تجديد المعاني الروحية:
في دعاء الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع)، عند استقباله شهر رمضان في أول يوم من دخوله، يؤكّد(ع) القيمة المميَّزة لهذا الشهر، وكيف يمكن للإنسان أن يرتفع فيه بروحه إلى الله، وأن ينفتح فيه على كلِّ مسؤولياته تجاه نفسه وتجاه الناس من حوله، ليكون في هذا الشهر مسلماً في العمق، بحيث لا يكون الإسلام مجرَّد حالةٍ في السطح تتحرك من خلال الكلمات أو من خلال العبادات التي لا تنفذ إلى كيانه، أو مجرد قراءات لا يفهم منها شيئاً، أو ركوع وسجود لا يتعمّق في معناهما، فقد عبّر الإمام(ع) عن هذا الشهر بأنّه شهر الإسلام؛ بمعنى أن يعمل الإنسان في هذا الشهر على استعادة ما ذهب من إسلامه، لأن الأشهر التي ينشغل فيها الإنسان بحاجاته وأوضاعه وموارد عيشه وتلبية شهواته، قد تخفِّف من روح الإسلام في نفسه. لذلك يأتي شهر رمضان ليسترجع الإنسان ما ذهب من إسلامه، وليجدِّد كلَّ المعاني الروحية في نفسه، وليقوِّم كل الانحرافات التي حدثت له في علاقاته بنفسه وبأهله وبالناس.
ولأنّ هذا الشهر هو شهر الإسلام، لا بدَّ للإنسان من أن يتطلع إلى موقع الإسلام في العالم، لأنّ الله أراد للناس منذ أن بعث رسوله برسالته، أن يكون الإسلام الهمّ الكبير لهم، ليراقبوا حركته الثقافية في وجدان العالم، وليراقبوا كل أوضاع الصراع التي يقودها الإسلام في عقيدته وشرعيته ومفاهيمه مع الكفر والكافرين.
الالتقاء على المودة والرحمة:
وعندما ينفتح الإنسان على هذا الزمن الإسلامي، ويرى أنّ شهر رمضان هو شهر الإسلام، فإنّ عليه أن يدرس أوضاع العالم الإسلامي، في كلِّ مشاكل المسلمين وصراعاتهم، لأنَّ المسلم لا يعيش فرديّته في إسلامه، بل يرى أنه جزء من هذه الأمة، {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ...}(آل عمران/110)، لأنّ المسلم جزءٌ من الأمَّة، لا يختلف في مشاعره وأحاسيسه وميولاته عن أيّ مسلم آخر من أيِّ عرق كان، فالمسلم الأسود مثل المسلم الأبيض، والمسلمون في الغرب مثل المسلمين في الشرق، وهذا ما يجعله لا يشعر بالغربة في أيِّ بلد من بلدان المسلمين، ولا بالحياد أمام أيِّ حالةٍ من حالات الصراع التي يخوضها المسلمون مع المستكبرين. وقد أكّد الحديث الشريف ذلك: «مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الأعضاء بالحمَّى والسهر». وقال(ص) أيضاً: «من أصبح لا يهتمُّ بأمور المسلمين فليس بمسلم».
بعض الناس يقول: ما دخلنا بما يحدث من مشاكل في فلسطين أو في أفغانستان أو في الهند أو في العراق أو في أيِّ بلد آخر، فنحن لبنانيّون، والمفروض أن نهتم بالمسلمين الموجودين في بلدنا فقط، وبعض الناس يهتمُّ بالشيعة ويعتبر أنّه غير مسؤول عن الاهتمام بالسنّة، ولكنّ هذه الطّريقة في التفكير ممّا ينبغي أن نبتعد عنه؛ فصحيح أن المسلمين يختلفون في مذاهبهم، ولكنهم أمة واحدة: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ـ وحبل الله هو القرآن وهو الإسلام ـ وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(آل عمران/103).
وقد يكون هذا التفكير من العصبيّة، والعصبية جاهلية، وقد عبّر الله تعالى عن خُلُق الجاهلية بقوله: {جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ}(الفتح/26)، فكلُّ عصبية، سواء كانت عصبيّةً حزبيةً ضد الحزب الآخر، أو عصبيةً قوميةً ضدَّ القومية الأخرى، مع الالتقاء في الإسلام، هي جاهلية، وهكذا العصبيات القبائلية والعشائرية، حتى لو كان أصحابها يصلّون ويصومون ويحجّون ويعتمرون، لكنهم جاهليون عندما يعيشون التعصب ضد العشيرة الثانية.
الإقرار بالذنب والتوبة إلى الله:
لذلك، علينا أن نشعر عندما ندخل في شهر رمضان، أنّنا دخلنا في ساحة الإسلام، وأنّ علينا أن نعمل على أن نملأ عقولنا وقلوبنا ومشاعرنا وأحاسيسنا وحياتنا بالإسلام، فنقرأ القرآن قراءة تدبّر، ونجلس بين يدي الله لندعوه ونحدّثه عن كل آلامنا وحاجاتنا ومشاكلنا، ليكون ذلك مع الصوم الذي يصومه الإنسان في النهار، تأكيداً لإرادته في طاعة الله. وعندما نجمع كل هذه العناصر، نجد أنّها تربي في الإنسان معرفته بالله، وقربه منه، ومحبته له، وصداقته معه... لأنّ الله هو الّذي يعلم كل خفايانا، فليكن السند الّذي نستند إليه، والملجأ الّذي نلجأ إليه، لنشكو له ما لا نستطيع أن نشكوه للآخرين، ولنعترف أمامه بأسرارنا وذنوبنا، ليطهّرنا ويحرّرنا منها، لأنّ كشف الأسرار أمام الآخرين قد يفضحنا ويهيننا، وقد لا يؤدّي إلى تلبية شيء ممّا نريده من عفوٍ وغفران، بينما الله هو وحده القادر على ذلك: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ}(الشُّورى/25).
اعترف أمام الله، وتب بين يديه، فهو يأنس بتوبة عبده، ولذلك جاء في دعاء الافتتاح: «اللهم إن عفوك عن ذنبي، وتجاوزك عن خطيئتي، وصفحك عن ظلمي، وسترك على قبيح عملي، وحلمك عن كثير جرمي، عندما كان من خطأي وعمدي، أطمعني في أن أسألك ما لا أستوجبه منك، فصرت أدعوك آمناً، وأسألك مستأنساً، لا خائفاً ولا وجلاً، مدلاً عليك فيما قصدت فيه إليك، فإن أبطأ عني عتبت بجهلي عليك، ولعلّ الذي أبطأ عني هو خيرٌ لي لعلمك بعاقبة الأمور، فلم أر مولى كريماً أصبر على عبد لئيم منك عليّ».
وأنا دائماً أقول: إنّ علاقتنا بالله ليست علاقةً رسميةً؛ هي علاقة العبد بسيِّده، علاقة المخلوق بخالقه، ونحن لا نحتاج إلى أحد يتوسَّط بيننا وبين الله. نعم، الله جعل الشفاعة للأنبياء وللأئمة، ولكنّه قال: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}(غافر/60)، {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ـ لست بعيداً عن آلامكم ـ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}(البقرة/186).
هنا يمكن لبعض الناس أن يقول إنّي أمّي لا أقرأ، فكيف أدعو الله؟! ادعُ الله بأسلوبك، بكلماتك، بطريقتك التي تعبِّر من خلالها عن حاجاتك، قل له أنا تعبان أرحني، أنا جوعان أشبعني... والله يستجيب لك.
حب الله أصل الحب:
إن حب الله لك لا يوازيه أيّ حب آخر، لذا اجعل حبَّك له فوق كل حب. والتعبير عن الحبّ يتم بالخضوع له واتّباع أمره، وبذلك يكون الحب حقيقياً ومتبادلاً: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ}(البقرة/165)، {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ}(آل عمران/31).
ومن الشخصيات الّتي عاشت هذا الحب، أمير المؤمنين عليّ(ع)، ففي وقعة خيبر، حين تراجع المسلمون في الجولة الأولى، قال النبي(ص): «لأعطينَّ الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله، ويحبُّه الله ورسوله»، فهذا الحبُّ كان من طرفين؛ هو يحب الله والنبي، والله والنبي يحبّونه.
وهكذا أيّها الأحبَّة، لنتعلّم أن نحبّ الله وأن نطيعه، وأن نصادق الله، وأن نشعر بمسؤولياتنا تجاهه؛ في البيت والسوق والمجتمع، أن نكون في مواقع القرب منه سبحانه وتعالى، حتى يمرَّ علينا شهر رمضان وقد رآنا الله ونحن نعيش في الليل والنهار في طاعته؛ نقوم الليل ونصوم النهار له، وحتى يأتي العيد ليكون لنا عيدين؛ عيد الحصول على الراحة الجسدية من الصيام، وعيد القبول من الله.
وأخيراً، كان الإمام علي(ع) يقول: «إنّما هو عيد لمن قبل الله صيامه وشكر قيامه، وكل يوم لا يعصى الله فيه فهو عيد».
الخطبة الثانية
بسم الله الرَّحمن الرحيم
عباد الله... {اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(آل عمران/102-103)، {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ}(الصَّف/4). فماذا هناك؟
فرنسا: تماهٍ مطلق مع السياسة الأمريكيَّة:
في البداية، نلتقي بالتصريح اللافت لوزير خارجيّة فرنسا الذي يتوقّع الأسوأ بالنسبة إلى المسألة الإيرانيّة، وهو الحرب، والذي قال فيه: إنّ فرنسا تريد أن يفرض الاتحاد الأوروبي عقوباتٍ على إيران خارج إطار الأمم المتّحدة، لدفعها إلى تعليق أنشطتها في مجال تخصيب اليورانيوم. وأكّد كوشنير، أنّ حصول إيران على السلاح النووي سيكون خطراً على العالم أجمع. وقد حاول الوزير الفرنسي إعطاء تفسيرات جديدة لتصريحه، إلاّ أن هذه التفسيرات لم تخرجه عن إطاره وهدفه.
ولنا أن نتساءل ـ أوّلاً ـ عن هذه الحماسة الفرنسيّة، وهل إنّ فرنسا الجديدة التي أعلنت عن صداقتها الكبرى للولايات المتّحدة الأمريكية وإسرائيل، تحاول أن تؤكّد هذه الصداقة بالمزايدة على هاتين الدولتين، حيث تقول أميركا ـ أقله علناً ـ إنّ الدبلوماسيّة هي الخيار المفضّل لحلّ مسألة البرنامج النووي الإيراني؟
ومن جهة أخرى، يعتبر هذا الوزير أنّ القنبلة الذرّية الإسرائيليّة هي قنبلة سلام، بالرغم من أنّ هذه الدولة غير الشرعيّة، كانت ـ منذ تأسيسها ـ خطراً على المنطقة كلّها؛ بل قد تكون خطراً على العالم، من خلال التحالف الاستراتيجي مع الولايات المتّحدة الأمريكية، التي لا تزال تفرض الحروب المتنقّلة، وتحرّك المشاكل في المنطقة من خلال إرباك علاقات الدول بعضها ببعض، ولاسيّما العلاقات العربية الإيرانية، لمصلحة إسرائيل، بينما لم تقم إيران بأيّ اعتداء على محيطها، بل كان كلّ دورها هو الدفاع عن نفسها وعن الشعوب المستضعفة المتطلّعة نحو الحرّية.
لقد كنّا نريد لفرنسا ـ في حكمها الجديد ـ أن تتمايز في سياستها عن الولايات المتّحدة الأمريكية، وأن تقترب أكثر من منطق الشعوب التي تعشق الحرّية والاستقلال كما عاشته فرنسا في عنفوانها التاريخي، فمثل هذه المواقف لن تمنح فرنسا قوّةً كبرى، ولن تحقّق لها الثقة من شعوب المنطقة؛ لأنّها تتحرّك في منطقٍ معاكس لخطّ العدالة والصداقة الحقيقيّة للعرب والمسلمين، كما أنّها لن تستطيع الحصول على موقعٍ جديد للنفوذ إلاّ على هامش النفوذ الاستكباري للولايات المتّحدة الأمريكية.
ضرب إيران لا واقعية فعليَّة له:
وفي خطٍّ موازٍ، يتحرّك بعض صقور الحرب من المحافظين الجدد، من أجل تشجيع الرئيس بوش على توجيه ضربة قاصمة إلى إيران. ولكنّنا نرى أنّه من الصعب أن يصل هذا المشروع إلى الواقعيّة الفعليّة، وذلك لأنّه يصطدم بالانخفاض الهائل في شعبيّة بوش، ومخاوف حلفائه الأوروبّيين من سياساته، وقلق دول المنطقة من الانعكاسات المحتملة لأيّ مغامرة أمريكية ضدّ إيران، كما يصطدم بطبيعة الانتشار العسكري الأمريكي الحالي في العراق والمنطقة، وعجز واشنطن عن الإتيان بقوّات أمريكية جديدة، إضافةً إلى طبيعة التعقيدات والتجاذبات في الساحة العراقيّة من جهة، وضغوط الكونغرس الأمريكي على بوش لسحب قوّاته منها، أو تخفيض عددها بالحدّ الأدنى، من جهة ثانية.
كما أنّ أيّ ضربة من هذا النوع قد تؤدّي إلى اندلاع حريق شامل في المنطقة، وإلى فقدان التوازن في أسعار النفط.
إنّنا نحذِّر من أن يتحرّك الجنون الأمريكي ـ في إدارة بوش ـ من خلال محاولة هذا الرئيس إنهاء ولايته باستعراض عسكري للقوّة، حتّى لو سقط الهيكل على رؤوس الجميع، ومنهم حلفاؤه، ولاسيّما دول الخليج التي لا حول لها ولا قوّة أمام القرارات الأمريكية.
مؤتمر بوش للسّلام: لإعلان النيات فقط:
ويبقى الحديث عن مؤتمر بوش للسلام، حيث أثارت بعض الدول العربية المدعوّة إلى حضوره بعض التحفّظات عليه متسائلةً عن جدّيته، كما أعلن رئيس وزراء العدوّ عن خفض سقف التوقّعات، مُشيراً إلى أنّ كيانه والسلطة الفلسطينيّة يعكفان على بيان مشترك لا يتضمّن اتّفاق مبادئ، بل إعلان نيات؛ لأنّ حزبين إسرائيليين يرفضان التوصّل إلى إعلان مبادئ.
لقد أكّدنا منذ البداية، أنّه لن يُكتب النجاح لهذا المؤتمر؛ لأنّ إسرائيل ليست مستعدّةً لأن تقدّم أي ّتنازل للعرب إلا إلى مستوى ما يقرب من ورقة التوت، وهذا ما أكدته تصريحات وزيرة الخارجيّة الأمريكية التي أعلنت أنّها مقتنعة بوجهة نظر رئيس وزراء العدو؛ لأنّ أمريكا لا تستطيع إلا الموافقة على ما تقرّره إسرائيل، ولو كان ذلك على حساب العرب كلّهم الذي يقدّمون التنازلات تلو التنازلات، بدءاً من مؤتمر مدريد، إلى القمّة العربية في بيروت، إلى ما بعدها، من دون أن يحصلوا على شيء.
فلسطين: المقاومة ضرورة استراتيجية:
وإنّنا ـ من خلال هذا الاتجاه في إدارة مشاريع المفاوضات ـ نرى أنّ بقاء المقاومة لا يزال في حجم الضرورة الاستراتيجية، في عمليّة تحرير الأرض الفلسطينيّة وحصول الشعب الفلسطيني على حقوقه المشروعة التي لا يزال الكثيرون يعلنونها في نطاق الشعارات الاستهلاكيّة التي يملك العدوّ السيطرة على جدّيتها وواقعيّتها.
ولذلك، لا بدّ للمجاهدين من تعبئة قدراتهم القتاليّة، ليكونوا امتداداً للتجربة التحريرية للمجاهدين في لبنان، ولاسيّما أنّ بعض المسؤولين العسكريّين يؤكّد أن إسرائيل استعادت قدرتها الردعيّة التي تضرّرت جرّاء حرب لبنان الثانية، وبالتالي فإنه لا بد للمقاومة الفلسطينية من أن تضاعف قوّتها، بحيث تتحوّل إلى مشكلةٍ للعدوّ بدلاً من أن يكون هو مشكلةً لها، وخصوصاً في الوقت الذي يقرر أن غزّة كيانٌ معادٍ، الأمر الذي يشير إلى مرحلة جديدة من مراحل الوحشية الإسرائيلية التي ستنطلق في العدوان عليها، والتي تعطي الجيش الإسرائيلي الحرية في تدميرها وقتل المدنيين فيها.
العراق: الخلافات تفقد البلد قوَّته الضَّاغطة:
أمّا العراق، فإنّنا نجد في الخلافات بين قواه السياسية، وما يليها من انسحابات متحركة من الحكومة، على أساس عناوين تفتقد الواقعيّة، وتبتعد عن خطّة الوحدة الوطنية وتنفتح على الفوضى... إنّنا نجد في ذلك خطراً على العراق كلّه؛ لأنّ ذلك لن يبقي فيه أيّ قوّة ضاغطة، الأمر الذي قد يؤدّي إلى بقاء القوّة للاحتلال الذي يؤكّد عزمه البقاء طويلاً في العراق، من أجل استمرار السيطرة على مقدّراته، ولاسيّما النفط الذي تحدّث بعض المسؤولين الأمريكيين بأنّ غزو العراق كان من أجله، كما أنّ ذلك يشجّع التكفيريّين على أعمالهم العدوانيّة ضدّ الأبرياء.
إنّنا نريد للكتل السياسية المتنوّعة في العراق أن تتحمَّل المسؤوليّة الكبرى، لمنع تمزيق الحالة السياسية فيه التي قد تتحوّل إلى حالةٍ من تمزّق الوطن كلّه، وعليهم أن يتّقوا الله في عباده وبلاده، وأن يتحرّكوا بمسؤوليّة في مواقعهم التي يرتفعون من خلالها إلى مستوى القضايا الكبرى، في حماية المصير والمستقبل.
لبنان: مواعظ ونصائح ملغومة:
أمّا لبنان، فإنّه لا يزال يبحث عن رئيس للجمهوريّة في واشنطن، وباريس، وفي الاتحاد الأوروبي، أو في مجلس الأمن، وفي أكثر من بلدٍ عربيّ، ولكن بواسطة الوكلاء الذين يديرون الأزمة، في عمليّة استعراض للقوّة السياسية، وتبادلٍ للاتهامات والشتائم، واستقبال الموفدين الدوليين والإقليميّين الذين يقدّمون للبنانيّين المواعظ والنصائح للاتفاق على حلّ من الداخل، ولكنّ المراقبين يعرفون أنّ هناك ألغاماً في أكثر من موعظة ونصيحة؛ لأنّ القضيّة هي أنّ كثيراً من اللبنانيّين رضوا بأن يبقى لبنان ميداناً لسباق النفوذ، ولتحريك المشاريع الدوليّة، ولاسيّما الأمريكية، ولاستهلاك الحديث عن المجتمع الدولي الذي أصبح من المقدّسات السياسيّة لدى البعض، في الوقت الذي لا يتحرّك اللاعبون الدوليّون إلاّ من خلال مصالحهم الذاتيّة التي تجعلهم يغيّرون تحالفاتهم حسب اتجاه خطّ المصالح بين لحظةٍ وأخرى.
ولعلّ مشكلة لبنان واللبنانيّين، أنّهم أدمنوا كثيراً من رموز الطبقة السياسيّة، وباتوا يخافون أن يحرّكوا إرادتهم في سبيل التغيير، انطلاقاً من أوهامٍ ابتدعوها وخضعوا لها، أو مخاوف أنتجوها واستسلموا لها، فيما أفقد النظام الطائفيّ الذي يقدّسه الجميع فرصة وصول الكفاءات إلى مواقع إدارة البلد، حتّى استعصى الفساد على دعوات الإصلاح، وبات الظُلم خطّاً من ضرورات السياسة، والكذب والنفاق واقعيّةً، وأُبعدت كلّ القيم عن أن تضبط حركة الواقع، لتكون مجرّد شعارات خالية من أيّ مضمون.
إنّ الله تعالى يقول: {إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}(الرعد/11).
وأخيراً: إنّ علينا أمام ما يحدِّق بالبلد من مخاطر، وما يطلُّ عليه من أوضاع سلبية، وخصوصاً بعد الجريمة الأخيرة، أن ننطلق في حركة سياسية جدية ومسؤولة، للانتقال بالبلد من ساحة الفوضى السياسية والأمنية إلى ميدان الوفاق، لنقطع الطريق على كل العابثين بأمنه واستقراره، والساعين إلى تعريض مصيره ومستقبله لخطر الفوضى والدمار.