المبادرة إلى قضاء حوائج المؤمنين...

المبادرة إلى قضاء حوائج المؤمنين...

من ركائز النظام لأخلاقي الإسلامي:
المبادرة إلى قضاء حوائج المؤمنين...


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:

في النظام الأخلاقي التربوي الإسلامي، نقرأ فيما جاء عن النبي(ص)، وعن الأئمَّة من أهل البيت(ع)، أنّ الطاقة التي يملكها الإنسان، والتي من خلالها يستطيع أن ينفع الناس، وأن يقضي حاجاتهم، وأن يخفف من آلامهم ويكشف كرباتهم، هذه الطاقة، عندما يستخدمها الإنسان من أجل رعاية المجتمع في حاجاته الحيوية والضرورية، بحيث يبادر إلى دراسة حاجات الناس لقضائها، وإلى تعرّف مشاكلهم لحلّها، تقرّباً إلى الله في ذلك كله، فإن هذا الخط الأخلاقي إذا أخذ به، فإنه يرفع درجته عند الله تعالى.

قضاء الحوائج يرفع درجة المؤمن:

ونحن نقرأ في الحديث عن الإمام جعفر الصادق(ع) في هذا الاتجاه أنه قال: «من مشى في حاجة أخيه المؤمن يطلب بذلك ما عند الله ـ يتقرّب إلى الله به ـ حتى تُقضى له، كتب الله عزّ وجلّ له بذلك مثل أجر حجة وعمرة مبرورتين وصوم شهرين من أشهر الحرم واعتكافهما في المسجد الحرام، ومن مشى فيها بنيّة ولم تقضى، كتب الله له بذلك مثل حجة مبرورة. فارغبوا في الخير». فالإمام الصادق(ع) يعتبر أن المؤمن إذا مشى في حاجة أخيه وكان قادراً على أن يقضيها أو عازماً على ذلك ـ قُضيت أو لم تقضَ ـ فإن الله تعالى يرفع درجته بذلك، ويعطيه ثواب الحج والعمرة والصوم والاعتكاف.

ويقول الإمام الصَّادق(ع): «تنافسوا في المعروف لإخوانكم ـ ليكن لكم التسابق في بذل المعروف، وهو ما يمثِّل الخير ـ وكونوا من أهله، فإنّ للجنة باباً يقال له المعروف لا يدخله إلا من اصطنع المعروف في الحياة الدنيا، فإن العبد ليمشي في حاجة أخيه المؤمن، فيوكّل الله عزّ وجلّ به ملكين، واحداً عن يمينه وآخر عن شماله، يستغفران له ربَّه ويدعوان بقضاء حاجته». ثم قال(ع): «والله، لرسول الله لأسرّ بقضاء حاجة المؤمن إذا وصلت إليه من صاحب الحاجة»، فهذا الجهد الذي يبذله الإنسان في قضاء الحاجة، ليس جهداً ضائعاً، بل يجعل له الدرجات العليا عند الله تعالى.

وفي الحديث عن الإمام الباقر(ع) يقول: «والله، لئن أعول أهل بيت من المسلمين، أسدّ جوعتهم، وأكسو عورتهم، فأكفّ وجوههم عن الناس، أحبّ إليّ من أن أحجّ حجة وحجة ومثلها ومثلها (حتى بلغ عشراً)، ومثلها ومثلها (حتى بلغ السبعين)». ونقرأ عن الإمام الباقر(ع) أيضاً أنه قال: «أوحى الله عزّ وجلّ إلى موسى، أنَّ مِن عبادي من يتقرّب إليّ بالحسنة فأحكّمه في الجنة، فقال موسى: يا ربّ، وما تلك الحسنة؟ قال: يمشي مع أخيه المؤمن في قضاء حاجته، قُضيت أو لم تُقضَ».

وفي الحديث أيضاً عنه(ع) عن الحالة النفسية التي يعيشها المؤمن إذا ما عرف أنَّ هناك مؤمنين محتاجين ويعانون من ضيق، يقول: «إن المؤمن لترد عليه الحاجة لأخيه، فلا تكون عنده، فيهتمُّ بها قلبه، فيدخله الله تعالى بهمّه الجنة». وفي الحديث عن الإمام الكاظم(ع) يقول: «إن لله عباداً في الأرض يسعون في حوائج الناس، هم الآمنون يوم القيامة، ومن أدخل على مؤمن سروراً، فرّح الله قلبه يوم القيامة». فكيف بمن يُدخل الحزن على المؤمنين؟

حبّ الله وخدمة العباد:

وفي الحديث عن الإمام الصَّادق أنه قال: «قال الله عزّ وجلّ: الخلق عيالي، فأحبّهم إليَّ ألطفهم بهم، وأسعاهم في حوائجهم». وفي الحديث عنه(ع) أنه قال: «ما قضى مسلم لمسلم حاجة إلا ناداه الله: عليّ ثوابك، ولا أرضى لك بدون الجنة». ويقول(ع): «من أحبّ الأعمال إلى الله عزّ وجلّ، إدخال السرور على المؤمن: إشباع جوعته، أو تنفيس كربته، أو قضاء دينه». وعن الإمام الباقر(ع): «قال رسول الله(ص): من سرّ مؤمناً فقد سرّني، ومن سرَّني فقد سرّ الله».

ونقرأ في وصية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) لصاحبه «كميل بن زياد» أنه قال: «يا كميل، مر أهلك أن يروحوا في كسب المكارم، ويُدلجوا في حاجة من هو نائم ـ والإدلاج هو السير في الليل ـ فوالذي وسع سمعه الأصوات، ما من أحد أودع قلباً سروراً، إلاّ وخلق الله له من ذلك السرور لطفاً، فإذا نزلت به نائبة، جرى إليها كالماء في انحداره، حتّى يطردها كما تُطرد غريبة الإبل».

هذه هي القاعدة الأخلاقية الإسلامية؛ أن يتحرك مجتمعنا في سبيل أن نبادر إلى إدخال السرور على المؤمنين بكل ما نستطيع، لنقضي حوائجهم، وننفّس كروبهم، والله تعالى يتقبّل ذلك منّا ويرفع درجاتنا، ويسير بنا إلى رضوانه الذي ينتهي بنا إلى الجنة.

 

الخطبة الثانية

بسم الله الرَّحمن الرحيم

عباد الله... اتَّقوا الله وانطلقوا في واقع المجتمع الإسلامي من أجل أن تتحمّلوا مسؤوليته، في سبيل قضاء حاجة من يحتاج إلى الكثير من شؤون الحياة والعيش وكل ما يرفع مستوى الإنسان في الدنيا والآخرة. ومن قضاء حوائج المؤمنين، توعيتهم، وجعل حياتهم تنفتح على الخير والعزة والكرامة، والاهتمام بأمورهم، والسعي في كل ما يرتفع بهم إلى مستوى الحرية. فماذا هناك؟

البيئة الأمريكية منتجة للإجرام:

في المشهد الأمريكي، نلتقي بالمجزرة الدموية في جامعة فرجينيا التي حصدت 33 طالباً وبعض الجرحى، في عملية إجرامية قام بها طالب أمريكي من أصل كوري جنوبي، وتأتي هذه المجزرة في سياق العمليات الإجرامية التي تشهدها الولايات المتحدة الأميركية، ما جعلها تمثل ساحة الجريمة الأولى في العالم، كما يشير إلى ذلك الكثير من الإحصاءات. وقد سبق هذه الجريمة مقتل 15 شخصاً في جامعة تكساس سنة 1966، إلى جانب حادثة أخرى تمثَّلت في قيام تلميذين بقتل 12 من زملائهم وأحد الأساتذة، عدا المجازر المتفرقة التي تحدث بين يوم وآخر في المدارس وغيرها، والتي تعطي الدليل تلو الدليل على أن البيئة الأمريكية هي بيئة منتجة للإجرام والإرهاب، حيث يذهب ضحية هذه الأعمال ما يقرب من 30 ألف شخص سنوياً. وقد تحدَّثت العالمة النفسية الأميركية "ندين كاسلو" عن أنَّ الثقافة الأميركية مليئة بالعنف، وخصوصاً في المؤسسات التربوية الأميركية.

إنَّنا نتحدث عن ذلك في مواجهة الإعلام الأمريكي في المواقع السياسية والثقافية، الذي يتهم الإسلام والمسلمين بالإرهاب، كما لو كانت التهمة صفة لازمة للواقع الإسلامي، مع تبرئة الغرب، ولا سيما أمريكا، من العنف القاتل والمعتدي.

إننا لا ننكر وجود ظاهرة إرهابية تلتزم العنف في الدائرة السياسية أو في المنازعات الطائفية الناتجة من فهم جاهل متخلّف للإسلام في مسألة احترام المسلم والمسالم وعدم الاعتداء عليه، ولكنّ العلماء والمثقّفين الطليعيين من الإسلاميين يرفضون ذلك، ويعتبرونه خارجاً عن الخط الإسلامي الأصيل، وهو أمرٌ لا يمثل ظاهرة عامة في التفكير الإسلامي، بل يتحرك في دوائر ضيقة خاصة من المجتمع، إضافةً إلى مسؤولية الاحتلال الأميركي والإسرائيلي، عن ذلك سواء في رعايته لمن يقوم بمثل هذه الأعمال، أو في خلق مناخات من الفوضى الأمنية والسياسية التي تنتج ذلك...

أمّا في المجتمع الأمريكي، فإنَّ الإرهاب أخذ يمثِّل ظاهرةً متحركةً تطاول المراكز التربوية، بحيث يقوم طلاب مراهقون بأعمال عنف ضدّ زملائهم وأساتذتهم من دون سبب، أو قد تكون منطلقةً من بعض الفئات التي تستخدم العنف كوسيلة دينية متطرفة. هذا، إلى جانب إرهاب الدولة الذي تمارسه الإدارة الأمريكية التي تتحرك بالعنف في الاحتلال، أو بإثارة الحروب ضد الشعوب المستضعفة الآمنة، لتضغط عليها في مصادرة ثرواتها وسياستها وأمنها، ولتفرض عليها شروطها في أكثر من موقع، أو بتشجيع المجازر الإرهابية في سلوك حلفائها، كما نجده في تأييدها لجرائم إسرائيل ضد الفلسطينيين واللبنانيين في العدوان الأخير...

إنَّنا نقول لأمريكا إنّ عليها أن تعلن الحرب على الإرهاب في بلدها الغارق بالعنف المتنوّع قبل أن تعلن الحرب على ما تسميه الإرهاب في العالم العربي والإسلامي، مما قد يتمثل في حركات التحرّر من أجل مواجهة الاحتلال. هذا، إضافةً إلى الفساد المستشري في الإدارة الذي نراه لدى بعض الموظفين والمسؤولين الكبار بين وقت وآخر، أو الذين يثار الجدل حولهم في سلوكهم السيّىء والفضائحي الذي قد يمتد إلى أكثر من موقع اقتصادي وأمني في العالم.

العراق: دعوة لإنقاذ الوطن من السقوط:

ومن جانب آخر، فإنَّ العراق لا يزالُ يعاني من ضغط الاحتلال الأمريكي الذي ترفضه أكثرية الشعب العراقي الذي يتحرَّك بالمقاومة ضده في مواقع جديدة، والّذي يرفض في الوقت نفسه الجماعات التكفيرية التي تقتل المدنيين العراقيين تحت تأثير حساسيات مذهبية أو سياسية داخلية، من دون أن تتخذ أيّ موقف حادّ ضد المحتلين... ونحن نناشد الشعب العراقي أن يكون واعياً للمأساة الإنسانية القاسية المتمثلة بالعنف الذي يدمِّر البلاد والعباد، وأن يوحّد كل جهوده في مواجهة كل الذين يصنعون المجازر في الواقع المدني، وأن تنطلق كلّ الجهات في وحدة إسلامية وطنية ضد الاحتلال، وأن يدرسوا حركة المعارضة السياسية بطريقة حكيمة بعيدة من الطائفيات والفئويات، من أجل أن يتعاونوا لإيجاد موقف سياسي يتواصل فيه الجميع ويتكاملون من أجل المصلحة العامة، وأن يتحرَّكوا في خطِّ الإيجابيات المنفتحة على الإنسان كله والوطن كله وقضايا الحرية كلها، ويبتعدوا عن السَّلبيات الذاتية والفئوية التي يسجِّل فيها فريق من هنا نقطة على فريق من هناك، ولا سيما أنَّ الفساد بدأ يستشري في الأمن والإدارة والأوضاع العامة، بالمستوى الذي قد يهدم الكيان كله بيد المفسدين، قبل أن تهدمه القوى الأجنبية المحتلة. كما أنَّنا نواجه في المأساة العراقية بعض الأرقام الهائلة في وقعها، كسقوط ما يقارب المليون شهيد وجريح، وتهجير أكثر من أربعة ملايين، ووجود أكثر من 900 ألف يتيم، الأمر الذي يؤدي إلى ما يشبه سقوط الوطن كله.

وإلى جانب ما يجري في العراق، نلتقي بالتفجيرات المتنقلة التي استهدفت المغرب والجزائر، والتي حصدت الأرواح المدنية البريئة التي حرَّم الله قتلها، ولكن الجماعات التكفيرية لاحقتها واستهدفتها تحت العنوان الإسلامي، والإسلام براء من ذلك، حتى وإن تذرَّع هؤلاء باستهداف السلطات الحاكمة.

استباحة تامَّة لحقوق الإنسان الفلسطيني:

أمَّا في فلسطين، فلا تزال النكبة تراوح مكانها في طريقة الكيان الصهيوني في الضّغط على الشعب الفلسطيني، وملاحقة ناشطيه بالقتل والاعتقال، واجتياح مدنه وقراه، بحيث يُمنَع الفلسطينيون المدنيون من أية فرصة للاستقرار في منازلهم وأسواقهم ومدارسهم وجامعاتهم من خلال الهجوم اليومي الوحشي، كما يواجهون على معابر الطرق الإذلال والتعسف من قِبل الجيش الصهيوني. أما لقاء رئيس السلطة برئيس الحكومة الصهيونية، فهو أشبه بالخديعة الإعلامية التي يوظفها العدوّ لأوضاعه الداخلية، في الإيحاء بأن هناك حركة جادَّة نحو السلام، وتتحرك بها السلطة للإيحاء بوجود نوع من الأمل لحل المشكلة في المستقبل ولو بعد حين.

ولا يزال الحصار الاقتصادي الأمريكي والإسرائيلي والأوروبي في بعض دوله يفرض نفسه على الواقع الفلسطيني، في عملية امتداد للحرمان التجويعي للشعب كله، في الوقت الذي يتحدث الغرب عن حقوق الإنسان الذي يتمحور حول الإنسان اليهودي لا العربي.

فيما الدول العربية والإسلامية، تبقى خاضعة للضغط الأمريكي الذي قد يمنحها بعض الحرية بما يحفظ ماء الوجه أمام شعوبها، ولكن من دون حلّ للمشكلة في الحاضر والمستقبل.

لبنان ساحة للمشاريع الأمريكية:

أما في لبنان، فنحن نلتقي في هذه الأيام بذكرى مجزرة قانا التي سبقتها عشرات المجازر الإسرائيلية، وتلتها العشرات أيضاً في سلسلة المجازر التي ارتكبتها إسرائيل على مرأى ومسمع من المجتمع الدولي الذي وقف متفرجاً أمام ذلك كله، إن لم نقل إنه أفسح في المجال لإسرائيل لأن تستمر في عدوانها بعيداً عن المساءلة والإدانة.

أما في الداخل اللبناني، فإننا نلاحظ أنه ليس للبنانيين أيّ دور في شؤون البلد السياسية والقضائية والإدارية، وربما الأمنية، بل إنهم ـ من خلال القائمين على شؤونه في السلطة وفي السياسة في بعض مواقعها ـ يتابعون المواقف الخارجية والدولية والإقليمية التي تخطط لتحريك الساحة اللبنانية في خدمة مصالحها التكتيكية والاستراتيجية، والتي أدمن اللبنانيون التزامهم بها بعيداً عن مصالحهم الخاصة، وأصبحت القضية هي ما هو موقف المجتمع الدولي الخاضع للضغط الأمريكي، والواقع تحت إرادة الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، ليتحدث البعض بأننا مع الشرعية الدولية التي يعرف الجميع أن إسرائيل لم تلتزم بأيّ قرار من قراراتها التي لا تتناسب مع استراتيجيتها اليهودية، من دون أي موقف دولي ضاغط عليها من مجلس الأمن وغيره، بينما نسجد ونركع أمام أي قرار دولي يتحرك من مصالح الآخرين...

إن القضية هي أنّ الشّعب اللبناني، في أكثريته الوطنية، لا دور له في حساب الكثيرين، وأن الدستور في مواده القانونية، لا يملك مجلساً يدرس الأوضاع السياسية والإدارية بطريقة علمية موضوعية، لأنَّ الأوضاع القلقة في ساحة الصّراع قد جمَّدت المجلس الدستوريّ ورمته في دائرة النسيان.

إنَّ الجدال السياسي بين المعارضة والموالاة أصبح جدلاً قانونياً ودستورياً حول انتخاب الرَّئيس في مستوى النصاب، أو حول الانتخابات النيابية، أو حول شرعية الحكومة، أو في نظام المجلس، أو في شرعية الرئاسة، وقد أصبحت الاجتهادات المتناقضة في هذا الموقع أو ذاك، تؤجِّج الصراع، بحيث بات المخلصون يخشون من أن يتحوَّل التحرك الانتخابي في المستقبل إلى ما يشبه الفوضى السياسية التي لا يلتقي فيها اللبنانيون على رئيس واحد أو حكومة واحدة، وكل ما نخشاه أن لا يتم اللقاء على وطن واحد أمام دعوات التقسيم التي يتحدث فيها زعيم من طائفة عن دولة طائفية، أو دعوات الفدرالية التي تأكل الوحدة وتصادر العيش الطائفي في لبنان، ليبقى لبنان ساحة المشاريع الأمريكية التي قد تستخدم بعض التدخلات العربية التي تلوّح بالحل من دون حلّ.

من ركائز النظام لأخلاقي الإسلامي:
المبادرة إلى قضاء حوائج المؤمنين...


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:

في النظام الأخلاقي التربوي الإسلامي، نقرأ فيما جاء عن النبي(ص)، وعن الأئمَّة من أهل البيت(ع)، أنّ الطاقة التي يملكها الإنسان، والتي من خلالها يستطيع أن ينفع الناس، وأن يقضي حاجاتهم، وأن يخفف من آلامهم ويكشف كرباتهم، هذه الطاقة، عندما يستخدمها الإنسان من أجل رعاية المجتمع في حاجاته الحيوية والضرورية، بحيث يبادر إلى دراسة حاجات الناس لقضائها، وإلى تعرّف مشاكلهم لحلّها، تقرّباً إلى الله في ذلك كله، فإن هذا الخط الأخلاقي إذا أخذ به، فإنه يرفع درجته عند الله تعالى.

قضاء الحوائج يرفع درجة المؤمن:

ونحن نقرأ في الحديث عن الإمام جعفر الصادق(ع) في هذا الاتجاه أنه قال: «من مشى في حاجة أخيه المؤمن يطلب بذلك ما عند الله ـ يتقرّب إلى الله به ـ حتى تُقضى له، كتب الله عزّ وجلّ له بذلك مثل أجر حجة وعمرة مبرورتين وصوم شهرين من أشهر الحرم واعتكافهما في المسجد الحرام، ومن مشى فيها بنيّة ولم تقضى، كتب الله له بذلك مثل حجة مبرورة. فارغبوا في الخير». فالإمام الصادق(ع) يعتبر أن المؤمن إذا مشى في حاجة أخيه وكان قادراً على أن يقضيها أو عازماً على ذلك ـ قُضيت أو لم تقضَ ـ فإن الله تعالى يرفع درجته بذلك، ويعطيه ثواب الحج والعمرة والصوم والاعتكاف.

ويقول الإمام الصَّادق(ع): «تنافسوا في المعروف لإخوانكم ـ ليكن لكم التسابق في بذل المعروف، وهو ما يمثِّل الخير ـ وكونوا من أهله، فإنّ للجنة باباً يقال له المعروف لا يدخله إلا من اصطنع المعروف في الحياة الدنيا، فإن العبد ليمشي في حاجة أخيه المؤمن، فيوكّل الله عزّ وجلّ به ملكين، واحداً عن يمينه وآخر عن شماله، يستغفران له ربَّه ويدعوان بقضاء حاجته». ثم قال(ع): «والله، لرسول الله لأسرّ بقضاء حاجة المؤمن إذا وصلت إليه من صاحب الحاجة»، فهذا الجهد الذي يبذله الإنسان في قضاء الحاجة، ليس جهداً ضائعاً، بل يجعل له الدرجات العليا عند الله تعالى.

وفي الحديث عن الإمام الباقر(ع) يقول: «والله، لئن أعول أهل بيت من المسلمين، أسدّ جوعتهم، وأكسو عورتهم، فأكفّ وجوههم عن الناس، أحبّ إليّ من أن أحجّ حجة وحجة ومثلها ومثلها (حتى بلغ عشراً)، ومثلها ومثلها (حتى بلغ السبعين)». ونقرأ عن الإمام الباقر(ع) أيضاً أنه قال: «أوحى الله عزّ وجلّ إلى موسى، أنَّ مِن عبادي من يتقرّب إليّ بالحسنة فأحكّمه في الجنة، فقال موسى: يا ربّ، وما تلك الحسنة؟ قال: يمشي مع أخيه المؤمن في قضاء حاجته، قُضيت أو لم تُقضَ».

وفي الحديث أيضاً عنه(ع) عن الحالة النفسية التي يعيشها المؤمن إذا ما عرف أنَّ هناك مؤمنين محتاجين ويعانون من ضيق، يقول: «إن المؤمن لترد عليه الحاجة لأخيه، فلا تكون عنده، فيهتمُّ بها قلبه، فيدخله الله تعالى بهمّه الجنة». وفي الحديث عن الإمام الكاظم(ع) يقول: «إن لله عباداً في الأرض يسعون في حوائج الناس، هم الآمنون يوم القيامة، ومن أدخل على مؤمن سروراً، فرّح الله قلبه يوم القيامة». فكيف بمن يُدخل الحزن على المؤمنين؟

حبّ الله وخدمة العباد:

وفي الحديث عن الإمام الصَّادق أنه قال: «قال الله عزّ وجلّ: الخلق عيالي، فأحبّهم إليَّ ألطفهم بهم، وأسعاهم في حوائجهم». وفي الحديث عنه(ع) أنه قال: «ما قضى مسلم لمسلم حاجة إلا ناداه الله: عليّ ثوابك، ولا أرضى لك بدون الجنة». ويقول(ع): «من أحبّ الأعمال إلى الله عزّ وجلّ، إدخال السرور على المؤمن: إشباع جوعته، أو تنفيس كربته، أو قضاء دينه». وعن الإمام الباقر(ع): «قال رسول الله(ص): من سرّ مؤمناً فقد سرّني، ومن سرَّني فقد سرّ الله».

ونقرأ في وصية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) لصاحبه «كميل بن زياد» أنه قال: «يا كميل، مر أهلك أن يروحوا في كسب المكارم، ويُدلجوا في حاجة من هو نائم ـ والإدلاج هو السير في الليل ـ فوالذي وسع سمعه الأصوات، ما من أحد أودع قلباً سروراً، إلاّ وخلق الله له من ذلك السرور لطفاً، فإذا نزلت به نائبة، جرى إليها كالماء في انحداره، حتّى يطردها كما تُطرد غريبة الإبل».

هذه هي القاعدة الأخلاقية الإسلامية؛ أن يتحرك مجتمعنا في سبيل أن نبادر إلى إدخال السرور على المؤمنين بكل ما نستطيع، لنقضي حوائجهم، وننفّس كروبهم، والله تعالى يتقبّل ذلك منّا ويرفع درجاتنا، ويسير بنا إلى رضوانه الذي ينتهي بنا إلى الجنة.

 

الخطبة الثانية

بسم الله الرَّحمن الرحيم

عباد الله... اتَّقوا الله وانطلقوا في واقع المجتمع الإسلامي من أجل أن تتحمّلوا مسؤوليته، في سبيل قضاء حاجة من يحتاج إلى الكثير من شؤون الحياة والعيش وكل ما يرفع مستوى الإنسان في الدنيا والآخرة. ومن قضاء حوائج المؤمنين، توعيتهم، وجعل حياتهم تنفتح على الخير والعزة والكرامة، والاهتمام بأمورهم، والسعي في كل ما يرتفع بهم إلى مستوى الحرية. فماذا هناك؟

البيئة الأمريكية منتجة للإجرام:

في المشهد الأمريكي، نلتقي بالمجزرة الدموية في جامعة فرجينيا التي حصدت 33 طالباً وبعض الجرحى، في عملية إجرامية قام بها طالب أمريكي من أصل كوري جنوبي، وتأتي هذه المجزرة في سياق العمليات الإجرامية التي تشهدها الولايات المتحدة الأميركية، ما جعلها تمثل ساحة الجريمة الأولى في العالم، كما يشير إلى ذلك الكثير من الإحصاءات. وقد سبق هذه الجريمة مقتل 15 شخصاً في جامعة تكساس سنة 1966، إلى جانب حادثة أخرى تمثَّلت في قيام تلميذين بقتل 12 من زملائهم وأحد الأساتذة، عدا المجازر المتفرقة التي تحدث بين يوم وآخر في المدارس وغيرها، والتي تعطي الدليل تلو الدليل على أن البيئة الأمريكية هي بيئة منتجة للإجرام والإرهاب، حيث يذهب ضحية هذه الأعمال ما يقرب من 30 ألف شخص سنوياً. وقد تحدَّثت العالمة النفسية الأميركية "ندين كاسلو" عن أنَّ الثقافة الأميركية مليئة بالعنف، وخصوصاً في المؤسسات التربوية الأميركية.

إنَّنا نتحدث عن ذلك في مواجهة الإعلام الأمريكي في المواقع السياسية والثقافية، الذي يتهم الإسلام والمسلمين بالإرهاب، كما لو كانت التهمة صفة لازمة للواقع الإسلامي، مع تبرئة الغرب، ولا سيما أمريكا، من العنف القاتل والمعتدي.

إننا لا ننكر وجود ظاهرة إرهابية تلتزم العنف في الدائرة السياسية أو في المنازعات الطائفية الناتجة من فهم جاهل متخلّف للإسلام في مسألة احترام المسلم والمسالم وعدم الاعتداء عليه، ولكنّ العلماء والمثقّفين الطليعيين من الإسلاميين يرفضون ذلك، ويعتبرونه خارجاً عن الخط الإسلامي الأصيل، وهو أمرٌ لا يمثل ظاهرة عامة في التفكير الإسلامي، بل يتحرك في دوائر ضيقة خاصة من المجتمع، إضافةً إلى مسؤولية الاحتلال الأميركي والإسرائيلي، عن ذلك سواء في رعايته لمن يقوم بمثل هذه الأعمال، أو في خلق مناخات من الفوضى الأمنية والسياسية التي تنتج ذلك...

أمّا في المجتمع الأمريكي، فإنَّ الإرهاب أخذ يمثِّل ظاهرةً متحركةً تطاول المراكز التربوية، بحيث يقوم طلاب مراهقون بأعمال عنف ضدّ زملائهم وأساتذتهم من دون سبب، أو قد تكون منطلقةً من بعض الفئات التي تستخدم العنف كوسيلة دينية متطرفة. هذا، إلى جانب إرهاب الدولة الذي تمارسه الإدارة الأمريكية التي تتحرك بالعنف في الاحتلال، أو بإثارة الحروب ضد الشعوب المستضعفة الآمنة، لتضغط عليها في مصادرة ثرواتها وسياستها وأمنها، ولتفرض عليها شروطها في أكثر من موقع، أو بتشجيع المجازر الإرهابية في سلوك حلفائها، كما نجده في تأييدها لجرائم إسرائيل ضد الفلسطينيين واللبنانيين في العدوان الأخير...

إنَّنا نقول لأمريكا إنّ عليها أن تعلن الحرب على الإرهاب في بلدها الغارق بالعنف المتنوّع قبل أن تعلن الحرب على ما تسميه الإرهاب في العالم العربي والإسلامي، مما قد يتمثل في حركات التحرّر من أجل مواجهة الاحتلال. هذا، إضافةً إلى الفساد المستشري في الإدارة الذي نراه لدى بعض الموظفين والمسؤولين الكبار بين وقت وآخر، أو الذين يثار الجدل حولهم في سلوكهم السيّىء والفضائحي الذي قد يمتد إلى أكثر من موقع اقتصادي وأمني في العالم.

العراق: دعوة لإنقاذ الوطن من السقوط:

ومن جانب آخر، فإنَّ العراق لا يزالُ يعاني من ضغط الاحتلال الأمريكي الذي ترفضه أكثرية الشعب العراقي الذي يتحرَّك بالمقاومة ضده في مواقع جديدة، والّذي يرفض في الوقت نفسه الجماعات التكفيرية التي تقتل المدنيين العراقيين تحت تأثير حساسيات مذهبية أو سياسية داخلية، من دون أن تتخذ أيّ موقف حادّ ضد المحتلين... ونحن نناشد الشعب العراقي أن يكون واعياً للمأساة الإنسانية القاسية المتمثلة بالعنف الذي يدمِّر البلاد والعباد، وأن يوحّد كل جهوده في مواجهة كل الذين يصنعون المجازر في الواقع المدني، وأن تنطلق كلّ الجهات في وحدة إسلامية وطنية ضد الاحتلال، وأن يدرسوا حركة المعارضة السياسية بطريقة حكيمة بعيدة من الطائفيات والفئويات، من أجل أن يتعاونوا لإيجاد موقف سياسي يتواصل فيه الجميع ويتكاملون من أجل المصلحة العامة، وأن يتحرَّكوا في خطِّ الإيجابيات المنفتحة على الإنسان كله والوطن كله وقضايا الحرية كلها، ويبتعدوا عن السَّلبيات الذاتية والفئوية التي يسجِّل فيها فريق من هنا نقطة على فريق من هناك، ولا سيما أنَّ الفساد بدأ يستشري في الأمن والإدارة والأوضاع العامة، بالمستوى الذي قد يهدم الكيان كله بيد المفسدين، قبل أن تهدمه القوى الأجنبية المحتلة. كما أنَّنا نواجه في المأساة العراقية بعض الأرقام الهائلة في وقعها، كسقوط ما يقارب المليون شهيد وجريح، وتهجير أكثر من أربعة ملايين، ووجود أكثر من 900 ألف يتيم، الأمر الذي يؤدي إلى ما يشبه سقوط الوطن كله.

وإلى جانب ما يجري في العراق، نلتقي بالتفجيرات المتنقلة التي استهدفت المغرب والجزائر، والتي حصدت الأرواح المدنية البريئة التي حرَّم الله قتلها، ولكن الجماعات التكفيرية لاحقتها واستهدفتها تحت العنوان الإسلامي، والإسلام براء من ذلك، حتى وإن تذرَّع هؤلاء باستهداف السلطات الحاكمة.

استباحة تامَّة لحقوق الإنسان الفلسطيني:

أمَّا في فلسطين، فلا تزال النكبة تراوح مكانها في طريقة الكيان الصهيوني في الضّغط على الشعب الفلسطيني، وملاحقة ناشطيه بالقتل والاعتقال، واجتياح مدنه وقراه، بحيث يُمنَع الفلسطينيون المدنيون من أية فرصة للاستقرار في منازلهم وأسواقهم ومدارسهم وجامعاتهم من خلال الهجوم اليومي الوحشي، كما يواجهون على معابر الطرق الإذلال والتعسف من قِبل الجيش الصهيوني. أما لقاء رئيس السلطة برئيس الحكومة الصهيونية، فهو أشبه بالخديعة الإعلامية التي يوظفها العدوّ لأوضاعه الداخلية، في الإيحاء بأن هناك حركة جادَّة نحو السلام، وتتحرك بها السلطة للإيحاء بوجود نوع من الأمل لحل المشكلة في المستقبل ولو بعد حين.

ولا يزال الحصار الاقتصادي الأمريكي والإسرائيلي والأوروبي في بعض دوله يفرض نفسه على الواقع الفلسطيني، في عملية امتداد للحرمان التجويعي للشعب كله، في الوقت الذي يتحدث الغرب عن حقوق الإنسان الذي يتمحور حول الإنسان اليهودي لا العربي.

فيما الدول العربية والإسلامية، تبقى خاضعة للضغط الأمريكي الذي قد يمنحها بعض الحرية بما يحفظ ماء الوجه أمام شعوبها، ولكن من دون حلّ للمشكلة في الحاضر والمستقبل.

لبنان ساحة للمشاريع الأمريكية:

أما في لبنان، فنحن نلتقي في هذه الأيام بذكرى مجزرة قانا التي سبقتها عشرات المجازر الإسرائيلية، وتلتها العشرات أيضاً في سلسلة المجازر التي ارتكبتها إسرائيل على مرأى ومسمع من المجتمع الدولي الذي وقف متفرجاً أمام ذلك كله، إن لم نقل إنه أفسح في المجال لإسرائيل لأن تستمر في عدوانها بعيداً عن المساءلة والإدانة.

أما في الداخل اللبناني، فإننا نلاحظ أنه ليس للبنانيين أيّ دور في شؤون البلد السياسية والقضائية والإدارية، وربما الأمنية، بل إنهم ـ من خلال القائمين على شؤونه في السلطة وفي السياسة في بعض مواقعها ـ يتابعون المواقف الخارجية والدولية والإقليمية التي تخطط لتحريك الساحة اللبنانية في خدمة مصالحها التكتيكية والاستراتيجية، والتي أدمن اللبنانيون التزامهم بها بعيداً عن مصالحهم الخاصة، وأصبحت القضية هي ما هو موقف المجتمع الدولي الخاضع للضغط الأمريكي، والواقع تحت إرادة الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، ليتحدث البعض بأننا مع الشرعية الدولية التي يعرف الجميع أن إسرائيل لم تلتزم بأيّ قرار من قراراتها التي لا تتناسب مع استراتيجيتها اليهودية، من دون أي موقف دولي ضاغط عليها من مجلس الأمن وغيره، بينما نسجد ونركع أمام أي قرار دولي يتحرك من مصالح الآخرين...

إن القضية هي أنّ الشّعب اللبناني، في أكثريته الوطنية، لا دور له في حساب الكثيرين، وأن الدستور في مواده القانونية، لا يملك مجلساً يدرس الأوضاع السياسية والإدارية بطريقة علمية موضوعية، لأنَّ الأوضاع القلقة في ساحة الصّراع قد جمَّدت المجلس الدستوريّ ورمته في دائرة النسيان.

إنَّ الجدال السياسي بين المعارضة والموالاة أصبح جدلاً قانونياً ودستورياً حول انتخاب الرَّئيس في مستوى النصاب، أو حول الانتخابات النيابية، أو حول شرعية الحكومة، أو في نظام المجلس، أو في شرعية الرئاسة، وقد أصبحت الاجتهادات المتناقضة في هذا الموقع أو ذاك، تؤجِّج الصراع، بحيث بات المخلصون يخشون من أن يتحوَّل التحرك الانتخابي في المستقبل إلى ما يشبه الفوضى السياسية التي لا يلتقي فيها اللبنانيون على رئيس واحد أو حكومة واحدة، وكل ما نخشاه أن لا يتم اللقاء على وطن واحد أمام دعوات التقسيم التي يتحدث فيها زعيم من طائفة عن دولة طائفية، أو دعوات الفدرالية التي تأكل الوحدة وتصادر العيش الطائفي في لبنان، ليبقى لبنان ساحة المشاريع الأمريكية التي قد تستخدم بعض التدخلات العربية التي تلوّح بالحل من دون حلّ.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية