تقوى الله ثقيلة في الميزان

تقوى الله ثقيلة في الميزان

بين مخافة الله وذهنية قارون:
تقوى الله ثقيلة في الميزان


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:

شخصية فرعون: درسٌ وعبرة

في مرحلة النبي موسى(ع)، كان قومه يعانون من شخصين؛ الشخص الأول فرعون الذي حوّلهم إلى عبيد، ما دفع بالنبي موسى(ع) إلى أن يطلب من فرعون، من ضمن طلباته، أن يرسل معه بني إسرائيل، وأن يخرجهم من سلطته وعبوديته ومن كل ما يمارسه معهم، لأنه كان يذبّح أبناءهم، ويستحيي نساءهم، حتى إنه عندما تحرَّك الجدل بين موسى(ع) وفرعون، كانت كلمة موسى(ع) له كلمة استنكارية، إذ قال: {وتلك نعمة تمنّها عليَّ أن عبّدت بني إسرائيل} (الشعراء:22).

ونحن نعرف كيف أن الله تعالى أرسل موسى(ع) إلى فرعون ليدعوه إلى الإيمان بالله، في الوقت الذي كان فرعون يدّعي أنه الإله، وكان يقول لقومه: {ما علمت لكم من إله غيري} (القصص:39)، وقال أيضاً: {أنا ربكم الأعلى} (النازعات:24)، وكانت سيطرته على مصر تشجّعه على مثل ذلك. ولكنّ نهاية فرعون كانت بإغراق الله له في البحر، بعد أن جمع جنوده ليلاحق النبيّ موسى(ع)، الذي خلق الله له البحر لينتقل إلى البرّ الآخر. وقد قدّم سبحانه جثة فرعون إلى قومه ليكون عبرة لهم، وليعرفوا أنه ليس رباً ولا إلهاً: {فاليوم ننجيك ببدنك} (يونس: 92).

قارون: نموذج المترف المستعلي

وهناك شخصية أخرى من قوم موسى(ع)، ولكنها شخصية تتميّز بامتلاكها الثروة العظمى، وهي شخصية قارون التي تحدث الله تعالى عنها في القرآن، والذي كان يستغلّ ثروته في الضغط على الفقراء والمستضعفين، وكان يستعرض هذه الثروة أمام الناس، ويستعلي بها عليهم، ولكن قومه الذين بغى عليهم كان فيهم عقلاء، فلم يسقطوا أمام ثروته، ولم يروا فيها كرامة له وفضلاً، بل كانوا يرون أنه استغل هذه الثروة لتضخيم شخصيته واستغلالها للضغط على الناس، ومحاولة الاستعلاء عليهم، كالكثيرين من أصحاب الثروات العظمى، سواء كانوا أفراداً أو جماعات أو دولاً، لأن الثروة الكبرى تغري أصحابها بأن يستغلّوها للضغط على المستضعفين. وهذا ما نلاحظه في كثير من الأغنياء الذين ابتُلي بهم الأنبياء، وقد عبّر الله عنهم في القرآن الكريم بـ"المترفين"، بحيث كانوا يخافون من دعوة الأنبياء أن تُسقط مواقعهم وتشجّع المستضعفين على أن يتمردوا عليهم. وهو ما حدّثنا عنه القرآن الكريم في أكثر من آية، إذ جاء على لسان هؤلاء "المترفين" قولهم: {وما نراك اتَّبعك إلا الذين هم أراذلنا} (هود:27).

وهي العقلية التي تتحكّم اليوم بالدول الكبرى التي تملك الثروات الطائلة فيما استغلته من ثروات العالم الثالث التي صادرتها من خلال خطوات الاستعمار، ما مهّد لها السيطرة على كل موارد البترول والمعادن والثروات في العالم العربي والإسلامي، وحتى إفريقيا، وما الرخاء الذي يعيشه الغرب إلا من خلال اعتماده على ثروات المستضعفين.

وهذا ما لاحظناه في تجمّع ما يسمّى بالدول الثماني، وهي الدول التي تملك مصانع الحرب وكل المواد الاستهلاكية والإنتاجية وما إلى ذلك. هؤلاء هم الذين يمثلهم قارون، فهم "قوارين" العصر. فقارون الذي تحدث عنه القرآن ليس مجرد شخص عادي، إنّما هو أنموذج للإنسان المستعلي، وقد نجد مثل ذلك في مجتمعاتنا الإسلامية، حيث يثرى بعض الأغنياء على حساب استغلال العمّال والفلاحين والموظفين من أصحاب الحاجات، فلا يعطونهم حقوقهم، بل يستغلون حاجتهم من أجل أن يستخدموهم في إنتاج ما ينمّي ثرواتهم.

فلنقرأ حديث الله تعالى عن هذه الشخصية: {إن قارون كان من قوم موسى ـ استطاع هذا الرجل من خلال بعض الظروف، أن يجمع الثروة ويستخدم الفقراء والمستضعفين من قومه ـ فبغى عليهم ـ والبغي هو العدوان على الناس بغير الحق ـ وآتيناه من الكنوز ـ الثروات ـ ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة ـ لكثرتها وضخامتها ـ إذ قال له قومه ـ الذين لم يسقطوا تحت تأثير ثروته، وكانوا يملكون العقل وأرادوا له النصيحة، إذ كان منهم، وكانوا يريدون له أن يحرّك ثروته بالخير ـ لا تفرح إن الله لا يحبّ الفرحين ـ لا تبطر وتشعر بضخامة شخصيتك واستعلائك على الناس، فالله يريد لنا أن نفرح بالخير وبما نقوم به في مسؤولياتنا العامة ـ وابتغِ فيما آتاك الله الدار الآخرة ـ هناك نهاية للمطاف، وعلى الإنسان أن يحرّك كل أمواله وطاقاته في الدنيا لتحصيل المنزلة الكبرى عند الله في تلك النهاية، في اليوم الآخر ـ ولا تنسَ نصيبك من الدنيا ـ أنت إنسان تملك حاجات شخصية وعائلية واجتماعية، والله تعالى يريد للإنسان أن يلبي حاجاته بطريقة مشروعة ـ وأحسن كما أحسن الله إليك ـ فالله أحسن إليك بأن هيّأ لك كل الظروف لكي تجمع ثروتك، وعليك أن تحسن إلى الناس كما أحسن الله إليك، لأنه تعالى يطلب من عباده الذين أحسن إليهم أن يحسنوا إلى الناس، فطاقات الإنسان المالية والجسدية والعقلية هي أمانة الله عنده للناس.

النهي عن الفساد

ولذلك، على الإنسان أن يستفيد من هذه الطاقات في مصلحته الخاصة، وأن يفجّرها في حاجات الناس وتخفيف آلامهم ورفع مستواهم ـ ولا تبغ الفساد في الأرض إنّ الله لا يحبُّ المفسدين ـ لا تستخدم أموالك في إسقاط الناس والاتّجار بالمحرّمات، كما يفعل بعض الأغنياء الذين يتّجرون في الضاحية وغيرها ببيع الخمر والمخدرات أو غيرها من أوجه الفساد الأخلاقي والسياسي والاجتماعي، أو بعض الناس الذين أحذّر منهم دائماً، وهم الذين يستوردون اللحوم المجلّدة من المطاعم والقصّابين ويبيعونها إلى الناس على أنها طازجة ومذكَّاة، هؤلاء الذين إذا اطّلعتم على أحد منهم، فإنّي أحرّم عليكم من ناحية شرعية أن تشتروا منهم، لأنهم يبيعون الناس لحم الميتة.

إنّي أقول لكل أخواني وأخواتي، إنّ كل مطعم يقدّم خمراً يجب مقاطعته شرعاً، وكل من يستعمل اللحوم المجلّدة يحرم الأكل منه، وكل قصّاب يبيع الناس اللحوم التي لم يُحرز تذكيتها عليكم أن تقاطعوه، وكذلك قاطعوا كلّ ما له عنوان الفساد السياسي، من خلال شراء الأصوات والضمائر، أو محاولة السقوط تحت تأثير أصحاب الثروات الذين يستخدمهم الأجنبي من أجل السيطرة على الناس واستغلال حاجاتهم.

فماذا كانت ردةّ فعل قارون على ما قالوه له؟ ـ قال إنما أوتيته على علم عندي ـ أنا شاطر وأعرف كيف أحصل على المال والثروة!! ولكن هل هذه الثروة سوف تمتد به لتخلّده في الأرض؟ ـ أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشدّ منه قوةً وأكثر جمعاً ولا يُسأل عن ذنوبهم المجرمون* فخرج على قومه في زينته ـ ومعه الخدم والحشم والخيول ليبهر بها الناس ـ قال الذين يريدون الحياة الدنيا ـ هؤلاء الذين تغرّهم الثروة ـ يا ليت لنا مثل ما أُوتي قارون إنه لذو حظ عظيم* وقال الذين أُوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً ـ المال يفنى، ولكن ثواب الله يبقى ـ ولا يُلقّاها إلا الصابرون ـ الذين يصبرون على الحرمان والبلاء، ولا يسقطون أمام الظالمين، بل يواصلون طاعتهم لله ـ فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين* وأصبح الذين تمنّوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر ـ قد تكون من حكمة الله أن يوسّع الرزق هناك، وقد تكون من حكمته أن يضيّق في مكان آخر ـ لولا أن منّ الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون* تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوّاً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين} (القصص:76-83). {وتزوّدوا فإن خير الزاد التقوى واتقونِ يا أولي الألباب} (البقرة:197)، {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} (المطففين:6).

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... {اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون*واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبيّن الله لكم آياته لعلكم تهتدون} (آل عمران:102-103). فماذا هناك؟

حكومة الطوارىء منتج أمريكي ـ إسرائيلي

في المشهد الفلسطيني، ليس هناك من حلّ سياسي واقعي إزاء الانقسام الحادّ أمام حكومتين لا تعترف إحداهما بالأخرى، وخصوصاً وسط التظاهرة العربية الدولية ضد حكومة الوحدة الوطنية برئاسة حركة حماس، والترحيب والتهليل لحكومة الطوارىء التي خططت لها الولايات المتحدة الأمريكية وشجعتها إسرائيل، وعملت لها أكثر من دولة عربية، ولاسيما اللجنة العربية الرباعية، ذلك أن وجود حماس في داخل الحكومة كان مرفوضاً من جميع الذين يريدون حكومةً تعترف بإسرائيل من دون قيد أو شرط، وحتى من دون أن تحدّد حدودها الدولية أو تعترف بحدود الدولة الفلسطينية، التي تحدّث عنها الرئيس الأمريكي، ومن دون أن توافق على إزالة المستوطنات والجدار الفاصل، كما أنها ترفض حقّ العودة وعروبة القدس.

