يقول الله سبحانه وتعالى مخاطباً نبيه إبراهيم(ع): {إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين} (البقرة:131). وقد أكّد الله سبحانه هذه الكلمة ـ الإسلام ـ في آيةٍ من آيات القرآن الكريم، لتختصر حقيقة الدين كله؛ قال تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام} (آل عمران:19)، وقال: {ومن يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} (آل عمران:85).
معنى كلمة الإسلام
ما هو مضمون كلمة الإسلام؟ كلمة الإسلام في مضمونها الفكري، هو أن يسلم الإنسان كل ذاته لله، بحيث لا يكون هناك شيء خاص في ذاته، بل يجعل كل حياته لله، فلا أمر إلا أمر الله، ولا نهي إلا نهيه.
وعلى ضوء هذا، فإن عليه أن يقبل كلّ ما يريد الله له أن يقوم به، وأن يرفض كل ما يريد الله أن لا يقوم به، فلا يتردّد في القيام بما يجب عليه، فإذا طُرح عليه أمر الله، فعليه أن يتقبله دون مناقشة أو تردد، وهذا ما عبّر عنه القرآن الكريم في قوله تعالى: { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} (الأحزاب:36)، بمعنى أنّه إذا قضى الله أمراً، في إلزام الناس بشيء، أو في تحريمه عليهم، فإنه ليس لأحد الحرية في أن يقول أقبل أو لا أقبل، أو أن يتردد في هذا المقام، بل عليه إذا صدر أمر من الله، أن يُحني رأسه لله سبحانه وتعالى، وأن يخضع له فيما أمره به.
وقد تحدّث القرآن الكريم، أنّ الناس عندما يختلفون في الرأي أو في أي مسألة من المسائل، في القضايا الشخصية أو القضايا الاقتصادية أو السياسية أو الاجتماعية، فإنّ علامة إيمانهم إنّما تكون في التسليم المطلق لله ولرسوله في ما يقضيان به. قال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون ـ حتى لو صلّوا أو صاموا أو حجّوا، لأنّ هذا ليس علامة الإيمان، وليس حقيقة الإيمان، وليس جوهر الإيمان ـ حتى يحكِّموك فيما شجر بينهم ـ حتى يأتوا إليك إن كنت حياً، أو إلى شريعتك الحقّة بعد وفاتك، وحتى يجعلوك الحكم فيما اختلفوا فيه، فإذا حكم بأي حكم فإنهم يقبلونه ـ ثمّ لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ـ حتى وإن لم يكن الحكم لمصلحتهم ـ ويسلّموا تسليماً} (النساء:65). هذا هو الإسلام.
المحبة لله التزام
ويحدّثنا الله سبحانه وتعالى عن علامة محبة المسلم لله؛ فهل هي في التغزّل به، كما يفعل بعض المتصوّفة أو العرفانيين، أو أن المسألة هي مسألة التزام عملي في كل ما أمر الله به وفي كلّ ما نهى عنه؟
يقول الله سبحانه لرسوله: {قل إن كنتم تحبون الله ـ إن كنتم جادّين في محبتكم لله ـ فاتَّبعوني ـ فعلامة محبتكم لله هي أن تتبعوا رسالة الله، وأن تطبّقوا أوامره ونواهيه، إذ لا معنى لأن تحب الله ولا تتبع رسالة رسوله. اتبعوني، لأني أمثّل رسالة الله، ولا تتبعوني كشخص، بل كرسول يحمل رسالة الله ويبلغ شرائعه وأوامره ونواهيه ـ يحببكم الله ـ فتكون المسألة، حبّاً لله منكم يتجسّد في العمل، وحبّاً من الله لكم يتجسّد في المغفرة والرحمة ـ ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم} (آل عمران:31).
ويؤكد هذا المعنى في الآية الثانية: {قل أطيعوا الله والرسول ـ أطيعوه في كل ما أمركم به من الإسلام كله؛ في عقائده وشرائعه ومفاهيمه وكل خطوطه ـ فإن تولَّوا ـ أعرضوا وساروا في خط الكفر من الناحية الثقافية والعملية ـ فإن الله لا يحب الكافرين} (آل عمران:32).
ويتحدث الله سبحانه وتعالى عن فريق من الناس، من الذين يصلّون ويصومون ويحجّون، ويجاهرون في الظاهر بأنهم مسلمون، ولكنهم لا يخلصون لله في الموقف، ولا يُسلِمون الأمر لله سبحانه. ولعلَّ هذا مما يبتلى به الكثيرون منا. وقد كان البعض في زمن النبي(ص) يمارس ذلك، {ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا}، ينطقون بالشهادتين المعبّرتين عن إيمانهم بالله وبالرسول، ويعلنون طاعتهم لله ولرسوله {ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك}، يعرضون عما يفرضه هذا الاعتراف وهذه الشهادة وهذا الالتزام ـ وما أولئك بالمؤمنين ـ لأن المؤمن هو الذي لا يعرض عن خط التوحيد، وعن خط الرسالة، وعن خط الالتزام بالطاعات ـ وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم ـ إذا حدثت مشاكل بين الزوج والزوجة، أو الأخ وأخيه، أو تاجر وتاجر آخر، بين هذا الخط السياسي والخط السياسي الآخر، أو بين هذا الفريق الاجتماعي وذاك الفريق الاجتماعي... وقيل لهم تعالوا إلى الله والرسول ليحكم بينكم، لأن التزامكم بالإسلام يفرض عليكم أن تخضعوا لحكم الله ورسوله، وما يحكم به الرسول حجّة عليكم ـ إذا فريقٌ منهم معرضون ـ لا يقبلون بالاحتكام إلى شريعة الله، كما هو حال بعض الناس، الذي إذا قيل له تعال إلى خطّ الشرع لحلّ مشكلتك، يقول: أرى القانون أولاً، فإن كان لصالحه اتّبع القانون وأعرض عن الشرع، وإذا كان الشرع معه قال أنا مع الشرع ـ وإن يكن لهم الحق ـ يسألون لمن الحكم؟ هل هو لمصحلتهم ـ يأتوا إليه مذعنين ـ مستعدين، ليس من جهة أن هذا حكم الله، ولكن من جهة أن هذا الحكم لمنفعتهم ومصلحتهم.
والله سبحانه يثير التساؤل حول هؤلاء الذين يقولون إنهم آمنوا بالله والرسول، وهو قول لا ينسجم مع واقعهم. يقول سبحانه: {أفي قلوبهم مرض ـ هل كانوا من قبيل المنافقين الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإيمان، وهذا هو المرض النفسي والإيماني والروحي ـ أم ارتابوا ـ وصار عندهم شك في الله وفي حكم الله، وشك في الرسول وفي حكم الرسول ـ أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله ـ يعني أن يجور الله ورسوله عليهم ـ بل أولئك هم الظالمون} (النور:47-50)، لأن الله لا يظلم أحداً من عباده، وقد أكّد ذلك في أكثر من آية، ومنها قوله: {وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين} (الزخرف:76).
الاحتكام إلى شرع الله
ثم يبين الله سبحانه الخطّ الإيماني الذي يظهر من خلاله ما إذا كنّا من المؤمنين الصادقين الجادِّين في القول والعمل. يقول تعالى: {إنما كان قول المؤمنين إذا دُعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا ـ فهم يطيعون دون تردّد أو شك ـ وأولئك هم المفلحون ـ الذين يحصلون على النجاح عند الله، بأن يصبحوا في مواقع القرب من الله ورضوانه ـ ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتّقه فأولئك هم الفائزون} (النور:51-52).
على ضوء هذا، نؤكِّد ما ذكرناه في بداية الحديث، أن معنى أن تكون مسلماً، أن تلتزم كل أوامر الله وكل نواهيه، وهذا المعنى ينبغي أن يلتفت إليه الكثير من المؤمنين، خصوصاً في القضايا التي تُعرض على المحاكم، فلا ينبغي للإنسان أن يلجأ إلى القانون ليأخذ حقاً لا يعطيه إيّاه الشرع، لأنّ ما يأخذه مما يحكم به القانون على خلاف ما يحكم به الله سبحانه وتعالى، يعاقَب عليه من قِبَل الله سبحانه، إضافةً إلى أنّه يؤكد أن هذا الإنسان لا يعيش الإسلام، لأنّ الإسلام هو أن تُسلم كل أمرك لله. وهذا الأمر ينبغي لكل الأخوة والأخوات أن يفكّروا فيه، وأن يلتزموا به، وأن يعرفوا أن الدنيا لا تغني عن الآخرة، وأن كل ما يأخذونه مما لا حقّ لهم فيه، سوف يقفون أمام الله غداً ليُسألوا عنه، {يوم لا يفع مالٌ ولا بنون* إلا من أتى الله بقلب سليم} (الشعراء:88-89)، عندما ينادي المنادي: {وقفوهم إنهم مسؤولون} (الصافات:24). فليحضّر كل واحد منّا لنفسه جواباً أمام الله، الذي يعلم كل شيء.
وعلى هذا الأساس ينبغي للمؤمنين عندما يتحاكموا، أن يدرسوا ما هو الحكم وما هو الحق من خلال ما شرَّعه الله لهم، لا من خلال مطامعهم ومصالحهم الذاتية، لأنهم إذا ربحوا مالاً أو أي موقع في الدنيا، فإنهم سوف يخسرون في مقابل ذلك في الآخرة. والحمد لله ربِّ العالمين.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله... اتقوا الله، وواجهوا المرحلة الصعبة التي يمر فيها الإسلام والمسلمون بكل مسؤولية، لأن الاستكبار العالمي المتمثل بالولايات المتحدة الأمريكية وعملائها، لا يزالون يخطِّطون من أجل إسقاط هذه الأمة ومصادرة ثرواتها، وإيجاد حال من الارتباك في أمنها، وعلينا أن لا نقف أمام ذلك موقف اللامبالاة، بل أن نستعد لمواجهة كل ذلك بصنع القوة، لأن الله أراد لنا أن نكون الأقوياء، وأن نأخذ بأسباب العزة، وأن نكون كالجسد الواحد، وأن نراقب كل ما يحدث في مواقع الإسلام والمسلمين، سواء في المناطق القريبة أو البعيدة. فماذا هناك؟
فلسطين: بين ذهنية الهزيمة وإشراقة المقاومة
في المشهد الفلسطيني، تمر على المنطقة العربية ذكرى هزيمة حزيران أمام اليهود منذ أربعين سنة، والتي انطلقت من خلال نقاط الضعف السياسية والعسكرية في الواقع العربي، فضلاً عن التخطيط الأمريكي المتحالف مع العدو الذي كان يستهدف حركة الوحدة العربية من جهة، ومشروع التحرر العربي من جهة أخرى، وقد أدت الهزيمة إلى احتلال فلسطين كلها، إضافةً إلى مواقع عربية أخرى في سوريا ومصر، وقد أصدر مجلس الأمن أكثر من قرار، كالقرارين 242 و338 من أجل انسحاب الجيش الصهيوني من الأراضي المحتلة، فيما يحمل أحدهما فخاً تمثّل في الألف واللام، ما يسمح بتحريك لعبة سياسية يقتصر فيها الانسحاب على بعض الأراضي دون بعض.
ولم يطبق أي من هذه القرارات حتى اليوم، لأن أمريكا ـ ومعها بعض دول أوروبا ـ لم تضغط على إسرائيل لتنفيذ ذلك، بل كانت الضغوط تطبَّق على الشعب الفلسطيني الذي واجه وحده باللحم العاري كل الأسلحة الأمريكية المتطورة، التي تحركت من قبل اليهود قتلاً واجتياحاً واعتقالاً وتدميراً للبنية الاقتصادية التحتية، وتجريفاً للأراضي الزراعية ومصادرةً للثروة المائية وإقامة المستوطنات على الأراضي الفلسطينية، وتشريد أهلها والسيطرة على القدس، ولم تحرك الدول العربية ساكناً لمنع ذلك، بل إن مؤتمرات القمة العربية ووزراء الخارجية كانت تسحب اللاءات الرافضة للكيان الصهيوني مثل: لا صلح ولا اعتراف ولا مفاوضات، حتى تبدلت باللهاث وراء العدو، ليقبل بالصلح معها منذ مؤتمر مدريد واتفاق أوسلو، واستطاعت الضغوط الأمريكية أن تفرض الصلح على مصر والأردن، وأن تخضع أكثر من دولة عربية للقبول بعلاقات اقتصادية على مستوى المكاتب التي تدير الوضع هناك.
وقد عانى لبنان الكثير من الاجتياحات الإسرائيلية التي وصلت إلى حدّ احتلال عاصمته وتدمير مرافقه الحيوية، وامتدت الهزيمة في الوجدان الرسمي العربي، حتى أن الجامعة العربية دخلت في متاهات القرارات الخاضعة للعبة الدولية، وخصوصاً الأمريكية، وما زالت أكثر من دولة عربية تستجدي الصلح من إسرائيل التي ترفض القبول به إلا بشروطها السياسية، ومنها رفض حق العودة وإزالة المستوطنات، واعتبار القدس الشرقية عاصمة لفلسطين، وهدم الجدار العازل إلى غير ذلك، مما عملت فيه على التنسيق مع الإدارة الأمريكية التي لا تزال تضغط على الدول العربية للقبول بالتطبيع السياسي والاقتصادي والأمني قبل السلام، ولرفض مبدأ الأرض مقابل السلام، وللتأكيد على يهودية الدولة العبرية التي تهدد الوجود الفلسطيني في مناطق الـ 48، ورفض العودة إلى حدود الـ 67...
وهكذا عاش الواقع العربي الرسمي ذهنية الهزيمة التي أطلقوا عليها اسم (النكسة)، والتي كانت في مستوى النكبة، وتحولت إسرائيل إلى أمر واقع في المنطقة، بل وصلت إلى مستوى الدولة الأقوى بفعل الدعم الأمريكي لها أمنياً وسياسياً واقتصادياً.
ووسط كل هذا الظلام، انطلقت المقاومة لتكون الإشراقة التحريرية الجهادية في الواقع الفلسطيني والواقع العربي، من خلال المقاومة الفلسطينية التي توجتها الانتفاضة، والمقاومة الوطنية والإسلامية اللبنانية التي استطاعت تحرير لبنان من الاحتلال الصهيوني الذي انسحب بهزيمة شاملة من دون قيدٍ أو شرط في سنة 2000.
المقاومة تصنع مستقبل الحق والعدل والحرية
ثم انطلقت المقاومة لترد العدوان الإسرائيلي والأمريكي في تموز 2006، ردّاً قويّاً استطاع هزيمة العدو وإرباك جيشه في أكثر من موقع من مواقع قوته في عملية كر وفر مدروسة، ولم يستطع العدو تحريك عدوانه إلا باستهداف المواقع المدنية وقتل المدنيين، للتأكيد على حقده وغطرسته في مرحلة لم يمر عليه في كل تاريخه ما يشبهها. وقد كانت الهزيمة العسكرية لقواته هزيمة سياسية لحكومته وللخطة الأمريكية التي أرادت منح العدو أكثر من فرصة في الزمن لتحقيق هدفه في إسقاط المقاومة ونزع سلاحها، ولكنه لم يستطع إلى ذلك سبيلاً بفضل جهاد المجاهدين وإخلاصهم وتضحياتهم، الأمر الذي أسقط العدو، ولأول مرة في تاريخه، كما أحرج أكثر من موقع عربي كان يخطط معه ضد المقاومة التي تحولت إلى مشكلة لأكثر من موقع عربي ممن عاش الخضوع للسياسة الأمريكية، ولكن الشعوب العربية والإسلامية انطلقت مع هذا النصر الإلهي للمجاهدين، ورفضت كل تاريخ الهزيمة، وانفتحت على مستقبل القوة.
وقد حاول الأمريكيون، ومعهم كل الدول الغربية، في مؤتمراتهم الدولية وفي مجلس الأمن، إعلان حرب عالمية ضد المقاومة التي جسدت حركة القوة في واقع المنطقة، وأصبحت مصدر إلهام للشعوب المستضعفة التي تكافح من أجل الحرية وحماية أوضاعها السياسية ومواردها الاقتصادية.
وهكذا تأتي هذه الذكرى لتؤكد، أن المقاومة في فلسطين وفي لبنان، قد استطاعت أن تؤسس لمرحلة جديدة لا مكان فيها للضعف ولا للهزيمة، وأن تخطط لصناعة القوة من جديد في مواجهة ما يخطط له العدو من استعادة قوته... لذلك فإننا ندعو الشعب العربي في فلسطين، والشعوب الإسلامية في المنطقة، إلى الاحتفال بالنصر في خط المواجهة، وإلى استبدال واقع الهزيمة بحركة النصر، وإلى رفض العودة إلى الوراء من أجل صنع مستقبل للحق وللعدل وللحرية، وندعو كل الذين يخافون من اكتشاف القوة في أمتهم، ويعملون على الخضوع للسياسة الأمريكية، وينفتحون على كهوف الضعف والهزيمة، أن يحترموا إنسانيتهم، وأن يفكروا في المستقبل للحرية الحقيقية لا الاستعراضية، وأن يقفوا مع الشعب الفلسطيني الذي يواجه أقسى وحشية إجرامية في تدمير إسرائيل لكل الواقع المدني الإنساني والاقتصادي والأمني له، بتشجيع من الولايات المتحدة الأمريكية، وصمت من اللجنة الرباعية صاحبة خارطة الطريق، والرباعية الدولية العربية المنفتحة على الصداقة مع العدو سياسياً ومخابراتياً، الأمر الذي لا يُبقي لهذا الشعب إلا الانتفاضة والمقاومة التي تقوم بواجبها في الدفاع عنه بإطلاق الصواريخ على مستوطنات العدو رداً على جرائمه.
أمريكا: شعارات مزيَّفة وفشل في الإدارة
وفي المشهد الأمريكي، يتحدَّث وزير الحرب هناك، أن القوات الأمريكية سوف تبقى مدة طويلة في العراق على الطريقة نفسها التي استخدمتها مع كوريا الجنوبية، لأن الاحتلال الأمريكي لم يدخل العراق لإنقاذ الشعب العراقي من نظام الطاغية الذي كان تابعاً لأمريكا، بل لحساب مصالحه الاقتصادية والأمنية والاستراتيجية ومشاريعه الاستكبارية في إدارة المنطقة كلها، ولم تأتِ الشعارات السياسية والإنسانية والديمقراطية التي أطلقتها واشنطن إلا لخديعة الشعوب الواقعة تحت سيطرة حكامها الاستبداديين من حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية التي تحاول أن توظفهم لحماية أوضاعها في الاحتلال، وللتنسيق مع حليفتها إسرائيل تحت عنوان الاعتدال أو الحرب ضد الإرهاب. ولكننا نتصور أنها لن تنجح في ذلك كله، بعد أن خسرت ثقة شعوب العالم الثالث، وحتى ثقة الشعوب الأوروبية التي تخرج في هذه الأيام ضمن تظاهرات شعبية احتجاجاً على زيارة الرئيس الأمريكي، ورفضاً لسياسة إدارته، إضافةً إلى مواجهة الدول الثماني الكبار التي تستنـزف اقتصاديات المستضعفين في استغلال ثرواتهم ومصادرة اقتصادهم، ليزداد الفقراء فقراً، ويزداد الأغنياء غنىً... وقد صرّح أحد قادة الجيش الأمريكي السابقين، بأن أمريكا لن تنجح في احتلالها للعراق، لأنها لا تملك الإدارة المناسبة لتثبيت وجودها الاستعماري.
إننا نريد للشعب العراقي الذي يعاني من الفوضى التي أوجدها الاحتلال في العراق، أن يرفض الاحتلال كله، وأن يأخذ بأسباب الوحدة والمصالحة الوطنية، ويخطط للمسألة السياسية التي تتمرد على الطائفية والمذهبية والعرقية، لينطلق في صنع مستقبل جديد بعيداً عن خطوط الفتنة وعن الألاعيب الفئوية.
لبنان: تباين الشروط تمييع للحلول
أما في لبنان، فإن المشكلة لا تزال تفرض نفسها على الواقع الأمني في الشمال، من خلال الحرب التي تستهدف الجيش الوطني في مخيم نهر البارد، في عملية تشبه الاستنـزاف، وتثير التعقيدات الأمنية والسياسية، وتفسح في المجال للكثير من التدخلات الدولية والمشاكل الإقليمية، وتحرّك الإشاعات التي تنشر المخاوف في نفوس الناس، وتنعكس سلباً على الواقع المعيشي والحركة الاقتصادية، ولا سيما فيما يثيره البعض في الإعلام الداخلي والخارجي حول الخشية من امتداد الأزمة إلى أكثر من مخيم، ولاسيما في عين الحلوة، الذي استطاع العقلاء أن يوازنوا بين الاختلافات فيه...
وتبقى المشكلة السياسية تراوح مكانها في حكومة الوحدة الوطنية التي تتحرك السجالات في عناوينها وشروطها وتعقيداتها، ما جعل أكثر من دولة خارجية وعربية تتدخل في حسابات خاصة، مستغلة المخاوف المثارة، والمتصلة بمستقبل الاستحقاق الرئاسي الذي ربما يجمد في دائرة الأزمة بما يزيد الانقسام السياسي والإداري والحكومي، وذلك في ظلّ إمكان الوصول إلى حكومتين، الأمر الذي يدمِّر توازن الوطن، ويهيّئ المناخ لأجواء الاهتزاز الأمني الذي قد ينعكس سلباً على كل المؤسسات التوحيدية.
إننا نرفع الصوت عالياً أمام الأخطار التي تنتظر البلد في أمنه واقتصاده وسياحته، ولاسيما أن الجدال بين المعارضة والموالاة يتحرك في شروط هنا وشروط مضادة هناك، ما قد يعقد الأمور، ولا يترك هناك أيّ أمل في حلّ واقعي للإنقاذ.