نبذ العصبيات والالتقاء على الوحدة الإسلامية

نبذ العصبيات والالتقاء على الوحدة الإسلامية

في ذكرى الصادق الأمين:
نبذ العصبيات والالتقاء على الوحدة الإسلامية


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:

المثال الأعلى في الصدق والأمانة

بلـغ العلى بكمالـه         كشف الدجى بجماله

حسنت جميع خصاله           صلّوا عليـه وآلـه

{لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم} (التوبة:128). هذا الرسول العظيم الذي ختم الله تعالى به الرسل، وختم برسالته الرسالات، التي تضمّنت كل العناصر الحضارية الإنسانية لكل الرسالات؛ هذه الرسالة التي أرسل الله بها رسله. وانطلق في دعوته، كما انطلق الرسل من قبله، برسالة التوحيد، ليكون الإنسان في كل المواقع في العالم موحِّداً لله، فلا إله إلا هو، ولا معبود سواه، ولا طاعة لغيره، وليس لأيّ بشر، مهما كانت عظمته، أن يأخذ في موقعه أيّ دور هو لله. وهكذا رأينا كيف أن الله تعالى في ما أوحى به إلى رسوله(ص)، أكد بشريّته، فقد وُلد الرسول كما يولد أيّ إنسان، ولم تكن ولادته بطريقة مختلفة، وقد مات أبوه وهو حمل في بطن أمه، وتوفيت أمّه قبل أن تستكمل رضاعته، ولهذا نشأ النبي(ص) يتيم الأب والأم في بيئة مستضعفة، وقد كفله بدايةً جدّه عبد المطلب، ثم آلت كفالته إلى عمّه أبي طالب.

ودرج النبي(ص) في رعاية الله تعالى الذي كان يلهمه في أخلاقه أن يكون المثل الأعلى للإنسان في الصدق والأمانة؛ كان صادق القول فلا يتكلم بغير الحق وبغير الواقع، وكان الأمين الذي يأتمنه الناس على كل أموالهم وودائعهم، حتى اشتهر أمره بين الناس في مكة واستبدلوا اسمه، فكانوا يقولون: "جاء الصادق الأمين"، و"تحدثنا مع الصادق الأمين"، لأن الله أراد أن يؤكد قيمة الصدق في شخصية الرسول(ص) قبل أن يبعثه بالرسالة، حتى إذا بعثه بها، لم يكن لأحد أن يتهمه بالكذب، لأن حياته في مدى الأربعين سنة كانت حياة الصدق مع كل الناس، كما أراد الله أن يركّز في عناصر شخصيته الأمانة، ليعرف الناس أنه الأمين على كل حياتهم، لأنه كان الأمين على أموالهم، فالأمانة لا تتجزأ في الإنسان، فالأمين على المال هو الإنسان الذي يتحمّل مسؤولية الناس فيما يملكون.

النبي المعجزة والمتواضع

وقد كان الرسول(ص) أميّاً، وجاء في القرآن عنه: {ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان} (الشورى:52)، {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطّه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون} (العنكبوت:48)، فلو كان يجيد القراءة والكتابة، لقال المشركون عنه إنه تعلّم الرسالة مما كان يقرأه من الكتاب. ولم تكن أمّيته نقصاً فيه، بل كانت تمثل المعجزة، لأنه بالرغم من أنه لم يقرأ كتاباً ولم يكتب، فإنه أتى بما أعجز الذين يقرأون ويكتبون؛ أتى بالقرآن الذي تحدى الجن والإنس بأن يأتوا بسورة من مثله، ولم يستطيعوا أن يقفوا أمام هذا التحدي، ما أثبت أن الذي جاء به ليس من ثقافة خاصة تعلّمها، بل من وحي إلهي أُنزل عليه.

ورأينا كيف أن النبي(ص) عاش مع الله قبل أن يرسله الله رسولاً، فكان يعتزل قومه في غار حراء، ويتعبّد الله ويبتهل إليه، ولقد وكّل الله به عظيماً من الملائكة ـ كما حدّث عنه أمير المؤمنين(ع) ـ يلقي إليه في كل يوم علماً مما أراد الله له أن يتعلّمه، ومما أراد له أن يبلّغه للناس. وبلغ النبي(ص) القمة في كل عناصر الإنسانية، كان قلبه ينبض بمحبة المستضعفين، وكان يجلس إليهم ويرأف بهم ويرحمهم، ولا يستطيل عليهم، بل يتواضع لهم، كان الإنسان الذي أعلى الله درجته، حتى إنّه لم يبلغها أي بشر، ومع ذلك، كان القائل من أصحابه يقول: "كان فينا كأحدنا"، بحيث إنه كان لا يميّز نفسه عن أيّ إنسان آخر، بل كان يجلس بين أصحابه، حتى إذا جاءه شخص يريد الحديث معه، لا يعرف من هو النبي فكان يسأل: "أيكم محمد"؟ ولذلك اتفق أصحابه أن يخصصوا له حجراً يجلس عليه حتى يعرفه الزائر. وكان(ص) يتواضع للمرأة والطفل، حتى إنه رأته امرأة فارتعدت من هيبته، فقال(ص): "لا عليك، إنما أنا ابن امرأة مثلك كانت تأكل القديد".

الإنساني الحريص والرؤوف الرحيم

وقد أودع الله في شخصيته كل القيم الإنسانية، كان قلبه يتسع للأمة كلها، وكان يتألم لما يتألمون له، ولذلك قدّمه الله لنا بقوله: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم ـ هذا الرسول لم يأتِ من الملائكة، لأنه لو كان كذلك، لقال الناس فيما يتحرك به: إننا لا نستطيع أن نبلغ مستوى الملائكة، بل كان بشراً إنسانياً، ولكنه لم يعش في ذاته الدائرة الضيقة، كما يعيش بعض القادة الدائرة العائلية أو الحزبية، كان يتسع للناس كلهم، ولذلك كان يتفاعل مع الإنسانية كلها ـ عزيز عليه ما عنتّم ـ العنت هو المشقة، يعزّ عليه ويثقل نفسه كل ما تواجهونه من مشاق، سواء مشقة الفقر أو المرض أو الأمن وما إلى ذلك من المشاكل التي تصيب الناس ـ حريص عليكم ـ يراقب المجتمع كله في كل ما يصيبه من نقاط الضعف، فيعمل على تقوية هذه النقاط ليحوّلها إلى نقاط قوة، لأنه كان يريد أن يرتفع بالناس إلى المستوى الذي ينفتحون فيه على التقدّم الروحي والثقافي والأمني والسياسي، فهو حريص عليهم أن لا يضيعوا ويدخلوا في المتاهات، بل كان يحرص على أن يكونوا في مستوى الأمة ـ بالمؤمنين رؤوف رحيم} (التوبة:128)، كانت الرأفة في قلبه والرحمة في شعوره وفي تعامله معهم.

وقد انتقلت هذه الرحمة إلى أصحابه، فتعلّموا منه أن يكونوا الرحماء: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار ـ فعندما كان الكفار يتحدونهم ويريدون إسقاطهم وإضعافهم، كان صحابة النبي(ص)، الذين يتقدّمهم عليّ(ع)، الأشدّاء على الأعداء الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم، وكانوا يتعلّمون الشجاعة من رسول الله(ص) حيث كان عليّ(ع) يقول: "كان إذا اشتد البأس لذنا برسول الله"، لأن تلك القوة كانت قوة ربانية روحيةً، من خلال ما أودعه الله من سكينة في قلبه، فكان الشديد في مواقع التحدي حمايةً للإسلام وحفاظاً على المسلمين، وأراد للمؤمنين أن يكونوا الأشدّاء في مواقع التحدي، لا شدة الحقد والعداوة، بل شدة الموقف، لأن هذه الأمة هي الأمة التي يجب أن تكون الشديدة في صلابة الموقف أمام الآخرين، لتستطيع أن تحفظ عزتها وكرامتها ـ رحماء بينهم} (الفتح:29)، أما في المجتمع الإسلامي، عندما يعيش المسلم مع المسلم، ويتعامل المسلمون فيما بينهم، فهم الرحماء الذين ينطلقون بالرحمة من الخط الإسلامي الأصيل: {وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة} (البلد:17)، وهذا ما تعلّموه من رسول الله(ص).

تحريم دم المسلم الآخر

وقد ذكرت كتب السيرة، أن اليهود الذين كانوا يعيشون مع المسلمين في المدينة، تعقّدوا من وحدة المسلمين، بعد أن كان أهلها من الأنصار من عشيرتي الأوس والخزرج يتقاتلون لعشرات السنين، وأراد اليهود أن يثيروا العصبيات فيما بين العشيرتين، بعد أن أسقط الإسلام كل حميّة تنطلق من الجاهلية، وجمعهم على الإسلام، فبدأ اليهود بإثارة كل الأوضاع التاريخية المعقدة بينهما، وانطلقت هذه العصبية من خلال بعض نقاط الضعف فيهما، حتى تعاظمت العصبية وتنادوا: "السلاح، السلاح"، وجاء الخبر إلى رسول الله(ص): "أدرك المسلمين"، لأن هناك خطر الانقسام والفتنة بينهم، فجاء النبي(ص) وخاطبهم بكل وداعة ورحمة ومحبة، وقال لهم وهو يؤنّبهم بكل محبة: "أكفراً بعد إيمان"؟! لقد آمنتم بالله ورسوله، وانطلقتم بوحدة إيمانية رسالية، وتحركتم مع النبي لتتبعوا النور الذي أُنزل معه، لتشرق عقولكم وقلوبكم وعلاقاتكم في إشراقة المحبة والرحمة والوحدة. وعندما رأوا هذا الموقف من النبي(ص) في كل خطابه النبوي الأبوي الرسالي، اعتذروا إليه، وأنزل الله تعالى هذه الآية: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبيّن الله لكم آياته لعلكم تهتدون} (آل عمران:103).

ووقف النبي(ص) في حجة الوداع في منى، وقال لهم: "أيّ بلد هذا؟"، قالوا: البلد الحرام، قال: "فأي يوم هو هذا؟"، قالوا: اليوم الحرام، فقال: "فأي شهر هو هذا؟"، قالوا: الشهر الحرام، فقال: "إن الله حرّم أموالكم ودماءكم وأعراضكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا"، "ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض". لقد أراد النبي(ص)أن يصنع أمة مسلمة يحترم فيها المسلم مال المسلم الآخر ودمه وعرضه وأمنه، ليكونوا قوة في وجه الذين يكيدون للإسلام وأهله، وهذا ما أراد الله للأمة كلها في جميع مراحلها التاريخية أن تلتزم به، حتى ورد أن المسلم هو من سلم الناس من يده ولسانه، وأن المؤمن من ائتمنه الناس على أموالهم وأعراضهم.

اللقاء على الوحدة الإسلامية

ونحن في ذكرى مولد النبي(ص)، الذي تنوّعت الروايات فيه بين الثاني عشر من ربيع الأول أو السابع عشر منه، حتى إن بعض العلماء الشيعة، وهو الشيخ الكليني يتبنّى رواية أن ولادته في الثاني عشر، ولو كان المشهور بين علماء الشيعة أن ولادته كانت في السابع عشر، ولكن على كل حال، فإننا في هذه الذكرى، لا بد من أن نعيش مع النبي(ص)، لنستهديه ونستحضره في كل حياتنا، ولو كان(ص) غائباً عنا بجسده فإنه حاضر بيننا برسالته وشريعته، وهو ما أكّده القرآن الكريم للمسلمين، عندما قيل بأن رسول الله(ص) قد قُتل، فقال تعالى: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم} (آل عمران:144)، يموت الرسول وتبقى الرسالة، فكما التزمتم الرسالة في حياة الرسول، عليكم أن تلتزموها من بعده.

إننا في هذه الذكرى، لا نريد احتفالات استعراضية أو مهرجانية، ولكننا نريد للمسلمين أن يحتفلوا بمولد الرسول، بأن يلتقوا على الوحدة الإسلامية، حتى يعيشوا حركة هذه الوحدة في مواجهة التحديات الكبرى التي يفرضها الاستكبار العالمي على العالم الإسلامي كله لمصادرة سياسته وأمنه واقتصاده، ولاسيما الاستكبار الأمريكي، ومعه الذين يعملون على إثارة الفتنة بين المسلمين، كما نلاحظه فيما يتحرك به التكفيريون في العراق، الذين يستحلون دماء المسلمين، وهكذا يدخل الوسواس الخنّاس الأمريكي في كل لقاء للمسلمين، ليوسوس من خلال بعض العملاء لإبقاء الفتنة بين المسلمين.

علينا في هذه الذكرى أن نتوحّد بالله الواحد، والرسول الواحد، والشريعة الواحدة، والقرآن الواحد، وأن نتوحّد بالمستقبل الواحد. إن رسول الله يقول لكم وهو في عليائه: "إن الإسلام هو أمانة الله في أعناقكم، وعليكم أن لا تخونوا الله والرسول"، إن كل من يثير الفتنة بين الشيعة أنفسهم، وبين السنّة أنفسهم، وبين السنّة والشيعة، هو خائن لله وخائن لرسول الله. إن علينا أن ننطلق في احتفالنا بالمولد بالنبي(ص) من خلال الوحدة، لنقول له: يا رسول الله، لقد وحّدتنا بالإسلام، ونريد منك أن تدعو الله وأنت في عليائك، أن يوفّقنا للسير في خط هذه الوحدة.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، وواجهوا الموقف على أساس السير في خط رسول الله(ص)، ليكون رسول الله القدوة لنا والأسوة. إنّ علينا أن ننفتح عليه(ص) في كل ما بلّغه من كتاب الله، وفي كل ما شرّعه وخطط له في سنّته، وعلينا أن نأخذ بأسباب العزة والكرامة الإسلامية، ليكون المسلمون قوة تصنع الحضارة، قوة لا تعيش على هامش المستكبرين في مواجهة القوى الأخرى، لأن الله أراد لهذه الأمة أن تكون خير أمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى نستطيع أن نحرّك الإسلام في العالم، ولا نحبسه في زنازين الخرافة والغلوّ والتخلّف، فهو النور الذي يضيء العقل والقلب والحياة، ونحن في هذه المناسبة نعيش التحديات الكبرى التي يواجهنا بها المستكبرون في كل أوضاعنا، فماذا هناك؟

عجز عربي ساحق أمام إسرائيل وأمريكا

في المشهد الأمريكي، تأتي زيارة وزيرة الخارجية الأمريكية لتطرح من جديد على العرب في المنطقة، المبادرة الرئاسية لبوش في التحرك لإيجاد وسائل واقعية للصراع العربي الإسرائيلي، وفي عنوانها الكبير الوضع الفلسطيني مع إسرائيل، لأن ذلك يمكن أن يحقق اختراقاً سياسياً أمريكياً يخفف من التأثيرات السلبية لحركة السياسة الأمريكية، باعتبارها حركة سعي نحو السلام في الشرق الأوسط، ولكنها لم تحقق أي نجاح لبرنامجها داخل الساحة العربية في ما يخصّ علاقتها بالساحة الإسرائيلية، فكان أول عمل قامت به هو استدعاء وزراء خارجية بعض الدول العربية لانعقاد ما يسمى "اللجنة الرباعية العربية"، لتكون هذه الدول الخاضعة للخط الأمريكي سياسياً وأمنياً، هي التي يعهد إليها الدخول في مفاوضات مع العدو وراء الكواليس المغلقة، والدخول في عملية إقناع للدول العربية الأخرى بتقديم التنازلات لمصلحة التسوية التي تحقق للدولة العبرية أكثر من مكسب في مشروع تقدم التطبيع على السلام، وفي تعديل المبادرة العربية السعودية التي أقرّتها القمة العربية في بيروت، على الرغم من التصريحات المتنوعة لأكثر من مسؤول عربي في القمة برفض التعديل، لأن الرفض في القمة لا يعني الرفض فيما بعدها، من خلال اللعبة الدولية التي ترى في المبادرة فرصةً للتفاوض لا فرصةً للتنفيذ، وخصوصاً بعد نقل المسألة إلى مجلس الأمن.

ولعلّ هذا ما لاحظناه في الموقف الإسرائيلي من طروحات الوزيرة الأمريكية، إذ عبّر عن عدم استعداده للسير في خط التسوية التي لا يرى لها أية ضرورة، لاطمئنانه بأن أمريكا ـ ومعها أوروبا واللجنة الرباعية الدولية ـ لن تضغط عليه لتقديم أي مكسب للعرب والفلسطينيين يتجاوز الاستراتيجية الصهيونية في رفض عودة اللاجئين، وفي تهويد القدس وإبقاء المستوطنات الكبرى والجدار الفاصل. ولذلك استبدلت رايس دعوتها للتفاوض مع السلطة الفلسطينية، باستشراف الأفق السياسي واقتراح اجتماعات إسرائيلية فلسطينية لا تحقق أي نتيجة كبيرة، مع التأكيد أن مكان إسرائيل في الشرق الأوسط مضمون حتى مع تعقيدات الاحتلال.

إنّ المشكلة التي عبّر عنها بعض قادة العرب، هي العجز العربي الساحق أمام إسرائيل المدعومة من أمريكا التي تضغط على مواقعهم السياسية وإمكاناتهم الاقتصادية وأوضاعهم الأمنية... الأمر الذي أدّى إلى مصادرة كل المواقف العربية، حتى في مؤتمرات القمة التي تحوّلت قراراتها إلى صيغ إنشائية لا يملك القائمون على إصدارها أية آلية حقيقية لتنفيذ بنودها، في الوقت الذي يستسلمون للتخدير السياسي والإعلامي الذي يحدثهم بكل سذاجة عن الدولة الفلسطينية في المستقبل المجهول، وعن الحلول السياسية الواقعية للمشاكل العالقة في المنطقة، ولكن من دون واقعية.

العقوبات على إيران ولعبة المصالح للدول الكبرى

وفي المشهد الأمريكي، يخضع مجلس الأمن للهيمنة الأمريكية ولبعض حلفاء الولايات المتحدة الذين يملكون حقّ النقض ـ الفيتو ـ في إصدار قرار العقوبات ضد إيران بإجماع الأعضاء، من خلال تبادل المصالح لكل دولة مع الدول الكبرى، ولاسيما أمريكا، تماماً كما هي اللعبة الأمريكية البريطانية في القيام باحتلال العراق بذريعة أسلحة الدمار الشامل التي انكشف كذبها للعالم كله، من دون أن يترك ذلك تأثيره ـ حتى في مجلس الأمن ـ على جريمة الاحتلال. وهكذا تنطلق التهمة لإيران في مشروعها النووي السلمي، بأنها تخطط لصنع السلاح النووي... ومن اللافت أن الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن، قد خضعت للضغط الأمريكي في هذا الموضوع، وهذا كله مع تواصل الحشد العسكري العدواني الأمريكي، في عملية استعراضٍ للقوة، لتهديد إيران بما يمكن أن تتطور إليه الأوضاع في المواجهة العسكرية، التي لا بد للمنطقة العربية من أن تحسب حساب الأخطار التي يمكن أن تنجم عنها.

إن ضعف الرئيس الأمريكي أمام إدارته الضاغطة بإثارة الحروب ضد العالم العربي والإسلامي، قد يدفعه إلى التحرك في لحظة جنون نفسي وسياسي وعسكري لتدمير المنطقة بالطريقة التي لا يزال يدمر فيها العراق وأفغانستان، ويربك فيها فلسطين ولبنان، وعلى الشعوب أن تواجه هذا الموقف بمسؤولية كبرى قبل أن تقع الكارثة، وأن تدرس التحالف الأمريكي الصهيوني الذي يخطط لتدمير العالم الإسلامي ـ بما فيه العالم العربي ـ لتنفيذ مخططاته الجهنمية لمصادرة الواقع الاقتصادي والسياسي والأمني.

لا مبالاة أمريكية بالمجازر في العراق

وليس بعيداً من ذلك، تتوالى المجازر في العراق في ظلّ الخطط العسكرية الأمريكية التي تعمل على تقليل عدد القتلى من الجنود الأمريكيين، وعدم الالتفات إلى ما يسقط من القتلى والجرحى من المدنيين العراقيين الذين يضاعف عددهم الحاقدون من التكفيريين، أو من الذين يريدون إسقاط الإنسان العراقي لحساب حقد مرتبط بالمسألة السياسية، التي يعملون على مصادرتها بهذه الطريقة الإجرامية باسم المقاومة التي هي براء منهم.

وقد أشارت بعض الدراسات الجامعية الأمريكية، إلى أنه مقابل مقتل كل 200 عراقي يقتل جندي أمريكي واحد، الأمر الذي يؤكد أن أمريكا لا تبالي بهذه المجازر المهولة، وهو ما يتطلب من العراقيين أن يستشعروا الخطورة في الاستمرار في هذا الوضع الدموي، وأن يركزوا خطواتهم السياسية في خط المصالحة الوطنية التي تخطط لإخراج المحتل وعدم الدخول في اللعبة المذهبية القاتلة.

لبنان يدفع ثمن إفشاله المشروع الصهيوني...

أما لبنان المقسم في الداخل، الذي أريد له أن يقدم صورة حيّة عن الانقسام في اجتماع القمة، فإنّه يدفع ثمن إفشاله المخطط الأمريكي الإسرائيلي في الحرب العدوانية الأخيرة على لبنان، والتي كان يراد لها أن تدخل المنطقة العربية والإسلامية كلها في عصر الخضوع الكلي لأمريكا وإسرائيل، ونحن نتساءل إزاء هذا الحرص العربي على الحلّ في لبنان: لماذا يعمل العرب في القمة لتقديم هذا المشهد اللبناني؟ هل هي التوازنات العربية التي افترضت إعادة رسم الأحجام بعد الصورة الحقيقية التي ظهرت مؤخراً في لبنان، أو إن المسألة تدخل في الحسابات الدولية، وفي الرفض الحاسم من قِبَل الأمريكيين وغيرهم أن ينعكس ذلك لحساب فريق معين في لبنان؟

دخول لبنان في الحسابات الدولية والإقليمية

لقد دخل لبنان في حسابات المنطقة في شكل واسع منذ أن قرّرت أمريكا استخدامه كورقة ضد سوريا وإيران، وها هو يدخل في هذه الحسابات في شكل حاسم، لأن الدور العربي سيظل هامشياً في لبنان، ليبقى للوصايات الدولية أثرها الكبير في بلد يتحدث الكثيرون في داخله وفي خارجه عن لعنة الحرية التي تحوّلت إلى فوضى سياسية ومذهبية وطائفية وثقافية قصمت ظهره.

وعلى اللبنانيين أن يعرفوا أن الحلّ ممنوع في لبنان من خلال المفردات الدولية والإقليمية، حتى إن بعض الذين يديرون الحوار، يتحركون ـ مسبقاً ـ لإظهار التعقيدات في خطوطه بالدرجة التي يؤكدون فيها أنهم ـ مع فريقهم ـ لن يقدموا التنازلات حتى لو كان ذلك لحساب الوطن، ليبقى لبنان محاصراً في الدوائر الضيقة التي يتحرك فيها الطائفيون والمذهبيون لحسابات متنوعة هنا وهناك... والمسألة هي أن الواقع السياسي يتحرك من أجل وضع العصي في دواليب الحلول، فكلما تحركت مسيرة الحل، رأيت الذين يحملون العصي لحساباتهم الخاصة يضعونها في داخل هذه الدواليب.

في ذكرى الصادق الأمين:
نبذ العصبيات والالتقاء على الوحدة الإسلامية


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:

المثال الأعلى في الصدق والأمانة

بلـغ العلى بكمالـه         كشف الدجى بجماله

حسنت جميع خصاله           صلّوا عليـه وآلـه

{لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم} (التوبة:128). هذا الرسول العظيم الذي ختم الله تعالى به الرسل، وختم برسالته الرسالات، التي تضمّنت كل العناصر الحضارية الإنسانية لكل الرسالات؛ هذه الرسالة التي أرسل الله بها رسله. وانطلق في دعوته، كما انطلق الرسل من قبله، برسالة التوحيد، ليكون الإنسان في كل المواقع في العالم موحِّداً لله، فلا إله إلا هو، ولا معبود سواه، ولا طاعة لغيره، وليس لأيّ بشر، مهما كانت عظمته، أن يأخذ في موقعه أيّ دور هو لله. وهكذا رأينا كيف أن الله تعالى في ما أوحى به إلى رسوله(ص)، أكد بشريّته، فقد وُلد الرسول كما يولد أيّ إنسان، ولم تكن ولادته بطريقة مختلفة، وقد مات أبوه وهو حمل في بطن أمه، وتوفيت أمّه قبل أن تستكمل رضاعته، ولهذا نشأ النبي(ص) يتيم الأب والأم في بيئة مستضعفة، وقد كفله بدايةً جدّه عبد المطلب، ثم آلت كفالته إلى عمّه أبي طالب.

ودرج النبي(ص) في رعاية الله تعالى الذي كان يلهمه في أخلاقه أن يكون المثل الأعلى للإنسان في الصدق والأمانة؛ كان صادق القول فلا يتكلم بغير الحق وبغير الواقع، وكان الأمين الذي يأتمنه الناس على كل أموالهم وودائعهم، حتى اشتهر أمره بين الناس في مكة واستبدلوا اسمه، فكانوا يقولون: "جاء الصادق الأمين"، و"تحدثنا مع الصادق الأمين"، لأن الله أراد أن يؤكد قيمة الصدق في شخصية الرسول(ص) قبل أن يبعثه بالرسالة، حتى إذا بعثه بها، لم يكن لأحد أن يتهمه بالكذب، لأن حياته في مدى الأربعين سنة كانت حياة الصدق مع كل الناس، كما أراد الله أن يركّز في عناصر شخصيته الأمانة، ليعرف الناس أنه الأمين على كل حياتهم، لأنه كان الأمين على أموالهم، فالأمانة لا تتجزأ في الإنسان، فالأمين على المال هو الإنسان الذي يتحمّل مسؤولية الناس فيما يملكون.

النبي المعجزة والمتواضع

وقد كان الرسول(ص) أميّاً، وجاء في القرآن عنه: {ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان} (الشورى:52)، {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطّه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون} (العنكبوت:48)، فلو كان يجيد القراءة والكتابة، لقال المشركون عنه إنه تعلّم الرسالة مما كان يقرأه من الكتاب. ولم تكن أمّيته نقصاً فيه، بل كانت تمثل المعجزة، لأنه بالرغم من أنه لم يقرأ كتاباً ولم يكتب، فإنه أتى بما أعجز الذين يقرأون ويكتبون؛ أتى بالقرآن الذي تحدى الجن والإنس بأن يأتوا بسورة من مثله، ولم يستطيعوا أن يقفوا أمام هذا التحدي، ما أثبت أن الذي جاء به ليس من ثقافة خاصة تعلّمها، بل من وحي إلهي أُنزل عليه.

ورأينا كيف أن النبي(ص) عاش مع الله قبل أن يرسله الله رسولاً، فكان يعتزل قومه في غار حراء، ويتعبّد الله ويبتهل إليه، ولقد وكّل الله به عظيماً من الملائكة ـ كما حدّث عنه أمير المؤمنين(ع) ـ يلقي إليه في كل يوم علماً مما أراد الله له أن يتعلّمه، ومما أراد له أن يبلّغه للناس. وبلغ النبي(ص) القمة في كل عناصر الإنسانية، كان قلبه ينبض بمحبة المستضعفين، وكان يجلس إليهم ويرأف بهم ويرحمهم، ولا يستطيل عليهم، بل يتواضع لهم، كان الإنسان الذي أعلى الله درجته، حتى إنّه لم يبلغها أي بشر، ومع ذلك، كان القائل من أصحابه يقول: "كان فينا كأحدنا"، بحيث إنه كان لا يميّز نفسه عن أيّ إنسان آخر، بل كان يجلس بين أصحابه، حتى إذا جاءه شخص يريد الحديث معه، لا يعرف من هو النبي فكان يسأل: "أيكم محمد"؟ ولذلك اتفق أصحابه أن يخصصوا له حجراً يجلس عليه حتى يعرفه الزائر. وكان(ص) يتواضع للمرأة والطفل، حتى إنه رأته امرأة فارتعدت من هيبته، فقال(ص): "لا عليك، إنما أنا ابن امرأة مثلك كانت تأكل القديد".

الإنساني الحريص والرؤوف الرحيم

وقد أودع الله في شخصيته كل القيم الإنسانية، كان قلبه يتسع للأمة كلها، وكان يتألم لما يتألمون له، ولذلك قدّمه الله لنا بقوله: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم ـ هذا الرسول لم يأتِ من الملائكة، لأنه لو كان كذلك، لقال الناس فيما يتحرك به: إننا لا نستطيع أن نبلغ مستوى الملائكة، بل كان بشراً إنسانياً، ولكنه لم يعش في ذاته الدائرة الضيقة، كما يعيش بعض القادة الدائرة العائلية أو الحزبية، كان يتسع للناس كلهم، ولذلك كان يتفاعل مع الإنسانية كلها ـ عزيز عليه ما عنتّم ـ العنت هو المشقة، يعزّ عليه ويثقل نفسه كل ما تواجهونه من مشاق، سواء مشقة الفقر أو المرض أو الأمن وما إلى ذلك من المشاكل التي تصيب الناس ـ حريص عليكم ـ يراقب المجتمع كله في كل ما يصيبه من نقاط الضعف، فيعمل على تقوية هذه النقاط ليحوّلها إلى نقاط قوة، لأنه كان يريد أن يرتفع بالناس إلى المستوى الذي ينفتحون فيه على التقدّم الروحي والثقافي والأمني والسياسي، فهو حريص عليهم أن لا يضيعوا ويدخلوا في المتاهات، بل كان يحرص على أن يكونوا في مستوى الأمة ـ بالمؤمنين رؤوف رحيم} (التوبة:128)، كانت الرأفة في قلبه والرحمة في شعوره وفي تعامله معهم.

وقد انتقلت هذه الرحمة إلى أصحابه، فتعلّموا منه أن يكونوا الرحماء: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار ـ فعندما كان الكفار يتحدونهم ويريدون إسقاطهم وإضعافهم، كان صحابة النبي(ص)، الذين يتقدّمهم عليّ(ع)، الأشدّاء على الأعداء الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم، وكانوا يتعلّمون الشجاعة من رسول الله(ص) حيث كان عليّ(ع) يقول: "كان إذا اشتد البأس لذنا برسول الله"، لأن تلك القوة كانت قوة ربانية روحيةً، من خلال ما أودعه الله من سكينة في قلبه، فكان الشديد في مواقع التحدي حمايةً للإسلام وحفاظاً على المسلمين، وأراد للمؤمنين أن يكونوا الأشدّاء في مواقع التحدي، لا شدة الحقد والعداوة، بل شدة الموقف، لأن هذه الأمة هي الأمة التي يجب أن تكون الشديدة في صلابة الموقف أمام الآخرين، لتستطيع أن تحفظ عزتها وكرامتها ـ رحماء بينهم} (الفتح:29)، أما في المجتمع الإسلامي، عندما يعيش المسلم مع المسلم، ويتعامل المسلمون فيما بينهم، فهم الرحماء الذين ينطلقون بالرحمة من الخط الإسلامي الأصيل: {وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة} (البلد:17)، وهذا ما تعلّموه من رسول الله(ص).

تحريم دم المسلم الآخر

وقد ذكرت كتب السيرة، أن اليهود الذين كانوا يعيشون مع المسلمين في المدينة، تعقّدوا من وحدة المسلمين، بعد أن كان أهلها من الأنصار من عشيرتي الأوس والخزرج يتقاتلون لعشرات السنين، وأراد اليهود أن يثيروا العصبيات فيما بين العشيرتين، بعد أن أسقط الإسلام كل حميّة تنطلق من الجاهلية، وجمعهم على الإسلام، فبدأ اليهود بإثارة كل الأوضاع التاريخية المعقدة بينهما، وانطلقت هذه العصبية من خلال بعض نقاط الضعف فيهما، حتى تعاظمت العصبية وتنادوا: "السلاح، السلاح"، وجاء الخبر إلى رسول الله(ص): "أدرك المسلمين"، لأن هناك خطر الانقسام والفتنة بينهم، فجاء النبي(ص) وخاطبهم بكل وداعة ورحمة ومحبة، وقال لهم وهو يؤنّبهم بكل محبة: "أكفراً بعد إيمان"؟! لقد آمنتم بالله ورسوله، وانطلقتم بوحدة إيمانية رسالية، وتحركتم مع النبي لتتبعوا النور الذي أُنزل معه، لتشرق عقولكم وقلوبكم وعلاقاتكم في إشراقة المحبة والرحمة والوحدة. وعندما رأوا هذا الموقف من النبي(ص) في كل خطابه النبوي الأبوي الرسالي، اعتذروا إليه، وأنزل الله تعالى هذه الآية: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبيّن الله لكم آياته لعلكم تهتدون} (آل عمران:103).

ووقف النبي(ص) في حجة الوداع في منى، وقال لهم: "أيّ بلد هذا؟"، قالوا: البلد الحرام، قال: "فأي يوم هو هذا؟"، قالوا: اليوم الحرام، فقال: "فأي شهر هو هذا؟"، قالوا: الشهر الحرام، فقال: "إن الله حرّم أموالكم ودماءكم وأعراضكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا"، "ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض". لقد أراد النبي(ص)أن يصنع أمة مسلمة يحترم فيها المسلم مال المسلم الآخر ودمه وعرضه وأمنه، ليكونوا قوة في وجه الذين يكيدون للإسلام وأهله، وهذا ما أراد الله للأمة كلها في جميع مراحلها التاريخية أن تلتزم به، حتى ورد أن المسلم هو من سلم الناس من يده ولسانه، وأن المؤمن من ائتمنه الناس على أموالهم وأعراضهم.

اللقاء على الوحدة الإسلامية

ونحن في ذكرى مولد النبي(ص)، الذي تنوّعت الروايات فيه بين الثاني عشر من ربيع الأول أو السابع عشر منه، حتى إن بعض العلماء الشيعة، وهو الشيخ الكليني يتبنّى رواية أن ولادته في الثاني عشر، ولو كان المشهور بين علماء الشيعة أن ولادته كانت في السابع عشر، ولكن على كل حال، فإننا في هذه الذكرى، لا بد من أن نعيش مع النبي(ص)، لنستهديه ونستحضره في كل حياتنا، ولو كان(ص) غائباً عنا بجسده فإنه حاضر بيننا برسالته وشريعته، وهو ما أكّده القرآن الكريم للمسلمين، عندما قيل بأن رسول الله(ص) قد قُتل، فقال تعالى: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم} (آل عمران:144)، يموت الرسول وتبقى الرسالة، فكما التزمتم الرسالة في حياة الرسول، عليكم أن تلتزموها من بعده.

إننا في هذه الذكرى، لا نريد احتفالات استعراضية أو مهرجانية، ولكننا نريد للمسلمين أن يحتفلوا بمولد الرسول، بأن يلتقوا على الوحدة الإسلامية، حتى يعيشوا حركة هذه الوحدة في مواجهة التحديات الكبرى التي يفرضها الاستكبار العالمي على العالم الإسلامي كله لمصادرة سياسته وأمنه واقتصاده، ولاسيما الاستكبار الأمريكي، ومعه الذين يعملون على إثارة الفتنة بين المسلمين، كما نلاحظه فيما يتحرك به التكفيريون في العراق، الذين يستحلون دماء المسلمين، وهكذا يدخل الوسواس الخنّاس الأمريكي في كل لقاء للمسلمين، ليوسوس من خلال بعض العملاء لإبقاء الفتنة بين المسلمين.

علينا في هذه الذكرى أن نتوحّد بالله الواحد، والرسول الواحد، والشريعة الواحدة، والقرآن الواحد، وأن نتوحّد بالمستقبل الواحد. إن رسول الله يقول لكم وهو في عليائه: "إن الإسلام هو أمانة الله في أعناقكم، وعليكم أن لا تخونوا الله والرسول"، إن كل من يثير الفتنة بين الشيعة أنفسهم، وبين السنّة أنفسهم، وبين السنّة والشيعة، هو خائن لله وخائن لرسول الله. إن علينا أن ننطلق في احتفالنا بالمولد بالنبي(ص) من خلال الوحدة، لنقول له: يا رسول الله، لقد وحّدتنا بالإسلام، ونريد منك أن تدعو الله وأنت في عليائك، أن يوفّقنا للسير في خط هذه الوحدة.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، وواجهوا الموقف على أساس السير في خط رسول الله(ص)، ليكون رسول الله القدوة لنا والأسوة. إنّ علينا أن ننفتح عليه(ص) في كل ما بلّغه من كتاب الله، وفي كل ما شرّعه وخطط له في سنّته، وعلينا أن نأخذ بأسباب العزة والكرامة الإسلامية، ليكون المسلمون قوة تصنع الحضارة، قوة لا تعيش على هامش المستكبرين في مواجهة القوى الأخرى، لأن الله أراد لهذه الأمة أن تكون خير أمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى نستطيع أن نحرّك الإسلام في العالم، ولا نحبسه في زنازين الخرافة والغلوّ والتخلّف، فهو النور الذي يضيء العقل والقلب والحياة، ونحن في هذه المناسبة نعيش التحديات الكبرى التي يواجهنا بها المستكبرون في كل أوضاعنا، فماذا هناك؟

عجز عربي ساحق أمام إسرائيل وأمريكا

في المشهد الأمريكي، تأتي زيارة وزيرة الخارجية الأمريكية لتطرح من جديد على العرب في المنطقة، المبادرة الرئاسية لبوش في التحرك لإيجاد وسائل واقعية للصراع العربي الإسرائيلي، وفي عنوانها الكبير الوضع الفلسطيني مع إسرائيل، لأن ذلك يمكن أن يحقق اختراقاً سياسياً أمريكياً يخفف من التأثيرات السلبية لحركة السياسة الأمريكية، باعتبارها حركة سعي نحو السلام في الشرق الأوسط، ولكنها لم تحقق أي نجاح لبرنامجها داخل الساحة العربية في ما يخصّ علاقتها بالساحة الإسرائيلية، فكان أول عمل قامت به هو استدعاء وزراء خارجية بعض الدول العربية لانعقاد ما يسمى "اللجنة الرباعية العربية"، لتكون هذه الدول الخاضعة للخط الأمريكي سياسياً وأمنياً، هي التي يعهد إليها الدخول في مفاوضات مع العدو وراء الكواليس المغلقة، والدخول في عملية إقناع للدول العربية الأخرى بتقديم التنازلات لمصلحة التسوية التي تحقق للدولة العبرية أكثر من مكسب في مشروع تقدم التطبيع على السلام، وفي تعديل المبادرة العربية السعودية التي أقرّتها القمة العربية في بيروت، على الرغم من التصريحات المتنوعة لأكثر من مسؤول عربي في القمة برفض التعديل، لأن الرفض في القمة لا يعني الرفض فيما بعدها، من خلال اللعبة الدولية التي ترى في المبادرة فرصةً للتفاوض لا فرصةً للتنفيذ، وخصوصاً بعد نقل المسألة إلى مجلس الأمن.

ولعلّ هذا ما لاحظناه في الموقف الإسرائيلي من طروحات الوزيرة الأمريكية، إذ عبّر عن عدم استعداده للسير في خط التسوية التي لا يرى لها أية ضرورة، لاطمئنانه بأن أمريكا ـ ومعها أوروبا واللجنة الرباعية الدولية ـ لن تضغط عليه لتقديم أي مكسب للعرب والفلسطينيين يتجاوز الاستراتيجية الصهيونية في رفض عودة اللاجئين، وفي تهويد القدس وإبقاء المستوطنات الكبرى والجدار الفاصل. ولذلك استبدلت رايس دعوتها للتفاوض مع السلطة الفلسطينية، باستشراف الأفق السياسي واقتراح اجتماعات إسرائيلية فلسطينية لا تحقق أي نتيجة كبيرة، مع التأكيد أن مكان إسرائيل في الشرق الأوسط مضمون حتى مع تعقيدات الاحتلال.

إنّ المشكلة التي عبّر عنها بعض قادة العرب، هي العجز العربي الساحق أمام إسرائيل المدعومة من أمريكا التي تضغط على مواقعهم السياسية وإمكاناتهم الاقتصادية وأوضاعهم الأمنية... الأمر الذي أدّى إلى مصادرة كل المواقف العربية، حتى في مؤتمرات القمة التي تحوّلت قراراتها إلى صيغ إنشائية لا يملك القائمون على إصدارها أية آلية حقيقية لتنفيذ بنودها، في الوقت الذي يستسلمون للتخدير السياسي والإعلامي الذي يحدثهم بكل سذاجة عن الدولة الفلسطينية في المستقبل المجهول، وعن الحلول السياسية الواقعية للمشاكل العالقة في المنطقة، ولكن من دون واقعية.

العقوبات على إيران ولعبة المصالح للدول الكبرى

وفي المشهد الأمريكي، يخضع مجلس الأمن للهيمنة الأمريكية ولبعض حلفاء الولايات المتحدة الذين يملكون حقّ النقض ـ الفيتو ـ في إصدار قرار العقوبات ضد إيران بإجماع الأعضاء، من خلال تبادل المصالح لكل دولة مع الدول الكبرى، ولاسيما أمريكا، تماماً كما هي اللعبة الأمريكية البريطانية في القيام باحتلال العراق بذريعة أسلحة الدمار الشامل التي انكشف كذبها للعالم كله، من دون أن يترك ذلك تأثيره ـ حتى في مجلس الأمن ـ على جريمة الاحتلال. وهكذا تنطلق التهمة لإيران في مشروعها النووي السلمي، بأنها تخطط لصنع السلاح النووي... ومن اللافت أن الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن، قد خضعت للضغط الأمريكي في هذا الموضوع، وهذا كله مع تواصل الحشد العسكري العدواني الأمريكي، في عملية استعراضٍ للقوة، لتهديد إيران بما يمكن أن تتطور إليه الأوضاع في المواجهة العسكرية، التي لا بد للمنطقة العربية من أن تحسب حساب الأخطار التي يمكن أن تنجم عنها.

إن ضعف الرئيس الأمريكي أمام إدارته الضاغطة بإثارة الحروب ضد العالم العربي والإسلامي، قد يدفعه إلى التحرك في لحظة جنون نفسي وسياسي وعسكري لتدمير المنطقة بالطريقة التي لا يزال يدمر فيها العراق وأفغانستان، ويربك فيها فلسطين ولبنان، وعلى الشعوب أن تواجه هذا الموقف بمسؤولية كبرى قبل أن تقع الكارثة، وأن تدرس التحالف الأمريكي الصهيوني الذي يخطط لتدمير العالم الإسلامي ـ بما فيه العالم العربي ـ لتنفيذ مخططاته الجهنمية لمصادرة الواقع الاقتصادي والسياسي والأمني.

لا مبالاة أمريكية بالمجازر في العراق

وليس بعيداً من ذلك، تتوالى المجازر في العراق في ظلّ الخطط العسكرية الأمريكية التي تعمل على تقليل عدد القتلى من الجنود الأمريكيين، وعدم الالتفات إلى ما يسقط من القتلى والجرحى من المدنيين العراقيين الذين يضاعف عددهم الحاقدون من التكفيريين، أو من الذين يريدون إسقاط الإنسان العراقي لحساب حقد مرتبط بالمسألة السياسية، التي يعملون على مصادرتها بهذه الطريقة الإجرامية باسم المقاومة التي هي براء منهم.

وقد أشارت بعض الدراسات الجامعية الأمريكية، إلى أنه مقابل مقتل كل 200 عراقي يقتل جندي أمريكي واحد، الأمر الذي يؤكد أن أمريكا لا تبالي بهذه المجازر المهولة، وهو ما يتطلب من العراقيين أن يستشعروا الخطورة في الاستمرار في هذا الوضع الدموي، وأن يركزوا خطواتهم السياسية في خط المصالحة الوطنية التي تخطط لإخراج المحتل وعدم الدخول في اللعبة المذهبية القاتلة.

لبنان يدفع ثمن إفشاله المشروع الصهيوني...

أما لبنان المقسم في الداخل، الذي أريد له أن يقدم صورة حيّة عن الانقسام في اجتماع القمة، فإنّه يدفع ثمن إفشاله المخطط الأمريكي الإسرائيلي في الحرب العدوانية الأخيرة على لبنان، والتي كان يراد لها أن تدخل المنطقة العربية والإسلامية كلها في عصر الخضوع الكلي لأمريكا وإسرائيل، ونحن نتساءل إزاء هذا الحرص العربي على الحلّ في لبنان: لماذا يعمل العرب في القمة لتقديم هذا المشهد اللبناني؟ هل هي التوازنات العربية التي افترضت إعادة رسم الأحجام بعد الصورة الحقيقية التي ظهرت مؤخراً في لبنان، أو إن المسألة تدخل في الحسابات الدولية، وفي الرفض الحاسم من قِبَل الأمريكيين وغيرهم أن ينعكس ذلك لحساب فريق معين في لبنان؟

دخول لبنان في الحسابات الدولية والإقليمية

لقد دخل لبنان في حسابات المنطقة في شكل واسع منذ أن قرّرت أمريكا استخدامه كورقة ضد سوريا وإيران، وها هو يدخل في هذه الحسابات في شكل حاسم، لأن الدور العربي سيظل هامشياً في لبنان، ليبقى للوصايات الدولية أثرها الكبير في بلد يتحدث الكثيرون في داخله وفي خارجه عن لعنة الحرية التي تحوّلت إلى فوضى سياسية ومذهبية وطائفية وثقافية قصمت ظهره.

وعلى اللبنانيين أن يعرفوا أن الحلّ ممنوع في لبنان من خلال المفردات الدولية والإقليمية، حتى إن بعض الذين يديرون الحوار، يتحركون ـ مسبقاً ـ لإظهار التعقيدات في خطوطه بالدرجة التي يؤكدون فيها أنهم ـ مع فريقهم ـ لن يقدموا التنازلات حتى لو كان ذلك لحساب الوطن، ليبقى لبنان محاصراً في الدوائر الضيقة التي يتحرك فيها الطائفيون والمذهبيون لحسابات متنوعة هنا وهناك... والمسألة هي أن الواقع السياسي يتحرك من أجل وضع العصي في دواليب الحلول، فكلما تحركت مسيرة الحل، رأيت الذين يحملون العصي لحساباتهم الخاصة يضعونها في داخل هذه الدواليب.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية