إيحاءات الخطاب الإلهي للنبي(ص):
يخاطب الله سبحانه وتعالى رسوله في القرآن الكريم في أكثر من آية بكلمة {قل}، وفي أكثر من قضية، حيث يريد الله أن ينبّه الناس من خلال خطابه لرسوله، ومن خلال الإيحاء له بالإعلان عن هذه القضية أو تلك، أن ينبِّههم إلى أهميّة هذه القضايا، ولذلك فإنه يأمر رسوله بأن يتحدث كما لو كانت مطلباً شخصياً له، من أجل استكمال عناصر الكمال وعناصر الالتزام بأوامر الله ونواهيه.
ونحن نقرأ مثلاً قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}(طه/114). فالله يريد من رسوله أن يطلب منه في دعائه أن يزيده في العلم، فلا يقتصر في العلم على درجة معينة، بل أن ينتقل من موقع متقدم إلى موقع متقدم آخر، ليوحي سبحانه للناس، أنّه إذا أراد من رسوله أن يطلب منه أن يزيده في العلم، فمعنى ذلك أنّه يريد للناس أن يزدادوا علماً، فكلما وصلوا إلى موقع من مواقع العلم، أو إلى أفق من آفاقه، فإن عليهم أن لا يقفوا عنده، بل لا بد لهم من أن يتجاوزوه، لأن العلم هو الذي يرفع مستوى الإنسان ويمنحه الوعي للكون كله، ويمتّن علاقته بالله سبحانه وتعالى.
مشاهد من يوم القيامة:
وفي هذه الآيات التي نتوقَّف عندها الآن، ينتقل الله سبحانه وتعالى برسوله إلى مشهد القيامة، ليطلب منه أن يقول، عندما يرى مصير الظالمين كيف يواجهون غضب الله وسخطه، وكيف يصار بهم إلى النار، أن يطلب من الله سبحانه وتعالى أن لا يجعله مع القوم الظالمين. ومن الطبيعي أن النبي(ص) الذي جاء بالعدل كله، والّذي يرفض الظلم كله، لا يمكن أن يكون في حياته أيُّ موقف أو أيُّ موقع مع الظالمين، ولكن الله أراد أن يقول للناس من خلال رسوله أن لا يكونوا مع الظالمين، في أيّ موقع من مواقع الظلم، وأن يأخذوا بكل عناصر العدل.
{قُلْ} يا محمد {رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ} عندما تريني ما يوعد به هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم بالعدوان والانحراف عن الخطِّ الإسلامي، من المصير الأسود الذي يؤدِّي بهم إلى النار من خلال غضب الله وسخطه {رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي القَوْمِ الظَّالِمِين} لا تجعلني في هذا المجتمع؛ مجتمع الظلم الذي يظلم الإنسان فيه نفسه بالكفر أو بالشرك أو بالمعصية، أو بالعدوان على العباد، بل اجعلني بعيداً عن مجتمع هؤلاء وعن ساحتهم. {وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ}(المؤمنون:63-95). وكأن الله سبحانه يريد أن يقول للناس، إنّكم إذا كنتم من الظّالمين، فسوف تواجهون المصير الأسود ذاته الّذي واجهه هؤلاء الظالمون.
أسلوب الداعية في التعامل مع النّاس:
ثم يوجِّه الله سبحانه رسوله إلى طريقة التعامل مع الذين وقفوا ضد الرسالة، وأخذوا بأسباب العدوان عليها، فيقول له: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ}. إنك يا محمد داعية إلى الله، وإنك البشير والنذير والهادي إلى الصراط المستقيم، لذلك افتح عقلك وقلبك لكلِّ هؤلاء الذين يتحرَّكون في السَّاحة، فلا تعنف عليهم، بل حاول أن تفتح عقولهم على الحق، وأن تفتح قلوبهم على الخير، وأن توجههم لأن يطّلعوا على كل عناصر النجاة وكل عناصر الفلاح، فإذا أساؤوا إليك بكلمة هنا أو بموقف هناك، أو بعدوان أو ما إلى ذلك، فإنّ عليك أن تدفع السيئة الموجَّهة إليك بالتي هي أحسن، بالكلمة الأحسن، والأسلوب الأحسن، والطريقة الأحسن. تلك هي مهمتك، وذلك هو دورك. {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ}(المؤمنون/96)، فالله مطلّع عليهم، يعرف ما يضمرون وما يسرّون، كما يعلم ما يعلنون، ولكن دورك هو دور الرسول {يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}(المائدة/16)، بالكلمة الطيِّبة وبالكلمة الحسنة.
{وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ}(المؤمنون/97). والشّيطان لا يستطيعُ أن يأتي إلى رسول الله أو أن ينفذ إليه، لأنَّه(ص) هو الإنسان المعصوم، الذي ارتفع بعصمته إلى أن أصبح يمثِّل الحقَّ كلَّه، ويمثِّل الخير كله، ويمثِّل الاستقامة كلّها، ولكن الله عندما يخاطب رسوله، فإنه يخاطب كل داعية إلى الحق، وكل إنسان رساليّ قد ينفذ الشيطان إليه من خلال بعض نقاط الضعف في شخصيته.
ولذلك، على الإنسان الرسالي المؤمن، وعلى الإنسان الداعية إلى الله، أن يستعين بالله سبحانه وتعالى من وساوس الشيطان ومن نزغاته، حتى لا يعطِّل دوره، وحتى لا ينفذ إلى وسائله وأساليبه وأوضاعه. {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ}(المؤمنون/98)، عندما أقوم برسالتي وبدوري.
مصير الظالمين والكافرين:
ثم ينطلق هذا الفصل في الحديث عن الظالمين والكافرين، وعن الذين يتحرَّكون في ولاية الشَّيطان ولا ينطلقون في ولاية الله {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ ـ عاشوا في الدنيا طويلاً، وقاموا بما قاموا به، حتى إذا جاء أحدهم الموت، ورأى كيف ينطلق المؤمنون المتَّقون إلى الجنَّة، وكيف ينطلق الكافرون والفاسقون إلى النَّار، عرف الحقيقة بشكل حسي وبشكل عياني، وهو الذي كان ينكر ذلك في حياته الدنيا، ولكن عندما أتى الموت وواجه الأمر ـ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ـ أعطني يا ربي فرصة جديدة، حتى إذا رجعت إلى الدنيا، أعمل عملاً صالحاً أحصل من خلاله على رضاك وجنات نعيمك، وأبتعد عن العمل السّيىء الّذي يعرّضني لغضبك وسخطك وينطلق بي إلى النار.
ولكنَّ الجواب كان ـ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ـ حكاية يحكيها، وليس لها أيُّ أساس واقعيّ ـ وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ـ وهي المدة الفاصلة بين الموت وبين القيامة ـ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ ـ وانطلقت القيامة وانتهت الدنيا ـ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ـ إذ تسقط في يوم القيامة كل العلاقات النسبية، ويصبح كل واحد مشغولاً بمصيره الّذي يواجهه.
ـ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ـ بالإيمان بالله والعمل الصالح ـ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ـ بالكفر والفسق والتمرد على الله ـ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ـ ويخاطبهم الله ـ أَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا ـ نحن اخترنا هذا الشقاء الذي انحرف بنا عن الخط المستقيم الذي أردت للناس أن يسيروا عليه ـ وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا ـ وكلمة "اخسأوا" فيها الكثير من التحقير والكثير من الإهمال ـ وَلَا تُكَلِّمُونِ}(المؤمنون/99-108)، لا كلام بينكم وبين الله بعد أن كفرتم به، وبعد أن عصيتموه وتمرّدتم عليه، فواجهوا نتيجة ذلك مصيركم.
ثم يتحدّث الله سبحانه وتعالى عن العلاقة الّتي كانت تجمع هؤلاء بالمؤمنين، فيقول: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ـ كان هناك مؤمنون صالحون يعبدونني ولا يشركون بي شيئاً، ويبتهلون إليّ ويعلنون إيمانهم بي، ويطلبون مني أن أغفر لهم ذنوبهم إذا أذنبوا في هذا المقام، وأن أرحمهم، ويقولون لي ـ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ـ فماذا كان موقفكم منهم؟ ـ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا ـ بدأتم تهزأون بهم وتسخرون منهم، على أنهم أناس متخلّفون رجعيون ولا يفهمون معنى الحياة ـ حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي ـ انشغلتم بذلك حتى نسيتم ذكر الله ـ وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ ـ ولكن ما هو مصير كل منكم الآن؟ ـ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ اليَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الفَائِزُونَ}(المؤمنون/109-111).
أيُّها الأحبة، هذا الفصل من القرآن يدعونا جميعاً إلى أن نفكر في الساعة أو في اليوم الذي سنقف فيه بين يدي الله سبحانه وتعالى، عندما يقدَّم لكلّ منَّا كتابه: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ اليَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}(الإسراء:14). لذلك علينا أن نعيش في مجتمع المؤمنين، وأن نبتعد عن مجتمع الظالمين والكافرين والفاسقين، حتى نستطيع أن نحصل على المصير الطيِّب {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ *إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}(الشعراء/88-89).
الخطبة الثانية
بسم الله الرَّحمن الرحيم
عباد الله... اتقوا الله، وواجهوا الموقف في الدنيا، لتكون الدنيا ساحةً لطاعة الله {وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}(القصص/77). وهكذا يريد الله سبحانه وتعالى أن نحسن في الدنيا بما أمرنا به من الإحسان، وأن لا نبغي الفساد في الأرض بكلِّ ما يفسد البلاد والعباد. إن الله يريد منّا أن نتحمَّل كل مسؤوليتنا في الدنيا، وأن نأخذ بأسباب القوة والعزة والكرامة والانتصار والحرية، في مواجهة كل قوى الظلم وكل قوى الاستكبار. فماذا هناك؟
الاقتتال الفلسطينيّ خيانة للقضيّة:
في المشهد الفلسطيني، تتحرك الكارثة الإنسانية والأمنية والسياسية في القتال الفلسطيني ـ الفلسطيني بين فتح وحماس، حيث يقتل الأخ أخاه، وتقصف المستشفيات بحجة الثأر لقتيل هنا وقتيل هناك، حتى زاد عدد الضحايا من الجرحى والقتلى على المئات، وسط نداءات من هنا وهناك لوقف إطلاق النار، وغياب تام لأي أفق لحل الأزمة المتصاعدة، والتي تنذر بعواقب بالغة الخطورة على الشعب الفلسطيني وقضيته الكبرى.
إن السؤال الذي نوجهه إلى القيادات: هل حدثت هذه المعركة بقرار سياسي أو أمني، أو أنها كانت من خلال فئات غير منضبطة من هنا وهناك، وفي كلتا الحالتين، فإنّ الجميع يتحمّلون مسؤولية أيّ قرار يصبّ في الاتجاه الذي يمثّل خيانةً لقضية الشعب كله، وإذا كانت الجهات الكامنة خلف هذه الأحداث من العملاء للعدوّ، فلا بد من فضحها وعدم الانجرار إلى ما تخطّط له من إثارة الفتنة وتحريك الكارثة.
إنّ المعركة الوطنية والإسلامية للفلسطينيين، هي ما تخوضه فصائل المقاومة ضد العدو، والتي تردّ على اعتداءاته بقصف مستوطناته بصلابة جهادية، غير عابئة بتهديدات مسؤوليه باستمرار مسلسل الاغتيال والاجتياح والتدمير اليومي. وهذا ما يجب أن يدفع كل الذين يخوضون المعارك الداخلية، وفيهم بعض المجاهدين، إلى أن يرتفعوا إلى مستوى رسالة القضية الفلسطينية التي هي بحاجة إلى التخطيط السياسي والأمني لمتابعة التحرير وترسيخ الوحدة الجهادية التي تواجه العدو من موقع واحد، وأن يرحموا شعبهم الصابر الصامد الذي يعيش تحت تأثير القصف والتدمير والجوع والحرمان.
إننا نقول للمتقاتلين: إنه من الخيانة العظمى أن توجَّه بنادق بعضهم إلى صدور بعضهم الآخر، وأن تتحرك المعركة في الداخل لتدمير الواقع الداخلي، وعليهم أن يدرسوا كلَّ مخطَّطات العدو ـ ومعه أمريكا وحلفاؤها ـ ضد القضية كلها، وأن يتقوا الله في الناس وفي الوطن كله.
الإدارة الأمريكية: محرِّك الحروب في العالم:
وفي المشهد الأمريكي، لا يزال الرئيس الأمريكي يهدِّد ويتوعد الجمهورية الإسلامية الإيرانية بالحرب تارةً، وبالعقوبات في مجلس الأمن أخرى، وما يلفت النظر، أن مجموعة الدول الثماني قد أصدرت قراراً يهدِّد إيران بالعقوبات الشديدة إذا لم توقف التخصيب، في الوقت الذي يعرف الجميع، أنَّ هناك مفاوضات تفصيلية بين إيران والاتحاد الأوروبي حول هذا الموضوع، بما قد يؤدي إلى نتائج إيجابية في حلِّ المشكلة، هذا إلى جانب أن الإدارة الأمريكية تعرف أن أيَّ حرب ضد إيران سوف تترك تأثيراً مدمراً على الاقتصاد العالمي، وقد تتسبَّب في إحراق المنطقة بأسرها.
إن شعوب المنطقة في العالمين العربي والإسلامي لا تتحمَّل أي حرب جديدة على مستوى الحرب الأمريكية الإيرانية، لأنها لا تزال تعاني من حروب أمريكا في العراق وأفغانستان والصومال والسودان التي أدّت إلى تدمير البشر والحجر، وإلى اهتزاز الواقع الاقتصادي والسياسي في شكل وحشي.
إننا ندعو الشعوب العربية والإسلامية إلى التحرك بقوة ضد السياسة العسكرية للإدارة الأمريكية التي يخطط لها المحافظون الجدد من المسيحيين المتصهينين الذين يتحركون لإغراق العالم الإسلامي بالفتن والأزمات والحروب، كنتيجة لحقدهم على الإسلام والمسلمين، وتحالفهم مع الجماعات الصهيونية.
وعلينا أن نرصد الهدف من المناورات العسكرية الأمريكية ـ الإسرائيلية التي جرت في فلسطين المحتلة في منطقة النقب، حيث أعلن أنها تتجه للعدوان المشترك ضد إيران، ولو كان ذلك من قبيل الحرب النفسية والسياسية والأمنية. وذلك فضلاً عن ضرورة درس دلالة الأسلحة المتطوّرة المصدَّرة من أمريكا إلى إسرائيل، إضافةً إلى حركة تصدير السلاح إلى دول المنطقة المتحالفة مع أمريكا، لاستخدامه في حروبها من خلال قواعدها المنتشرة في المنطقة.
إنَّ الإدارة الأمريكية هي التي تحرك الحروب في العالم للسيطرة على مقدرات الشعوب، حتى إنها تضغط على دول الاتحاد الأوروبي من الناحية السياسية، وتدفع ببعض المواقف إلى حرب باردة جديدة... إنها ضد حركة السلم العالمي في كل خططها التي تدمر البشرية كلها...
لبنان: غباء سياسي وفوضى متحركة:
أما في لبنان، فإنَّ حجم الكارثة التي تتهدّده تتعاظم في المعركة الكبرى التي يخوضها الجيش في مخيم نهر البارد، التي قد تترك تأثيرها السلبي على الوحدة الوطنية وعلى الدولة المتصدّعة والمهددة في وجودها، في الوقت الذي نرى المسؤولين يتصرفون كما لو أن ما يجري من حال الحرب المعقَّدة مجرد اشتباكات محدودة مع جماعة إرهابية خاصة... وتبقى الأزمة السياسية اللبنانية تراوح مكانها، لأن الذين يخضعون للرفض الأمريكي للحلّ، لا يزالون يثيرون العقدة تلو العقدة كلما ظهرت بوادر حلول جديدة يمكن أن تفتح الأفق السياسي على اتحاد وطني يتمثّل في حكومة جامعة قادرة على حلّ المشاكل المعقّدة التي بات المواطنون يسقطون تحت تأثيرها، في ظلّ مخاوف تتزايد في الجانب الأمني، المترافق مع استغراق تخديري من خلال إثارة الكثير من العصبيات الحزبية والمذهبية والطائفية.
لقد قيل عن لبنان إنّه وطن الإشعاع الفكري والحرية الإنسانية والتعايش الديني، ولكن اللعبة الداخلية من جانب، والخارجية من جانب آخر، حوَّلته إلى ظلام غرائزي في ظلّ غباء سياسي وفوضى متحركة وطائفيات معقَّدة، حتى لم يعد القائمون عليه يملكون القدرة على الاجتماع المنتج للحوار، الأمر الذي جعل الأطراف الدوليين يعرضون عليهم اللقاء هنا وهناك، لأنَّ القضية هي أنهم يتطلّعون في حلِّ أزمتهم السياسية إلى الدول الأجنبية أو الإقليمية، وإلى هذا المحور الدولي أو ذاك، ويتحرَّكون تحت تأثير الخدر الاستهلاكي في تأييد هذه الدولة أو تلك، من دون أن يفهموا أنَّ تأييد الخارج لا يعطي الدولة قوةً إذا كانت تعيش الفراغ في الدَّاخل، وأن التأييد الشعبي والتَّخطيط السياسي والاقتصادي هو الذي يبني للشَّعب وطنه، ويحقِّق له قوّته، وينظِّم له وحدته. وعلى الطوائف كلّها أن تعرف جيداً أنَّ أية طائفة، مهما كانت قوتها العددية، لن تستطيع أن تحكم البلد وحدها، وأنَّ وحدة الوطن في وحدة المواطن وفي امتداد المواطنية، هو الذي يحمي كلّ طائفة في كلِّ عناصرها وقضاياها وخصوصياتها الدينية والسياسية. وعلى زعماء الطوائف أن يرتفعوا إلى مستوى هذه الحقيقة التي تعيد لبنان وطناً للجميع لا ساحةً مستباحة للآخرين.
الدّعوة لإنتاج واقع سياسي وحدوي: