المنهج الإسلامي في الأخلاق والتربية:
اعتماد الرفق سبيلاً في المعاملة والمعاشرة والمسؤولية
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:
الخطبة الأولى
الرفق أصل في سلوكية الإنسان
في المنهج الأخلاقي التربوي ممّا أراد الله تعالى للإنسان أن يسير عليه في جانب، وأن يبتعد عنه في جانب آخر، هناك عنوانان في علاقة الإنسان بمسؤولياته، وفي علاقته بالناس الآخرين، وهما: الرفق والعنف.
أمّا الرفق، فهو الأسلوب الذي ينفتح على الواقع السلوكي للإنسان بطريقة ليّنة، تحقِّق النتائج من دون أيّ جهد ومن دون أية قسوة أو إشكال.
وهناك أسلوب آخر، وهو أسلوب العنف، الذي يجعل الإنسان يندفع بكل قوة وقسوة في تعامله مع الآخرين الذين هم في نطاق مسؤوليته، أو الذين هم في موقعه الاجتماعي، أو في علاقته بأموره الخاصة، ما يؤدي إلى نتائج سلبية.
وفي الإسلام، الأصل في سلوكية الإنسان هو الرفق؛ أن يعالج الإنسان كل قضاياه في نفسه وفي علاقاته مع الآخرين بالأسلوب الطيب الليّن، في الكلمة وفي العمل، وهذا ما مدح الله تعالى به رسوله(ص)، حيث قال تعالى: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك} (آل عمران:158)، فقد كان الرسول(ص) الإنسان الذي تتحرك إنسانيته في إنسانية الآخر بالأسلوب الليّن، وكان يملك لين القلب الذي يعبّر عن انفتاحه على الآخرين بالمحبة والرحمة، فلم يكن قلبه مغلقاً عمّن حوله، سواء كانوا من الذين يدخلون في نطاق مسؤوليّته، أو من الذين يعيشون معه في مجتمعه.
وكان يتعامل في خطابه مع أهله وعياله وأصحابه وكل الذين يتعاملون معه، بالكلمة الطيبة والليّنة التي تفتح في الإنسان الآخر عقله وقلبه. فالناس إنما اتبعوك ـ يا محمد ـ لأن أسلوبك هو الأسلوب الذي يحترم الناس، فلا يقسو أو يغلظ عليهم ولا يفحش فيهم، فلم تكن ـ يا محمد ـ في كلماتك فحّاشاً تتكلم مع الناس بكلمات الفحش، ولم تكن لعّاناً بحيث تلعن من يختلف معك، بل كنت الإنسان الرحيم الرؤوف الذي يدرس نقاط الضعف في الناس، فيرحم ضعفهم، ولا يحاول أن يضغط عليهم بها.
الارتباط بين الإيمان والرفق
ومن هنا، فإن الله تعالى يوحي إلينا أن النبي(ص) استطاع من خلال أسلوبه أن يجذب الناس إليه، وأن يجعلهم يؤمنون برسالته ويلتفون حوله. وقد ورد عن النبي(ص)، وهو يتحدث عن هذا الخلق الإنساني، يقول: "إن الرفق لم يوضع على شيء إلا زانه ـ إلا حسّنه، فإذا كنت رفيقاً، فإن الرفق عندما تستخدمه في علاقتك أو معاملتك مع الآخرين، فإنه يحسّن الموقف ـ ولا رُفع عن شيء ـ فاستبدلت الرفق بالعنف ـ إلا شانه" إلا عابه، ويقول(ص): "إن الله رفيق يحبّ الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف"، فإذا حاولت أن تحل المشكلة بالأسلوب الليّن، فإن الله يعطيك من الأجر على حلّ الأمور بهذا الأسلوب اللين أكثر مما يعطيك على حلّك إيّاها بالأسلوب العنيف.
وفي ذلك قصة حصلت مع النبي(ص)، حيث كان جالساً وكانت زوجته أم المؤمنين عائشة إلى جانبه، ومرّ يهودي وألقى التحية على النبي(ص) بطريقة لا تتضمن التحية، بل تتضمن الدعاء بالموت على النبي من دون أن يُجهر بذلك، فقال اليهودي: "السّام عليك"، والسّام هو الموت، أراد بذلك أن يمرر هذه المسألة على النبي ليسخر منه عند جماعته، فأجاب النبي بكل هدوء: "وعليك"، فثارت ثائرة عائشة، ولم تلتفت إلى رد النبي(ص)، فبدأت تسبّ هذا اليهودي بكلام عنيف وفاحش، فالتفت النبي(ص) إليها بكل هدوء وقال لها: "يا عائشة، إن الفحش لو كان ممثّلاً لكان مثال سوء، إن الرفق لم يوضع على شيء قطّ إلا زانه، ولم يُرفع عنه قطّ إلا شانه". وأوضح لها بما ردّ به على اليهودي.
هذا منهج أخلاقي ينطلق به رسول الله(ص)، ليقول لنا إنّه حتى في مورد الإساءة، يمكن أن نردّها بمثلها من دون أن نزيد عليها ونخلق مشكلة، والله تعالى قال: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} (البقرة:194)، هذا من أجل أن يخلق حالة السلام في حياة الناس. وقد رُبطت مسألة الإيمان بالرفق، ففي الحديث عن الإمام الباقر(ع) يقول: "من قُسم له الرفق قُسم له الإيمان"، ثم يقول: "إن لكل شيء قفلاً وقفل الإيمان الرفق"، باعتبار أن الإنسان الذي لا يرفق، فإنه يستبدل ذلك بالعنف، وإذا أخذ بأسلوب العنف، فقد يحمله ذلك إلى أن ينطلق بالغضب، سواء بالقول أو بالفعل، وربما يقوده هذا الغضب الذي يفقد الإنسان فيه توازنه وعقله، إلى أن يُخرج الإيمان من قلبه، فالرفق يغلق أسلوب العنف من أجل حفظ الإيمان.
ونقرأ في حديث الإمام الصادق(ع) أنه قال: "ما زوي الرفق عن أهل بيت إلا زوي عنهم الخير"، لأن العنف يقود إلى الشر. وفي كلام للإمام الكاظم(ع) كان يقول لبعض أصحابه: "إرفق بهم، فإن كفر أحدهم في غضبه، ولا خير في من كان كفره في غضبه". ونقرأ أن النبي(ص) يريد لنا أن نرفق حتى في تعاملنا مع الحيوان، وليس فقط مع البشر، فقد ورد في الحديث عنه(ص) أنه قال: "إن الله يحبّ الرفق ويعين عليه، فإذا ركبتم الدواب العجف ـ الهزيلة ـ فأنزلوها منازلها ـ بحيث تنزلونها في المنازل التي تنتفع بها ـفإن كانت الأرض مجدبة فانجوا عنها، وإن كانت مخصبة فأنزلوها منازلها".
ويقول النبي(ص): "لو كان الرفق خلقاً يُرى ما كان مما خلق الله شيء أحسن منه". ويتحدث(ص) عن الناس الذين يترافقون في السفر أو في أي موقع من المواقع، أن الله يعطي الأجر أكثر لمن يكون رفيقاً بصاحبه فيؤنسه ويرعاه، يقول: "ما اصطحب اثنان إلا كان أعظمهما أجراً وأحبّهما إلى الله عزّ وجلّ أرفقهما بصاحبه". هذا بالنسبة إلى الصاحب، فكيف بالزوج أو الزوجة، فأحبّ الزوجين إلى الله وأعظمهما أجراً عند الله من كان طيباً ورفيقاً مع صاحبه، فلا يعنف به ولا يقسو عليه، وهكذا بالنسبة إلى الأب مع أولاده والأخ مع أخوته، وصاحب العمل مع عمّاله، وكذلك في كل المجالات. وفي حديث الإمام الصادق(ع) نقرأ أن الرفق لا يعود بالمنفعة في الجانب الأخروي، بل حتى في الدنيا، يقول(ع): "من كان رفيقاً في أمره نال ما يريد من الناس"، لأن من طبيعة الناس وسجيّتهم أنهم إذا رأوا الرفق من شخص أحبّوه وعاونوه.
الرفق في المعاملة والمعاشرة والمسؤولية
نحن أمام كل هذه الأحاديث عن رسول الله(ص) والأئمة من أهل البيت(ع)، بحاجة إلى أن نأخذ بهذا المنهج الأخلاقي التربوي، وهو منهج الرفق في المعاملة والمعاشرة والمسؤولية، حتى أن الله تعالى يريد للإنسان عندما يأخذ بأسباب الدين، أن لا يقسو على نفسه، فنقرأ في حديث النبي(ص): "إن هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق، ولا تبغّض إلى نفسك عبادة ربك ـ تصوّروا شخصاً يصلي من الصبح إلى الليل ويصوم طول الدهر، فمن الطبيعي أن يضعف التوجّه في الصلاة، لأن النفس تريد أن ترتاح، فإذا قسوت على نفسك وحاصرتها ومنعتها من أن تنفتح على حاجاتها، فإنها تتعقّد من كل هذا الأسلوب ـ فإن المنبت ـ وهو الذي يمشي بالدابة ليلاً ونهاراً بحيث لا يريح دابته ـ لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع"، فإنه قد لا يصل إلى منتهى الطريق، بل ينقطع في منتصفه. ويروى عن الإمام الصادق(ع) أنه قال: "رآني أبي وأنا أتصبب عرقاً في الطواف، فقال لي: يا بني، إن الله يرضى منك بأقل من ذلك".
علينا أن نتعلّم لنأخذ بالرفق في حياتنا الزوجية والأسروية، وفي تعاملنا مع الناس الذين نتحمّل مسؤوليتهم، وعلينا أن ننطلق في حياتنا الاجتماعية، حتى مع خصومنا عندما نجادلهم ويجادلوننا، بالتي هي أحسن، والله تعالى يقول: {ولا تستوي الحسنة ـ وهي أسلوب الرفق ـولا السيئة ـ وهي أسلوب العنف والقسوة ـ ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليّ حميم}، ولكننا من خلال ما نعنف به في حياتنا، نحوّل أصدقاءنا إلى أعداء، ولأن هذه الروحية تحتاج إلى تربية، فإنه تعالى يقول: {وما يلقّاها إلا الذين صبروا وما يلقّاها إلا ذو حظ عظيم} (فصّلت:34-35).
إننا نُجهد حياتنا بالعنف، سواء في حياتنا الاجتماعية أو العائلية أو السياسية أو الدينية، وعلينا أن نحوّل مجتمعنا إلى مجتمع الأخوّة الإيمانية والصداقة والمحبة، حتى نكون كما قال النبي(ص): "لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه ويكره له ما يكره لها".
الخطبة الثانية
عباد الله... اتقوا الله، وواجهوا المرحلة الصعبة التي نعيشها بكل مسؤولية إسلامية في التحرك بما يخدم الإسلام والمسلمين، وبما يُبعد العدوان عنهم ويحقق النصر لهم، من خلال أخذهم بأسباب القوة والعزة والكرامة التي تنطلق على أساس الوحدة الإسلامية التي هي بركة على المسلمين جميعاً، مهما اختلفت مذاهبهم وأعراقهم. فماذا هناك:
فشل القمة العربية في معالجة مشاكل العرب:
لا يزال الواقع السياسي العربي يواجه أكثر من مشكلة مصيرية في قضايا الاحتلال والحرية، وفي الأوضاع المعقدة المتصلة بمشاريع الاستكبار العالمي التي يراد تحريكها في ساحاته، ولاسيما الاستكبار الأمريكي وحليفته إسرائيل. ولم تستطع القمة العربية الأخيرة أن تعالج أية مشكلة، بالرغم من عوامل الإثارة الإعلامية في القرارات الصادرة عنها، وفي الوعود التي انطلقت من القائمين عليها لمواجهة المرحلة الحاضرة في تحدياتها الداخلية والخارجية.
فلم يزل الواقع الفلسطيني يراوح مكانه في التعقيدات المحيطة به، بالرغم من ولادة حكومة الوحدة الوطنية التي لم يستطع رؤساء الدول العربية أن ينتزعوا من الدول الكبرى، ولاسيما أمريكا وأوروبا، اعترافاً بها ورفع الحصار عنها، ولم يجدوا في علاقاتهم بالعدو الإسرائيلي أية فرصة لتخفيف الضغوط الهائلة المفروضة على الشعب الفلسطيني، ولم يحاولوا إقناع أمريكا أو التأثير عليها لإلزام إسرائيل بقرارات الشرعية الدولية، ابتداءً من قرار 194 المتعلق بحق العودة للفلسطينيين، ومروراً بالقرارين 242 و338 اللذين يؤكدان على الانسحاب الإسرائيلي من أراضي الـ67 وإزالة المستوطنات والجدار الفاصل، لأن أمريكا الملتزمة بالأمن الإسرائيلي سياسةً واقتصاداً وأمناً، لا يمكن أن تفرض على الدولة العبرية أي شرط لحساب الدولة الفلسطينية...
وهكذا رأينا كيف خضعت وزيرة الخارجية الأمريكية لرئيس وزراء العدو في رفضه لأي حلّ ينفتح على المفاوضات النهائية، لأن الإدارة الأمريكية تخشى من ضغوط الجماعات اليهودية والمحافظين الجدد الذين يدعمون إسرائيل دعماً مطلقاً تتأثر الإدارة به سلبياً في سياستها ضد العرب.
هذا إلى جانب اللجنة الرباعية العربية في بُعديها السياسي والأمني اللذين تشرف عليهما هذه الوزيرة في عملية الضغط المتنوع الذي لا يملكون معه شيئاً، لتلتقي هذه اللجنة باللجنة الرباعية الدولية التي تحاصر الحكومة الفلسطينية من خلال الاعتراف بإسرائيل من دون قيد أو شرط، وبإنهاء الانتفاضة والاستسلام لإسرائيل في خطتها الاستراتيجية في السيطرة على فلسطين كلها في شكل مباشر وغير مباشر، تحت عنوان الدولة الفلسطينية التي لا تملك القدرة على الحياة.
وما زال الشعب الفلسطيني يعاني الفقر والحرمان من خلال الحصار الاقتصادي الذي لم يتمكن العرب من إزالته بفعل التعليمات الأمريكية في إبقاء الوضع المالي في دائرة السقوط، لأن أمريكا التي تسيطر على حركة السيولة النقدية العربية، لم تسمح لهم بإعطاء الفلسطينيين أية فرصة لمواجهة الحصار الاقتصادي الخانق.
ومن جانب آخر، لا تزال قضية الأسرى الفلسطينيين تراوح مكانها بفعل التعسّف الصهيوني في الإفراج عن الكثيرين الذين مضى عليهم في الأسر عشرات السنين من دون أي اهتمام دولي أو عربي بهم، والذين بلغوا ـ في تعدادهم ـ أكثر من عشرة آلاف أسير.
المؤتمر الدولي حلّ لمشكلة أمريكا في العراق
وإلى جانب المأساة الفلسطينية التي تفرض نفسها على الشعب كله في مصادرة الأراضي لحساب المستوطنات والجدار الفاصل، تبرز قضية الاحتلال الأمريكي ـ البريطاني للعراق في سنته الخامسة التي تستقبل في كل يوم عشرات الضحايا والجرحى بفعل الفوضى الأمنية التي يفرضها الاحتلال على الشعب كله، في الوقت الذي رأينا مئات الألوف من العراقيين يتظاهرون ويهتفون ضد الاحتلال ويطالبون بانسحابه، ولم يستطع العرب على مستوى القمة الأخيرة أن يعالجوا هذه المسألة بما يحقق الحلّ الواقعي للمشكلة، وإذا كان البعض ـ من جماعة أمريكا ـ يتحدث عن إسقاط الدكتاتور من قِبَل قوات الاحتلال، فعليهم أن يعرفوا أن الاحتلال والديكتاتور ليس فيهما شيء حسن، وأنّ الاحتلال هو أسوأ أنواع الديكتاتورية في المنطق السياسي، ولاسيما ما يتعلق بحرية الشعوب.
وإذا كان هناك حديث عن مؤتمر دولي في مصر لمعالجة قضية العراق، فإن الجميع يعرفون أن المطلوب من هذا المؤتمر هو حلّ مشكلة أمريكا الغارقة في الرمال العراقية المتحركة، لا حلّ مشكلة الشعب العراقي.
وفي المشهد الإسلامي، نتمثل منظمة المؤتمر الإسلامي التي تضم مختلف الدول الإسلامية، فنلاحظ أنها لم تستطع حلّ أية مشكلة سياسية أو أمنية أو اقتصادية في العالم الإسلامي الذي تسيطر عليه قوى الاستكبار العالمي، وفي مقدمها الحلف الأطلسي بقيادة أمريكا، وذلك في أفغانستان التي لا تزال تعاني الفوضى الأمنية التي يسقط بسببها العشرات من القتلى والجرحى في كل يوم، ليمتد ذلك إلى باكستان التي تتداخل فيها المشاكل الأمنية بفعل السياسة الداخلية الخاضعة للأمريكيين.
وهكذا نجد المسلمين يواجهون القتل والجرح والتشريد، من خلال الخطة الأمريكية ضد الإسلام والمسلمين، منذ إعلان الحلف الأطلسي بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، أن العدو الجديد الذي لا بد من محاربته هو الإسلام...
وما زالت الخطة الاستكبارية تتابع كل ضغوطها الأمنية والسياسية والاقتصادية لإسقاط الواقع الإسلامي ثقافياً واقتصادياً وسياسياً وأمنياً... ولم تستطع منظمة المؤتمر الإسلامي أن تفعل شيئاً حيال المجازر التي يواجهها المسلمون في الصومال من قِبَل الجيش الأثيوبي بالوكالة عن أمريكا، وفي السودان، وكذلك في مواجهة الضغوط الاقتصادية على إيران، باتهامها ظلماً وعدواناً بأنها تسعى لصنع القنبلة الذرية، في الوقت الذي تؤكد أن مشروعها لا يخرج عن دائرته السلمية.
إن المشكلة في العالم العربي، أن منظمة الجامعة العربية تحوّلت إلى موقع للقرارات الإنشائية لا لحلّ المشاكل العربية، وأن المشكلة في العالم الإسلامي، أن منظمة المؤتمر الإسلامي لا تملك القدرة للتحرك في شكل فاعل لمواجهة التحديات الكبرى للإسلام والمسلمين، لأن القائمين على هذه المنظمة أو تلك، أعطوا كل أوراق اللعبة لأمريكا، ولم يبق لديهم أية ورقة يلعبونها في لعبة القمار السياسي الدولي.
لبنان: المشكلة في غياب المؤسسات وقت الأزمات
أما في لبنان، فإن اللبنانيين يواجهون المتاهات السياسية التي يقودهم إليها فريق من السياسيين ممن يخضعون للسلطة الدولية أو الإقليمية التي تريد أن تحوّل لبنان إلى ساحة للمشاريع الأمريكية في المنطقة في جانب، وللخطط الأوروبية، ولاسيما الفرنسية في جانب آخر، لتأكيد حركة النفوذ لهذه الدولة أو تلك، وينطلق الجدل العقيم الذي تسقط أمامه المؤسسات الدستورية، لتتحرك مشاريع الوطن نحو المواقع الدولية، بعيداً عن الإرادة الوطنية اللبنانية. وتبقى أصول اللعبة، أن يسجِّل فريق على الفريق الآخر نقطة سلبية في الوضع السياسي الداخلي في الدائرة الحكومية، أو في نطاق المحكمة الدولية أو في الانتخابات النيابية المبكرة أو القادمة أو في الانتخابات الرئاسية التي اعتاد اللبنانيون فيها أن ينتظروا الوحي القادم إليهم من موقع إقليمي أو دولي، لأن لبنان لم يؤسس ليكون وطناً لبنيه، ولكن ليكون ساحة لأكثر من لعبة إقليمية أو دولية يسقط أمامها الجميع، بالرغم من أكثر من إعلان يرفض تحويل لبنان إلى ساحة، لكن الكلام شيء والواقع في حركة الممارسة شيء آخر.
إن المشكلة في هذا البلد، هي غياب المؤسسات وقت الأزمات، فلم تؤسس مؤسسات حقيقية يصح أن تكون اسماً على مسمّى، ولا التي نسميها مؤسسات قادرة على صنع التسويات حين تقع أزمات كبيرة، حتى إننا نصمد أمام الأزمات بفعل الغياب عن الواقع، إذ كل أزمة سياسية أو وطنية تشلّ المؤسسات بدل أن يكون الاحتكام إلى المؤسسات هو المخرج من المأزق، وكل خلاف يجعل من الدستور مجرد تمثال في متحف، وإن كثر الحديث عن الدستور واحترامه مع التصرف كأنه قطعة عجين.
والسؤال: أما لهذا الليل من آخر؟ وهل ينتظر اللبنانيون طلوع فجر جديد للوحدة الوطنية وللمواطنة الشعبية وللمحبة الإنسانية، أو أنهم في مواسم الأعياد الإسلامية والمسيحية يرددون قول الشاعر:
عيدٌ بأي حالٍ عُدت يا عيد بما مضى أم لأمرٍ فيك تجديد؟
العبرة من ذكرى 13 نيسان المشؤومة
وختاماً، إننا نستقبل في 13 نيسان الذكرى المشؤومة للحرب الداخلية، التي حطّمت الوفاق اللبناني، وصادرت القاعدة السياسية الموحدة للوطن، وحصدت الكثير من الضحايا بفعل المجازر المجنونة في القصف العشوائي على المدنيين، والتفجيرات الإجرامية المتنقلة من منطقة إلى أخرى، وذلك من خلال الاستسلام للخطة الخارجية التي عملت على تصفية بعض الحسابات السياسية في لبنان، ولاسيما الخطة الأمريكية الكيسنجرية التي أضرمت نار الحرب اللبنانية لتصفية القضية الفلسطينية التي كادت أن تنجح لولا الانتفاضة المباركة. ومن المؤسف أن الذين أوقدوا الحرب وارتكبوا المجازر في لبنان وتحالفوا مع إسرائيل ضد استقلال البلد، لا يزالون يتحدثون عن الحرية والوطنية والقيم الإنسانية.
إننا ندعو اللبنانيين إلى أخذ العبرة من هذه الذكرى، ليتعلموا كيف يواجهون هذه الأزمة المعقدة التي يحاول البعض أن يوظّفها لحرب جديدة، وليعرف الجميع أن التدخلات الدولية والإقليمية لن تصنع للبلد سلاماً، ولن تحقق لمشاكله حلاً، لأنهم يستغلون الخلافات الداخلية لخدمة مشاريعهم في المنطقة على حساب لبنان الذي يراد له أن يكون المحرقة التي تحرق مواطنيه لا أعداءه... إننا ندعو إلى أن نتعلم الحذر السياسي والوعي الوطني قبل أن يسقط الهيكل على رؤوس الجميع.