شهر رمضان موسم الثقافة القرآنية والاعداد الروحي

شهر رمضان موسم الثقافة القرآنية والاعداد الروحي

شهر رمضان موسم الثقافة
القرآنية والاعداد الروحي


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:

أهداف القرآن

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان} (البقرة:185).

في هذه الآية، إشارة إلى الربط الذي أراده الله سبحانه بين شهر رمضان وبين القرآن، وقد تكون قيمة هذا الشهر، أنه الشهر الذي أراد الله سبحانه لكتابه أن يبدأ النـزول فيه، ليكون الكتاب الذي يخطط للناس حياتهم من خلال ما يريد الله لهم أن يأخذوا به أو أن يبتعدوا عنه أو ينفتحوا عليه، ولذلك، فإن الله سبحانه جعل القرآن هدى للناس يهتدون به في الالتزام بتوحيده، ليعرفوا أنّه سبحانه هو خالق الخلق، وباسط الرزق، وهو الرحمن الرحيم، وهو المهيمن على الأمر كله، فإذا أراد الناس الرزق فإن الله هو الرزاق، وإذا أرادوا العافية فإن الله هو ولي العافية، وإذا أرادوا النعمة فإن الله هو ولي النعمة.

لذلك، فإن على الناس في كل ما يواجهونه في حياتهم من مشاكل وتعقيدات، أن يلجأوا إلى الله مباشرةً، وأن يبتهلوا إليه ويطلبوا منه كل حاجاتهم وكل ما يساعدهم على حلّ مشاكلهم، لأنه ليس هناك بين الله وبين أحد من خلقه أية وساطة، فعلى الإنسان أن يخاطب ربه بشكل مباشر، وهو، في ذلك، لا يحتاج إلى وساطة أحد، مهما كانت عظمته، وهذا ما أكده القرآن الكريم: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم} (غافر:60)، فقد أراد الله من الناس أن يرفعوا أيديهم إليه بالدعاء في كل حالاتهم، وأراد لهم أن يعمّقوا العلاقة به والعبادة له، وأن يتواضعوا بين يديه تواضع العبد لمولاه، وتواضع المخلوق لخالقه، لأنه هو سر وجودهم، ولأنه هو سر النعمة التي يتقلّبون فيها: {وما بكم من نعمة فمن الله} (النحل:53)، {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} (إبراهيم:34)، وأن يعبّروا عن عبوديتهم له بسجودهم بين يديه سجود شكر على النعمة، وسجود عبادة وسجود محبة، وقد جاء في خطبة النبي(ص)، أن على الناس في هذا الشهر أن يتقربوا إلى الله بطول سجودهم، فإنها أفضل الأوضاع عنده، وقد أقسم سبحانه أن لا يعذب المصلين الساجدين، يوم يقوم الناس لرب العالمين.

شهر القرآن

وقد أرادنا الله سبحانه وتعالى في هذا الربط بين الشهر وبين القرآن، أن نقرأ القرآن، لا قراءة حروف وكلمات، ولكن قراءة معرفة ووعيٍ وعلم وتدبّر: {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} (النساء:82)، لنهتدي به في كل أمورنا وعباداتنا ومعاملاتنا ومواقفنا ومواقعنا، ولنعرف من خلاله الفرق بين الحق والباطل، وبين الخير والشر، وبين العدل والظلم، وبين الانحراف والاستقامة، حتى لا تختلط علينا الأمور.

لذلك، فإنّ الله أراد لهذا الشهر أن يكون شهر دعوة من خلال القرآن، وأن ينطلق الناس كلهم ليدرسوا القرآن في تفسيره، وأن يبادر العلماء المثقّفون بالقرآن إلى تثقيف الناس به، لأنه لن يكون هناك أي قيمة لما يقرأه الإنسان من حكم فيه، إذا كانت قراءته من دون فهم ومن دون وعي.

وقد رأينا كيف أن الإمام علي بن الحسين، زين العابدين(ع)، وصف هذا الشهر بأنه الشهر الذي أراد الله فيه للإنسان أن يغيّر نفسه، وأن يدرس نفسه، ليعرف نقاط الضعف ونقاط القوة فيها، فيعرف السلبيات من الإيجابيات، ويعمل حينها على أن يدرب نفسه على الخير في مقابل الشر، وعلى العدل في مقابل الظلم، وعلى الحق في مقابل الباطل، لأن الله سبحانه وتعالى يريد للإنسان أن يقف غداً بين يديه وهو في حالة السلامة العقلية التي ينطلق فيها العقل بالحق، والسلامة القلبية التي ينبض فيها القلب بالرحمة والمحبة، والسلامة الجسدية التي يتمثل فيها الجسد بالطاعة له.

شهر الطهور

إنه شهر الطهور، كما يقول الإمام زين العابدين(ع)؛ يتطهّر فيه الإنسان من كل القذارات التي يوسوس له الشيطان بها، والتي يوحي فيها إليه بأنّ عليه أن يجعل علاقاته بالناس قائمةً على الإضرار بهم والانحراف عن الخط المستقيم. فعلى الإنسان أن ينتبه للوسواس الخناس ليستجير بالله منه، ليطهّر نفسه من الداخل، لأنّ الطهارة لا تعني أن يطهّر الإنسان جسده من الخارج فقط، وهو ما يهتم به الناس، بل الطهارة الحقيقية هي أن يطهّر نفسه من الداخل، ليكون عقله طاهراً، وقلبه طاهراً، وحياته طاهرة، ولسانه طاهراً، وأهدافه طاهرة، وعلاقاته طاهرة... ليقف غداً بين يدي الله {يوم لا ينفع مال ولا بنون* إلا من أتى لله بقلب سليم} (الشعراء:88-89)؛ سليم من الكفر ومن الشرك ومن العداوة والبغضاء.

شهر الإسلام والسلام

وهكذا يؤكِّد لنا الإمام زين العابدين(ع)، أن شهر رمضان هو شهر الإسلام، ففي شهر رمضان لا بد للمسلمين جميعاً من أن يتحملوا مسؤولية الإسلام في ثقافته، لتكون لهم المعرفة الإسلامية بكل ما شرّعه الله وما أوحى به، وبكل ما بلّغه رسول الله(ص)، ليكون هذا الشهر شهراً يحيا فيه الإنسان حياةً روحيةً وعقليةً وإنسانيةً {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} (الأنفال:24).

وهذا الشهر أيضاً هو شهر السّلام، وعلى المسلم أن ينفتح فيه ليثبت للعالم أن الإسلام هو دين السلام، فالله جعل التحية التي يحيّي بها المسلم الآخرين كلمة "السلام عليكم"، وورد في الحديث أن للسلام سبعين حسنة؛ تسع وستون للمبتدىء وواحدة للرادّ. وقد أراد الله سبحانه وتعالى للناس في حياتهم الاجتماعية، أن تكون تحيتهم تحية السلام، وأن لا يستبدلوا بها غيرها، بل أن يتدرّبوا عليها في الدنيا، لينتقلوا إلى الجنة وقد اعتادوا هذه التحية، لأن تحية أهل الجنة هي السلام {وتحيّتهم فيها سلام} (يونس:10)، وكذلك فإنّ الملائكة عندما يستقبلون المؤمنين في الجنة، فإنهم يستقبلونهم بكلمة السلام {جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذريّاتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب* سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدّار} (الرعد:23-24).

شهر التقوى والوحدة

أيّها الأحبة، لقد أراد الله سبحانه وتعالى لهذا الشهر أن يكون شهر التقوى، وأن يرتفع الإنسان فيه إلى الله ليكون قريباً منه، ولتكون إرادته إرادة الخير والحق والعدل، وليقف بين يدي الله سبحانه في إرادة حرة ينطلق فيها من خلال إيمانه وإسلامه، ومن خلال خوفه من ربه، ومن خلال اتباعه لرسوله، فالقضية ليست فقط أن تكون لك الإرادة، بل لا بد من أن تكون لك الإرادة الخيرة والمؤمنة والعادلة، حتى تكون الإنسان الذي يتحرك في الحياة ليكون خيراً لنفسه ولعياله ولأهله، وخيراً للناس من حوله، وخيراً للحياة كلها.

وفي هذا الشهر، لا بد لنا من أن نتخفف من الكثير من أحقادنا ومن اختلافاتنا، وأن نسعى لأن نلتقي جميعاً كمسلمين على أساس الوحدة الإسلامية، لأنّ المسلمين جميعاً يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وجميعهم يؤمنون بيوم القيامة.

إن علينا، حتى لو اختلفنا في مذاهبنا، وفي فتاوانا، وفي بعض أوضاعنا، أن نعمل على أساس أن ننطلق بالكلمة السواء، والكلمة الواحدة، وبالإسلام الواحد، لنكون قوةً للإسلام في العالم كله، لأن العالم المستكبر والكافر بدأ يخطط ويستعد، بكل ما لديه من قوة وسلاح، من أجل أن يحارب المسلمين في دينهم وسياستهم واقتصادهم وأمنهم وكل المجالات العملية هنا وهناك، لذلك فإن علينا أن نستعد لذلك، لنكون كما أرادنا الله، خير أمة أخرجت للناس.

الاستعداد للقاء الله

والمسلمون لا يشكون من قلة العدد، إذ إنّ عددهم يزيد على المليار، لكن الاختلافات المذهبية فيما بينهم، وتكفيرهم بعضهم بعضاً، جعل الاستكبار العالمي يلقي الفتنة فيما بينهم، فأصبحنا نرى المسلم يقاطع المسلم، أو يستحل قتله... وهذا أمر لا يرضى الله به، وقد جاء عن رسول الله(ص): "أيها الناس، لا ترجعنّ بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض". وجاء عنه(ص) أيضاً: "كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه"، و"لا يحل مال امرىء مسلم إلا بطيب نفس منه".

أيها الأحبة، إنّ عليكم أن تستعدوا في هذا الشهر للقاء الله لقاءً يقترب فيه العقل والقلب منه، حتى تكونوا القريبين منه سبحانه وتعالى يوم القيامة، حيث ينطلق النداء: {لمن الملك اليوم} ويأتي الجواب: {لله الواحد القهار} (غافر:16)...

وحّدوه في كل حياتكم، وانطلقوا من أجل رضاه ولا شيء إلا رضاه، ففيه كل السعادة والخير وسلامة المصير. نسأل الله أن يوفّقنا لصيامه وتلاوة كتابه وللتوبة في لياليه ونهاراته.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، وكونوا كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر... كونوا في مواقف التحدي كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، وانطلقوا كما أرادكم رسول الله(ص) أن تعيشوا الاهتمام بأمور المسلمين، وقد روي عنه(ص): "من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم"، وجاء عنه(ص): "من سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم"... إن علينا أن نكون أمة واحدة، ننطلق من أجل أن نؤكد القوة والعزة والكرامة والانتصار في كل مواقع الصراع في العالم أمام المستكبرين وأمام الظالمين... فماذا هناك؟

خلفيات العملية الإسرائيلية ضد سوريا

في المشهد الإسرائيلي، نلتقي بمحاولة استعادة إسرائيل عرض القوّة في المنطقة، من خلال خرقها للمجال الجوّي السوري، والذي أيّدته الولايات المتّحدة الأمريكية على لسان مسؤولٍ أمنيّ فيها، معتبراً ذلك جزءاً من هجومٍ جوّي في عمق الأراضي السوريّة، ما يطرح تساؤلاً كبيراً حول الاستراتيجية الأمريكية الإسرائيليّة، حيثُ يُراد لإسرائيل ـ عبر السلاح الأمريكي المصدَّر لها ـ أن تكون القوّة الضاربة في المنطقة، في تهديد أيّ معارضة عربيّة وإسلاميّة للسياسة الأمريكية فيها.

وربّما يرى بعض المحلّلين، أنّ هذه العمليّة الإسرائيليّة كانت على صلةٍ بالتحضير للعدوان على إيران، وقياس مدى جهوزيّة أنظمة الدفاع الجوّي السوري في حال سلكت الطائرات الإسرائيليّة شمال سوريا بمحاذاة الحدود التركية، ومنها إلى شمال العراق للهجوم على المنشآت الإيرانيّة.

وقد يُثار هنا السؤال عن الدور التركي في المرحلة القادمة، ولاسيّما مع قيام الطائرات التركية والأمريكية والإسرائيليّة بمناورات مشتركة، في ظلّ التحالف فيما بين هذه البلدان، وهل إنّ الهدف من كلّ هذه الاستعدادات هو التحضير لضربةٍ موجّهة ضدّ إيران، بالرغم من تأكيد بعض المسؤولين الأتراك أنّ تركيا لا يُمكن أن تقبل باستخدام أراضيها للعدوان على إيران وعلى إسرائيل.

لذلك، فإنّنا نناشد تركيا، في مرحلتها الجديدة في الحكم، أن تحافظ على علاقاتها العربيّة ـ الإسلاميّة، وأن لا تسقط أمام الخطط الأمريكية ـ الإسرائيليّة في استراتيجيّتها العدوانيّة؛ لأنّ ذلك قد يترك تأثيراً سلبيّاً على موقعها في المنطقة، وعلى شعبها المسلم الذي لا يزال منسجماً مع القضايا الإسلاميّة المصيريّة.

وممّا يلفت النظر، هو الصمت العربي إزاء هذا العدوان الإسرائيلي على سوريا، حتّى قد يخيّل للكثيرين أنّ هذه الدول ترحّب بذلك؛ انطلاقاً من أن العلاقة مع إسرائيل أصبحت أقوى من العلاقة مع سوريا أو مع إيران، والذي انعكس توجّهاً عربيّاً لرفض أيّ مقاومة، ولاسيّما في اللهاث وراء مؤتمر بوش للسلام، وسط جدل سياسي في دعوة سوريا إلى حضوره...

ويتمثّل الضعف العربيّ في السقوط السياسي الذي يتنكّر للمقاومة الفلسطينيّة، ويرفض مواجهتها للعدوّ، حيث يُنكرون عليها قصف المستوطنات، في الوقت الذي لا يُنكرون على إسرائيل قصفها للشعب الفلسطيني في الضفّة وغزّة، ولا يجدون في الاحتلال ـ بكلّ مفاعيله ـ مبرّراً للمواجهة.

وهذا الذي نسجّله على الموقف العربي، نسجّله على الاتحاد الأوروبي الذي تتفهّم بعض دوله الردّ الإسرائيلي على العمليّة الجهاديّة في قصف القاعدة العسكريّة الإسرائيليّة؛ هذا الردّ الذي يتحرّك لإلحاق المجازر بالشعب الفلسطيني في مواقعه المدنيّة، ولا تتفهّم ردّ الفلسطينيين على العدوان.

ومن المضحك المبكي، أنّ السلطة الفلسطينية تُبادر في أيّ عمليّة للمقاومة إلى تسجيل استنكارها، بينما لا تبادر إلى الردّ بقوّة على العدوّ في عدوانه المتحرّك دائماً على القرى والمدن الفلسطينية، وفي إذلاله للشعب كلّه في تنقّلاته على الحواجز وفي منعطفات الجدار؛ الأمر الذي يجعلهم مصداقاً لقول الشاعر:

مَنْ يَهُنْ يَسْهُلِ الْهَوَانُ عَلَيْهِ مَا لِجُرْحٍٍ بِمَيِّـتٍ إيـلامُ

الثوابت الإسرائيلية تعطيل للحلول

وفي هذا الجوّ، لا نرى أملاً كبيراً في نجاح هذا المؤتمر الأمريكي في تحقيق الهدف المعلن، وهو إقامة الدولة الفلسطينية القابلة للحياة على الأرض المحتلّة في الـ 67، لأنّ الجدار العنصري والمستوطنات الكبرى والقدس ورفض عودة اللاجئين، سوف تقف حجر عثرة للوصول إلى حلّ، ولاسيّما أنّ الولايات المتحدة الأمريكية لا تسمح بأيّ ضغطٍ على حليفتها اليهوديّة، بل إنّها سوف تتحرّك لإقناع العرب ـ بمن فيهم السلطة الفلسطينية ـ لتقديم التنازلات لإسرائيل، لأنّ أكثر اليهود لا يوافقون على التنازل للعرب بأيّ مطلب يبتعد عن الاستراتيجية الصهيونية التي تخطّط للسيطرة على فلسطين بشكل مباشر أو غير مباشر.

ونحن إذ نلتقي ـ في هذه الأيّام ـ بذكرى مجزرة صبرا وشاتيلا، التي استفادت فيها إسرائيل من بعض التعقيدات اللبنانيّة الداخليّة، ننبّه من خطورة دخول إسرائيل على خطّ أكثر من بلدٍ عربيّ وإسلاميّ، مستفيدةً من حالات الإرباك السياسي والأمني، لتحرّك المزيد من المجازر، ولتثير الكثير من الاضطرابات الأمنيّة والسياسيّة، بما ينعكس مزيداً من التشظّي في مجتمعاتنا العربية والإسلاميّة.

أمّا في المشهد الأمريكي، فلا يزال بوش يستخدم المناورة أمام ضغط الكونغرس عليه في الانسحاب من العراق، الأمر الذي قد يضغط عليه لتخفيض عدد جنوده بعد الخسائر الضخمة التي تكبّدها جيشه، والفشل السياسي الذي أحاط باحتلاله، في الوقت الذي نراه يتحدّث عن نظرة جديدة لاستراتيجية الحرب، وعن خطّة جديدة لكيفية تحرير الولايات المتّحدة من مسلسل الموت المتنقّل في العراق.

استنهاض الشعب العراقي

وفي هذه المناسبة، ندعو العراقيّين إلى أن لا يسقطوا أمام المقولة الخادعة، بأنّ انسحاب الجيش الأمريكي سوف يحوّل العراق إلى كارثة، أو فتنة طائفيّة، لأنّنا نتصوّر أنّ الوضع لن يكون أسوأ ممّا هو عليه الآن، بل إن الشعب العراقي، سواء من السنّة أو الشيعة أو من العرب أو الأكراد أو التركمان، لا بدّ له من أن يفكّر في المصالحة الوطنيّة، من أجل عراقٍ جديد، على أساس تحقيق الوحدة الوطنية والمصلحة العليا للبلد كلّه؛ لأنّه لن يربح أحد من الأفرقاء من هذه التجاذبات السياسية التي يبحث فيها كلّ فريق عن حزبه أو طائفته أو عرقه، لأنّه لن يستطيع أيّ شعبٍ أن يتحرّر إلا إذا تكامل في قضاياه المصيريّة بعيداً عن أيّ تدخّل خارجي.

وإنّنا أمام دخول شهر رمضان المبارك، وفي ظلّ حديث البعض أنّه سيحمل المزيد من سفك الدماء والمجازر المتنقّلة والتفجيرات التي تطاول الأبرياء في أكثر من بلد إسلامي وعربي، نؤكّد أنّ شهر رمضان هو شهر السلام والخير اللذين ينبغي أن يتحرّك المسلمون في إطارهما، وأن يكون مناسبةً للقاء والانفتاح والوحدة أمام المنعطفات الخطيرة التي يمرّ بها عالمنا الإسلامي.

هل تنطلق مبادرة وطنية وفاقية في لبنان؟

أمّا لبنان، فلا يزال الجدل يدور بين السياسيّين، ولاسيّما الذين يحدّقون بالواقع الدولي أو الإقليمي بعيداً عن الواقع المحلّي. ولذلك، فإنّ هناك كلاماً استهلاكيّاً يتّهم فيه هذا الفريق الفريق الآخر، بالتعطيل في مشروعه ومبادرته، أو بالاستئثار والسيطرة، في حديثٍ يختزن الحزبيّة والطائفيّة والمذهبيّة والشخصانيّة؛ حتّى إنّ البلد ـ في نظر المواطنين ـ يتحرّك من دون حكومة، ويعيش من دون دولة، بالرغم من القرارات الصادرة من هذه الوزارة أو تلك؛ لأنّ انقسام البلد عطّل كلّ الطاقات، وجمّد كلّ القرارات، وأسقط معنى الحكومة، ولم يعد للبنان إلا أن يستهلك جداله في القرارات الدوليّة التي انطلقت من مصالح الآخرين في الدول الكبرى، حتّى لم يعد أحدٌ يحدّق في مصالح الشعب وحاجاته، بل في مشاريع الآخرين، ولاسيّما الدول الكبرى التي عانى منها لبنان في تاريخه أشدّ المصائب وأكثر المشاكل.

فهل ننطلق في مبادرةٍ وطنيّة وفاقيّة، من خلال دولةٍ تنطلق من استراتيجيّة مدروسة قويّة، يشعر فيها المواطنون بأنّهم يتحرّكون في وطنٍ يعمل لحسابهم، لا لحساب الآخرين؟!

شهر رمضان موسم الثقافة
القرآنية والاعداد الروحي


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:

أهداف القرآن

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان} (البقرة:185).

في هذه الآية، إشارة إلى الربط الذي أراده الله سبحانه بين شهر رمضان وبين القرآن، وقد تكون قيمة هذا الشهر، أنه الشهر الذي أراد الله سبحانه لكتابه أن يبدأ النـزول فيه، ليكون الكتاب الذي يخطط للناس حياتهم من خلال ما يريد الله لهم أن يأخذوا به أو أن يبتعدوا عنه أو ينفتحوا عليه، ولذلك، فإن الله سبحانه جعل القرآن هدى للناس يهتدون به في الالتزام بتوحيده، ليعرفوا أنّه سبحانه هو خالق الخلق، وباسط الرزق، وهو الرحمن الرحيم، وهو المهيمن على الأمر كله، فإذا أراد الناس الرزق فإن الله هو الرزاق، وإذا أرادوا العافية فإن الله هو ولي العافية، وإذا أرادوا النعمة فإن الله هو ولي النعمة.

لذلك، فإن على الناس في كل ما يواجهونه في حياتهم من مشاكل وتعقيدات، أن يلجأوا إلى الله مباشرةً، وأن يبتهلوا إليه ويطلبوا منه كل حاجاتهم وكل ما يساعدهم على حلّ مشاكلهم، لأنه ليس هناك بين الله وبين أحد من خلقه أية وساطة، فعلى الإنسان أن يخاطب ربه بشكل مباشر، وهو، في ذلك، لا يحتاج إلى وساطة أحد، مهما كانت عظمته، وهذا ما أكده القرآن الكريم: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم} (غافر:60)، فقد أراد الله من الناس أن يرفعوا أيديهم إليه بالدعاء في كل حالاتهم، وأراد لهم أن يعمّقوا العلاقة به والعبادة له، وأن يتواضعوا بين يديه تواضع العبد لمولاه، وتواضع المخلوق لخالقه، لأنه هو سر وجودهم، ولأنه هو سر النعمة التي يتقلّبون فيها: {وما بكم من نعمة فمن الله} (النحل:53)، {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} (إبراهيم:34)، وأن يعبّروا عن عبوديتهم له بسجودهم بين يديه سجود شكر على النعمة، وسجود عبادة وسجود محبة، وقد جاء في خطبة النبي(ص)، أن على الناس في هذا الشهر أن يتقربوا إلى الله بطول سجودهم، فإنها أفضل الأوضاع عنده، وقد أقسم سبحانه أن لا يعذب المصلين الساجدين، يوم يقوم الناس لرب العالمين.

شهر القرآن

وقد أرادنا الله سبحانه وتعالى في هذا الربط بين الشهر وبين القرآن، أن نقرأ القرآن، لا قراءة حروف وكلمات، ولكن قراءة معرفة ووعيٍ وعلم وتدبّر: {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} (النساء:82)، لنهتدي به في كل أمورنا وعباداتنا ومعاملاتنا ومواقفنا ومواقعنا، ولنعرف من خلاله الفرق بين الحق والباطل، وبين الخير والشر، وبين العدل والظلم، وبين الانحراف والاستقامة، حتى لا تختلط علينا الأمور.

لذلك، فإنّ الله أراد لهذا الشهر أن يكون شهر دعوة من خلال القرآن، وأن ينطلق الناس كلهم ليدرسوا القرآن في تفسيره، وأن يبادر العلماء المثقّفون بالقرآن إلى تثقيف الناس به، لأنه لن يكون هناك أي قيمة لما يقرأه الإنسان من حكم فيه، إذا كانت قراءته من دون فهم ومن دون وعي.

وقد رأينا كيف أن الإمام علي بن الحسين، زين العابدين(ع)، وصف هذا الشهر بأنه الشهر الذي أراد الله فيه للإنسان أن يغيّر نفسه، وأن يدرس نفسه، ليعرف نقاط الضعف ونقاط القوة فيها، فيعرف السلبيات من الإيجابيات، ويعمل حينها على أن يدرب نفسه على الخير في مقابل الشر، وعلى العدل في مقابل الظلم، وعلى الحق في مقابل الباطل، لأن الله سبحانه وتعالى يريد للإنسان أن يقف غداً بين يديه وهو في حالة السلامة العقلية التي ينطلق فيها العقل بالحق، والسلامة القلبية التي ينبض فيها القلب بالرحمة والمحبة، والسلامة الجسدية التي يتمثل فيها الجسد بالطاعة له.

شهر الطهور

إنه شهر الطهور، كما يقول الإمام زين العابدين(ع)؛ يتطهّر فيه الإنسان من كل القذارات التي يوسوس له الشيطان بها، والتي يوحي فيها إليه بأنّ عليه أن يجعل علاقاته بالناس قائمةً على الإضرار بهم والانحراف عن الخط المستقيم. فعلى الإنسان أن ينتبه للوسواس الخناس ليستجير بالله منه، ليطهّر نفسه من الداخل، لأنّ الطهارة لا تعني أن يطهّر الإنسان جسده من الخارج فقط، وهو ما يهتم به الناس، بل الطهارة الحقيقية هي أن يطهّر نفسه من الداخل، ليكون عقله طاهراً، وقلبه طاهراً، وحياته طاهرة، ولسانه طاهراً، وأهدافه طاهرة، وعلاقاته طاهرة... ليقف غداً بين يدي الله {يوم لا ينفع مال ولا بنون* إلا من أتى لله بقلب سليم} (الشعراء:88-89)؛ سليم من الكفر ومن الشرك ومن العداوة والبغضاء.

شهر الإسلام والسلام

وهكذا يؤكِّد لنا الإمام زين العابدين(ع)، أن شهر رمضان هو شهر الإسلام، ففي شهر رمضان لا بد للمسلمين جميعاً من أن يتحملوا مسؤولية الإسلام في ثقافته، لتكون لهم المعرفة الإسلامية بكل ما شرّعه الله وما أوحى به، وبكل ما بلّغه رسول الله(ص)، ليكون هذا الشهر شهراً يحيا فيه الإنسان حياةً روحيةً وعقليةً وإنسانيةً {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} (الأنفال:24).

وهذا الشهر أيضاً هو شهر السّلام، وعلى المسلم أن ينفتح فيه ليثبت للعالم أن الإسلام هو دين السلام، فالله جعل التحية التي يحيّي بها المسلم الآخرين كلمة "السلام عليكم"، وورد في الحديث أن للسلام سبعين حسنة؛ تسع وستون للمبتدىء وواحدة للرادّ. وقد أراد الله سبحانه وتعالى للناس في حياتهم الاجتماعية، أن تكون تحيتهم تحية السلام، وأن لا يستبدلوا بها غيرها، بل أن يتدرّبوا عليها في الدنيا، لينتقلوا إلى الجنة وقد اعتادوا هذه التحية، لأن تحية أهل الجنة هي السلام {وتحيّتهم فيها سلام} (يونس:10)، وكذلك فإنّ الملائكة عندما يستقبلون المؤمنين في الجنة، فإنهم يستقبلونهم بكلمة السلام {جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذريّاتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب* سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدّار} (الرعد:23-24).

شهر التقوى والوحدة

أيّها الأحبة، لقد أراد الله سبحانه وتعالى لهذا الشهر أن يكون شهر التقوى، وأن يرتفع الإنسان فيه إلى الله ليكون قريباً منه، ولتكون إرادته إرادة الخير والحق والعدل، وليقف بين يدي الله سبحانه في إرادة حرة ينطلق فيها من خلال إيمانه وإسلامه، ومن خلال خوفه من ربه، ومن خلال اتباعه لرسوله، فالقضية ليست فقط أن تكون لك الإرادة، بل لا بد من أن تكون لك الإرادة الخيرة والمؤمنة والعادلة، حتى تكون الإنسان الذي يتحرك في الحياة ليكون خيراً لنفسه ولعياله ولأهله، وخيراً للناس من حوله، وخيراً للحياة كلها.

وفي هذا الشهر، لا بد لنا من أن نتخفف من الكثير من أحقادنا ومن اختلافاتنا، وأن نسعى لأن نلتقي جميعاً كمسلمين على أساس الوحدة الإسلامية، لأنّ المسلمين جميعاً يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وجميعهم يؤمنون بيوم القيامة.

إن علينا، حتى لو اختلفنا في مذاهبنا، وفي فتاوانا، وفي بعض أوضاعنا، أن نعمل على أساس أن ننطلق بالكلمة السواء، والكلمة الواحدة، وبالإسلام الواحد، لنكون قوةً للإسلام في العالم كله، لأن العالم المستكبر والكافر بدأ يخطط ويستعد، بكل ما لديه من قوة وسلاح، من أجل أن يحارب المسلمين في دينهم وسياستهم واقتصادهم وأمنهم وكل المجالات العملية هنا وهناك، لذلك فإن علينا أن نستعد لذلك، لنكون كما أرادنا الله، خير أمة أخرجت للناس.

الاستعداد للقاء الله

والمسلمون لا يشكون من قلة العدد، إذ إنّ عددهم يزيد على المليار، لكن الاختلافات المذهبية فيما بينهم، وتكفيرهم بعضهم بعضاً، جعل الاستكبار العالمي يلقي الفتنة فيما بينهم، فأصبحنا نرى المسلم يقاطع المسلم، أو يستحل قتله... وهذا أمر لا يرضى الله به، وقد جاء عن رسول الله(ص): "أيها الناس، لا ترجعنّ بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض". وجاء عنه(ص) أيضاً: "كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه"، و"لا يحل مال امرىء مسلم إلا بطيب نفس منه".

أيها الأحبة، إنّ عليكم أن تستعدوا في هذا الشهر للقاء الله لقاءً يقترب فيه العقل والقلب منه، حتى تكونوا القريبين منه سبحانه وتعالى يوم القيامة، حيث ينطلق النداء: {لمن الملك اليوم} ويأتي الجواب: {لله الواحد القهار} (غافر:16)...

وحّدوه في كل حياتكم، وانطلقوا من أجل رضاه ولا شيء إلا رضاه، ففيه كل السعادة والخير وسلامة المصير. نسأل الله أن يوفّقنا لصيامه وتلاوة كتابه وللتوبة في لياليه ونهاراته.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، وكونوا كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر... كونوا في مواقف التحدي كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، وانطلقوا كما أرادكم رسول الله(ص) أن تعيشوا الاهتمام بأمور المسلمين، وقد روي عنه(ص): "من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم"، وجاء عنه(ص): "من سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم"... إن علينا أن نكون أمة واحدة، ننطلق من أجل أن نؤكد القوة والعزة والكرامة والانتصار في كل مواقع الصراع في العالم أمام المستكبرين وأمام الظالمين... فماذا هناك؟

خلفيات العملية الإسرائيلية ضد سوريا

في المشهد الإسرائيلي، نلتقي بمحاولة استعادة إسرائيل عرض القوّة في المنطقة، من خلال خرقها للمجال الجوّي السوري، والذي أيّدته الولايات المتّحدة الأمريكية على لسان مسؤولٍ أمنيّ فيها، معتبراً ذلك جزءاً من هجومٍ جوّي في عمق الأراضي السوريّة، ما يطرح تساؤلاً كبيراً حول الاستراتيجية الأمريكية الإسرائيليّة، حيثُ يُراد لإسرائيل ـ عبر السلاح الأمريكي المصدَّر لها ـ أن تكون القوّة الضاربة في المنطقة، في تهديد أيّ معارضة عربيّة وإسلاميّة للسياسة الأمريكية فيها.

وربّما يرى بعض المحلّلين، أنّ هذه العمليّة الإسرائيليّة كانت على صلةٍ بالتحضير للعدوان على إيران، وقياس مدى جهوزيّة أنظمة الدفاع الجوّي السوري في حال سلكت الطائرات الإسرائيليّة شمال سوريا بمحاذاة الحدود التركية، ومنها إلى شمال العراق للهجوم على المنشآت الإيرانيّة.

وقد يُثار هنا السؤال عن الدور التركي في المرحلة القادمة، ولاسيّما مع قيام الطائرات التركية والأمريكية والإسرائيليّة بمناورات مشتركة، في ظلّ التحالف فيما بين هذه البلدان، وهل إنّ الهدف من كلّ هذه الاستعدادات هو التحضير لضربةٍ موجّهة ضدّ إيران، بالرغم من تأكيد بعض المسؤولين الأتراك أنّ تركيا لا يُمكن أن تقبل باستخدام أراضيها للعدوان على إيران وعلى إسرائيل.

لذلك، فإنّنا نناشد تركيا، في مرحلتها الجديدة في الحكم، أن تحافظ على علاقاتها العربيّة ـ الإسلاميّة، وأن لا تسقط أمام الخطط الأمريكية ـ الإسرائيليّة في استراتيجيّتها العدوانيّة؛ لأنّ ذلك قد يترك تأثيراً سلبيّاً على موقعها في المنطقة، وعلى شعبها المسلم الذي لا يزال منسجماً مع القضايا الإسلاميّة المصيريّة.

وممّا يلفت النظر، هو الصمت العربي إزاء هذا العدوان الإسرائيلي على سوريا، حتّى قد يخيّل للكثيرين أنّ هذه الدول ترحّب بذلك؛ انطلاقاً من أن العلاقة مع إسرائيل أصبحت أقوى من العلاقة مع سوريا أو مع إيران، والذي انعكس توجّهاً عربيّاً لرفض أيّ مقاومة، ولاسيّما في اللهاث وراء مؤتمر بوش للسلام، وسط جدل سياسي في دعوة سوريا إلى حضوره...

ويتمثّل الضعف العربيّ في السقوط السياسي الذي يتنكّر للمقاومة الفلسطينيّة، ويرفض مواجهتها للعدوّ، حيث يُنكرون عليها قصف المستوطنات، في الوقت الذي لا يُنكرون على إسرائيل قصفها للشعب الفلسطيني في الضفّة وغزّة، ولا يجدون في الاحتلال ـ بكلّ مفاعيله ـ مبرّراً للمواجهة.

وهذا الذي نسجّله على الموقف العربي، نسجّله على الاتحاد الأوروبي الذي تتفهّم بعض دوله الردّ الإسرائيلي على العمليّة الجهاديّة في قصف القاعدة العسكريّة الإسرائيليّة؛ هذا الردّ الذي يتحرّك لإلحاق المجازر بالشعب الفلسطيني في مواقعه المدنيّة، ولا تتفهّم ردّ الفلسطينيين على العدوان.

ومن المضحك المبكي، أنّ السلطة الفلسطينية تُبادر في أيّ عمليّة للمقاومة إلى تسجيل استنكارها، بينما لا تبادر إلى الردّ بقوّة على العدوّ في عدوانه المتحرّك دائماً على القرى والمدن الفلسطينية، وفي إذلاله للشعب كلّه في تنقّلاته على الحواجز وفي منعطفات الجدار؛ الأمر الذي يجعلهم مصداقاً لقول الشاعر:

مَنْ يَهُنْ يَسْهُلِ الْهَوَانُ عَلَيْهِ مَا لِجُرْحٍٍ بِمَيِّـتٍ إيـلامُ

الثوابت الإسرائيلية تعطيل للحلول

وفي هذا الجوّ، لا نرى أملاً كبيراً في نجاح هذا المؤتمر الأمريكي في تحقيق الهدف المعلن، وهو إقامة الدولة الفلسطينية القابلة للحياة على الأرض المحتلّة في الـ 67، لأنّ الجدار العنصري والمستوطنات الكبرى والقدس ورفض عودة اللاجئين، سوف تقف حجر عثرة للوصول إلى حلّ، ولاسيّما أنّ الولايات المتحدة الأمريكية لا تسمح بأيّ ضغطٍ على حليفتها اليهوديّة، بل إنّها سوف تتحرّك لإقناع العرب ـ بمن فيهم السلطة الفلسطينية ـ لتقديم التنازلات لإسرائيل، لأنّ أكثر اليهود لا يوافقون على التنازل للعرب بأيّ مطلب يبتعد عن الاستراتيجية الصهيونية التي تخطّط للسيطرة على فلسطين بشكل مباشر أو غير مباشر.

ونحن إذ نلتقي ـ في هذه الأيّام ـ بذكرى مجزرة صبرا وشاتيلا، التي استفادت فيها إسرائيل من بعض التعقيدات اللبنانيّة الداخليّة، ننبّه من خطورة دخول إسرائيل على خطّ أكثر من بلدٍ عربيّ وإسلاميّ، مستفيدةً من حالات الإرباك السياسي والأمني، لتحرّك المزيد من المجازر، ولتثير الكثير من الاضطرابات الأمنيّة والسياسيّة، بما ينعكس مزيداً من التشظّي في مجتمعاتنا العربية والإسلاميّة.

أمّا في المشهد الأمريكي، فلا يزال بوش يستخدم المناورة أمام ضغط الكونغرس عليه في الانسحاب من العراق، الأمر الذي قد يضغط عليه لتخفيض عدد جنوده بعد الخسائر الضخمة التي تكبّدها جيشه، والفشل السياسي الذي أحاط باحتلاله، في الوقت الذي نراه يتحدّث عن نظرة جديدة لاستراتيجية الحرب، وعن خطّة جديدة لكيفية تحرير الولايات المتّحدة من مسلسل الموت المتنقّل في العراق.

استنهاض الشعب العراقي

وفي هذه المناسبة، ندعو العراقيّين إلى أن لا يسقطوا أمام المقولة الخادعة، بأنّ انسحاب الجيش الأمريكي سوف يحوّل العراق إلى كارثة، أو فتنة طائفيّة، لأنّنا نتصوّر أنّ الوضع لن يكون أسوأ ممّا هو عليه الآن، بل إن الشعب العراقي، سواء من السنّة أو الشيعة أو من العرب أو الأكراد أو التركمان، لا بدّ له من أن يفكّر في المصالحة الوطنيّة، من أجل عراقٍ جديد، على أساس تحقيق الوحدة الوطنية والمصلحة العليا للبلد كلّه؛ لأنّه لن يربح أحد من الأفرقاء من هذه التجاذبات السياسية التي يبحث فيها كلّ فريق عن حزبه أو طائفته أو عرقه، لأنّه لن يستطيع أيّ شعبٍ أن يتحرّر إلا إذا تكامل في قضاياه المصيريّة بعيداً عن أيّ تدخّل خارجي.

وإنّنا أمام دخول شهر رمضان المبارك، وفي ظلّ حديث البعض أنّه سيحمل المزيد من سفك الدماء والمجازر المتنقّلة والتفجيرات التي تطاول الأبرياء في أكثر من بلد إسلامي وعربي، نؤكّد أنّ شهر رمضان هو شهر السلام والخير اللذين ينبغي أن يتحرّك المسلمون في إطارهما، وأن يكون مناسبةً للقاء والانفتاح والوحدة أمام المنعطفات الخطيرة التي يمرّ بها عالمنا الإسلامي.

هل تنطلق مبادرة وطنية وفاقية في لبنان؟

أمّا لبنان، فلا يزال الجدل يدور بين السياسيّين، ولاسيّما الذين يحدّقون بالواقع الدولي أو الإقليمي بعيداً عن الواقع المحلّي. ولذلك، فإنّ هناك كلاماً استهلاكيّاً يتّهم فيه هذا الفريق الفريق الآخر، بالتعطيل في مشروعه ومبادرته، أو بالاستئثار والسيطرة، في حديثٍ يختزن الحزبيّة والطائفيّة والمذهبيّة والشخصانيّة؛ حتّى إنّ البلد ـ في نظر المواطنين ـ يتحرّك من دون حكومة، ويعيش من دون دولة، بالرغم من القرارات الصادرة من هذه الوزارة أو تلك؛ لأنّ انقسام البلد عطّل كلّ الطاقات، وجمّد كلّ القرارات، وأسقط معنى الحكومة، ولم يعد للبنان إلا أن يستهلك جداله في القرارات الدوليّة التي انطلقت من مصالح الآخرين في الدول الكبرى، حتّى لم يعد أحدٌ يحدّق في مصالح الشعب وحاجاته، بل في مشاريع الآخرين، ولاسيّما الدول الكبرى التي عانى منها لبنان في تاريخه أشدّ المصائب وأكثر المشاكل.

فهل ننطلق في مبادرةٍ وطنيّة وفاقيّة، من خلال دولةٍ تنطلق من استراتيجيّة مدروسة قويّة، يشعر فيها المواطنون بأنّهم يتحرّكون في وطنٍ يعمل لحسابهم، لا لحساب الآخرين؟!

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية