين(ع) في ذكرى أربعينه، ليحاولوا من جديد إنتاج الفتنة المذهبية التي تمثِّل أمنيةً من أماني الاحتلال، وسلاحاً من ضمن الأسلحة التي يحاول استخدامها في تخطيطه الدائم للبقاء في العراق...

وفي أفغانستان التي أمعنت الإدارة الأمريكية فيها قتلاً، وحيث بدأت الدائرة تدور عليها، وبدأت تستعطف دول حلف شمال الأطلسي للبقاء فيها، لا تزال طاحونة العنف تطحن المزيد من الضحايا، ليستمرَّ الاهتزاز الأمني والسياسي الذي يطلّ على المشهد الباكستاني في صورة مماثلة، وصولاً إلى الصومال التي باتت ضحيةً من ضحايا هذا الاهتزاز، وإلى السودان الذي بات موقعاً من مواقع التجاذب في لعبة الأمم التي يراد لـ"دارفور" أن تكون محطتها الإفريقية الأبرز...

اللقاءات العربية: عناوين ضبابية وعجز عملي:
وعندما ننظر إلى العالم العربي والإسلامي الذي ارتفعت فيه نسبة البطالة إلى أعلى الأرقام، وتصاعدت فيه معدلات الفقر والأميّة لتبلغ أخطر المستويات، على الرغم مما فيه من طاقات كبرى وثروات دفينة، نتساءل: إلى أين يأخذ كل هؤلاء الحكّام هذه الأمة؟ وإلى أية محاور يقودونها؟ ولماذا يُراد لنا أن نبقى الأمة المتهالكة والمتقاعسة والمثقلة بكلِّ أنواع العنف والخرافة والجهل؟ وهل هذه هي الأمة التي سعى النبي محمد (ص) لتكون القائدة في الأمم، والتي قال الله تعالى عنها في كتابه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}(آل عمران/110)؟!
إننا أمام ذلك، وأمام كلِّ هذا الركام، علينا أن ننطلق كشعوب وكفئات طليعية واعية، لقيادة حركة التغيير في الأمة، وإعادتها إلى توازنها، وإلى ميادين القوة والعطاء، لتعود إلى دورها الريادي في السعي لحماية نفسها وقضاياها وحماية البشرية كلها.

وعندما نطلُّ ـ من جانب آخر ـ على حركة اللقاءات العربية الثنائية، فإننا نلاحظ أنها تتحرك بعناوين ضبابية لا تملك معها أية فاعلية على مستوى حلّ المشاكل العربية، كالمسألة الفلسطينية أو العراقية أو اللبنانية، لا بل إن هذه اللقاءات قد توحي بالحذر من جهة، وقد تمثل العجز العربي في صورته الأبرز وحركته في داخل المأزق.

وهناك مسألة لا بد من رصدها، وهي أنَّ بعض من يدير هذه اللقاءات الثنائية، يمثِّل فريقاً معيناً في حركة الأزمة اللبنانية، وهو يحاول تحميل فريق آخر المسؤولية حيال استمرار الأزمة، من دون دراسة الطروحات التي يقدمها هذا الفريق أو ذاك في مسألة الواقع اللبناني، لتبقى المسألة في نطاق الاتهامات، والتي قد نستوحي من خلالها وجود خلفيَّات دولية تريد تعقيد بعض الأوضاع في لبنان، وخصوصاً مسألة المقاومة في مواجهة إسرائيل، بعدما تبيّن للجميع أنَّ الخطاب العربي بالنسبة إلى إسرائيل هو مجرَّد خطاب استهلاكيّ لا يحمل في داخله أيّ نوع من أنواع الجديّة في النظرة إلى خطورة العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني، إضافةً إلى كفّهم عن القيام بأيِّ مسعى جديّ لتوحيد الموقف الفلسطيني في مواجهة السعي الإسرائيلي لتكريس الانقسام الفلسطيني ـ الفلسطيني وخلق واقع جديد مفاده أن الضفة شيء وغزّة شيء آخر.

لبنان: المبادرة العربيَّة ولو ميتةً:
ومن جهةٍ ثانية، فإن هذه الهمروجة الاحتفالية في المبادرة العربية، وأنها تمثل الحلَّ للقضية اللبنانية، ربما كانت مجرَّد عملية خداع للبنانيين، باعتبار أن المبادرة العربية ولدت ميتةًَ، لأنها لم تنطلق من خطوط واضحة لحلِّ الأزمة اللبنانية في عمق المشاكل التي تدور بين اللبنانيين منذ ما بعد حرب تموز، وخصوصاً في مسألة حكومة الوحدة الوطنية التي يتحدّث البعض أنها لا بد من أن تعكس المشاركة الحقيقية في بلد قام على أساس الديمقراطية التوافقية، لا الديمقراطية العددية، وهكذا في مسألة قانون الانتخاب وغير ذلك من العناوين، ما يدل على أن الخطاب العربي في المبادرة جاء من فوق ولم ينـزل إلى مستوى جذور الأزمة، وهو الأمر الذي جعل المبادرة تفشل وتعجز عن تحقيق أيِّ اختراقٍ في المسائل الأساسية، ليبقى الحديث عن توافق حول بعض المفردات حديثاً غائماً لا يمثل إلاّ المزيد من الاستهلاك السياسي في واقعٍ تعوّد فيه الناس على هذا النوع من الاستهلاك الذي لا تنتهي فصوله...

إنَّنا نتصوَّر أنَّ مشكلة الأزمة اللبنانية، هي أنّه ليست هناك قيادات لبنانية تتحمَّل مسؤولياتها في الحلّ، بل هناك قوى ومحاور دولية تحاول توجيه الأزمة على أساس ما تقتضيه مصالحها السياسية والاقتصادية والأمنية، ولذلك فإذا كان اللبنانيون ينتظرون مبادرةً دوليةً هنا أو عربيةً هناك، فعليهم أن ينتظروا إلى ما لانهاية، لأن المسألة في حركة الدوائر الخارجية، وخصوصاً الأمريكية منها، تتلخّص في أن يبقى لبنان معلَّقاً في كلِّ أوضاعه وتوتراته مع مزيج من حركة قيادات هنا وهناك، التي إنما تثير العصبيات السياسية والطائفية والمذهبية في خط المصالح الذاتية والشخصانية للزعامات، وبعيداً عما هي مصلحة الوطن ومستقبل أجياله.

ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء فيهما: 

في ذكرى أربعين الإمام الحسين(ع):
سيبقى صوته الهادر يصنع إرادة التحدي ضدّ كل الظالمين...

الحسين(ع) وارث الرسل:
قالها رسول الله(ص) في الحسن والحسين(ع): «من أحبّهما فقد أحبنّي(ع)، ومن أبغضهما فقد أبغضني».
وقال(ص) أيضاً:«حسين منّي وأنا من حُسين».
ونبقى في مدى الزمن، مهما امتدّت السنون، نتطلَّع إلى الحسين(ع)، ويبقى الحسين(ع) في عقولنا إماماً مفترض الطاعة، يحمل الرسالة ويبلّغها للناس ويتحمّل مسؤوليتها بكلِّ قوةٍ وإخلاص، لأنّ الحسين(ع) عاش طفولته الأولى في أحضان رسول الله(ص)، وكانت كلماته(ص) من كلماته، وعاش طفولته الثانية مع أمه فاطمة الزهراء(ع)، السيدة الطاهرة المعصومة، الّتي قال عنها رسول الله(ص) إنّها: «أمّ أبيها»، والتي عاشت معه(ص) بكلّ كيانها، وعاشت مع علي(ع) بكلِّ إخلاصها ومحبَّتها له.

وتحرّك شبابه مع أخيه الحسن(ع) في خطِّ علي(ع)، فكانا رفيقين له، يتحركان حيث تحرّك، وينطلقان حيث انطلق، وكانا يتعلَّمان منه كيف يصبر صبر الأحرار على التحديات التي تُوجّه إليه حفاظاً على الإسلام والمسلمين، وكانا يعيشان كلَّ فكره، وكلَّ حكمته، وكلَّ إبداعاته وعلمه، كما كانا يتطلَّعان إلى أفقه، وكان علي(ع) يرى فيهما الإمامين اللَّذين يرجع الناس إليهما.

لذا، فالحسين(ع) بالنسبة إلينا ليس مجرَّد شخصٍ ثائر ثار على الظلم، ولكنّه إمام في مستوى الرسالة، ونحن إذا ذكرنا الحسين(ع) ذكرنا الرسالة، وعشنا الرسالة، وتحمَّلنا مسؤولية التضحية من أجل الرسالة، وصبرنا على الأذى في حركة الرسالة؛ لأنّ الحسين(ع) كان رسالةً كلّه، فهو الإمام الذي ورث رسالات الأنبياء كلّها، وهذا ما نقرأه في زيارتنا له عندما نتوجّه إليه: «السّلام عليك يا وارث آدم صفوة الله، السّلام عليك يا وارث نوح نبي الله، السّلام عليك يا وارث إبراهيم خليل الله، السّلام عليك يا وارث موسى كليم الله، السّلام عليك يا وارث عيسى روح الله، السّلام عليك يا وارث محمد حبيب الله... أشهد أنّك كنت نوراً في الأصلاب الشامخة، والأرحام المطهَّرة، لم تنجِّسك الجاهلية بأنجاسها... وأشهد أنّك الإمام البر التقي الرضي الزّكيّ... أشهد أنّك قد أقمت الصلاة، وآتيت الزكاة، وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، وعبدت الله مخلصاً حتى أتاك اليقين».

ليس هناك موعد محدّد لنا مع الحسين(ع)، فكلّ الزمن موعدنا معه، نذكره في كل ساعة وفي كل يوم، نحبّه، نعشقه، نذوب فيه، وحتى عندما تتفجَّر دموعنا حزناً على مأساته، فإنّها تكون دموع الحبِّ والإخلاص، دموع القضية بكل ما تتضمنه من قيم، وليس دموع العاطفة فقط.

الوفاء للرسالة:
لقد انطلق الإمام الحسين(ع)، ليؤكِّد أنّه يتحرّك من خلال الوفاء لرسالة جدّه وتحمّل مسؤوليتها من أجل الأمة، لقد تعلَّم من أبيه أمير المؤمنين(ع) أن يتحمّل مسؤولية الأمة، وأن يعيش المسؤولية في سلامة الأمة، وأن يصبر في تحمّل هذه المسؤولية، كما تحمَّلها أبوه عندما أبعد عن حقه الذي فرضه الله له على لسان رسوله، عندما قال(ص): «من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه، اللهمَّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحقّ معه حيثما دار».

وتعلّم(ع) أيضاً من أبيه كيف نصر الإسلام عندما خذله بعض المسلمين، وكان(ع) يقول: «لأسلمنَّ ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن فيها جورٌ إلاّ عليَّ خاصة»، كما تعلّم منه أيضاً أن يتحمّل مسؤولية الأمة الإسلامية كلّها، على الرغم من كلِّ الآلام التي كان يعيشها في نفسه، وعلى الرّغم من كلِّ الظروف الصعبة القاسية التي أحاطت به، لأن الهدف هو نصرة الحق، وهو ما عبَّر عنه عليّ(ع) حين قال: «فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله، أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم الّتي إنما هي متاع أيام قلائل، يزول منها ما كان، كما يزول السراب، أو كما يتقشَّع السحاب، فنهضت في تلك الأحداث، حتى زاح الباطل وزهق، واطمأن الدين وتنهنه».

وعلى هذا الخطِّ، كانت كلماتُ الحسين(ع) تنطلق لتغيير الواقع الفاسد: «أيّها الناس، إن رسول الله(ص) قال: من رأى سلطاناً جائراً، مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغير ما عليه بفعل ولا بقول، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله ـ لأنَّ الساكت عن الحق شيطان أخرس ـ وقد علمتم أنَّ هؤلاء القوم ـ بني أميّة ـقد لزموا طاعة الشيطان، وتولّوا عن طاعة الرّحمن، وأظهروا الفساد، وعطلَّوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلُّوا حرام الله، وحرَّموا حلاله، وإني أحق بهذا الأمر لقرابتي من رسول الله(ص)»

.لقد أراد(ع) للأمَّة أن تتحمَّل مسؤوليَّة تغيير الواقع الفاسد الذي يبتعد عن الخطِّ الإسلامي الأصيل، وقد تقدَّم الصفوف لمواجهة الحاكم الظالم، رافعاً صوته للتّغيير ولإصلاح الواقع الإسلامي، ولا يزال هذا الصوت يتردّد في مدى الزمن، ولا يزال يهيب بالأمة الإسلامية كلّها أن تحمل هذا الصوت الحسيني ليدوّي في كلِّ المدى، ولينتقل من جيل إلى جيل، ليكون المسلمون أمةً متحركةً متغيرةً مجاهدةً منفتحةً على الحق في قضايا الإسلام والمسلمين.

مسؤوليَّة الإصلاح:
ومن هذا المنطلق، جاء قول الحسين(ع): «إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ـ لم أخرج طلباً للسلطة أو الجاه ـ «ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدِّي رسول الله(ص)»، لإصلاح الواقع الإسلاميّ من هؤلاء الذين «اتخذوا مال الله دولاً وعباده خولاً»، الذين يعملون على استعباد الناس.

لقد قال(ع) إنّي خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، لم أخرج لأدعوهم إلى الصلاة أو الصيام أو الحج، فهم يقومون بكلّ ذلك، ولكن لأجعلهم أمة العدل التي تتبنى الحاكم العادل لا الجائر، والّتي تركّز السلطة على أساس الشرعية ولا تسير وراء اللاشرعية، وتنفتح على قضايا الحرية والعزّة والكرامة، لتكون كما أرادها الله {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ}(آل عمران/110).
أريد أن أدعو الناس إلى الإصلاح، تحدِّياً لكلِّ الذين يتحركّون في خط الإفساد، «أريد أن آمر بالمعروف»، حتى يأخذ الناس بقيم المعروف «وأنهى عن المنكر»، وأعظم المنكر أن يتولّى أمور المسلمين من لا يعيشون معنى الإسلام، ممن هم من فروع هذه الشجرة الملعونة التي ذكرها القرآن، والذين كان آباؤهم ممن وقفوا ضدّ رسول الله(ص)، وضدّ الإسلام كلّه.

ثم يقول(ع) للناس: «فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق ـ لأن الله هو الحق، وهو الذي أوحى بالحق، وأراد للناس أن يسيروا به ـ ومن ردّ عليّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين». لذلك خرج الحسين(ع) إماماً، وخرج يدعو الناس إلى السير معه، لا لأهداف شخصية بل على أساس حماية الأمّة.

الحسين(ع) أمام الحوار:
وعلى هذا الخطّ، ولأنه صاحب رسالة، كان الحسين(ع) إمام الحوار، كان يريد أن يحاور هؤلاء الذين جاؤوا لقتاله ممن كانت قلوبهم معه وسيوفهم عليه، كان يريد أن يهديهم وأن يعرِّفهم الحق، وكان يدعوهم من وقتٍ لآخر من أجل أن يحاورهم ليبينَّ لهم الحقيقة، ولكنّهم باعوا أنفسهم للشيطان، وقالوا له: ما ندري ما تقول يا بن فاطمة، ولكن انزل على حكم ابن عمك. كانوا يريدون له أن يعترف بشرعية يزيد وابن زياد، بشرعية هذا الحاكم الجائر الذي استولى على الأمّة. لذلك، عندما وصلت القضية إلى الخطِّ الأحمر، وهي قضية أن يُعطي الشرعية لمن لا شرعية له، وهو الذي ثار من أجل تأكيد الشرعية، قال لهم حينها الكلمة التي لا تزال تعيش في عقول كلِّ الأحرار في مدى الزمن: «لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقرّ إقرار العبيد»، «ألا وإنّ الدعي ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين؛ بين السّلّة والذلة، وهيهات منّا الذلة! يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت، وجدود طهرت، وأنوف حمية، ونفوس أبية، من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام».

وهكذا، أبى الحسين(ع) أن يعيش إلاّ عزيزاً، وانطلق(ع) ليؤكّد للجميع ولكلّ الأجيال، أنّه رفض اللاشرعية، ورفض الظلم والانحراف عن سنّة رسول الله(ص)، لتسير الأمّة بسيرته ولتحمل شعاراته، لتجعل في كلِّ مرحلة من المراحل عاشوراء جديدة من أجل الرسالة، وكربلاء جديدة من أجل الحرية.

ولذلك، أيُّها الأحبة، عندما تمرّ بنا ذكرى الحسين(ع)، فإنّ علينا أن نعرف كيف نحتفل بها، لأنّ الحسين(ع) انطلق من أجل رسالة جدّه، ومن أجل الإصلاح في أمّة جده، ونحن نعيش في الواقع الإسلامي كلّه الفساد والإفساد، ونعيش الحكم الجائر والظالم الفاقد للشرعية، ونعيش الحكام الذين نصّبهم المستكبرون في العالم من أجل أن يحرسوا مصالحهم. إنّ ما نعيشه الآن هو ما عاشه الإمام الحسين(ع) في الواقع الإسلامي، فما عمل على تغييره وإصلاحه، هو ممّا ينبغي أن نعمل على تغييره وإصلاحه.

لذلك، ينبغي أن يكون اهتمامنا نحن شيعة الحسين(ع)، وأنصاره المخلصين له، هو كيف نحمل رسالته في عملية الإصلاح، وأن لا نتحرك بما يتحرّك به البعض من خلال التقاليد المتخلّفة في ضرب الرؤوس بالسيوف، فما الذي يستفيده الإمام الحسين(ع) منا عندما نضرب رؤوسنا بالسيف؟!

إنّ الحسين يريد منا أن نضرب الصهيونية والاستكبار بالسيف، لا أن يرتدَّ السيف إلى رؤوسنا، بل إلى رؤوس الأعداء. إنَّ الحسين لا يريد منّا أن نجلد ظهورنا بالسِّياط، بل أن نجلد ظهور المستكبرين بها، ففي كل يوم يصنعون لنا تقليداً جديداً، بعضهم يمشي على خدّه، وبعضهم يقفل لحمه بالأقفال، وبعضهم يمشي على الأربع...! فهل هكذا يكون السير مع الحسين(ع)؟! لقد ثار الإمام الحسين(ع) من أجل إسقاط يزيد، فلنثُر من أجل إسقاط بوش وإسقاط كل الذين يسيرون معه ويخضعون له، فالقضيّة هي نفسها، وإن اختلف الزّمن والأشخاص.

لذلك علينا كأمّة إسلامية، وخصوصاً الّذين يقولون إنّهم يخلصون للإمام الحسين(ع)، أن نرتفع إلى مستوى القضية التي ضحَّى الإمام الحسين(ع) من أجلها، وأن نمنع الذين يقتلون الأطفال الآن في غزّة في فلسطين، وأن نرفض بأيدينا ونفوسنا وكل عقولنا الّذين قتلوا عبدالله الرضيع، والّذين يقتلون كل الطفولة البريئة.

إنّنا نريد أن نجعل من أمتنا أمة تنطلق في طريق الحق، وبهذا نخلص للإمام الحسين(ع)، ونرتفع إلى الأفق الذي ارتفع إليه الحسين(ع)، وإلاّ كنا كما قال(ع): «إنَّ الناس عبيد الدنيا، والدين لعقٌ على ألسنتهم، يحوطونه ما درّت معايشهم، فإذا محصِّوا بالبلاء قلّ الديّانون». والسلام على الحسين، وعلى علي بن الحسين، وعلى أصحاب الحسين. والحمد لله ربِّ العالمين.

الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، وواجهوا الموقف من خلال مسؤولياتكم الكبرى في مواجهة التحدّيات الاستكبارية في كلِّ قضايا الإسلام والمسلمين، فماذا هناك؟

فلسطين: سياسة التهويد والتهديد:
عندما نتطلَّع إلى العالم الإسلامي، فما هي الصورة التي تبرز أمامنا؟ إننا نرى عالماً إسلامياً تتجاذبه المحاور السياسية الدولية، وتتقاذفه التحديات الأمنية والسياسية.

ففي فلسطين، تتوالى المجازر التي ترتكبها "إسرائيل"، الّتي تواصل سياسة التهويد والتهديد، إلى جانب عمليات القتل التي لا يتورَّع فيها العدوّ عن قتل المدنيين حتى الأطفال، ثم ينطلق رئيس وزراء العدوّ ليتحدّى العالم، وليوجّه رسالة إلى دول الاتحاد الأوروبي التي كانت طالبته برفع الحصار عن غزَّة ووقف عمليات القتل، فيقول: "لن نعتذر لأحد عن قصفنا لغزة". أما المتحدث باسم الخارجية الأمريكية، فلم يجد أمامه إلا تكرار الكلمات الأمريكية السابقة، في أن لإسرائيل "حق الدفاع عن نفسها". وإلى جانب ذلك كله، لا تزال دعوات الحوار والمصالحة بين الفلسطينيين تصطدم بالحائط المسدود أمريكياً وإسرائيلياً، ونخشى أن نقول إنّه موصود عربياً وعند بعض الدوائر الفلسطينية أيضاً...

الإدارة الأمريكية: توسيع دائرة العنف:
أما في العراق، فتكرّ سبَّحة الموت التي أتقن التكفيريون لعبتها في استهدافهم المتواصل للمدنيين، وخصوصاً زوّار الإمام الحسين(ع) في ذكرى أربعينه، ليحاولوا من جديد إنتاج الفتنة المذهبية التي تمثِّل أمنيةً من أماني الاحتلال، وسلاحاً من ضمن الأسلحة التي يحاول استخدامها في تخطيطه الدائم للبقاء في العراق...

وفي أفغانستان التي أمعنت الإدارة الأمريكية فيها قتلاً، وحيث بدأت الدائرة تدور عليها، وبدأت تستعطف دول حلف شمال الأطلسي للبقاء فيها، لا تزال طاحونة العنف تطحن المزيد من الضحايا، ليستمرَّ الاهتزاز الأمني والسياسي الذي يطلّ على المشهد الباكستاني في صورة مماثلة، وصولاً إلى الصومال التي باتت ضحيةً من ضحايا هذا الاهتزاز، وإلى السودان الذي بات موقعاً من مواقع التجاذب في لعبة الأمم التي يراد لـ"دارفور" أن تكون محطتها الإفريقية الأبرز...

اللقاءات العربية: عناوين ضبابية وعجز عملي:
وعندما ننظر إلى العالم العربي والإسلامي الذي ارتفعت فيه نسبة البطالة إلى أعلى الأرقام، وتصاعدت فيه معدلات الفقر والأميّة لتبلغ أخطر المستويات، على الرغم مما فيه من طاقات كبرى وثروات دفينة، نتساءل: إلى أين يأخذ كل هؤلاء الحكّام هذه الأمة؟ وإلى أية محاور يقودونها؟ ولماذا يُراد لنا أن نبقى الأمة المتهالكة والمتقاعسة والمثقلة بكلِّ أنواع العنف والخرافة والجهل؟ وهل هذه هي الأمة التي سعى النبي محمد (ص) لتكون القائدة في الأمم، والتي قال الله تعالى عنها في كتابه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}(آل عمران/110)؟!
إننا أمام ذلك، وأمام كلِّ هذا الركام، علينا أن ننطلق كشعوب وكفئات طليعية واعية، لقيادة حركة التغيير في الأمة، وإعادتها إلى توازنها، وإلى ميادين القوة والعطاء، لتعود إلى دورها الريادي في السعي لحماية نفسها وقضاياها وحماية البشرية كلها.

وعندما نطلُّ ـ من جانب آخر ـ على حركة اللقاءات العربية الثنائية، فإننا نلاحظ أنها تتحرك بعناوين ضبابية لا تملك معها أية فاعلية على مستوى حلّ المشاكل العربية، كالمسألة الفلسطينية أو العراقية أو اللبنانية، لا بل إن هذه اللقاءات قد توحي بالحذر من جهة، وقد تمثل العجز العربي في صورته الأبرز وحركته في داخل المأزق.

وهناك مسألة لا بد من رصدها، وهي أنَّ بعض من يدير هذه اللقاءات الثنائية، يمثِّل فريقاً معيناً في حركة الأزمة اللبنانية، وهو يحاول تحميل فريق آخر المسؤولية حيال استمرار الأزمة، من دون دراسة الطروحات التي يقدمها هذا الفريق أو ذاك في مسألة الواقع اللبناني، لتبقى المسألة في نطاق الاتهامات، والتي قد نستوحي من خلالها وجود خلفيَّات دولية تريد تعقيد بعض الأوضاع في لبنان، وخصوصاً مسألة المقاومة في مواجهة إسرائيل، بعدما تبيّن للجميع أنَّ الخطاب العربي بالنسبة إلى إسرائيل هو مجرَّد خطاب استهلاكيّ لا يحمل في داخله أيّ نوع من أنواع الجديّة في النظرة إلى خطورة العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني، إضافةً إلى كفّهم عن القيام بأيِّ مسعى جديّ لتوحيد الموقف الفلسطيني في مواجهة السعي الإسرائيلي لتكريس الانقسام الفلسطيني ـ الفلسطيني وخلق واقع جديد مفاده أن الضفة شيء وغزّة شيء آخر.

لبنان: المبادرة العربيَّة ولو ميتةً:
ومن جهةٍ ثانية، فإن هذه الهمروجة الاحتفالية في المبادرة العربية، وأنها تمثل الحلَّ للقضية اللبنانية، ربما كانت مجرَّد عملية خداع للبنانيين، باعتبار أن المبادرة العربية ولدت ميتةًَ، لأنها لم تنطلق من خطوط واضحة لحلِّ الأزمة اللبنانية في عمق المشاكل التي تدور بين اللبنانيين منذ ما بعد حرب تموز، وخصوصاً في مسألة حكومة الوحدة الوطنية التي يتحدّث البعض أنها لا بد من أن تعكس المشاركة الحقيقية في بلد قام على أساس الديمقراطية التوافقية، لا الديمقراطية العددية، وهكذا في مسألة قانون الانتخاب وغير ذلك من العناوين، ما يدل على أن الخطاب العربي في المبادرة جاء من فوق ولم ينـزل إلى مستوى جذور الأزمة، وهو الأمر الذي جعل المبادرة تفشل وتعجز عن تحقيق أيِّ اختراقٍ في المسائل الأساسية، ليبقى الحديث عن توافق حول بعض المفردات حديثاً غائماً لا يمثل إلاّ المزيد من الاستهلاك السياسي في واقعٍ تعوّد فيه الناس على هذا النوع من الاستهلاك الذي لا تنتهي فصوله...

إنَّنا نتصوَّر أنَّ مشكلة الأزمة اللبنانية، هي أنّه ليست هناك قيادات لبنانية تتحمَّل مسؤولياتها في الحلّ، بل هناك قوى ومحاور دولية تحاول توجيه الأزمة على أساس ما تقتضيه مصالحها السياسية والاقتصادية والأمنية، ولذلك فإذا كان اللبنانيون ينتظرون مبادرةً دوليةً هنا أو عربيةً هناك، فعليهم أن ينتظروا إلى ما لانهاية، لأن المسألة في حركة الدوائر الخارجية، وخصوصاً الأمريكية منها، تتلخّص في أن يبقى لبنان معلَّقاً في كلِّ أوضاعه وتوتراته مع مزيج من حركة قيادات هنا وهناك، التي إنما تثير العصبيات السياسية والطائفية والمذهبية في خط المصالح الذاتية والشخصانية للزعامات، وبعيداً عما هي مصلحة الوطن ومستقبل أجياله.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية