الارتفاع بمستوى الأمة في العلم والأخلاق والتقوى...

الارتفاع بمستوى الأمة في العلم والأخلاق والتقوى...

مسؤولية الالتزام بولاية أهل البيت(ع)...
الارتفاع بمستوى الأمة في العلم والأخلاق والتقوى...


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:

الإمامة امتداد لحركية الرسالة:

في السابع عشر من شهر ربيع الأوَّل، التقينا بذكرى الرسول الأعظم محمد (ص)، على المشهور في تاريخ ولادته بين علمائنا، ونلتقي أيضاً في مثل هذا اليوم بولادة الإمام جعفر الصادق(ع). ونحن عندما نتطلّع إلى خطِّ الإمامة في خطِّ الرسالة، نجد أنَّ الإمامة هي امتداد لحركية الرسالة في تقويم ما انحرف، وتصحيح ما وقع فيه الخطأ، وتأكيد ما أُريد له الاهتزاز، وقد جاء النبي (ص) برسالته من أجل أن ينقل العالم من الجاهلية الجهلاء، إلى حركة العلم التي تضيء العقل والقلب، وتضيء الحياة بالانفتاح على كلّ مواقع النمو والتطوّر.

وهكذا رأينا كيف أنّ الله تعالى قدّم رسوله إلينا بأنه النور، وقدّم القرآن إلينا بأنه النور: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ}(المائدة/15)، وجعل مهمّة الرسول إخراج الناس من الظلمات إلى النور، كما جعل سبحانه معيار القيمة مقدار ما يملك الإنسان من علم: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}(الزُّمر/9)، فالذين يعلمون هم أهل الفضل والقيمة الكبيرة عند الله. وقد أراد الله سبحانه لرسوله(ص) أن يدعوه بدعاء مميّز، وأراد للأمة أن تدعو به وتأخذ به أيضاً، وهو: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}(طه/114).

واستطاع الإسلام بفضل رسالة النبي (ص) ودعوته، أن يرتفع بالأمة الجاهلة الجهلاء، حتى أضحت في سنوات قليلة أمة الحضارة والعلم والتقدّم، التي أعطت الإنسانية الكثير من عناصر تطوّرها ونموّها.

وانطلقت الإمامة في هذا المجال في خطِّ النبوَّة، وهو ما نراه في حديث الإمام عليّ(ع): «علّمني رسول الله ألف باب من العلم، فتح لي من كل باب ألف باب»، بحيث كان النبيّ(ص) يعطيه العلم، وكان(ع) يطوّر هذا العلم وينفتح من خلاله على آفاق جديدة، ويحرّكه في كل جوانب الحاجات الإنسانية في الحياة. وكان النبي (ص) يراقب تلميذه كيف ينطلق فيما تعلّمه منه، فيرى أنه التلميذ الأفضل والأعلى والأعمق، وأنّه اختزن كل علمه، ولذلك قال مما روي عنه: «أنا مدينة العلم وعليّ بابها، فمن أراد المدينة فليدخل من الباب».

ولهذا، نجد أنّ عليّاً من خلال العلم الواسع الذي انطلق من علم رسول الله(ص)، وإلهام الله تعالى له في طاقاته الروحية والفكرية، لم يحتج أن يسأل أحداً، لأنَّ كلَّ القضايا كانت واضحة عنده، فليس هناك أيّ غموض في أيِّ قضية، ولم يكن في كلِّ صحابة رسول من هم بمنـزلة علي(ع) العلمية، أو من هو أكثر علماً منه، ولذلك كان الجميع يسألونه، ولم يكن يسأل أحداً، لأنه ليس في حاجةٍ إلى أن يسأل أحداً، ولهذا قال أحد علماء اللّغة العربية، وهو الخليل بن أحمد الفراهيدي، عندما سئل: «لِمَ قدّمت علياً على غيره؟»، قال: «احتياج الكل إليه، واستغناؤه عن الكل، دليل أنه إمام الكل».

وانطلق علم رسول الله(ص) على مدى الزَّمن في خطِّ الأئمة(ع)، فكان علم عليّ(ع) عند الحسنين(ع)، وكان علم الحسين(ع) عند زين العابدين(ع)، وهكذا امتدَّ العلم حتى بلغ الإمام الصادق(ع)؛ هذا الإمام الذي ملأ العالم الإسلامي علماً، بحيث شعر كلُّ العلماء في تلك المرحلة بأنّهم في حاجة إلى أن يتعلّموا منه، وكان يقول لهم عندما يريد أن يبيِّن لهم القاعدة التي ينطلق منها علمه ـ وعلمه(ع) ليس حالة ذاتية عنده، ولكنه علم رسول الله ـ كان يقول فيما روي عنه: «حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جديّ، وحديث جدي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث عليّ، وحديث عليّ حديث رسول الله، وحديث رسول الله حديث قول الله عزّ وجلّ»، وقد قال ذلك الشاعر وهو يشير إلى موالاة الأئمة من أهل البيت(ع):

ووالِ أناساً قولهم وحديثهم روى جدنا عن جبرائيل عن الباري

وتنقل لنا سيرة الإمام الصادق(ع)، أنه لما حضرت أباه الوفاة، قال له: «أوصيك بأصحابي خيراً» أن تعلّمهم وترفع مستواهم، فأجابه(ع): «جعلت فداك، والله لأدعنّهم والرّجل منهم يكون في المصر فلا يسأل أحداً». وكانت مسؤوليَّة الإمام الصَّادق(ع) عن مجتمعه وشيعة أهل البيت(ع)، أنه كان يجيبهم عن كلِّ ما يسألونه، وإذا لم يسألوه ابتدأهم بالسؤال، حتى جعل منهم العلماء الكبار الذين يجلسون مع العلماء من غير مذهبهم، فيعظّمونهم لما يملكون من علم أخذوه منه(ع).

التربية على محاسن الأخلاق:

وكان الإمام الصّادق(ع) يهتم كثيراً بأن يربي هذه المجموعة من الناس تربيةً ترتفع بهم إلى أعلى المستويات، وكان يقول لهم: «شيعتنا أهل الهدى وأهل التقى وأهل الخير وأهل الإيمان، وأهل الفتح والظفر»، وكان(ع) يقول لبعض أصحابه: «إياك والسّفلة، فإنما شيعة عليّ من عفّ بطنه وفرجه، واشتدَّ جهاده، وعمل لخالقه ورجا ثوابه، وخاف عقابه، فإذا رأيت أولئك فأولئك شيعة جعفر». فليس الشيعي من يهتف باسم أهل البيت ويعصي الله، أو ينحرف عن خطِّ الاستقامة، بل الشيعي هو من يأخذ بالإسلام والإيمان والتقوى كلها.

وكان(ع) يربِّي الشّيعة على أن يكونوا في علاقاتهم الاجتماعيَّة بأهل المذاهب الأخرى، منفتحين على كلِّ قضايا الخير والحق، وأن يكون حسن الأخلاق هو الّذي يحكم علاقتهم بهم، فكان يقول لبعض أصحابه: «إياكم أن تعملوا عملاً يعيّرونا به، فإن ولد السوء يعيّر والده بعمله. وكونوا لمن انقطعتم إليه زيناً ولا تكونوا عليه شيناً. صلّوا في عشائرهم، وعودوا مرضاهم، واشهدوا جنائزهم، ولا يسبقونكم إلى شيء من الخير، فأنتم أولى به منهم». وقد كان(ع) يربّي أصحابه على أن يكونوا، في امتداد الزّمن، الجماعة التي تنفتح على الآخرين ولا تنغلق عليهم، تجتمع معهم ولا تتفرق عنهم.

ورأينا كيف ملأ الإمام الصادق(ع) المرحلة بعلمه الذي أفاض به على المجتمع الإسلامي كلِّه، ممن يواليه وممن لا يواليه، وقد جاء عن بعض مشايخ الحديث، أنه قال: «دخلت مسجد الكوفة، فرأيت فيه تسعمائة شيخ ـ يعني تسعمائة عالم وأستاذ ـ وكلّ يقول: حدّثني جعفر بن محمد». فقد كان(ع) أستاذ الأساتذة الذي استطاع أن يرفع المستويين الثقافيّ والعلميّ في المرحلة التي عاش فيها، دون تمييز بين الأصناف والمذاهب والاتّجاهات، وكان المؤرّخون يتحدّثون عمّن تلمّذ عليه، فعدّوا من رواة العلم عنه أربعة آلاف رجل، أخذوا العلم منه ونشروه في مجمل العالم الإسلامي.

إنسان الحوار والانفتاح:

وكان(ع) محلَّ التقدير والتعظيم لدى العلماء، حتى من أئمة المذاهب السنيّة، فيروى عن مالك بن أنس أنه قال: «ما رأت عين، ولا سمعت أذن، ولا خطر على قلب بشر، أفضل من جعفر بن محمد الصادق فضلاً وعلماً وعبادةً وورعاً». وسئل أبو حنيفة عن أفقه الناس في زمانه، فقال: «جعفر بن محمد، فهو أعلم الناس باختلاف الناس».

ورأينا أن الزنادقة الذين كانوا لا يعترفون بالله، ولا يؤمنون بالإسلام، وكانت لديهم شبهات وملاحظات على بعض عقائد الإسلام وأحكامه، كانوا يلتقون عنده، ويجلس إليهم في المسجد الحرام، بينما الناس يطوفون بالبيت، وهو مشغول بمناقشة هؤلاء وهدايتهم إلى الدين القويم، حتى قال أحدهم: «ما رأيت أحداً يستحقُّ اسم الإنسانية إلا جعفر بن محمد الصادق»، وقال بعضهم: «ما رأيت شخصاً يتروّح تارةً ـ تشعر أنه روح تحلّق ـ ويتجسّد أخرى، كما رأيت جعفر بن محمد، فإنه كان يفتح عقله وقلبه وصدره لنا، ونحن نواجهه بكل الشبهات».

وقد كان(ع) يمثِّل إنسان الحوار الذي لا يتعقّد من أيّ شخص يخالفه في الرأي أو ينافسه في أمرٍ، بل كان يملك الصَّدر الواسع، وهذه هي صفة النبي محمد (ص)، الذي كان يلتقي الناس، ويستمع إلى الصغير منهم والكبير. وكانت المسألة التي أراد الإمام الصادق(ع) أن يؤكِّدها في المجتمع الإسلامي، إبعاد الناس عن الخرافة، والارتفاع بهم إلى درجة الوعي والعلم، فكان يقودهم إلى أن يستنطقوا عقولهم لا غرائزهم وتخلّفاتهم، وكان يقول: «حجة الله على العباد النبيّ، والحجَّة فيما بين العباد وبين الله العقل»، فالعقل هو الذي يحتجُّ الله به على عباده يوم يقوم الناس لربّ العالمين، لأننا بالعقل نوحّد الله، ونؤمن بالنبي، وننفتح على كل الحقائق في كل ما أراد الله لنا أن ننفتح عليه.

العمل على رفع مستوى الأمة:

وكان الإمام الصَّادق(ع) ينقل عن رسول الله (ص)، أنه كان يقول: «طلب العلم فريضةٌ على كلِّ مسلم»، وإذا كانت مسؤولية الجاهل أن يتعلّم، فإن مسؤولية العلماء أن يبذلوا العلم لمن هو في حاجةٍ إليه. وكان(ع) يوحي إلى الأمة كلها أن تكون أمة العلم لا أمة الجهل، وأن تأخذ بأسباب العقل لا بأسباب التخلّف، لأن الأمة التي ترتفع بما تحصل عليه من علم، وبما تؤكِّده من عقل، هي الأمة التي يمكن أن تكون خير أمة أُخرجت للناس.

وكان الإمام الصادق(ع) يؤكّد أهميّة أن يكون كل فرد من أفراد الأمة حراً، لأن الله تعالى أراد للإنسان أن يكون عبداً له وحده، وأن يكون حراً أمام كل الناس، فلا يسقط تحت تأثير الآخرين ليستعبدوه، فكان(ع) يقول: «إن الحر حرٌ في جميع أحواله، إن نابته نائبة صبر، وإن تداكّت عليه المصائب لم تكسره، ولو أُسر وقُهر». فالحرّيّة تبقى في داخل ذاته؛ حرية الإرادة والموقف. وكان(ع) يؤكِّد أهميّة الصبر، فكان يقول: «إن الصبر من الإيمان بمنـزلة الرأس من الجسد». وأراد للناس أن يكونوا في المستوى العالي من الأخلاق في علاقتهم بالآخرين، فكان(ع) يقول: «ما يُقدم المؤمن على الله عزّ وجلّ بعمل بعد الفرائض، أحبّ إلى الله من أن يسع الناس بخلقه». وكان(ع) يمتدُّ في علمه وتوجيهه وتربيته ورفع مستوى أمته، بحيث إننا عندما ندرس الإمام الصادق(ع)، نجد الثقافة العلمية الموسوعية التي لم تترك شيئاً من الإسلام إلا عرّفته للناس.

ولذلك، فإننا ندعو الناس إلى الالتزام بولاية أهل البيت(ع)، لأن الالتزام بولايتهم هو التزام بولاية رسول الله (ص) وولاية الله، لأن أهل البيت لا ينطلقون إلا من خلال إخلاصهم لله ولرسوله، وكان الإمام الباقر(ع) يقول: «من كان لله مطيعاً فهو لنا وليّ، ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدوّ، والله لا تنال ولايتنا إلا بالعمل والورع». ونحن عندما نذكر الإمام الصادق(ع) نذكر كل ما يرفع مستوى الأمة في علمها وخلقها وتقواها. والسلام عليه يوم وُلد ويوم توفي ويوم يبعث حياً.

 

الخطبة الثانية

بسم الله الرَّحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، وواجهوا الموقف بالإخلاص للإسلام والمسلمين والوحدة الإسلامية، وانطلقوا لتواجهوا الاستكبار كله والظلم كله والكفر كله، لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الشيطان هي السفلى. فماذا هناك في الواقع الإسلامي؟

لهاث عربي وراء التسوية مع إسرائيل:

في المشهد العربي ـ الإسرائيلي، نواجه حركة التطوّر السياسي العربي في لهاث العرب وراء التسوية مع العدوّ، لاجتذاب موافقته على الدخول في مفاوضات ما يسمى السلام، عبر تقديم التنازلات التاريخية بإسقاط اللاءات التي كانت تمثل العنفوان العربي الصارخ، في رفض الاجتياح الصهيوني لفلسطين، ورفض ارتكاب المجازر الوحشية التي قتلت عشرات الألوف من النساء والأطفال والشيوخ والشباب من المدنيين بدم بارد، وشرَّدت مئات الألوف منهم إلى الدول المجاورة. فالتمزقات السياسية للأنظمة العربية من جهة، والضغط الأمريكي الذي يملك السيطرة على مقدّرات هذه الأنظمة، من خلال خضوع المسؤولين لما يقرر لهم، حتى على مستوى علاقات بعضهم ببعض من جهة أخرى، جعل البعض يسقط تحت تأثير الصلح الذليل بالضربة القاضية في شكل معلن، وتوارى البعض الآخر وراء الكواليس في حركة العلاقات مع العدوّ من خلال المكاتب الاقتصادية، حتى أصبحت إسرائيل أمراً واقعاً في السياسة العربية، وكصديق في الدائرة الأمريكية التي تضمُّ الجميع.

ولم تتقبَّل إسرائيل كل هذه التنازلات، لأنها كانت تبحث عن استسلام مطلق وتنازلات استراتيجية. وبادر العرب من خلال اجتماعات القمم العربية إلى تقديم مبادرة سلام جماعية، ومُدّت كلُّ الأيدي العربية إلى إسرائيل، ولكن العدو لم يتحمَّس لذلك، ورفض المبادرة، ووقفت أمريكا معه لتصرِّح بأنَّ المبادرة العربية صالحة للتفاوض لا للتنفيذ، لأنها لا تلتقي مع الاستراتيجية الصهيونية في رفض الاعتراف بحدود 67 ورفض حقّ العودة، إضافةً إلى استراتجيتها في تهويد القدس. وما زال العرب يلهثون وراء تقديم المبادرة "البيروتية" مستندين إلى رغبة الرئيس بوش في مشروع الدولة الفلسطينية إلى جانب الدولة الإسرائيلية، من خلال مفاوضات الحل النهائي التي رفضتها حكومة الدولة العبرية، على الرغم من إلحاح وزيرة خارجية أمريكا التي رجعت إلى بلادها بخفَّي حنين، لأنها لا تملك الضغط على إسرائيل بحسب تعليمات إدارتها ورئيسها... وما زال العرب ينتظرون مجلس الأمن الذي لا يملك من أمره شيئاً، وما زال الحديث حول لعبة هذا المجلس الذي سوف يقوم بتعديل ما لم يقرِّر العرب تعديله في القمَّة... هذا، في الوقت الذي يبحث السقوط العربي عن حفرة يدفن قضيته فيها؛ هذه القضية التي نعاها أمين عام الجامعة العربية في مؤتمر سابق.

سقوط الاستراتيجية العربية:

إن المشكلة بين العرب وإسرائيل، هي أن الدولة العبرية لا تريد سلاماً مع العرب جميعاً، ولا سيّما مع الفلسطينيين، إلا بعد استكمال استراتيجيتها في السيطرة على أكثر أرض فلسطين، لتضمَّها إلى كيانها اليهودي، ولذلك فهي تطرح التطبيع قبل السلام، لتضغط من خلال اللجنة الرباعية الدولية بقيادة أمريكا على العرب، لترغمهم على تقديم تنازلات جديدة لا يبقى معها للدولة الفلسطينية أية فرصة للحياة... أما العرب الذين تعوَّدوا على تقديم التنازل تلو التنازل، والمبادرة بعد المبادرة، فإنهم يتساقطون في ما يسمى دائرة الاعتدال التي تجتذبهم إليها الإدارة الأمريكية، ليبتعدوا عن الوقوف مع قضاياهم الكبرى في التحرير والاستقلال وحرية تقرير المصير، لأن هناك أكثر من مسؤول هنا وهناك، يفرض على بلده الكثير من التنازلات للعدوّ وللسياسة الأمريكية، انطلاقاً من تاريخه الشخصي والعائلي في السقوط في أفخاخ المخابرات.

وهكذا رأينا رئيس وزراء العدوّ (أولمرت)، يطالب العرب باستقباله أو بالقدوم إليه بدلاً من القبول بالمبادرة العربية، لأنه اعتاد من خلال التاريخ على الرفض لما يريدونه، في موقف عنصري حاسم، وعلى قبولهم ما يريد، لأن إسرائيل لم تغيِّر أي موقف من مواقفها الاستراتيجية، في الوقت الذي لم يبق للعرب أية استراتيجية قومية أو إسلامية. ويستمر الجيش الإسرائيلي في نهجه اليومي في اغتيال الناشطين، وقتل المدنيين، واعتقال المجاهدين، وحصار المناطق المحتلة باسم الاحتفال بعيد الفصح اليهودي، وقد كان آخر عدوانه، إرسال الإنذارات إلى ما يقرب الألف فلسطيني مقدسي لإخلاء منازلهم، بحجة ملكية امرأة يهودية للأرض التي يقيمون عليها من دون أيِّ حل لمشكلتهم الإنسانية... ولم يحرّك الواقع الدولي الأمريكي والأوروبي، ولا النظام العربي، ساكناً للاحتجاج على عدوان إسرائيل أو الضغط لمنع ذلك، في الوقت الذي لا يزال الحصار الاقتصادي والسياسي، إسرائيلياً وأمريكياً وأوروبياً، مسلّطاً على رأس حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية، أو بما يتصل بوزراء حركة حماس، وذلك في ظل استمرار الصمت العربي المطبق.

أمريكا تصنع المشكلات لمعارضي سياستها:

أما أمريكا، فإنّ استخباراتها لا تزال تحرِّك لعبة الأمم في العالمين العربي والإسلامي، مع امتداداتٍ سياسية وأمنية إلى أكثر من دولة في أمريكا اللاتينية، وفي كل الدول التي تعارض سياستها الاستكبارية، والتي تهدف إلى تحرير قراراتها في حاضرها ومستقبلها من أيِّ ضغط أمريكي في مجالات الاقتصاد والأمن والسياسة. وهكذا رأينا كيف تتابع احتلالها للعراق، وتحشد لتأكيد ذلك المزيد من جنودها، بالرغم من معارضة الرأي العام الأمريكي والشعب العراقي لذلك، في الوقت الذي يعرف العالم كله فشل هذا الاحتلال وسقوطه في الرمال العراقية المتحركة، وهو ما يدفع الشعوب الحرة إلى التحرّك في تظاهرات كبيرة مطالبةً بالانسحاب من العراق. ولا يزال العراق يعاني من خلال هذا الاحتلال الذي تحوَّل إلى غطاء للإرهابيين التكفيريين الذي يرتكبون المجازر ضدّ الأطفال، والتّي كان آخرها مجزرة حصدت مئات الأطفال في عملية تفجيرية انتحارية، إلى جانب العمليات الأخرى التي تستهدف المدنيين في شكل عشوائي، بعدما كانت جرائمهم موجَّهة إلى جماعة مذهبية معينة...

إننا في الوقت الذي نؤكد أنَّ الاحتلال وأذنابه هو السر في المشكلة العراقية على كل المستويات، نريد للعراقيين الانطلاق في مقاومة مدروسة دقيقة شاملة للاحتلال، لتحرير البلد كله، والوقوف في وجه الذين يحركون حقدهم الطائفي الأسود ضد المسلمين بدلاً من المحتلين.

ومن جانب آخر، فإن المستضعفين في الصومال البائس الفقير الجائع المحروم، لا يزالون يعانون من الحرب المجنونة التي تتحرك في ساحة الفوضى، وفي متاهات اللعبة الدولية الأمريكية والأوروبية، التي تعمل على تهيئة الظروف السياسية للسيطرة على القرن الأفريقي، لحساب الاستراتيجية الأمريكية الاستكبارية في امتداد نفوذها في تلك المنطقة في العالم، بدعمٍ من أكثر من دولة إقليمية في تلك المنطقة لخدمة مصالح الاستكبار العالمي.

لبنان: أزمة ثقة داخلية وتدخلات خارجية:

أما في لبنان، فإنَّ الصراع السياسي في الأزمة المستحكمة بالبلد كله، لا يزال يفرض التجميد على كلِّ مقدّرات البلد الاقتصادية والأمنية، لأن المفردات التي تثيرها دوائر الصراع ليست من الصعوبة بحيث يستحيل حلّها، لولا أن هناك تدخلات خارجية وإيحاءات دولية تضغط لإبقاء الأزمة في نطاق الجمود، إضافة إلى فقدان الثقة بين فريق السلطة وفريق المعارضة، ورفض هذا الجانب أو ذاك دراسة الضمانات القانونية والسياسية التي تمنع الخوف من السلبيات في حكومة الوحدة الوطنية، أو في دراسة بعض مواد المحكمة ذات الطابع الدولي، فهناك إصرار على ترديد الكلمات الاستهلاكية التي اعتادها بعض السياسيين لإثارة جمهورهم، في عملية انفعال طائفي أو مذهبي، وكأن المطلوب أن لا نصل إلى الحل.

إننا نتساءل عن هذه الطريقة التي تدار بها الأزمة اللبنانية، التي لم تكتف بإشغال اللبنانيين عن مشاكلهم الحيوية وقضاياهم المصيرية، بل امتدَّت إلى إشغال العالم العربي المثقل بالتحدّيات الكبرى في أكثر من بلد عن قضاياه الكبرى، ولا سيّما في صراعه مع العدوّ الإسرائيلي، الذي لم يبتعد في مخابراته واختراقاته عن العدوان عن لبنان.

ونحن في الوقت الذي قد نستشعر بأن من الضرورة بمكان أن يعود لبنان إلى موقعه الطبيعي في الحركة السياسية التي تجتذب أكثر من مسؤول غربي أو عربي، كما تجتذب مسؤولي الأمم المتحدة وغيرهم، إلا أننا نرى في الزيارات الأخيرة ذات الطابع الاستطلاعي أو التهويلي، محاولة تسجيل النقاط على أكثر من موقع عربي وإسلامي، من دون الإشارة إلى الخرق المتواصل للقرار 1701 في العدوان الإسرائيليّ الجويّ والبري المستمرّ على لبنان، وذلك إضافة إلى الإيحاءات التي يوزعها هؤلاء الزائرون عن الحصار المضروب على لبنان، كي يبقى في دائرتي التدويل والتهويل.

لقد قال بعض المحلّلين السياسيين، وهو يصف الواقع السياسي اللبناني، إن لبنان يفتش عن قراره عند سواه، ليكون البلد الذي لا يتحرك قراره عند أبنائه، أو ليكون الوطن للغرباء أكثر منه لمواطنيه، فيما هناك دعوة مخلصة يوجهها اللبنانيون بإخلاص إلى النّواب، بأن يصيروا نواباً بدلاً من استمرار هذه الأوضاع التي تكاد تجعلهم نوائب هذا البلد، من خلال هذه الفوضى المتمثّلة بالأزمة السياسية التي أطبقت على الوطن كلّه وصادرت الإنسان كله.

مسؤولية الالتزام بولاية أهل البيت(ع)...
الارتفاع بمستوى الأمة في العلم والأخلاق والتقوى...


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:

الإمامة امتداد لحركية الرسالة:

في السابع عشر من شهر ربيع الأوَّل، التقينا بذكرى الرسول الأعظم محمد (ص)، على المشهور في تاريخ ولادته بين علمائنا، ونلتقي أيضاً في مثل هذا اليوم بولادة الإمام جعفر الصادق(ع). ونحن عندما نتطلّع إلى خطِّ الإمامة في خطِّ الرسالة، نجد أنَّ الإمامة هي امتداد لحركية الرسالة في تقويم ما انحرف، وتصحيح ما وقع فيه الخطأ، وتأكيد ما أُريد له الاهتزاز، وقد جاء النبي (ص) برسالته من أجل أن ينقل العالم من الجاهلية الجهلاء، إلى حركة العلم التي تضيء العقل والقلب، وتضيء الحياة بالانفتاح على كلّ مواقع النمو والتطوّر.

وهكذا رأينا كيف أنّ الله تعالى قدّم رسوله إلينا بأنه النور، وقدّم القرآن إلينا بأنه النور: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ}(المائدة/15)، وجعل مهمّة الرسول إخراج الناس من الظلمات إلى النور، كما جعل سبحانه معيار القيمة مقدار ما يملك الإنسان من علم: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}(الزُّمر/9)، فالذين يعلمون هم أهل الفضل والقيمة الكبيرة عند الله. وقد أراد الله سبحانه لرسوله(ص) أن يدعوه بدعاء مميّز، وأراد للأمة أن تدعو به وتأخذ به أيضاً، وهو: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}(طه/114).

واستطاع الإسلام بفضل رسالة النبي (ص) ودعوته، أن يرتفع بالأمة الجاهلة الجهلاء، حتى أضحت في سنوات قليلة أمة الحضارة والعلم والتقدّم، التي أعطت الإنسانية الكثير من عناصر تطوّرها ونموّها.

وانطلقت الإمامة في هذا المجال في خطِّ النبوَّة، وهو ما نراه في حديث الإمام عليّ(ع): «علّمني رسول الله ألف باب من العلم، فتح لي من كل باب ألف باب»، بحيث كان النبيّ(ص) يعطيه العلم، وكان(ع) يطوّر هذا العلم وينفتح من خلاله على آفاق جديدة، ويحرّكه في كل جوانب الحاجات الإنسانية في الحياة. وكان النبي (ص) يراقب تلميذه كيف ينطلق فيما تعلّمه منه، فيرى أنه التلميذ الأفضل والأعلى والأعمق، وأنّه اختزن كل علمه، ولذلك قال مما روي عنه: «أنا مدينة العلم وعليّ بابها، فمن أراد المدينة فليدخل من الباب».

ولهذا، نجد أنّ عليّاً من خلال العلم الواسع الذي انطلق من علم رسول الله(ص)، وإلهام الله تعالى له في طاقاته الروحية والفكرية، لم يحتج أن يسأل أحداً، لأنَّ كلَّ القضايا كانت واضحة عنده، فليس هناك أيّ غموض في أيِّ قضية، ولم يكن في كلِّ صحابة رسول من هم بمنـزلة علي(ع) العلمية، أو من هو أكثر علماً منه، ولذلك كان الجميع يسألونه، ولم يكن يسأل أحداً، لأنه ليس في حاجةٍ إلى أن يسأل أحداً، ولهذا قال أحد علماء اللّغة العربية، وهو الخليل بن أحمد الفراهيدي، عندما سئل: «لِمَ قدّمت علياً على غيره؟»، قال: «احتياج الكل إليه، واستغناؤه عن الكل، دليل أنه إمام الكل».

وانطلق علم رسول الله(ص) على مدى الزَّمن في خطِّ الأئمة(ع)، فكان علم عليّ(ع) عند الحسنين(ع)، وكان علم الحسين(ع) عند زين العابدين(ع)، وهكذا امتدَّ العلم حتى بلغ الإمام الصادق(ع)؛ هذا الإمام الذي ملأ العالم الإسلامي علماً، بحيث شعر كلُّ العلماء في تلك المرحلة بأنّهم في حاجة إلى أن يتعلّموا منه، وكان يقول لهم عندما يريد أن يبيِّن لهم القاعدة التي ينطلق منها علمه ـ وعلمه(ع) ليس حالة ذاتية عنده، ولكنه علم رسول الله ـ كان يقول فيما روي عنه: «حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جديّ، وحديث جدي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث عليّ، وحديث عليّ حديث رسول الله، وحديث رسول الله حديث قول الله عزّ وجلّ»، وقد قال ذلك الشاعر وهو يشير إلى موالاة الأئمة من أهل البيت(ع):

ووالِ أناساً قولهم وحديثهم روى جدنا عن جبرائيل عن الباري

وتنقل لنا سيرة الإمام الصادق(ع)، أنه لما حضرت أباه الوفاة، قال له: «أوصيك بأصحابي خيراً» أن تعلّمهم وترفع مستواهم، فأجابه(ع): «جعلت فداك، والله لأدعنّهم والرّجل منهم يكون في المصر فلا يسأل أحداً». وكانت مسؤوليَّة الإمام الصَّادق(ع) عن مجتمعه وشيعة أهل البيت(ع)، أنه كان يجيبهم عن كلِّ ما يسألونه، وإذا لم يسألوه ابتدأهم بالسؤال، حتى جعل منهم العلماء الكبار الذين يجلسون مع العلماء من غير مذهبهم، فيعظّمونهم لما يملكون من علم أخذوه منه(ع).

التربية على محاسن الأخلاق:

وكان الإمام الصّادق(ع) يهتم كثيراً بأن يربي هذه المجموعة من الناس تربيةً ترتفع بهم إلى أعلى المستويات، وكان يقول لهم: «شيعتنا أهل الهدى وأهل التقى وأهل الخير وأهل الإيمان، وأهل الفتح والظفر»، وكان(ع) يقول لبعض أصحابه: «إياك والسّفلة، فإنما شيعة عليّ من عفّ بطنه وفرجه، واشتدَّ جهاده، وعمل لخالقه ورجا ثوابه، وخاف عقابه، فإذا رأيت أولئك فأولئك شيعة جعفر». فليس الشيعي من يهتف باسم أهل البيت ويعصي الله، أو ينحرف عن خطِّ الاستقامة، بل الشيعي هو من يأخذ بالإسلام والإيمان والتقوى كلها.

وكان(ع) يربِّي الشّيعة على أن يكونوا في علاقاتهم الاجتماعيَّة بأهل المذاهب الأخرى، منفتحين على كلِّ قضايا الخير والحق، وأن يكون حسن الأخلاق هو الّذي يحكم علاقتهم بهم، فكان يقول لبعض أصحابه: «إياكم أن تعملوا عملاً يعيّرونا به، فإن ولد السوء يعيّر والده بعمله. وكونوا لمن انقطعتم إليه زيناً ولا تكونوا عليه شيناً. صلّوا في عشائرهم، وعودوا مرضاهم، واشهدوا جنائزهم، ولا يسبقونكم إلى شيء من الخير، فأنتم أولى به منهم». وقد كان(ع) يربّي أصحابه على أن يكونوا، في امتداد الزّمن، الجماعة التي تنفتح على الآخرين ولا تنغلق عليهم، تجتمع معهم ولا تتفرق عنهم.

ورأينا كيف ملأ الإمام الصادق(ع) المرحلة بعلمه الذي أفاض به على المجتمع الإسلامي كلِّه، ممن يواليه وممن لا يواليه، وقد جاء عن بعض مشايخ الحديث، أنه قال: «دخلت مسجد الكوفة، فرأيت فيه تسعمائة شيخ ـ يعني تسعمائة عالم وأستاذ ـ وكلّ يقول: حدّثني جعفر بن محمد». فقد كان(ع) أستاذ الأساتذة الذي استطاع أن يرفع المستويين الثقافيّ والعلميّ في المرحلة التي عاش فيها، دون تمييز بين الأصناف والمذاهب والاتّجاهات، وكان المؤرّخون يتحدّثون عمّن تلمّذ عليه، فعدّوا من رواة العلم عنه أربعة آلاف رجل، أخذوا العلم منه ونشروه في مجمل العالم الإسلامي.

إنسان الحوار والانفتاح:

وكان(ع) محلَّ التقدير والتعظيم لدى العلماء، حتى من أئمة المذاهب السنيّة، فيروى عن مالك بن أنس أنه قال: «ما رأت عين، ولا سمعت أذن، ولا خطر على قلب بشر، أفضل من جعفر بن محمد الصادق فضلاً وعلماً وعبادةً وورعاً». وسئل أبو حنيفة عن أفقه الناس في زمانه، فقال: «جعفر بن محمد، فهو أعلم الناس باختلاف الناس».

ورأينا أن الزنادقة الذين كانوا لا يعترفون بالله، ولا يؤمنون بالإسلام، وكانت لديهم شبهات وملاحظات على بعض عقائد الإسلام وأحكامه، كانوا يلتقون عنده، ويجلس إليهم في المسجد الحرام، بينما الناس يطوفون بالبيت، وهو مشغول بمناقشة هؤلاء وهدايتهم إلى الدين القويم، حتى قال أحدهم: «ما رأيت أحداً يستحقُّ اسم الإنسانية إلا جعفر بن محمد الصادق»، وقال بعضهم: «ما رأيت شخصاً يتروّح تارةً ـ تشعر أنه روح تحلّق ـ ويتجسّد أخرى، كما رأيت جعفر بن محمد، فإنه كان يفتح عقله وقلبه وصدره لنا، ونحن نواجهه بكل الشبهات».

وقد كان(ع) يمثِّل إنسان الحوار الذي لا يتعقّد من أيّ شخص يخالفه في الرأي أو ينافسه في أمرٍ، بل كان يملك الصَّدر الواسع، وهذه هي صفة النبي محمد (ص)، الذي كان يلتقي الناس، ويستمع إلى الصغير منهم والكبير. وكانت المسألة التي أراد الإمام الصادق(ع) أن يؤكِّدها في المجتمع الإسلامي، إبعاد الناس عن الخرافة، والارتفاع بهم إلى درجة الوعي والعلم، فكان يقودهم إلى أن يستنطقوا عقولهم لا غرائزهم وتخلّفاتهم، وكان يقول: «حجة الله على العباد النبيّ، والحجَّة فيما بين العباد وبين الله العقل»، فالعقل هو الذي يحتجُّ الله به على عباده يوم يقوم الناس لربّ العالمين، لأننا بالعقل نوحّد الله، ونؤمن بالنبي، وننفتح على كل الحقائق في كل ما أراد الله لنا أن ننفتح عليه.

العمل على رفع مستوى الأمة:

وكان الإمام الصَّادق(ع) ينقل عن رسول الله (ص)، أنه كان يقول: «طلب العلم فريضةٌ على كلِّ مسلم»، وإذا كانت مسؤولية الجاهل أن يتعلّم، فإن مسؤولية العلماء أن يبذلوا العلم لمن هو في حاجةٍ إليه. وكان(ع) يوحي إلى الأمة كلها أن تكون أمة العلم لا أمة الجهل، وأن تأخذ بأسباب العقل لا بأسباب التخلّف، لأن الأمة التي ترتفع بما تحصل عليه من علم، وبما تؤكِّده من عقل، هي الأمة التي يمكن أن تكون خير أمة أُخرجت للناس.

وكان الإمام الصادق(ع) يؤكّد أهميّة أن يكون كل فرد من أفراد الأمة حراً، لأن الله تعالى أراد للإنسان أن يكون عبداً له وحده، وأن يكون حراً أمام كل الناس، فلا يسقط تحت تأثير الآخرين ليستعبدوه، فكان(ع) يقول: «إن الحر حرٌ في جميع أحواله، إن نابته نائبة صبر، وإن تداكّت عليه المصائب لم تكسره، ولو أُسر وقُهر». فالحرّيّة تبقى في داخل ذاته؛ حرية الإرادة والموقف. وكان(ع) يؤكِّد أهميّة الصبر، فكان يقول: «إن الصبر من الإيمان بمنـزلة الرأس من الجسد». وأراد للناس أن يكونوا في المستوى العالي من الأخلاق في علاقتهم بالآخرين، فكان(ع) يقول: «ما يُقدم المؤمن على الله عزّ وجلّ بعمل بعد الفرائض، أحبّ إلى الله من أن يسع الناس بخلقه». وكان(ع) يمتدُّ في علمه وتوجيهه وتربيته ورفع مستوى أمته، بحيث إننا عندما ندرس الإمام الصادق(ع)، نجد الثقافة العلمية الموسوعية التي لم تترك شيئاً من الإسلام إلا عرّفته للناس.

ولذلك، فإننا ندعو الناس إلى الالتزام بولاية أهل البيت(ع)، لأن الالتزام بولايتهم هو التزام بولاية رسول الله (ص) وولاية الله، لأن أهل البيت لا ينطلقون إلا من خلال إخلاصهم لله ولرسوله، وكان الإمام الباقر(ع) يقول: «من كان لله مطيعاً فهو لنا وليّ، ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدوّ، والله لا تنال ولايتنا إلا بالعمل والورع». ونحن عندما نذكر الإمام الصادق(ع) نذكر كل ما يرفع مستوى الأمة في علمها وخلقها وتقواها. والسلام عليه يوم وُلد ويوم توفي ويوم يبعث حياً.

 

الخطبة الثانية

بسم الله الرَّحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، وواجهوا الموقف بالإخلاص للإسلام والمسلمين والوحدة الإسلامية، وانطلقوا لتواجهوا الاستكبار كله والظلم كله والكفر كله، لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الشيطان هي السفلى. فماذا هناك في الواقع الإسلامي؟

لهاث عربي وراء التسوية مع إسرائيل:

في المشهد العربي ـ الإسرائيلي، نواجه حركة التطوّر السياسي العربي في لهاث العرب وراء التسوية مع العدوّ، لاجتذاب موافقته على الدخول في مفاوضات ما يسمى السلام، عبر تقديم التنازلات التاريخية بإسقاط اللاءات التي كانت تمثل العنفوان العربي الصارخ، في رفض الاجتياح الصهيوني لفلسطين، ورفض ارتكاب المجازر الوحشية التي قتلت عشرات الألوف من النساء والأطفال والشيوخ والشباب من المدنيين بدم بارد، وشرَّدت مئات الألوف منهم إلى الدول المجاورة. فالتمزقات السياسية للأنظمة العربية من جهة، والضغط الأمريكي الذي يملك السيطرة على مقدّرات هذه الأنظمة، من خلال خضوع المسؤولين لما يقرر لهم، حتى على مستوى علاقات بعضهم ببعض من جهة أخرى، جعل البعض يسقط تحت تأثير الصلح الذليل بالضربة القاضية في شكل معلن، وتوارى البعض الآخر وراء الكواليس في حركة العلاقات مع العدوّ من خلال المكاتب الاقتصادية، حتى أصبحت إسرائيل أمراً واقعاً في السياسة العربية، وكصديق في الدائرة الأمريكية التي تضمُّ الجميع.

ولم تتقبَّل إسرائيل كل هذه التنازلات، لأنها كانت تبحث عن استسلام مطلق وتنازلات استراتيجية. وبادر العرب من خلال اجتماعات القمم العربية إلى تقديم مبادرة سلام جماعية، ومُدّت كلُّ الأيدي العربية إلى إسرائيل، ولكن العدو لم يتحمَّس لذلك، ورفض المبادرة، ووقفت أمريكا معه لتصرِّح بأنَّ المبادرة العربية صالحة للتفاوض لا للتنفيذ، لأنها لا تلتقي مع الاستراتيجية الصهيونية في رفض الاعتراف بحدود 67 ورفض حقّ العودة، إضافةً إلى استراتجيتها في تهويد القدس. وما زال العرب يلهثون وراء تقديم المبادرة "البيروتية" مستندين إلى رغبة الرئيس بوش في مشروع الدولة الفلسطينية إلى جانب الدولة الإسرائيلية، من خلال مفاوضات الحل النهائي التي رفضتها حكومة الدولة العبرية، على الرغم من إلحاح وزيرة خارجية أمريكا التي رجعت إلى بلادها بخفَّي حنين، لأنها لا تملك الضغط على إسرائيل بحسب تعليمات إدارتها ورئيسها... وما زال العرب ينتظرون مجلس الأمن الذي لا يملك من أمره شيئاً، وما زال الحديث حول لعبة هذا المجلس الذي سوف يقوم بتعديل ما لم يقرِّر العرب تعديله في القمَّة... هذا، في الوقت الذي يبحث السقوط العربي عن حفرة يدفن قضيته فيها؛ هذه القضية التي نعاها أمين عام الجامعة العربية في مؤتمر سابق.

سقوط الاستراتيجية العربية:

إن المشكلة بين العرب وإسرائيل، هي أن الدولة العبرية لا تريد سلاماً مع العرب جميعاً، ولا سيّما مع الفلسطينيين، إلا بعد استكمال استراتيجيتها في السيطرة على أكثر أرض فلسطين، لتضمَّها إلى كيانها اليهودي، ولذلك فهي تطرح التطبيع قبل السلام، لتضغط من خلال اللجنة الرباعية الدولية بقيادة أمريكا على العرب، لترغمهم على تقديم تنازلات جديدة لا يبقى معها للدولة الفلسطينية أية فرصة للحياة... أما العرب الذين تعوَّدوا على تقديم التنازل تلو التنازل، والمبادرة بعد المبادرة، فإنهم يتساقطون في ما يسمى دائرة الاعتدال التي تجتذبهم إليها الإدارة الأمريكية، ليبتعدوا عن الوقوف مع قضاياهم الكبرى في التحرير والاستقلال وحرية تقرير المصير، لأن هناك أكثر من مسؤول هنا وهناك، يفرض على بلده الكثير من التنازلات للعدوّ وللسياسة الأمريكية، انطلاقاً من تاريخه الشخصي والعائلي في السقوط في أفخاخ المخابرات.

وهكذا رأينا رئيس وزراء العدوّ (أولمرت)، يطالب العرب باستقباله أو بالقدوم إليه بدلاً من القبول بالمبادرة العربية، لأنه اعتاد من خلال التاريخ على الرفض لما يريدونه، في موقف عنصري حاسم، وعلى قبولهم ما يريد، لأن إسرائيل لم تغيِّر أي موقف من مواقفها الاستراتيجية، في الوقت الذي لم يبق للعرب أية استراتيجية قومية أو إسلامية. ويستمر الجيش الإسرائيلي في نهجه اليومي في اغتيال الناشطين، وقتل المدنيين، واعتقال المجاهدين، وحصار المناطق المحتلة باسم الاحتفال بعيد الفصح اليهودي، وقد كان آخر عدوانه، إرسال الإنذارات إلى ما يقرب الألف فلسطيني مقدسي لإخلاء منازلهم، بحجة ملكية امرأة يهودية للأرض التي يقيمون عليها من دون أيِّ حل لمشكلتهم الإنسانية... ولم يحرّك الواقع الدولي الأمريكي والأوروبي، ولا النظام العربي، ساكناً للاحتجاج على عدوان إسرائيل أو الضغط لمنع ذلك، في الوقت الذي لا يزال الحصار الاقتصادي والسياسي، إسرائيلياً وأمريكياً وأوروبياً، مسلّطاً على رأس حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية، أو بما يتصل بوزراء حركة حماس، وذلك في ظل استمرار الصمت العربي المطبق.

أمريكا تصنع المشكلات لمعارضي سياستها:

أما أمريكا، فإنّ استخباراتها لا تزال تحرِّك لعبة الأمم في العالمين العربي والإسلامي، مع امتداداتٍ سياسية وأمنية إلى أكثر من دولة في أمريكا اللاتينية، وفي كل الدول التي تعارض سياستها الاستكبارية، والتي تهدف إلى تحرير قراراتها في حاضرها ومستقبلها من أيِّ ضغط أمريكي في مجالات الاقتصاد والأمن والسياسة. وهكذا رأينا كيف تتابع احتلالها للعراق، وتحشد لتأكيد ذلك المزيد من جنودها، بالرغم من معارضة الرأي العام الأمريكي والشعب العراقي لذلك، في الوقت الذي يعرف العالم كله فشل هذا الاحتلال وسقوطه في الرمال العراقية المتحركة، وهو ما يدفع الشعوب الحرة إلى التحرّك في تظاهرات كبيرة مطالبةً بالانسحاب من العراق. ولا يزال العراق يعاني من خلال هذا الاحتلال الذي تحوَّل إلى غطاء للإرهابيين التكفيريين الذي يرتكبون المجازر ضدّ الأطفال، والتّي كان آخرها مجزرة حصدت مئات الأطفال في عملية تفجيرية انتحارية، إلى جانب العمليات الأخرى التي تستهدف المدنيين في شكل عشوائي، بعدما كانت جرائمهم موجَّهة إلى جماعة مذهبية معينة...

إننا في الوقت الذي نؤكد أنَّ الاحتلال وأذنابه هو السر في المشكلة العراقية على كل المستويات، نريد للعراقيين الانطلاق في مقاومة مدروسة دقيقة شاملة للاحتلال، لتحرير البلد كله، والوقوف في وجه الذين يحركون حقدهم الطائفي الأسود ضد المسلمين بدلاً من المحتلين.

ومن جانب آخر، فإن المستضعفين في الصومال البائس الفقير الجائع المحروم، لا يزالون يعانون من الحرب المجنونة التي تتحرك في ساحة الفوضى، وفي متاهات اللعبة الدولية الأمريكية والأوروبية، التي تعمل على تهيئة الظروف السياسية للسيطرة على القرن الأفريقي، لحساب الاستراتيجية الأمريكية الاستكبارية في امتداد نفوذها في تلك المنطقة في العالم، بدعمٍ من أكثر من دولة إقليمية في تلك المنطقة لخدمة مصالح الاستكبار العالمي.

لبنان: أزمة ثقة داخلية وتدخلات خارجية:

أما في لبنان، فإنَّ الصراع السياسي في الأزمة المستحكمة بالبلد كله، لا يزال يفرض التجميد على كلِّ مقدّرات البلد الاقتصادية والأمنية، لأن المفردات التي تثيرها دوائر الصراع ليست من الصعوبة بحيث يستحيل حلّها، لولا أن هناك تدخلات خارجية وإيحاءات دولية تضغط لإبقاء الأزمة في نطاق الجمود، إضافة إلى فقدان الثقة بين فريق السلطة وفريق المعارضة، ورفض هذا الجانب أو ذاك دراسة الضمانات القانونية والسياسية التي تمنع الخوف من السلبيات في حكومة الوحدة الوطنية، أو في دراسة بعض مواد المحكمة ذات الطابع الدولي، فهناك إصرار على ترديد الكلمات الاستهلاكية التي اعتادها بعض السياسيين لإثارة جمهورهم، في عملية انفعال طائفي أو مذهبي، وكأن المطلوب أن لا نصل إلى الحل.

إننا نتساءل عن هذه الطريقة التي تدار بها الأزمة اللبنانية، التي لم تكتف بإشغال اللبنانيين عن مشاكلهم الحيوية وقضاياهم المصيرية، بل امتدَّت إلى إشغال العالم العربي المثقل بالتحدّيات الكبرى في أكثر من بلد عن قضاياه الكبرى، ولا سيّما في صراعه مع العدوّ الإسرائيلي، الذي لم يبتعد في مخابراته واختراقاته عن العدوان عن لبنان.

ونحن في الوقت الذي قد نستشعر بأن من الضرورة بمكان أن يعود لبنان إلى موقعه الطبيعي في الحركة السياسية التي تجتذب أكثر من مسؤول غربي أو عربي، كما تجتذب مسؤولي الأمم المتحدة وغيرهم، إلا أننا نرى في الزيارات الأخيرة ذات الطابع الاستطلاعي أو التهويلي، محاولة تسجيل النقاط على أكثر من موقع عربي وإسلامي، من دون الإشارة إلى الخرق المتواصل للقرار 1701 في العدوان الإسرائيليّ الجويّ والبري المستمرّ على لبنان، وذلك إضافة إلى الإيحاءات التي يوزعها هؤلاء الزائرون عن الحصار المضروب على لبنان، كي يبقى في دائرتي التدويل والتهويل.

لقد قال بعض المحلّلين السياسيين، وهو يصف الواقع السياسي اللبناني، إن لبنان يفتش عن قراره عند سواه، ليكون البلد الذي لا يتحرك قراره عند أبنائه، أو ليكون الوطن للغرباء أكثر منه لمواطنيه، فيما هناك دعوة مخلصة يوجهها اللبنانيون بإخلاص إلى النّواب، بأن يصيروا نواباً بدلاً من استمرار هذه الأوضاع التي تكاد تجعلهم نوائب هذا البلد، من خلال هذه الفوضى المتمثّلة بالأزمة السياسية التي أطبقت على الوطن كلّه وصادرت الإنسان كله.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية