عليّ(ع) في بيت الله:
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ}(البقرة/207)، ويقول تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}(المائدة/55).
غداً نلتقي بذكرى ولادة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع)، في الثالث عشر من شهر رجب، هذه الولادة التي أكرمه الله تعالى بها، إذ المشهور بين المؤّرخين، أنّ أمه ولدته في الكعبة المشرّفة، حيث لم يولد قبله أحد فيها ولا بعده، وكانت ولادته في الكعبة ترمز إلى معنى كبير، وهو أنَّ هذا الإنسان سوف تكون كلُّ حياته في بيت الله، وفي كل موقع للإسلام أراد الله له أن يتحرّك فيه، ليجاهد في سبيل إقامة الإسلام وعزّته وقوته وكرامته.
وعليّ(ع) لم يكن من الأشخاص الّذين يحبّون الحروب، ولكنّه ارتفع في مستوى مسؤوليته عن الإسلام إلى التحرّك في كل حياته لتلبية نداء الله في كل موقع يواجه الإسلام فيه الخطر، ويتطلّب النصرة.
ولذلك، كان جهاد عليّ(ع) صلاةً يؤديها إلى الله، وكان نشاطه في توعية الناس وتعليمهم وتثقيفهم وتربيتهم، صلاةً يؤدّيها إلى الله، وكان(ع) في صبره الذي فاق التصوّر من أجل الإسلام، صلاةً يؤدّيها إلى الله، لأن الصلاة تمثل كل عمل يتحرك به الإنسان من أجل أن يحصل على مواقع القرب من الله تعالى.
ونحن نعرف أنّ طفولة عليّ(ع) كانت في أحضان رسول الله(ص)، ولم تكن في أحضان أمه وأبيه، وذلك عندما تكفّله رسول الله(ع)، حيث رأى أن عمه أبا طالب كثير العيال، وأنّ هذه الكثرة تثقله مادّياً، فأخذ عليّاً(ع) وضمّه إليه. وكان عليّ(ع) مع رسول الله(ص) في تأملاته وابتهالاته وانفتاحه على الله، وكان معه في غار حراء عندما كان يتأمّل، لأنّ الرسول(ص) كان يربّي عقله وقلبه وكلَّ فصول حياته على ما يرتفع به إلى الله تعالى. وقد نقل لنا عليّ(ع)، أنّ الله قد وكّل برسول الله قبل الرسالة عظيماً من الملائكة ليربّيه ويعطيه في كل يوم علماً وروحاً، حتى تربّى رسول الله تحت رعاية الله تعالى، وأيضاً كان عليّ(ع) يعيش في هذا المناخ والجو، ويقول عليّ(ع) في حديثه عن طفولته: «كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه، يرفع في كلّ يوم من أخلاقه علماً، ويأمرني بالاقتداء به»، أسير حيث يسير، وأتحرّك حيث يتحرّك، وأبتهل حيث يبتهل، وأتأمل حيث يتأمّل، حتى انطبعت شخصية علي(ع) بشخصيّة رسول الله، فكان عقله وقلبه عقل رسول الله وقلبه.
إسلام العقل والقلب:
ولذلك ارتفع عليّ(ع) من مرحلة الطفولة، من خلال تربية رسول الله له، إلى مستوى الكبار، فقد كان يفكر كالكبار، ولذلك عندما أرسل الله رسوله بالرسالة، دعا عليّاً(ع) للدخول في الإسلام وعمره عشر سنوات، وبادر(ع) إلى الاستجابة لرسول الله، لأنه كان يعيش معنى الإسلام؛ إسلام العقل والقلب والحياة لله. ولم يكن إسلام علي(ع) إسلام الأطفال، كما يحاول البعض تصويره، بل كان إسلامه إسلام العقل الكبير الذي تربى على رسول الله.
ويُنقل في بعض كتب السيرة، أن عليّاً عندما أعلن إسلامه، قيل له إن الأبناء يستشيرون آباءهم عندما يريدون أن يدخلوا فيما دخلت فيه، فقال لهم: "إن الله لم يستشر أبي عندما خلقني". وانطلق عليّ(ع) مع رسول الله في بيته، حتى كان يقول: "كنا في بيت يجمعنا رسول الله وخديجة وأنا ثالثهما"، وكان النبي(ص) يلقي إليه كل آية تنـزل ليسمعها، وكان(ع) يسمع جبرائيل عندما كان ينـزل على النبي(ص) حتى قال له: "يا عليّ، إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى، إلا أنك لست بنبي"، وقال(ع): "لم يسبقني إلى الصلاة إلاّ رسول الله"، وكان يصلّي خلفه، وكانت خديجة تصلّي وراءهما، ومرّ أبو طالب ورأى عليّاً يصلي إلى جانب النبي، فقال لولده جعفر: "يا جعفر، صل جناح ابن عمك". ومن خلال ذلك، نعرف أن أبا طالب (رضوان الله عليه) كان كمؤمن آل فرعون، يكتم إيمانه ليحمي رسول الله(ص)، ومع ذلك، لا يزال بعض المسلمين يقولون "إن أبا طالب مات كافراً"، ولكنّنا عندما ندرس حياة أبي طالب، نرى أنه كان في قمة الإسلام فيما كان يتحرك به مع النبي(ص).
وعاش عليّ(ع) مع رسول الله(ص)، واستطاع أن يتعلّم علمه، حتى قال النبي(ص): "أنا مدينة العلم وعليّ بابها"، وحتى قال عليّ(ع): "علّمني رسول الله ألف باب من العلم يُفتح لي من كل باب ألف باب". وكان النبي في كل ملاحظاته ومراقباته لعليّ(ع)، يرى أنه يجسّد الحق كلّه، وعليّ(ع) يقول: "لم يجد لي كذبةً في قول ولا خطلةً في فعل". كان في كل سلوكه وفي كل كلامه وعمله وعلاقاته وحربه وسلمه رجل الحق، وهو الّذي باع نفسه لله، وقد نزلت فيه الآية، كما يقول المفسِّرون، عندما بات ليلة الهجرة على فراش النبي(ص) ليحمي حركته في الهجرة، وهي: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ}(البقرة/207).
اجتماع الإسلام في علي(ع):
وانطلق عليّ(ع) مع رسول الله(ص) في كلِّ حروبه التي فُرضت عليه، وكان هو فارس الإسلام الأول، ولم يكن قد تدرّب أو دخل في دورة تدريبية يتعلّم فيها فنون الحرب، ولكن إرادة عليّ(ع) في الإخلاص للإسلام، وشجاعته في المواقف من خلال التزامه وإيمانه بالله، جعلتاه يمارس الحرب كأفضل ما يمارسها المتدربون، ولذلك عندما خاض معركة بدر، قتل نصف القتلى من المشركين وشارك المسلمين في النصف الآخر، حتى قال جبرائيل: "لا فتى إلا عليّ ولا سيف إلا ذو الفقار".
وهكذا نعرف لماذا تحدّث رسول الله عن عليّ(ع) بما لم يتحدث به عن أي صحابي، مع أنّهم كانوا أكبر سنّاً من عليّ. وكان(ص) يقول عنه: "عليّ مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار"، "يا عليّ، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي". وكلمات النبي(ص) في عليّ(ع) ليست كلمات العاطفة: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}(النَّجم/3-4)، فعليٌّ(ع) هو الشخصية المميزة التي تملك العلم كلّه والإخلاص كلّه، والإيمان كلّه، والإسلام كلّه، حتى إنه في معركة الأحزاب، عندما برز (عمرو بن عبد ود) وهو يتحداهم ويتبختر أمامهم، وقال النبي(ص): "من لعمرو وقد ضمنت له على الله الجنة"، ولم يقم أحد إلا عليّ(ع) في المرات الثلاث، عند ذلك قال(ص) وهو يودّع عليّاً: "ربي لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين"، كأن عليّاً يمثّل كل قوة رسول الله، فإذا قُتل فسوف يبقى النبي فرداً، وعندما تحرّك عليّ ليبارز عمراً قال: "برز الإيمان كله إلى الشرك كله"، لأن الإسلام في تلك المرحلة تجمّع في عليّ(ع)، والشرك تجمّع في عمرو بن عبد ودّ، وعندما انتصر عليّ(ع) قال النبي(ص): "ضربة عليّ يوم الخندق تعادل عبادة الثقلين"، لأنه هو الذي حفظ للثقلين هذا الامتداد للإسلام، عندما استطاع أن يهزم المشركين في تلك الحرب التي أرادوا من خلالها القضاء على الإسلام في قلب المدينة. لذلك، كانت كلمات رسول الله(ص) في عليّ(ع) كلمات الوحي.
وعندما قربت وفاة النبي(ص)، وأخبره الله بدنوّ أجله، جمع المسلمين في حجة الوداع في غدير خم، ورفع يد عليّ حتى بان بياض إبطيهما للناس، وقال: "أيها المسلمون، ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم"؟ قالوا: "اللهم بلى"، فقال: "اللهم اشهد، من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه، اللهمَّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حثيما دار"، وهذه الكلمة تدلُّ على الحاكمية، فقد كان الرسول(ص) يريد أن يركّز الولاية في عليّ(ع)، ليكون الإنسان الذي يحفظ الإسلام بعد وفاته، كما حفظه في حياته وتحت قيادته.
عليّ(ع) ونصرته للإسلام:
وبعد ذلك، دارت الدوائر، وأُبعد عليّ(ع) عن حقه، ولكنه بالرغم من الظروف الصعبة التي عاشها في تلك المرحلة، كان يشعر بمسؤوليته في نصرة الإسلام حتى لو كان خارج الخلافة، ولذلك لم يتعقّد، بل أعطى النصيحة والمشورة والرأي لمن تقدّمه في الخلافة، وكانت كلمته: "لأسلمنَّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلا عليَّ خاصة"، وكان هذا هو برنامج عليّ(ع)؛ أن يسلم المسلمون من كلِّ ضعف وانهيار. وقد قال في كتابه لأهل مصر: "فما راعني إلا انثيال الناس على أبي بكر يبايعونه، فأمسكت يدي، حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمد(ص)، فخشيت إن أنا لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم، التي إنما هي متاع أيام قلائل، يزول منها ما كان، كما يزول السراب، أو كما يتقشّع السحاب، فنهضت في تلك الأحداث حتّى زاح الباطل وزهق، واطمأنّ الدّين وتنهنه".
ورأيناه يتابع مسيرة نصرة الإسلام، حتى عندما تولّى الخلافة زرعوا الأشواك في طريقه، وقد عبّر(ع) عن ذلك بقوله: "فلمّا نهضت بالأمر، نكثت طائفة، ومرقت أخرى، وقسط آخرون، كأنهم لم يسمعوا كلام الله حيث يقول: {تِلْكَ الدَّارُ الآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}(القصص/83)، بلى والله، لقد سمعوها ووعوها، ولكنهم حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها. أما والّذي خلق الحبّة، وبرأ النّسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنـز".
ونقرأ عن بعض أصحابه، وهو "ضرار بن حمزة الضبابي" عند دخوله على معاوية بعد شهادة الإمام عليّ(ع) ومساءلته عن علي(ع)، قال: "فأشهد، لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى اللّيل سدوله، وهو قائم في محرابه، قابض على لحيته، يتململ تململ السليم ـ الملدوغ بالحيّة أو غيرها ـ ويبكي بكاء الحزين، ويقول: يا دنيا، إليك عني، أبي تعرضت أم إليّ تشوّقت، لا حان حينك، هيهات غرّي غيري، لا حاجة لي فيك، قد طلّقتك ثلاثاً لا رجعة فيها، فعيشك قصير، وخطرك يسير، وأملك حقير، آه من قلة الزاد، وطول الطريق، وبُعد السفر، وعظيم المورد". ويقال إن معاوية بكى عندما سمع ذلك من ضرار.
لقد عاش عليّ(ع) مع الله، وباع نفسه لله، حتى عندما ضربه الشقي ابن ملجم على رأسه في محرابه في المسجد، كانت كلمته: "بسم الله وبالله وعلى ملّة رسول الله، فزتُ وربّ الكعبة"، وكأنه يستعرض كل مراحل حياته، ورأى أن هذه النهاية التي يحبها الله ويرضاها.
وكان الله يحبّ عليّاً(ع) كما لم يحبّ أحداً بعد رسول الله، ولذلك قال عنه النبي(ص) في وقعة خيبر: "لأعطيَّن الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، كرّار غير فرَّار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه". لذلك نحن نحبّ عليّاً أعظم الحبّ، ونتولاّه في إمامته وولايته أعظم الولاية، ونحن لا نزال نتعلّم من عليّ(ع)، لأنه حاضر فينا، في كلِّ ما حدّثنا عنه، ووعظنا فيه، وتحرك به. ونقرأ ما قاله ذلك الشاعر المسيحي:
فيا سماء اخشعي ويا أرض قرّي واخضعي إنني ذكرت عليّا
الخطبة الثانية
بسم الله الرَّحمن الرحيم
عباد الله... اتقوا الله، وواجهوا الموقف من موقع واحد، هو موقع الأمة الواحدة التي تقف في مواجهة الكفر كلّه، والشرك كلّه، والاستكبار كلّه، في كل تحدياته وأوضاعه، حتى ننصر الله تعالى وننصر رسوله ودينه، فماذا هناك؟
فلسطين: المزيد من التنازلات العربية:
في المشهد الفلسطيني، يتابع رئيس الوزراء البريطاني السابق طوني بلير اجتماعاته في فلسطين مع الفلسطينيين والإسرائيليين، في ظل تشكيك في قدرته على تحقيق أيِّ اختراق سياسي، جرّاء القيود التي فرضتها واشنطن على تفويضه كممثل للجنة الرباعية الدولية، حيث واجهته إسرائيل بدعوة المجتمع الدولي إلى أن يميّز بين المعتدلين والمتطرفين، وأن يتخذ موقفاً حازماً حيال حركة حماس، وأن لا يمنحها شرعية في شكل مباشر أو غير مباشر إذا لم تعترف بإسرائيل.
وقد أعلنت وزيرة خارجية العدو، أنَّ طريق الفلسطينيين إلى الدولة ينبغي أن يمر أولاً بحربهم الخاصة على الإرهاب، والمقصود به هو إيقاف المقاومة ضد الاحتلال وإنهاء الانتفاضة، والحفاظ على الحرية الأمنية والسياسية والاقتصادية لإسرائيل، في أن تتابع خطتها في الاغتيال للشخصيات الفلسطينية الناشطة واعتقالها، واجتياح القرى والمدن الفلسطينية، من دون أيِّ معارضة أو مقاومة، الأمر الذي يوحي بأنَّ مهمة اللّجنة الرباعية الدولية هي إضاعة الوقت ريثما تستكمل إسرائيل استراتيجيتها في السيطرة الكاملة على أكثر فلسطين، لأن هذه اللجنة تمثل مشروعاً أمريكياً داعماً لإسرائيل من خلال الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا، من دون أن يملكوا من الأمر شيئاً في الحلّ الواقعي للقضية الفلسطينية في تحرير الشعب الفلسطيني.
وقد تحدث الإعلام، أنّ تل أبيب مستعدة لأن تبحث مع الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، بعبارات عامة القضايا الرئيسية، بما في ذلك الحدود والأفق السياسي، لأن من السابق لأوانه ـ كما يقول إيهود أولمرت ـ الحديث عن استئناف مفاوضات الحلّ النهائي. فالخطة الإسرائيلية هي اللعب على عنصر الوقت إلى ما لا نهاية قبل الدخول في الحديث عن الحلّ الحاسم، تماماً كما فعلت منذ احتلالها لفلسطين حتى الآن، بغطاء أمريكي وصمت أوروبي وخذلان عربي، وهي عندما تستقبل المسؤولين العرب، فإنّما تعمل على إيجاد حالة من التطبيع السياسي معهم، بما يفضي إلى تنازلات عربية جديدة ولا يحقق حلم الدولة الفلسطينية القابلة للحياة.
والسؤال الآن: إذا كان طوني بلير غير مخوّل لعقد أيِّ لقاءات مع مسؤولين من حماس، فكيف يمكنه أن يحقق شيئاً في مجال بناء المؤسسات الفلسطينية، وتحسين الوضع الاقتصادي في الأراضي الفلسطينية، في ظل استثناء وتجاهل المنظمات الدولية لشريحة كبيرة من الشعب الفلسطيني، ما يجعل من هذه السياسة سياسة فاشلة ولن تفضي إلى أية نتائج حقيقية؟!
إسقاط المقاومة هدف المجتمع الدّولي:
إننا نقول للفلسطينيين، إنكم لن تصلوا إلى أية نتيجة واقعية فاعلة على صعيد الحل لقضيتكم في التحرير، إذا لم تستعيدوا الحوار الإيجابي بين فصائلكم، ولا سيما بين فتح وحماس، حتى لو حصلت الانتخابات المبكرة، لأن هذا الانقسام للشعب الفلسطيني سوف يمنع عملية التكامل والتعاون والتواصل في إقامة الكيان، وعليكم أن تعرفوا أن المجتمع الدولي، ومعه الأنظمة العربية، يخططون لإسقاط الكثير من عناصر القضية الفلسطينية، وفي مقدمها المقاومة التحريرية في خط الانتفاضة، ليسهل عليهم الحلّ التنازلي الذي سوف يؤدي بالدولة الفلسطينية إلى مزق متناثرة منفصلة قد تُسمّى دولة، ولكن من دون أية واقعية لمعناها.
وقد تحدَّث الكثيرون عن خطة إسرائيلية لاجتياح غزة، واغتيال كبار القادة من حركة حماس، بتشجيع من بعض القائمين على السلطة أو من الإدارة الأمريكية ومن العرب الصامتين صمت الموافقة، وذلك ليكون الحلّ ضد حماس إسرائيلياً... وعلى الشَّعب الفلسطيني أن يدرك جيداً، أنَّ مثل هذه الخطة ـ لو كانت حقيقية ـ سوف تهدِّم الهيكل على رؤوس الجميع، لأن المطلوب ليس رأس حماس، بل رأس المقاومة التي تواجه احتلال العدو، والجميع يعرف أن السلطة التي تراهن على المجتمع الدولي وعلى النظام العربي في الوصول إلى المطالب الشرعية للشعب الفلسطيني، لن تحصل على شيء، لأن إسرائيل التي تملك القوة، لن تمنحها أيّ قوة خارج نطاق الكيان القومي للدولة اليهودية التي لن يعيش العرب إلاّ على هامشها الاقتصادي والسياسي.
التعقيدات الإيرانية ـ الأمريكية تربك المفاوضات:
وفي المشهد الأمريكي، يتابع الأمريكيون والإيرانيون البحث في الأزمة الأمنية في العراق للحدّ من تأثيرها على الواقع الأمني، ولا سيما على الوجود الاحتلالي لأمريكا وبريطانيا، في ظلّ حديث عن أن المفاوضات ستظل محصورة في الشأن العراقي، وخصوصاً الأمني، ولن تتطرق إلى الملفات العالقة بين واشنطن وطهران، وعلى رأسها الملف النووي الإيراني، ذلك أن أمريكا تريد حصر المفاوضات في إطار الاتهام الأميركي لإيران بدعمها للميليشيات الشيعية التي تقاوم الاحتلال، وتريد منها الامتناع عن ذلك، لتساعد على تهدئة الوضع الأمني، ولا سيما أمن جيش الاحتلال، الذي صرّح مسؤولوه بأنه سيبقى مدة عامين في العراق على الأقل.
ونحن نرى أنه من الصعب الوصول، بهذا اللقاء، إلى أية نتيجة حاسمة، باعتبار أن التعقيدات في العلاقات الإيرانية ـ الأمريكية وصلت إلى مستوى من الصعوبة أن تتجاوز معها الجانب الأمني العراقي، وخصوصاً أن أمريكا تخطط، مع حلفائها الأوروبيين، لعقوبات جديدة ضد إيران في مجلس الأمن، حتى إن رئيس الوزراء البريطاني هدَّد بعقوبات جديدة ضد إيران من دون أن يستبعد العمل العسكري ضدّها، في الوقت الذي تجزم بعض الدول الغربية بأنّه لا وجود لأي دليل على التخطيط الإيراني لصنع السلاح النووي، وإذا كان من غير المعقول تطوير إيران للقوة النووية، فهل من المعقول لدى الغرب كلّه امتلاك إسرائيل الترسانة النووية الهائلة التي تمثل خطراً على المنطقة؟!
أمريكا ترفض الحلول السلمية:
إن الإدارة الأمريكية لا تزال تتحرك للعبث بأمن المنطقة كلّها من أجل الحصول على مقدراتها الاقتصادية، لتحقيق مصالحها الاستراتيجية بمختلف الوسائل، وفي كل الدول التي تخشى منها على خططها الاستكبارية، وقد صرّح مسؤول استخباراتي أمريكي، أنّه إذا تعرَّضت أمريكا لهجوم ناجح من تخطيط عناصر القاعدة في منطقة القبائل الباكستانية، فإنّها ستدخل هذه المناطق وتسوّيها بالأرض، ما يدلُّ على أن أمريكا لا تؤمن بالحلول السلمية للمشاكل التي قد تواجه سياستها التي تسيطر على هذا البلد أو ذاك، كما أنها توزع اتهاماتها غير الواقعية ضد المعارضين لها، ليكون العنف هو الوسيلة الوحيدة التي تحركها في العالم كلّه تحت أكثر من عنوان، ولا سيما عنوان الحرب ضد الإرهاب الذي فشل في حركة الإدارة الأمريكية في أكثر من موقع في العالم.
الإخلاص التركي للإسلام:
ومن جانب آخر، فإن نجاح حزب العدالة والتنمية الذي يختزن في داخله البعد الإسلامي في تركيا، يدلُّ على أن الشعب التركي المسلم لا يزال مخلصاً لدينه ولالتزامه الإسلامي ضدَّ الذين يحرّكون العلمانية في النظام التركي، لتحويلها إلى ما يشبه الاتجاه الذي يمثّل القداسة التي تشبه القداسة الدينية، ولذلك فإنهم يضطهدون الأوضاع الدينية، كالحجاب والمدارس الدينية، خوفاً من الانطلاقة الإسلامية للشعب الذي لا يوافق بأكثريته على النظام العلماني، بل يحاول أن يمارس الديمقراطية في معناها السياسي الإنساني الذي حمل الإسلاميين إلى الدرجة العليا في الانتخابات التشريعية...
إنَّنا نتوجَّه إلى القوى العلمانية في تركيا، ولا سيما القوى العسكرية، أن هذا النظام قد انطلق من تقليد النظام الغربي الذي تتحرك علمانيته في خط الحرية، فيما عدا بعض الدول كفرنسا، ولذلك فإن الالتزام الخانق بهذا النظام ضد الحريات الدينية، يدل على تخلّف سياسي واجتماعي لا تعترف به العلمانية الغربية.
لبنان: غياب مؤشِّرات الحلّ:
أما في لبنان، فلا تزال المبادرة الفرنسية تتحرك فيما يشبه الجمود السياسي الذي يلتقي مع المبادرة العربية في متاهات الجدل البيزنطي، ولا سيما مع التعقيدات اللبنانية الداخلية في الانتخابات الفرعية التي حرّكت بعض الجروح في حركة المعارضة والموالاة، ما قد يخلق بعض المشاكل في المعركة الانتخابية القادمة. كما أن الحركة الأمريكية التي يمارسها سفيرها في لبنان، توحي للقائمين على شؤون السلطة بالرفض المطلق لأيّ حلّ للأزمة السياسية، ما قد ينعكس سلباً في الأوضاع على الاستحقاق الدستوري المقبل في الانتخابات الرئاسية التي قد تصل بها الأزمة إلى حال من الفراغ الذي قد يربك الأوضاع كلّها.
السلطة تعاقب شعبها:
وفي ختام المطاف، فإن السلطة المسيطرة على شؤون الخدمات، تمارس عملية نشر الظلام في المناطق المستضعفة في لبنان، حيث يعاني الناس في هذا الحرّ الشديد انقطاع الكهرباء في شكلٍ شبه كلي، في الوقت الذي تبقى العاصمة ومناطق أخرى تنعم بالنور على مدار الساعة، الأمر الذي يجعل الناس يعيشون في ما يشبه الكارثة الحياتية في حياتهم الخاصة وفي صناعاتهم وفي أوضاعهم العامة، وهو ما جعل فريقاً كبير من اللبنانيين، ولا سيما في الضاحية، يخيّل إليه أن المسألة تتعدى الجانب الفني إلى الجانب السياسي لمعاقبة الشعب الذي وقف مع المقاومة وصمد أمام العدوان الإسرائيلي، ولا سيما في الذكرى السنوية للانتصار الكبير الذي جسّدته المقاومة على العدو الصهيوني...