الإجهاز على مشروع الدولة الفلسطينية

لقد كان المطلوب، أمريكياً وإسرائيلياً وعربياً، الاعتراف بالدولة العبرية كأمر واقع لا بد للمنطقة كلها من احترامه، ولا بد للفلسطينيين من الخضوع له والاستسلام لشروط إسرائيل ومطالبها، ولاسيما أن اللهاث العربي خلفها لقبولها بالمبادرة المرفوضة من قِبَلها، لا يزال يشجّع إسرائيل على احتقار الواقع السياسي العربي، لأنه في موقع الضعف وهي في موقع القوة، لأن أمريكا المهيمنة على أكثر المسؤولين العرب، تدعم الكيان الصهيوني في شكلٍ مطلق، وتمنع أي قرار لمجلس الأمن لإدانتها، وتدفع بدول الاعتدال العربي ـ بحسب تسمية وزيرة خارجيتها ـ إلى إيجاد علاقات اقتصادية تختزن في داخلها خطوط العلاقات السياسية المنتطرة.

وإذا كانت أمريكا قد تحدثت عن الدولة الفلسطينية إلى جانب الدولة الإسرائيلية، فإنها لم تتقدم خطوة إلى الأمام بطريقة واقعية لتحقيقها، بل إنها وضعت الحواجز الأمنية التي تحول دون ذلك، عندما اعتبرت الفصائل الفلسطينية المدافعة عن التحرير والاستقلال، منظمات إرهابية، واشترطت على الشعب الفلسطيني أن يمتنع عن المقاومة وأن يلقي السلاح، من دون أن تشترط على إسرائيل الامتناع عن تدمير البنية التحتية للفلسطينيين من خلال اجتياحاتها الوحشية.

وهكذا ضغطت أمريكا على اللجنة الرباعية الدولية كي تتبنى الشروط الأمريكية والإسرائيلية حيال الفلسطينيين، ما أدّى إلى جمود المفاوضات وتحوّل مشروع الدولة الفلسطينية إلى مشروع عقيم مشلول لا يملك أية واقعية سياسية.

محاصرة حكومة الوحدة الوطنية

وهكذا لاحظنا أن الغرب من جهة، وأكثر العرب من جهة أخرى، حاصروا حكومة حماس المنتخبة ديمقراطياً، ثم تحركوا لمحاصرة حكومة الوحدة الوطنية التي دخلها بعض أعضاء هذه الحركة على أساس اتفاق مكة الذي لم ينظر إليه الأمريكيون والإسرائيليون بإيجابية، لأن المطلوب أن يبقى الانقسام الفلسطيني الذي يريدونه دموياً يقتل الأخ فيه أخاه، ويدمر الحياة العامة، وينشر الفوضى السياسية والأمنية، في خطة خبيثة شارك فيها بعض المسؤولين الفلسطينيين الذين يرتبطون ارتباطاً عضوياً بالإدارتين الأمريكية والإسرائيلية، ويتحركون مع اللجنة الرباعية العربية لإيجاد المناخ الذي يسقط الأوضاع في غزة، لتنتهي الأمور إلى ما انتهت إليه من إقالة الحكومة الوطنية واستبدالها بحكومة طوارىء، الأمر الذي قوبِل بالترحاب الغربي والعربي والإسرائيلي، في حديث عن الشرعية القانونية لرئيس السلطة الفلسطينية، وانطلقت القرارات الدولية والعربية في رفع الحصار الاقتصادي عن حكومة الطوارىء، تأييداً لعزل حركة حماس التي اتهمت بارتكاب جرائم ضد شعبها من دون إجراء تحقيقات قانونية أو ميدانية تؤكّد ذلك.

إن هذا الحماس الأمريكي والأوروبي والعربي والإسرائيلي للحكومة الجديدة ولرئيس السلطة، يثير الكثير من الشك حول الخلفيات الكامنة وراء الأحداث كلها، بفعل التطورات المؤلمة التي أدّت إلى هذا الواقع.

حكومة الطوارىء ليست الخلاص

وإننا لا نجد في قرارات الجامعة العربية أيّ حلّ للمشكلة، وسوف تُتْرَك الخطة الإسرائيلية للّعب على هذا الوضع الانقسامي، إمعاناً في تضييق الحصار على الفلسطينيين في غزة ثأراً للسلطة الوطنية، وفي إرباك الحالة الداخلية في الضفة الغربية التي قد تؤدي إلى فتنة معقّدة ربما لا تصل إلى مستوى أحداث غزة، ولكنها تقترب منها... ولا ندري ماذا حصل في اجتماع أولمرت مع بوش في خلفيات الحديث عن التطورات الفلسطينية، وما هي الخطة التي يضعانها لاستكمال تحقيق الاستراتيجية الإسرائيلية الساعية إلى تجميد مشروع الدولة الفلسطينية وفي قضية ما يسمى السلام. فأمريكا لا يمكن أن تضغط على إسرائيل لمصلحة الشعب الفلسطيني، لأن خططها الشيطانية لا تحمل أيّ خيرٍ لأي شعب غير الشعب اليهودي، ولا تتحرك في أي موقع إلا لحساب مصالحها ومصالحه الاستراتيجية.

وعلى الشعب الفلسطيني ألاّ ينخدع بحكومة طوارىء وبحالة طوارىء خاضعة للخطة الأمريكية والإسرائيلية وللّعبة الأوروبية العربية، لأنهم لن يحصلوا على أية نتيجة حاسمة لمستقبلهم الكبير، وعليهم أن يبحثوا عن العناصر المخلصة التي يمكن أن تجنّب الواقع كل الويلات التي مرّ بها الشعب كله، وكل المآسي التي لا يزال يعيشها الأيتام والفقراء والمحرومون من هذا الشعب.

إن علينا أن نفتّش عن تجربة جديدة لا ارتباط لها بالواقع الدولي والإسرائيلي، ولا خضوع لها للذاتيات الفئوية والحزبية، وأن تبقى المقاومة التي لا بد من أن توحّد فصائلها في مواجهة العدو من أجل التحرير.

إخفاقات السياسات الأمريكية في المنطقة

أما في المشهد الأمريكي، فإنّ السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط أظهرت فشلها الواحدة تلو الأخرى، وقد مارست واشنطن في السنوات الماضية أسوأ سياساتها في المنطقة، ولذلك فإنها تعيش أزمة كبيرة، وذلك من خلال الوضع المتردّي في الشرق الأوسط الذي بدأ يترك تأثيره على سياسة أمريكا الداخلية، فيما هي لا تزال تصرّ على إبقاء خطوط تحركها السلبي مفتوحةً على دول المنطقة. ذلك أنّ أمريكا في الوقت الذي تضغط على إيران في ملفها النووي السلمي، تمارس أكثر من حركة سلبية ضد سوريا، كما تعمل على إبقاء الأزمة اللبنانية تراوح مكانها، أو تزيدها تعقيداً من خلال أكثر من مندوب أمريكي يزور لبنان، إضافةً إلى سفيرها الذي يتحرك لإثارة أكثر من مشكلة في اتصالاته ببعض الأفرقاء من السياسيين اللبنانيين الذين ينفتحون على السياسة الأمريكية. وفي السياق نفسه، يندرج حديث بعض مسؤولي الاستخبارات التركية السابقين، عن أن واشنطن طلبت من رئاسة الأركان العامة للجيش التركي القيام بانقلاب عسكري لإطاحة حكومة رجب أردوغان، في أثناء فترة التحضير للانتخابات الرئاسية، في الوقت الذي تتحدث أمريكا عن الديمقراطية في المنطقة، والتي لا تتحرك فيها إلا بما يحقق مصالحها ويفسح في المجال لنفوذها الاستكباري.

العراق: إنتاج الفتنة والقلق

وفي المشهد العراقي، تعمل القوات الأمريكية المحتلة لتسليح بعض القبائل من أجل إيجاد حالٍ قلقة تطل على اهتزاز أمني واسع، الأمر الذي يؤسس لحال ميليشياوية تخلق فتنة مسلحة بين المذاهب... هذا إلى جانب عمليات الهجوم والاجتياح التي تقوم بها قوات الاحتلال الأمريكي والبريطاني في الجنوب بحجة فرض الأمن، ما يؤدي إلى قتل المدنيين، ولاسيما من النساء والأطفال والشيوخ.

إننا لا نزال نجدّد دعوتنا إلى حركة تحريرية في مواجهة الاحتلال لإخراجه من البلاد، ولاسيما أننا نستمع من بعض قادة الحرب في العراق، أن الجيش الأمريكي يخطط للبقاء عشر سنين على الأقل، الأمر الذي يعطل أية حركة للنموّ والتقدم والحرية للشعب العراقي، الذي لا بد له من الأخذ بأسباب الوحدة الإسلامية والوطنية.

لبنان: إفشال أمريكي للمساعي العربية

أما في لبنان، فثمّة مَن ينتظر نتائج المبادرة العربية التي قرّرها اجتماع وزراء الخارجية العرب، في إطار محاولات الانفتاح على تحقيق حكومة الوحدة الوطنية، ولكننا نعتقد أن حظّ هذه الحركة لا يختلف عن حظّ تلك التي سبقتها، لأن الخطة الأمريكية لا تريد الاستقرار السياسي للبنان، ولاسيما من خلال التقاء فريق المعارضة مع فريق السلطة، لأنّها تعتقد أن ذلك قد يحقّق نصراً سياسياً للمقاومة يضاف إلى نصرها العسكري على إسرائيل. هذا، إلى جانب أن الإدارة الأمريكية تريد بقاء لبنان ساحةً متحركة في حال من الفوضى، لتحريك مشاريعها السياسية في الضغط على أكثر من موقع في المنطقة...

إن مشكلة لبنان، هي أنه لا يملك وضعاً سياسياً في السلطة وفي الواقع السياسي يفكر في استقرار الشعب اللبناني على صعيد الأمن والاقتصاد والسياسة، لأن هؤلاء يفكرون في أن يشبعوا من المال والسلطة، ولا مشكلة عندهم في أن يبقى الشعب جائعاً، فهم يريدون إشغاله عن مشاكله الحقيقية بالأزمات الخانقة، وإشباعه بالعصبيات لحساب هذا الحزب أو ذاك، أو لهذا الزعيم أو ذاك، أو لهذه الجهة أو تلك، ويريدون له أن ينغلق على نفسه وينفتح على الطائفيات والمذهبيات، في الوقت الذي لا يزال الوطن يعيش الاهتزاز الأمني في أكثر من موقع.

إن البعض يعمل على أساس الوقت الضائع ليصل البلد إلى الاستحقاق الرئاسي الذي قد يواجه فيه الجميع الفراغ الدستوري أو التعدد الحكومي في نتائج كارثية يختلط فيها الحابل بالنابل.

إن الشعب مدعوٌ إلى أن يواجه مشاكله بطريقة واقعية، من أجل المستقبل الذي يعمل الكثيرون على تهميشه وجعله مثخناً بالجراح.

بين مخافة الله وذهنية قارون:
تقوى الله ثقيلة في الميزان


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:

شخصية فرعون: درسٌ وعبرة

في مرحلة النبي موسى(ع)، كان قومه يعانون من شخصين؛ الشخص الأول فرعون الذي حوّلهم إلى عبيد، ما دفع بالنبي موسى(ع) إلى أن يطلب من فرعون، من ضمن طلباته، أن يرسل معه بني إسرائيل، وأن يخرجهم من سلطته وعبوديته ومن كل ما يمارسه معهم، لأنه كان يذبّح أبناءهم، ويستحيي نساءهم، حتى إنه عندما تحرَّك الجدل بين موسى(ع) وفرعون، كانت كلمة موسى(ع) له كلمة استنكارية، إذ قال: {وتلك نعمة تمنّها عليَّ أن عبّدت بني إسرائيل} (الشعراء:22).

ونحن نعرف كيف أن الله تعالى أرسل موسى(ع) إلى فرعون ليدعوه إلى الإيمان بالله، في الوقت الذي كان فرعون يدّعي أنه الإله، وكان يقول لقومه: {ما علمت لكم من إله غيري} (القصص:39)، وقال أيضاً: {أنا ربكم الأعلى} (النازعات:24)، وكانت سيطرته على مصر تشجّعه على مثل ذلك. ولكنّ نهاية فرعون كانت بإغراق الله له في البحر، بعد أن جمع جنوده ليلاحق النبيّ موسى(ع)، الذي خلق الله له البحر لينتقل إلى البرّ الآخر. وقد قدّم سبحانه جثة فرعون إلى قومه ليكون عبرة لهم، وليعرفوا أنه ليس رباً ولا إلهاً: {فاليوم ننجيك ببدنك} (يونس: 92).

قارون: نموذج المترف المستعلي

وهناك شخصية أخرى من قوم موسى(ع)، ولكنها شخصية تتميّز بامتلاكها الثروة العظمى، وهي شخصية قارون التي تحدث الله تعالى عنها في القرآن، والذي كان يستغلّ ثروته في الضغط على الفقراء والمستضعفين، وكان يستعرض هذه الثروة أمام الناس، ويستعلي بها عليهم، ولكن قومه الذين بغى عليهم كان فيهم عقلاء، فلم يسقطوا أمام ثروته، ولم يروا فيها كرامة له وفضلاً، بل كانوا يرون أنه استغل هذه الثروة لتضخيم شخصيته واستغلالها للضغط على الناس، ومحاولة الاستعلاء عليهم، كالكثيرين من أصحاب الثروات العظمى، سواء كانوا أفراداً أو جماعات أو دولاً، لأن الثروة الكبرى تغري أصحابها بأن يستغلّوها للضغط على المستضعفين. وهذا ما نلاحظه في كثير من الأغنياء الذين ابتُلي بهم الأنبياء، وقد عبّر الله عنهم في القرآن الكريم بـ"المترفين"، بحيث كانوا يخافون من دعوة الأنبياء أن تُسقط مواقعهم وتشجّع المستضعفين على أن يتمردوا عليهم. وهو ما حدّثنا عنه القرآن الكريم في أكثر من آية، إذ جاء على لسان هؤلاء "المترفين" قولهم: {وما نراك اتَّبعك إلا الذين هم أراذلنا} (هود:27).

وهي العقلية التي تتحكّم اليوم بالدول الكبرى التي تملك الثروات الطائلة فيما استغلته من ثروات العالم الثالث التي صادرتها من خلال خطوات الاستعمار، ما مهّد لها السيطرة على كل موارد البترول والمعادن والثروات في العالم العربي والإسلامي، وحتى إفريقيا، وما الرخاء الذي يعيشه الغرب إلا من خلال اعتماده على ثروات المستضعفين.

وهذا ما لاحظناه في تجمّع ما يسمّى بالدول الثماني، وهي الدول التي تملك مصانع الحرب وكل المواد الاستهلاكية والإنتاجية وما إلى ذلك. هؤلاء هم الذين يمثلهم قارون، فهم "قوارين" العصر. فقارون الذي تحدث عنه القرآن ليس مجرد شخص عادي، إنّما هو أنموذج للإنسان المستعلي، وقد نجد مثل ذلك في مجتمعاتنا الإسلامية، حيث يثرى بعض الأغنياء على حساب استغلال العمّال والفلاحين والموظفين من أصحاب الحاجات، فلا يعطونهم حقوقهم، بل يستغلون حاجتهم من أجل أن يستخدموهم في إنتاج ما ينمّي ثرواتهم.

فلنقرأ حديث الله تعالى عن هذه الشخصية: {إن قارون كان من قوم موسى ـ استطاع هذا الرجل من خلال بعض الظروف، أن يجمع الثروة ويستخدم الفقراء والمستضعفين من قومه ـ فبغى عليهم ـ والبغي هو العدوان على الناس بغير الحق ـ وآتيناه من الكنوز ـ الثروات ـ ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة ـ لكثرتها وضخامتها ـ إذ قال له قومه ـ الذين لم يسقطوا تحت تأثير ثروته، وكانوا يملكون العقل وأرادوا له النصيحة، إذ كان منهم، وكانوا يريدون له أن يحرّك ثروته بالخير ـ لا تفرح إن الله لا يحبّ الفرحين ـ لا تبطر وتشعر بضخامة شخصيتك واستعلائك على الناس، فالله يريد لنا أن نفرح بالخير وبما نقوم به في مسؤولياتنا العامة ـ وابتغِ فيما آتاك الله الدار الآخرة ـ هناك نهاية للمطاف، وعلى الإنسان أن يحرّك كل أمواله وطاقاته في الدنيا لتحصيل المنزلة الكبرى عند الله في تلك النهاية، في اليوم الآخر ـ ولا تنسَ نصيبك من الدنيا ـ أنت إنسان تملك حاجات شخصية وعائلية واجتماعية، والله تعالى يريد للإنسان أن يلبي حاجاته بطريقة مشروعة ـ وأحسن كما أحسن الله إليك ـ فالله أحسن إليك بأن هيّأ لك كل الظروف لكي تجمع ثروتك، وعليك أن تحسن إلى الناس كما أحسن الله إليك، لأنه تعالى يطلب من عباده الذين أحسن إليهم أن يحسنوا إلى الناس، فطاقات الإنسان المالية والجسدية والعقلية هي أمانة الله عنده للناس.

النهي عن الفساد

ولذلك، على الإنسان أن يستفيد من هذه الطاقات في مصلحته الخاصة، وأن يفجّرها في حاجات الناس وتخفيف آلامهم ورفع مستواهم ـ ولا تبغ الفساد في الأرض إنّ الله لا يحبُّ المفسدين ـ لا تستخدم أموالك في إسقاط الناس والاتّجار بالمحرّمات، كما يفعل بعض الأغنياء الذين يتّجرون في الضاحية وغيرها ببيع الخمر والمخدرات أو غيرها من أوجه الفساد الأخلاقي والسياسي والاجتماعي، أو بعض الناس الذين أحذّر منهم دائماً، وهم الذين يستوردون اللحوم المجلّدة من المطاعم والقصّابين ويبيعونها إلى الناس على أنها طازجة ومذكَّاة، هؤلاء الذين إذا اطّلعتم على أحد منهم، فإنّي أحرّم عليكم من ناحية شرعية أن تشتروا منهم، لأنهم يبيعون الناس لحم الميتة.

إنّي أقول لكل أخواني وأخواتي، إنّ كل مطعم يقدّم خمراً يجب مقاطعته شرعاً، وكل من يستعمل اللحوم المجلّدة يحرم الأكل منه، وكل قصّاب يبيع الناس اللحوم التي لم يُحرز تذكيتها عليكم أن تقاطعوه، وكذلك قاطعوا كلّ ما له عنوان الفساد السياسي، من خلال شراء الأصوات والضمائر، أو محاولة السقوط تحت تأثير أصحاب الثروات الذين يستخدمهم الأجنبي من أجل السيطرة على الناس واستغلال حاجاتهم.

فماذا كانت ردةّ فعل قارون على ما قالوه له؟ ـ قال إنما أوتيته على علم عندي ـ أنا شاطر وأعرف كيف أحصل على المال والثروة!! ولكن هل هذه الثروة سوف تمتد به لتخلّده في الأرض؟ ـ أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشدّ منه قوةً وأكثر جمعاً ولا يُسأل عن ذنوبهم المجرمون* فخرج على قومه في زينته ـ ومعه الخدم والحشم والخيول ليبهر بها الناس ـ قال الذين يريدون الحياة الدنيا ـ هؤلاء الذين تغرّهم الثروة ـ يا ليت لنا مثل ما أُوتي قارون إنه لذو حظ عظيم* وقال الذين أُوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً ـ المال يفنى، ولكن ثواب الله يبقى ـ ولا يُلقّاها إلا الصابرون ـ الذين يصبرون على الحرمان والبلاء، ولا يسقطون أمام الظالمين، بل يواصلون طاعتهم لله ـ فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين* وأصبح الذين تمنّوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر ـ قد تكون من حكمة الله أن يوسّع الرزق هناك، وقد تكون من حكمته أن يضيّق في مكان آخر ـ لولا أن منّ الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون* تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوّاً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين} (القصص:76-83). {وتزوّدوا فإن خير الزاد التقوى واتقونِ يا أولي الألباب} (البقرة:197)، {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} (المطففين:6).

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... {اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون*واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبيّن الله لكم آياته لعلكم تهتدون} (آل عمران:102-103). فماذا هناك؟

حكومة الطوارىء منتج أمريكي ـ إسرائيلي

في المشهد الفلسطيني، ليس هناك من حلّ سياسي واقعي إزاء الانقسام الحادّ أمام حكومتين لا تعترف إحداهما بالأخرى، وخصوصاً وسط التظاهرة العربية الدولية ضد حكومة الوحدة الوطنية برئاسة حركة حماس، والترحيب والتهليل لحكومة الطوارىء التي خططت لها الولايات المتحدة الأمريكية وشجعتها إسرائيل، وعملت لها أكثر من دولة عربية، ولاسيما اللجنة العربية الرباعية، ذلك أن وجود حماس في داخل الحكومة كان مرفوضاً من جميع الذين يريدون حكومةً تعترف بإسرائيل من دون قيد أو شرط، وحتى من دون أن تحدّد حدودها الدولية أو تعترف بحدود الدولة الفلسطينية، التي تحدّث عنها الرئيس الأمريكي، ومن دون أن توافق على إزالة المستوطنات والجدار الفاصل، كما أنها ترفض حقّ العودة وعروبة القدس.

الإجهاز على مشروع الدولة الفلسطينية

لقد كان المطلوب، أمريكياً وإسرائيلياً وعربياً، الاعتراف بالدولة العبرية كأمر واقع لا بد للمنطقة كلها من احترامه، ولا بد للفلسطينيين من الخضوع له والاستسلام لشروط إسرائيل ومطالبها، ولاسيما أن اللهاث العربي خلفها لقبولها بالمبادرة المرفوضة من قِبَلها، لا يزال يشجّع إسرائيل على احتقار الواقع السياسي العربي، لأنه في موقع الضعف وهي في موقع القوة، لأن أمريكا المهيمنة على أكثر المسؤولين العرب، تدعم الكيان الصهيوني في شكلٍ مطلق، وتمنع أي قرار لمجلس الأمن لإدانتها، وتدفع بدول الاعتدال العربي ـ بحسب تسمية وزيرة خارجيتها ـ إلى إيجاد علاقات اقتصادية تختزن في داخلها خطوط العلاقات السياسية المنتطرة.

وإذا كانت أمريكا قد تحدثت عن الدولة الفلسطينية إلى جانب الدولة الإسرائيلية، فإنها لم تتقدم خطوة إلى الأمام بطريقة واقعية لتحقيقها، بل إنها وضعت الحواجز الأمنية التي تحول دون ذلك، عندما اعتبرت الفصائل الفلسطينية المدافعة عن التحرير والاستقلال، منظمات إرهابية، واشترطت على الشعب الفلسطيني أن يمتنع عن المقاومة وأن يلقي السلاح، من دون أن تشترط على إسرائيل الامتناع عن تدمير البنية التحتية للفلسطينيين من خلال اجتياحاتها الوحشية.

وهكذا ضغطت أمريكا على اللجنة الرباعية الدولية كي تتبنى الشروط الأمريكية والإسرائيلية حيال الفلسطينيين، ما أدّى إلى جمود المفاوضات وتحوّل مشروع الدولة الفلسطينية إلى مشروع عقيم مشلول لا يملك أية واقعية سياسية.

محاصرة حكومة الوحدة الوطنية

وهكذا لاحظنا أن الغرب من جهة، وأكثر العرب من جهة أخرى، حاصروا حكومة حماس المنتخبة ديمقراطياً، ثم تحركوا لمحاصرة حكومة الوحدة الوطنية التي دخلها بعض أعضاء هذه الحركة على أساس اتفاق مكة الذي لم ينظر إليه الأمريكيون والإسرائيليون بإيجابية، لأن المطلوب أن يبقى الانقسام الفلسطيني الذي يريدونه دموياً يقتل الأخ فيه أخاه، ويدمر الحياة العامة، وينشر الفوضى السياسية والأمنية، في خطة خبيثة شارك فيها بعض المسؤولين الفلسطينيين الذين يرتبطون ارتباطاً عضوياً بالإدارتين الأمريكية والإسرائيلية، ويتحركون مع اللجنة الرباعية العربية لإيجاد المناخ الذي يسقط الأوضاع في غزة، لتنتهي الأمور إلى ما انتهت إليه من إقالة الحكومة الوطنية واستبدالها بحكومة طوارىء، الأمر الذي قوبِل بالترحاب الغربي والعربي والإسرائيلي، في حديث عن الشرعية القانونية لرئيس السلطة الفلسطينية، وانطلقت القرارات الدولية والعربية في رفع الحصار الاقتصادي عن حكومة الطوارىء، تأييداً لعزل حركة حماس التي اتهمت بارتكاب جرائم ضد شعبها من دون إجراء تحقيقات قانونية أو ميدانية تؤكّد ذلك.

إن هذا الحماس الأمريكي والأوروبي والعربي والإسرائيلي للحكومة الجديدة ولرئيس السلطة، يثير الكثير من الشك حول الخلفيات الكامنة وراء الأحداث كلها، بفعل التطورات المؤلمة التي أدّت إلى هذا الواقع.

حكومة الطوارىء ليست الخلاص

وإننا لا نجد في قرارات الجامعة العربية أيّ حلّ للمشكلة، وسوف تُتْرَك الخطة الإسرائيلية للّعب على هذا الوضع الانقسامي، إمعاناً في تضييق الحصار على الفلسطينيين في غزة ثأراً للسلطة الوطنية، وفي إرباك الحالة الداخلية في الضفة الغربية التي قد تؤدي إلى فتنة معقّدة ربما لا تصل إلى مستوى أحداث غزة، ولكنها تقترب منها... ولا ندري ماذا حصل في اجتماع أولمرت مع بوش في خلفيات الحديث عن التطورات الفلسطينية، وما هي الخطة التي يضعانها لاستكمال تحقيق الاستراتيجية الإسرائيلية الساعية إلى تجميد مشروع الدولة الفلسطينية وفي قضية ما يسمى السلام. فأمريكا لا يمكن أن تضغط على إسرائيل لمصلحة الشعب الفلسطيني، لأن خططها الشيطانية لا تحمل أيّ خيرٍ لأي شعب غير الشعب اليهودي، ولا تتحرك في أي موقع إلا لحساب مصالحها ومصالحه الاستراتيجية.

وعلى الشعب الفلسطيني ألاّ ينخدع بحكومة طوارىء وبحالة طوارىء خاضعة للخطة الأمريكية والإسرائيلية وللّعبة الأوروبية العربية، لأنهم لن يحصلوا على أية نتيجة حاسمة لمستقبلهم الكبير، وعليهم أن يبحثوا عن العناصر المخلصة التي يمكن أن تجنّب الواقع كل الويلات التي مرّ بها الشعب كله، وكل المآسي التي لا يزال يعيشها الأيتام والفقراء والمحرومون من هذا الشعب.

إن علينا أن نفتّش عن تجربة جديدة لا ارتباط لها بالواقع الدولي والإسرائيلي، ولا خضوع لها للذاتيات الفئوية والحزبية، وأن تبقى المقاومة التي لا بد من أن توحّد فصائلها في مواجهة العدو من أجل التحرير.

إخفاقات السياسات الأمريكية في المنطقة

أما في المشهد الأمريكي، فإنّ السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط أظهرت فشلها الواحدة تلو الأخرى، وقد مارست واشنطن في السنوات الماضية أسوأ سياساتها في المنطقة، ولذلك فإنها تعيش أزمة كبيرة، وذلك من خلال الوضع المتردّي في الشرق الأوسط الذي بدأ يترك تأثيره على سياسة أمريكا الداخلية، فيما هي لا تزال تصرّ على إبقاء خطوط تحركها السلبي مفتوحةً على دول المنطقة. ذلك أنّ أمريكا في الوقت الذي تضغط على إيران في ملفها النووي السلمي، تمارس أكثر من حركة سلبية ضد سوريا، كما تعمل على إبقاء الأزمة اللبنانية تراوح مكانها، أو تزيدها تعقيداً من خلال أكثر من مندوب أمريكي يزور لبنان، إضافةً إلى سفيرها الذي يتحرك لإثارة أكثر من مشكلة في اتصالاته ببعض الأفرقاء من السياسيين اللبنانيين الذين ينفتحون على السياسة الأمريكية. وفي السياق نفسه، يندرج حديث بعض مسؤولي الاستخبارات التركية السابقين، عن أن واشنطن طلبت من رئاسة الأركان العامة للجيش التركي القيام بانقلاب عسكري لإطاحة حكومة رجب أردوغان، في أثناء فترة التحضير للانتخابات الرئاسية، في الوقت الذي تتحدث أمريكا عن الديمقراطية في المنطقة، والتي لا تتحرك فيها إلا بما يحقق مصالحها ويفسح في المجال لنفوذها الاستكباري.

العراق: إنتاج الفتنة والقلق

وفي المشهد العراقي، تعمل القوات الأمريكية المحتلة لتسليح بعض القبائل من أجل إيجاد حالٍ قلقة تطل على اهتزاز أمني واسع، الأمر الذي يؤسس لحال ميليشياوية تخلق فتنة مسلحة بين المذاهب... هذا إلى جانب عمليات الهجوم والاجتياح التي تقوم بها قوات الاحتلال الأمريكي والبريطاني في الجنوب بحجة فرض الأمن، ما يؤدي إلى قتل المدنيين، ولاسيما من النساء والأطفال والشيوخ.

إننا لا نزال نجدّد دعوتنا إلى حركة تحريرية في مواجهة الاحتلال لإخراجه من البلاد، ولاسيما أننا نستمع من بعض قادة الحرب في العراق، أن الجيش الأمريكي يخطط للبقاء عشر سنين على الأقل، الأمر الذي يعطل أية حركة للنموّ والتقدم والحرية للشعب العراقي، الذي لا بد له من الأخذ بأسباب الوحدة الإسلامية والوطنية.

لبنان: إفشال أمريكي للمساعي العربية

أما في لبنان، فثمّة مَن ينتظر نتائج المبادرة العربية التي قرّرها اجتماع وزراء الخارجية العرب، في إطار محاولات الانفتاح على تحقيق حكومة الوحدة الوطنية، ولكننا نعتقد أن حظّ هذه الحركة لا يختلف عن حظّ تلك التي سبقتها، لأن الخطة الأمريكية لا تريد الاستقرار السياسي للبنان، ولاسيما من خلال التقاء فريق المعارضة مع فريق السلطة، لأنّها تعتقد أن ذلك قد يحقّق نصراً سياسياً للمقاومة يضاف إلى نصرها العسكري على إسرائيل. هذا، إلى جانب أن الإدارة الأمريكية تريد بقاء لبنان ساحةً متحركة في حال من الفوضى، لتحريك مشاريعها السياسية في الضغط على أكثر من موقع في المنطقة...

إن مشكلة لبنان، هي أنه لا يملك وضعاً سياسياً في السلطة وفي الواقع السياسي يفكر في استقرار الشعب اللبناني على صعيد الأمن والاقتصاد والسياسة، لأن هؤلاء يفكرون في أن يشبعوا من المال والسلطة، ولا مشكلة عندهم في أن يبقى الشعب جائعاً، فهم يريدون إشغاله عن مشاكله الحقيقية بالأزمات الخانقة، وإشباعه بالعصبيات لحساب هذا الحزب أو ذاك، أو لهذا الزعيم أو ذاك، أو لهذه الجهة أو تلك، ويريدون له أن ينغلق على نفسه وينفتح على الطائفيات والمذهبيات، في الوقت الذي لا يزال الوطن يعيش الاهتزاز الأمني في أكثر من موقع.

إن البعض يعمل على أساس الوقت الضائع ليصل البلد إلى الاستحقاق الرئاسي الذي قد يواجه فيه الجميع الفراغ الدستوري أو التعدد الحكومي في نتائج كارثية يختلط فيها الحابل بالنابل.

إن الشعب مدعوٌ إلى أن يواجه مشاكله بطريقة واقعية، من أجل المستقبل الذي يعمل الكثيرون على تهميشه وجعله مثخناً بالجراح.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية