زينب(ع) النموذج الجهادي الرسالي:
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}(الأحزاب/33). نحن نحبّ أهل البيت(ع) حبّ العقل، لأنهم منحوا عقولنا عقلاً إسلامياً جديداً في كلِّ ما قالوه، ونحبّهم حبّ القلب، لأنّهم جعلوا قلوبنا تنفتح على كلّ قيم المحبة للإنسان وللحق وللخير، ونحبّهم حبّ الحياة، لأنهم رسموا لنا من خلال أحاديثهم الخط المستقيم، الذي أراد الله تعالى للناس أن يسيروا عليه.
ونحن في هذا الشهر، شهر رجب الحرام، نلتقي بمناسبتين لأهل البيت(ع)، المناسبة الأولى، وهي ذكرى وفاة السيدة الطاهرة البطلة المجاهدة العالِمة، السيدة زينب بنت عليّ(ع)، التي عاشت في أحضان أمها فاطمة الزهراء(ع)، وفي رعاية أبيها عليّ(ع)، وأخويها الحسن والحسين(ع)، فارتفعت في مستوى عقلها وروحانيتها وشجاعتها وصلابتها وإخلاصها للحق وجهادها في سبيل الله، إلى ما لم تبلغه امرأة أخرى إلاّ أمها السيدة الزهراء(ع).
وكانت السيدة زينب المرأة التي اختارها الإمام الحسين(ع) لتكون معه، وربما يتساءل الإنسان لماذا أرادت أن تكون معه؟! ولماذا اختار الإمام الحسين(ع) أن تكون معه؟! وهي الزوجة لابن عمها عبد الله بن جعفر (الطيار) الذي كان حيّاً في المدينة، وهي الأم أيضاً؟!
والجواب هو أنّ الإمام الحسين(ع) أراد في مسيرته الكبرى، أن يكون عقل زينب(ع) وقلبها وحبّها معه، ولذلك كانت تجلس إليه لتسأله، وكان يجلس ليستمع إليها، وكانت تتحدث معه في مستقبل هذه الحركة، وتنفتح في بعض الحالات على العاطفة من خلال هذا الذوبان في الحسين(ع)؛ لا عاطفة الخوف ولكن عاطفة الرسالة، وكانت تتحرك من خيمة إلى خيمة، وتلاحق الحسين(ع) في كل مأساة تقع، ثم كانت قيادتها للبقية الباقية بعد واقعة كربلاء، وكانت شجاعتها في موقفها ضد ابن زياد عندما أراد أن يُجهز على الإمام علي بن الحسين(ع)، حيث وقفت وقالت له: أقتلني قبل أن تقتله، ووبّخته: «ثكلتك أمك يا بن مرجانة»، ثم موقفها في الكوفة وفي الشام أمام يزيد الذي عنّفته وخاطبته بأقسى الكلمات.
كانت السيّدة زينب(ع) النموذج الجهادي الإنساني الروحاني للمرأة المسلمة وللرجل المسلم، ومن المؤلم جداً أن هذه المرأة العظيمة جداً كعظمة أمها الزهراء(ع)، ليس لها منا إلاّ الدمعة، فمن منا يعرف زينب بطلة كربلاء المثقفة القوية الصامدة؟ إنهم يتحدَّثون في عاشوراء وغيرها عن زينب المأساة، ولكنها كانت فوق المأساة وأقوى منها وأصلب، فإذا كنتم تزورون السيدة زينب(ع)، فلا تشغلوا أنفسكم بالطّواف حول ضريحها، بل قفوا وقفة تأمّل، وادرسوا زينب تلميذة عليّ والحسن والحسين(ع)، زينب المجاهدة والعالمة والصابرة والصلبة والشجاعة، لنتعرّف النموذج الرسالي للمرأة المسلمة، ونقدّمها إلى العالم كلّه الذي لا يعرف عنها شيئاً، حتى إن العالم المسلم لا يعرف عن زينب(ع) الكثير، ولعل بعض المثقفات عن زينب، وأعطتها لقب "بطلة كربلاء".
السجن المعبد:
وأيضاً في هذا الشهر المبارك، نلتقي بذكرى إمام من أئمة أهل البيت(ع)، وهو الإمام موسى بن جعفر الكاظم(ع)، الذي تصادف ذكرى وفاته في الخامس والعشرين من شهر رجب؛ هذا الإمام الذي امتدت إمامته في الواقع الإسلامي، فكان الناس يرسلون إليه حقوقهم الشرعية، وكان هارون الرشيد الذي عاش الإمام(ع) في عصره، يخاف على ملكه منه، لما كان يراه من ثقة الناس المطلقة بعلمه وروحانيته، وكل ما يمثّله من القيم الكبرى التي كانت امتداداً لقيم رسول الله(ص).
ولذلك، لم يصبر هارون الرَّشيد على بقاء الإمام الكاظم(ع) في المدينة وهو في حالةٍ يتحرّك بحرّية، فيمنح العلماء العلم، ويربّي الناس على التقوى، وينفتح على الناس بالإسلام كلّه في أصالته المنهجية والشرعية، إضافةً إلى بعض مواقف التحدي التي واجهه فيها الإمام(ع)، وذلك عندما وقف الرشيد، عند زيارته المدينة، أمام قبر رسول الله(ص) وقال: «السلام عليك يا بن العم»، ليقول للناس إنّه قريب إلى النبي(ص)، فوقف الإمام الكاظم(ع) ليردَّ عليه، وقال: «السلام عليك يا أبه»، كأنه يقول له: إذا كنت تستأثر على الناس بأنّك ابن عم رسول الله، فأنا ابن رسول الله، وأنا أقرب إليه منك إذا كنت تتحدث عن القرابة.
وقرَّر الرشيد أن يسجن الإمام الكاظم(ع)، فنقله إلى عدة سجون، وكان الإمام(ع) يقول: «اللهمَّ إني كنت أطلب منك أن تفرّغني لعبادتك وقد فعلت، فلك الحمد»، فكان سجنه(ع) معبده ومسجده، حتى كان آخر السجون سجن السندي بن شاهك، الذي اغتال الإمام الكاظم(ع) بتوجيه من الرشيد بدسّ السم له.
ونحن نحاول أن نأخذ شيئاً من تراث الإمام الكاظم(ع) في ذكرى وفاته، فنبدأ بما كان يدعو به، ليعلّمنا كيف ندعو إذا ظلمنا بعض الناس، لأن كل واحد منا قد يُبتلى بأن يظلم زوجته أو ولده أو جاره أو صديقه، والإمام(ع) لم يظلم أحداً، ولكنه يعلّمنا أن نطلب من الله أن يعوّض المظلوم ما يردُّ ظلامته. يقول(ع): «اللهم اردد إلى جميع خلقك مظالمهم قبلي، صغيرها وكبيرها، في يسر منك وعافية، وما لم تبلغه قوّتي، ولم تسعه ذات يدي، ولم يقوَ عليه بدني ويقيني ونفسي، فأدّه عني من جزيل ما عندك من فضلك، ثم لا تخلف عليّ منه شيئاً تقتضيه من حسناتي يا أرحم الراحمين».
ثم يعقّب الإمام(ع) بتأكيد الاعتراف بالإسلام فيقول: «أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الدين كما شَرَع، وأن الإسلام كما وصف، وأن الكتاب كما أنزل، وان القرآن كما حدّث، وأن الله هو الحق المبين»، ثم يقول: «ذَكَر الله محمداً وأهل بيته بخير، وحيّا محمداً وأهل بيته بالسلام».
الكاظم(ع): تأكيد القيم الإنسانيّة:
وفي رواية عن أحد أصحاب الإمام الكاظم(ع)، أنّه رأى أحد أصحاب الإمام(ع) في موقف عرفة. يقول في روايته: «رأيته، فلم أرَ موقفاً كان أحسن منه، ما زال ماداً يديه إلى السماء، ودموعه تسيل على خديه حتى تبلغ الأرض، فلما انصرف الناس قلت له: يا أبا محمد، ما رأيت موقفاً قطّ أحسن من موقفك، فقال: والله ما دعوت إلا لإخواني، وذلك لأنّ أبا الحسن موسى بن جعفر أخبرني أنه من دعا لأخيه بظهر الغيب، نودي من العرش: ولك مئة ألف ضعف مثله، فكرهت أن أدع مئة ألف ضعف مضمونة لواحد لا أدري يستجاب أم لا».
ويقال في سيرة الإمام الكاظم(ع)، أنّه كان أحسن صوتاً للقرآن، فكان يبكي كل من يسمع تلاوته، وكان يبكي من خشية الله حتى تخضلَّ لحيته بالدموع. وكان(ع) يشجّع النّاس على الأخذ بأسباب العقل، ليفكروا بعقولهم في كلِّ قضاياهم، وكان يقول في وصيته لهشام بن الحكم: «إن لله على الناس حجتين، حجة ظاهرة وحجة باطنة، فأمّا الظاهرة فالرّسل والأنبياء والأئمّة، وأما الباطنة فالعقول». وكان(ع) يوصي أصحابه أن يحاسبوا أنفسهم على كل ما فعلوه وقالوه والتزموا به، فكان يقول: «ليس منا من لم يحاسب نفسه في كلّ يوم، فإن عمل خيراً استزاد الله منه، وحمد الله عليه، وإن عمل شرّاً استغفر الله وتاب إليه».
وقال(ع) لبعض أصحابه، وقد شكا إليه ما يحدث من جدال بينه وبين الذين قد نختلف معهم في المذهب أو في أمور أخرى، قال: «يا يونس، إرفق بهم، فإن كلامك يدقّ عليهم»، فقال له يونس: «إنهم يقولون لي زنديق» ـ كما تحدث بعض الناس عني إني ضالّ مضلّ ـ فقال(ع): «وما يضرّك أن يكون في يدك لؤلؤة فيقول الناس إنها حصاة، وما ينفعك أن تكون في يدك حصاة فيقول الناس إنها لؤلؤة».
وكان الإمام الكاظم(ع) يوجّه أصحابه بأن يتحدثوا في مقام الدعوة والتوجيه: «أبلغ خيراً وقل خيراً، ولا تكن إمّعة»، قالوا: «وما الإمّعة»؟ قال(ع): «لا تقل أنا مع الناس وأنا كواحد من الناس، إنّ رسول الله(ص) قال: يا أيّها النّاس إنما هما نجدان؛ نجد خير ونجد شر، فلا يكن نجد الشرِّ أحبّ إليكم من نجد الخير»، فالله تعالى خلق لك عقلاً، فلا تبعه أو تؤجّره لأحد. لنتعلّم أن نشغّل عقولنا لا عصبيّاتنا، حتى الأب لا بدَّ من أن يربّي أبناءه منذ الطفولة على التفكير لينمّي لهم عقولهم كما ينمّي لهم أجسادهم، لأن غيرك عندما يفكر عنك، فإنّه يفكر على طريقته، لذلك لا نكن كما قال الإمام عليّ(ع): «همج رعاع، أتباع كل ناعق يميلون مع كلّ ريح، لم يستضيئوا بنور الحق، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق».
ونختم الحديث عن الإمام الكاظم(ع)، بما ينقل عنه في سيرته، أنه كان في المدينة شخص معقّد من الإمام(ع)، حتى ضاق به أصحابه فقالوا له: «دعنا نقتله»، ولكنه منعهم، وسأل(ع) عنه فقيل إنّه في بستان له، فذهب إليه، فلما دخل في البستان قال له: «لا تدس زرعنا»، فلم يصغ(ع) إليه، وأقبل حتّى نزل عنده وجلس إلى جانبه وسأله: «كم غرمت على زرعك هذا؟» قال: «مائة دينار»، قال(ع): «فكم ترجو أن تربح؟» قال: «لا أدري»، قال: «إنّما سألتك كم ترجو»، قال: «مائة أخرى»، فأعطاه الإمام المبلغ وزرعه على حاله، وبدأ يحدّثه، حتى قام الإمام(ع) ودخل إلى المسجد، فتبعه ذلك الرجل وهو يقول: «الله أعلم حيث يجعل رسالته».
هؤلاء أئمتنا الّذين أمرنا الله بإمامتهم وولايتهم، نسأل الله تعالى أن يرزقنا شفاعتهم {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}(الشعراء/88-89)، والسلام على الإمام موسى بن جعفر الكاظم يوم وُلد ويوم استُشهد ويوم يبعث حيّاً.
الخطبة الثانية
بسم الله الرَّحمن الرحيم
عباد الله... اتّقوا الله، وواجهوا التحديات الكبرى التي يوجّهها الاستكبار العالمي إلى الأمة الإسلامية كلّها ليصادر كلَّ قضاياها في سياستها واقتصادها وثقافتها، وعليكم أن تواجهوه المواجهة الكبرى التي تسقط كل خططه وأوضاعه، فماذا هناك؟
التسليح الأمريكي للعرب: شروط قاسية:
في المشهد الأمريكي، قرر الرئيس بوش رفع مساعداته لإسرائيل بنسبة 35%، ليكون المجموع ثلاثين ملياراً من الدولارات في مدى عشر سنوات، وذلك من أجل الحفاظ على التفوق النوعي العسكري على الدول العربية مجتمعة، ذلك أن الولايات المتحدة ترغب في أن تجعل إسرائيل قادرةً أنى تشاء على القيام بعدوان على العرب والمسلمين المعارضين للسياسة الأمريكية، ليبقوا في موضع الضعف، وتبقى إسرائيل في موقع القوة.
وفي الوقت نفسه، قرَّرت واشنطن تزويد دول الاعتدال العربي ـ كما تسمّيها أمريكا ممن يلتزم العلاقات مع إسرائيل بشكلٍ رسمي أو غير رسمي ـ بالأسلحة المتطورة، بما يبلغ عشرين ملياراً من الدولارات، من أجل مواجهة قوى الممانعة أو قوى التطرّف، كما تسميها، كإيران وسوريا وحماس وحزب الله، وللدّفاع عن السياسة الأمريكية وعن مصالحها في المنطقة.
ومن المعلوم أنّ الأسلحة الأمريكية المباعة للعرب مشروطة بشروط قاسية، بحيث ينحصر استخدامها ضدّ العرب والمسلمين في الفتن والحروب التي تثيرها أمريكا في أوساطها، وليس من المسموح استخدامها ضد إسرائيل حتى لو تغيرت ظروف العلاقات العربية معها... ويعلم الجميع، أنّ الأسلحة التي زوَّدت بها الولايات المتحدة إسرائيل، استخدمت منذ الخمسينات في حروب الدولة العبرية على العرب، والتي كان آخرها الحرب على لبنان، وما جرى خلالها من دعم مطلق لإسرائيل تمثّل بالجسر الجوي الذي أقامته الولايات المتحدة الأمريكية لإرسال القنابل الذكية المتطوّرة إلى العدو من أجل مساعدته في العدوان وقصف المدنيين اللبنانيين في قراهم ومدنهم في حرب تموز، لأن هذه الحرب كانت حرب أمريكا مع إسرائيل على المقاومة وعلى لبنان، وليست حرب إسرائيل وحدها.
ومن جانب آخر، فإنّ زيارة وزيرة خارجية أمريكا "رايس" ووزير الحرب الأمريكي "غيتس" إلى المنطقة، هدفت إلى تجديد تعهد الولايات المتحدة أمن الشركاء الاستراتيجيين الرئيسيين في المنطقة، وهي الدول التي تصفها "رايس" بالدول "المعتدلة"، تحت عنوان مواجهة تهديدات إيران... ونحن نعلم أن هذه الزيارة هدفت إلى إيجاد حالة أمنية خطيرة في المنطقة لمصلحة أمريكا، لأن الأوضاع لا تحمل أيَّ تهديد لدول مصر والأردن، وكذلك لدول الخليج، بل إن إيران تعمل على طمأنة دول المنطقة والتأكيد لها بأنّها ليست عنصر تهديد لأحد، بل هي عنصر سلام على قاعدة التعاون الأمني الذي يحمي دول الخليج من أيّ خطر؛ فالطاقة النووية الإيرانية لن تستخدم في مجال صنع السلاح العسكري، بل في المجالات السلمية، وهذا حقٌّ لكلِّ الدول، بما في ذلك الدول العربية التي بدأت تفكر في ذلك.
أمريكا في الدوامة الدموية:
ولكن أمريكا التي فشلت في احتلالها للعراق، الذي يواجهها بالمزيد من القتلى والجرحى من جنودها يومياً، تحاول أن تغطي هذا الفشل بإثارة الاهتزاز الأمني في المنطقة كلّها، وإثارة الفتن والحروب السياسية، وتعقيد الأزمات المستعصية، كما يحدث في لبنان الذي أطبقت عليه سياسة الإدارة الأمريكية من أجل تحويل ساحته إلى ساحة تنفتح على مشروعها في الشرق الأوسط الجديد، وذلك من خلال الخصوصية اللبنانية التي تسمح بمثل ذلك، انطلاقاً من الحرية المتعددة الأبعاد التي يملكها لبنان، ومن النظام الطائفي الذي يجعل لكل طائفة علاقة ببعض الدول القريبة والبعيدة، للحصول على موقع للقوة في الأوضاع الطائفية المعقدة.
إن أمريكا تتخبّط في إدارتها السياسية والأمنية في المنطقة، ولا سيما في العراق وأفغانستان وباكستان ولبنان، وتبقى حركتها تأخذ شكل الدّوامة الدامية التي تحصد الأطفال والنساء والشيوخ والشباب من المدنيين، في حالة من الهستيريا الاستكبارية التي جعلت منها دولة مكروهة من أكثر من موقع في الشرق الأوسط وفي العالم، لأنّها لا تخطط بطريقة إنسانية، بل بطريقة وحشية بدأت تنعكس على أوضاعها الداخلية لدى الرأي العام الأمريكي، الذي أصبح يرفع الصوت عالياً، ويطالب بالانسحاب من العراق بفعل الخسائر البشرية والاقتصادية والعسكرية والسياسية، وبذلك انخفضت شعبية الرئيس الأمريكي إلى أدنى المستويات، كما فقد حزبه موقعه الريادي في الحسابات السياسية.
خطاب بوش: وعود عرقوبية:
وفي المشهد العربي، كان مؤتمر وزراء الخارجية العرب في القاهرة يرحِّب بما أسماه "العناصر الإيجابية" التي تضمَّنها خطاب الرئيس الأمريكي، حيث رأى إمكانية البناء عليها، وخصوصاً ما يتعلّق بحلّ الدولتين وإقامة الدولة الفلسطينية، ودعوته إلى تأييد عقد مؤتمر دولي في حضور الأطراف المعنية بما يسمى عملية السلام، بما يؤدي إلى إطلاق المفاوضات المباشرة على المسارات كافة، والبناء على ما تم إنجازه في هذا الشأن، إلى آخر هذه الوعود المعسولة، والتي لم تنطلق من أرضية حقيقية لتحقيق السلام، لأن الرئيس الأمريكي كان يكرر بين وقت وآخر شعار الدولة الفلسطينية، ولكنّه لم يتقدَّم خطوةً واحدة في هذا الاتجاه، سواء من خلال خطة الرباعية الدولية، أو خارطة الطريق، أو الضغط على إسرائيل لتغيير الأوضاع الاستيطانية وكارثة الجدار الفاصل وعودة اللاجئين وغير ذلك، وخصوصاً الانسحاب من الأراضي المحتلة في الضفة الغربية على الأقل، وإلغاء الحواجز التي تزيد حياة الفلسطينيين سوءاً، وإيجاد فرصة سياسية للبحث في مفاوضات الحلِّ النهائي الذي يكرّر مسؤولو العدو أنهم يرفضونه في هذا الوقت، فضلاً عن التمسك بالشرط الأمريكي ـ الإسرائيلي في إيقاف الانتفاضة واعتبارها حركةً إرهابية، ما يعطّل أيّ حوار جدي حول المقاومة الفلسطينية.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإنَّ الموقف الأمريكي ـ الصهيوني ـ العربي الذي يلتزم مواجهة "حماس" لمصلحة "فتح"، يمنع أية إمكانية لإيجاد وحدة وطنية ترتكز عليها الدولة المقبلة، ما يؤكد أن هذا الموقف يعمل على إلغاء أية حركة فلسطينية تملك ذهنية التحرير في خطِّ المقاومة، في وقت لم يستطع رئيس السلطة ـ بالرغم من تنازلاته الكثيرة ـ أن يحقق للشعب الفلسطيني أي مكسب يخفف من مشاكله، حتى لو كان على مستوى الإفراج عن العالقين في مصر على معبر رفح، بل كل ما هناك، أنه يسمع كلمات فضفاضة، ووعوداً معسولة، وتشجيعاً على الوقوف ضد حركة حماس، وتكرار رفض الحوار معها إلاّ بشروط تعجيزية.
والسؤال: هل هناك عناصر إيجابية واقعية في خطاب بوش؟ والجواب هو أنّ هذه الوعود ـ كما في الماضي ـ تمثل وعوداً عرقوبية، لأنَّ الإدارة الأمريكية من خلال القوى التي تحرّكها، لا تملك الضَّغط على إسرائيل، وهي تسخر من القرارات العربية الصادرة في مؤتمرات القمم العربية، ونحن نعرف أن أمريكا تتعامل مع إسرائيل بالمواقف، ومع العرب بالكلمات الساحرة.
أوهام السلام:
أمّا عن المؤتمر العربي الأخير، والذي يدعو إلى تحقيق السلام العادل والشامل، وإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي وفق مبادرة السلام العربية والمبادئ والأسس التي تستند إليها، وأهمية استمرار الجهود طبقاً لخطة التحرك والإطار السياسي اللّذين حددتهما لجنة مبادرة السلام في اجتماعها الماضي على المستوى الوزاري... فإنّنا لا ندري هل يضحك المؤتمرون العرب من وزراء الخارجية على شعوبهم عندما يتحدّثون عن هذه القرارات التي جرَّبوها منذ انطلقت مبادرة السلام العربية في بيروت، عندما كانوا يواجهون الموقف الأمريكي الذي رفض اعتبارها مبادرةً قابلة للتنفيذ، بل للمفاوضات التي يعرف الجميع أنها لن تصل إلى نتيجة، والموقف الإسرائيلي الذي اعتبر أنها لا تساوي الحبر الذي كتبت به، حتى إننا لاحظنا أن وزيري خارجية مصر والأردن أكَّدا للجانب الإسرائيلي في زياراتهم الأخيرة، المبادئ الأساسية للمبادرة العربية للسلام، كما لو كانت إسرائيل لم تطَّلع عليها، وقد قالا إنَّ هذه الزيارة كانت بتفويض من لجنة السلام العربية للشرح وليس للتفاوض.
أما إسرائيل، فقد أرادت من كل وزراء الدول العربية أن يأتوا إليها خاضعين، في عملية استجداء للسلام الذي لا يملكه أحد منهم، بل هو ملك إسرائيل جملةً وتفصيلاً، ولا سيما بعدما ألغى العرب خيار المواجهة العسكرية بالرغم من الأسلحة الضخمة التي اشتروها، حتى إن أكثر المسؤولين العرب هاجموا انتصار المقاومة في لبنان على إسرائيل، لأنّهم يخافون حتى من حركة النصر ضد إسرائيل بعدما عاشوا ثقافة الهزيمة.
إننا نقول لهم: لن تحصلوا من إسرائيل على مكسب لمصلحة السلام العادل ولحساب الدولة الفلسطينية القوية القابلة للحياة، وسيبقى اللهاث العربي وراء إسرائيل حتى تنقطع الأنفاس.
لبنان: اتساع دائرة الأزمات:
أما لبنان، فإنه ينتقل من أزمة وطنية إلى أزمة فرعية، مما يشغل المواطنين ويستثير الأحقاد في داخل الطائفة الواحدة، ويحرِّك التصريحات في اتجاه عناصر الإثارة بالأساليب التي لا يحترم فيها أصحابها عقولهم، فيحرِّفون الكلام عن موضعه، ويبعدون المواطنين عن وعي الحقيقة الوطنية التي تجمعهم على الوطن الواحد في خطِّ المواطنة التي يشعرون معها بالمساواة في الحقوق والواجبات... وهكذا يواجهون حالة التنوّع والاختلاف بالمذهبيات والعصبيات، وتنطلق التصريحات الدولية التي تحذِّر اللبنانيين من حرب أهلية قد يخطِّط لها الذين يصنعون المأساة للإنسان اللبناني، ليضيفوا إلى حرب الجوع والحرمان حرباً حارة جديدة عنوانها التخويف...