هدف الرسالات: توحيد وعدل
أراد الله للرسل أن ينطلقوا في تبليغهم الرسالات للناس من دائرتين؛ الدائرة الأولى: التوحيد، توحيد الله في الألوهية، فلا إله غيره، وفي العبادة فلا معبود سواه، وفي الطاعة فلا طاعة لغيره إلا من خلال كونها طاعة له. والدائرة الثانية هي دائرة العدل، أن يقوم الناس بالقسط، وأن يعطوا كل ذي حقٍ حقه. وعلى ضوء هذا، تلتقي مسألة التوحيد بمسألة العدل؛ فعلى الإنسان أن يكون عادلاً مع ربه، فمن حقّ الله على الإنسان أن يوحِّده. فالإنسان الذي يشرك بالله هو ظالم لله؛ لا ظلم الغلبة، ولكن ظلم الحق، ولهذا ورد في وصية لقمان التي تحدث بها القرآن الكريم: {لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم} (لقمان:13)، لأنه ليس هناك ظلم أعظم من أن تظلم الله تعالى حقه، وهو وليّ نعمتك ومنتهى رغبتك، وهو الذي خلقك وسوّاك فعدلك، في أي صورة ما شاء ركّبك، وهو الذي يملك كل وجودك وكل مصيرك.
العدل مع الله ومع النفس
ولذلك يجب على الإنسان المؤمن أن يعدل مع الله، فيوحّده في الألوهية والعبادة والطاعة، وأن يعدل مع نفسه في كل علاقاته بها، وذلك بأن لا يدفعها إلى ما فيه هلاكها ومفسدتها، فإن الذي يورط نفسه في طريق المهالك والمضار وغضب الله، هو إنسان يظلم نفسه. وقد حدثنا الله تعالى عن كل هؤلاء من الكافرين والمشركين والظالمين والعاصين له سبحانه، فقال: {وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} (النحل:118)، لأن الإنسان الذي يحبّ نفسه ويعدل معها، عليه أن يتعامل مع وجوده وكيانه بحيث يحقق لنفسه النجاة في الدنيا والآخرة، وذلك بأن يوازن بين مسؤوليته في إصلاح نفسه، وبين غريزته ونفسه الأمّارة بالسوء، ليقدّم جانب العقل على جانب العاطفة، ويقدّم جانب المسؤولية على جانب الغريزة.
تجنّب الظلم
وعلى الإنسان أن لا يظلم الناس من حوله، من الأقربين والأبعدين، فلا يظلم أبويه: {فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً} (الإسراء:23)، وأن لا يظلم زوجته فيما لها عليه من حق، مستغلاً حاجتها إليه وضعفها أمامه، ولا أن تظلم الزوجة زوجها في حقوقه التي فرضها الله عليها، وأن لا يظلم الأبوان أولادهما في مسألة الرعاية والحماية والتربية والتوعية والتوجيه لما يصلح أمورهم في الدنيا والآخرة، لأن الولد ليس ملكاً لك لتتعاطى معه كما لو كان متاعاً تضعه في بيتك، لأن بعض الناس يتصور أن ابنه هو ملكه. صحيح أنه ابنك، ولكن الله لم يسلّطك عليه لتظلمه وتضطهده، وعلى الناس أن يخلّصوه من يدك إذا كنت ظالماً له، فابنك هو إنسان مستقل كما أنت إنسان مستقل.
ولا بد أيضاً من أن لا يظلم الإنسان عمّاله وموظّفيه، والناس الذين يتعاملون معه، وأن لا يظلم مجتمعه، فيتحوّل في تجارته إلى ما يضرّ المجتمع ويفسده، كالناس الذين يفتحون نوادي القمار ويبيعون الخمر والمخدرات وما حرّم الله من لحم الميتة، وهذا أمر أصبح شائعاً، ويتعامل به كثير من القصّابين، لأن اللحم المجلّد أرخص من اللحم الطازج، فيغشّون الناس حتى يربحوا أكثر. ونحن قلنا على مستوى الفتوى لا النصيحة: يحرم التعامل مع كل بائع للحم المجلّد، وهكذا بالنسبة إلى المطاعم التي تقدّم اللحم المجلّد، لأنهم يظلمون الناس عندما يطعمونهم الميتة التي حرّمها الله.
وهكذا، أن لا نفتح النوادي التي تشجّع على الخلاعة والمجون، ولاسيما في أيام الصيف بحجة تشجيع السياحة، لأنّهم بذلك يحطّمون الأخلاق، وعلى الإنسان أن لا يظلم الناس حقوقهم في أخلاقياتهم. كذلك على الإنسان أن لا يظلم الآخرين في أموالهم فيأكلها بالباطل، ولاسيما إذا كان المال مال الضعيف واليتيم أو لا يملك صاحبه وثيقة تثبته... بعض الناس يعتقد أنه بذلك يربح مالاً ويضخّم ثروته بالغش وأكل أموال الناس بالباطل، ولكن الله يعرف كيف يبتليك، فيذهب هذا المال لتجد نفسك مفلساً.
ولذلك، على الإنسان أن لا يظلم الآخر، سواء كان فرداً أو مجتمعاً،وأن لا يظلم أمّته بأن يكون جاسوساً للأعداء، كبعض من يتجسسون لإسرائيل أو لأمريكا، هؤلاء يظلمون الناس لأنهم يسلّطون أعداء الأمة على ضعفائها، وقد ورد في الحديث: "يُحشر العبد يوم القيامة وما ندي دماً، فيدفع إليه شبه المحجمة أو فوق ذلك، فيقال له: هذا سهمك من دم فلان، فيقول: يا رب، إنّك لتعلم أنّك قبضتني وما سفكت دماً، فيقول: بلى، سمعت من فلان رواية كذا وكذا، فرويتها عليه، فنقلت حتّى صارت إلى فلان الجبّار، فقتله عليها، وهذا سهمك من دمه". وهذا الحديث موجّه إلى كلّ من يتجسس على الأبرياء ويقدّم ما يملك من معلومات للطغاة.
أحاديث تنهى عن الظلم
هذه أنواع من الظلم، وهنا نستعرض بعض الأحاديث التي وردت في هذا المجال، فقد ورد عن عليّ(ع): "الظلم ثلاثة، فظلم لا يغفر، وظلم لا يترك، وظلم مغفور لا يُطلب. فأما الظلم الذي لا يُغفر فالشرك بالله، وأما الظلم الذي يغفر فظلم العبد نفسه عند بعض الهنات ـ الصغائر ـ وأما الظلم الذي لا يُترك فظلم العباد بعضهم بعضاً ـ تأكل مال إنسان بغير حق أو تمارس بعض الأعمال العنيفة ضد الناس بغير حق ـ القصاص هناك شديد، ليس هو جرحاً بالمدى ـ لا يشبه جرح السكين ـ ولا ضرباً بالسياط، ولكنه ما يُستصغر ذلك معه".وقد ورد في الحديث عن رسول الله(ص): "من خاف القصاص كفّ عن ظلم الناس"، خصوصاً ظلم الناس الضعفاء. وقد ورد عن الإمام الباقر(ع): "لما حضرت عليّ بن الحسين الوفاة، ضمّني إلى صدره، ثم قال: يا بني، أوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة، وبما ذكر أن أباه أوصاه به قال: يا بني، إياك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلا الله". ويقول الإمام الصادق(ع): "ما من مظلمة أشد من مظلمة لا يجد صاحبها عليها عوناً إلا الله عزّ وجلّ"، سواء كان المظلوم زوجتك أو ابنك أو جارك الضعيف أو الموظف عندك.
وعن الإمام الصادق(ع): "قال رسول الله: اتّقوا الظلم فإنه ظلمات يوم القيامة"، ولا فرق بين أن تظلم مسلماً أو تظلم كافراً، لأن بعض الناس يستحلون أموال غير المسلمين، وقد ورد عن الإمام الصادق(ع): "أوحى الله إلى نبي في مملكة جبّار من الجبارين أن ائتِ هذا الجبار وقل له: إني إنما استعملتك ـ أبقيتك في ملكك ـ لتكفّ عني أصوات المظلومين، فإني لن أدع ظلامتهم وإن كانوا كفّاراً"، لأن الظلم لا دين له والعدل لا دين له.
في مقابل ذلك، في الجانب الإيجابي ورد: "من أصبح ولا يهمّ بظلم أحد، غفر الله له ما اجترم في ذلك اليوم"، هذه النيّة الخالصة تؤدي إلى غفران الله لما يرد عليك من ذنوب، ما لم تسفك دماً حراماً أو تأكل مال يتيم. وعن الإمام الصادق(ع): "من أكل مال أخيه ظلماً ولم يردّه إليه، أكل جذوة من النار يوم القيامة". وهناك بعض الناس لا يظلم، لكنه عندما يسمع أن ظالماً ظلم شخصاً يساعده أو يرضى به، وقد ورد: "العامل بالظلم والمعين له والراضي به شركاء ثلاثتهم". وورد عن الإمام الصادق(ع): "من عذر ظالماً بظلمه سلّط الله عليه من يظلمه، فإن دعا لم يُستجب له، ولم يأجره على ظلامته".قد يظلم بعض الناس بكلام أو تهمة، ثم يتوب ويحاول أن يتسامح ممن ظلمه ولا يوفّق لذلك، يقول النبي(ص) في ذلك: "من ظلم أحداً ففاته، فليستغفر الله له فإنه كفارة له". وعن أبي بصير قال: دخل رجلان على أبي عبد الله(ع) في خصومة، فلما سمع كلامهما قال: "أما إنه ما ظفر أحد بخير من ظفر بالظلم، أما إن المظلوم يأخذ من دين الظالم أكثر مما يأخذ الظالم من مال المظلوم. من يفعل الشر بالناس، فلا ينكر الشر إذا فُعل به، أما إنه إنما يحصد ابن آدم ما يزرع، وليس يحصد أحد من المر حلواً ومن الحلو مراً"، فلما سمعا ذلك اصطلحا قبل أن يقوما.
إن الله أراد منا أن ننكر الظلم كله، وقد أوصى عليّ(ع) ولديه الحسنين(ع) والأمة كلها: "كونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً". ليكن مجتمعنا مجتمع العدل الذي يقرّبنا إلى الله، لنحصل من خلاله على رضاه ولا شيء إلا رضاه، {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} (المطففين:26).
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله... اتقوا الله، وكونوا للمظلوم عوناً وللظالم خصماً، {وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى} (الأنعام:152)، {ولا يجرمنَّكم شنآن قوم على ألاّ تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} (المائدة:8). حاولوا أن تجعلوا كل مجتمعاتكم مجتمعات العدل التي يأخذ فيها كل صاحب حقٍّ حقه، لأن ذلك هو الذي يعطي المجتمع العزة والقوة والكرامة، فماذا هناك؟
وحشية إسرائيلية وصمت دولي وعربي
في المشهد الفلسطيني، يتحرك الجيش الصهيوني لاجتياح مدينة نابلس بحجّة القيام باعتقال بعض المطلوبين، ولكنه يقوم باعتقالات عشوائية لعشرات الشباب، ويهاجم منازل المدنيين وينهب منازل البلدة ويحاصرها، ويمنع المستشفيات من القيام بوظائفها الصحية في معالجة المرضى، انطلاقاً من الحقد الوحشي الذي يختزنه الصهاينة ضد كل عربي وفلسطيني ومسلم، لأن الوجود الإنساني لهذا الشعب في هذا البلد، يمثّل التحدي للوجود الإسرائيلي، باعتباره الشاهد الحيّ على اللاشرعية القانونية المتمثّلة في احتلال فلسطين كلها، ولذلك يتحرك المسؤولون في هذا الكيان اللاشرعي للتمدّد في الأرض الفلسطينية، ومصادرتها لحساب المستوطنات والجدار العنصري الفاصل، والسيطرة على مصادر المياه، والضغط على مواقع الطاقة، بهدف محاصرة الشعب الفلسطيني اقتصادياً، في الوقت الذي يقوم بتسليط جنوده الذين يشبهون الوحوش المفترسة على الأهالي الذين يطلقون احتجاجاتهم الوطنية والإنسانية ضد اجتياح أراضيهم ومزارعهم لمصلحة مشاريع إسرائيل الاستيطانية.
ولم نسمع أي صوت احتجاجي من المجتمع الدولي، بما في ذلك المجتمع العربي الرسمي أو الإسلامي، لأن الولايات المتحدة الأمريكية تشرّع للدولة العبرية كل ممارساتها الاحتلالية، وكل اجتياحاتها العسكرية، في تحالف وثيق بين الدولتين امتدت ضغوطه إلى اللجنة الرباعية الدولية التي تحدثت عن خارطة الطريق التي تفرض الشروط على الشعب الفلسطيني وعلى حكومته الوطنية، لا على إسرائيل، الأمر الذي حوّل هذه اللجنة الدولية إلى هامش ضاغط من هوامش السياسة الأمريكية.
أمريكا توظف حركة بعض الدول لمصلحة إسرائيل
وفي هذا السياق، لا بد من أن نتوقّف عند اللقاء الذي جمع سبع دول مسلمة اعترف بعضها بإسرائيل ديبلوماسياً، وخضع لها في عملية مصالحة لم تحقق لهم ولا للعرب أي مكسب سياسي أو اقتصادي، والتزم بعضها بالاعتراف الواقعي في نطاق مكاتب تجارية، وانفتح البعض الآخر عليها في عناق استراتيجي سياسي من خلال خط الاعتدال الأمريكي الذي فرضته أمريكا على أكثر من دولة في المنطقة العربية الإسلامية. وقد أصدرت هذه الدول المجتمعة في باكستان بيانات باهتة مائعة عن أزمة الشرق الأوسط، وأشارت بأسلوب تمويهي إلى الخطر النووي الإيراني، وإلى بعض العناوين الاستهلاكية...
وانطلقت التحليلات الإعلامية السياسية لتتحدث عمّا يجمع هذه الدول، لتكون جبهة سنية في مواجهة إيران وحلفائها ممّا يشار إليه بأنّه يمثّل "الخطر الشيعي"، أو لتخطّط هذه الجبهة للسير مع خطوط السياسة الأمريكية في المنطقة للضغط على إيران، التي لا تزال الإدارة الأمريكية توحي بأنها هي الخطر وليست إسرائيل؛ بالرغم من أن إسرائيل هي الدولة التي تصادر الشعب الفلسطيني كله سياسةً وأمناً واقتصاداً، وتمثل الخطر النووي الذي يهدّد المنطقة، الأمر الذي شهدناه في العُدوان الوحشي على لبنان في تمّوز الفائت، ونسمعه من تهديد مسؤوليها السياسيّين والعسكريين لسوريا، أو التلويح بقصف المواقع النووية السلميّة في إيران، أو في التعاون بين الصهاينة والجيش الأمريكي في العراق.
إن المشكلة هي أن أمريكا استطاعت أن توظف حركة الكثير من دول العالم العربي والإسلامي لدعم إسرائيل واعتبارها في موقع الصداقة التي تلتقي مع خط الاعتدال الأمريكي في مقابل ما تسميه "التطرف الإسلامي"، ما جعل بعض الدول التي قد تأخذ الإسلام عنواناً لها ولنظام حكمها، تتحرك من خلال بعض ممثليها الأمنيين لتقوم بالتنسيق مع الإدارة الأمريكية في إرباك الواقع السياسي والأمني في المنطقة...
تدمير حركة الحرية في المنطقة
إن صفة الدول "الإسلامية" لهذا التجمع لا تحمل أية قيمة إسلامية في الأهداف والوسائل والتطلعات والكرامة الإسلامية؛ فهي لا تحمل من الإسلام إلا اسمَه، ولا تنفتح من القرآن إلا على رسمِه. وهم جميعاً لا يلتفتون إلى أن الخطة الأمريكية في إدارة المنطقة العربية والإسلامية تعمل على قيادة الأنظمة التي تحمل رسمياً عنوان الإسلام إلى تدمير حركة الحرية لدى الشعوب الإسلامية، وإلى العبث باقتصاد المسلمين، ونشر الفوضى في بلدانهم، وإيجاد حال من الاهتزاز الأمني في أوضاعهم، بالمستوى الذي يتحول معه الرئيس الأمريكي وإدارته إلى فريق داخلي يثير الفتن والمشاكل الداخليّة، ولاسيّما في لبنان، وذلك باستدعاء أكثر من سياسي من الفريق الأمريكي الداخلي إلى واشنطن لتلقّي التعليمات التي تجمّد الأوضاع وتمنع حلّ الأزمة، وتدفع بالضغوط السياسية نحو إرباك علاقات لبنان بسوريا تحت شعارات وعناوين استهلاكية ترتبط بالمصلحة الإسرائيلية التي بات البعض لا يعتبرونها مشكلةً للبنان، بالرغم من عدوان إسرائيل في الماضي والحاضر، وتخطيطها المستمرّ لاعتداءات في المستقبل ضد الشعب اللبناني.
إن الشيطان السياسي الدولي قد أعدّ خطته لإشعال المنطقة بحروب جديدة تدمّر سياستها وأمنها واقتصادها وتسقط عنفوانها، وهذا ما يقوم به نائب الرئيس الأمريكي، ديك تشيني، الذي يطوف البلاد العربية والإسلامية للتبشير بالحرب ضد إيران، مما يعرف الجميع أنها تمثل الكارثة الكبرى على المنطقة، ولا سيما منطقة الخليج. ومع ذلك، لم يصدر هناك أي ردّ فعل من دول المنطقة ضد هذا الاتجاه، بل إننا رأينا أن هذا الرجل قد تولّى تأنيب الرئيس الباكستاني مشرّف لأنه لا يقوم بما يجب عليه من الحرب ضد ما يسميه الإرهاب، في الوقت الذي يتصاغر هذا الرئيس ليقدم اعتذاره له ويبرر سلوكه للسيد الأمريكي المهيمن على البلد كله.
إن الواقع الذي يعيشه العالم الإسلامي هو واقع القتال المتحرّك من بلدٍ إلى بلد؛ فمن فلسطين إلى العراق إلى أفغانستان إلى اليمن إلى الصومال. وهناك أكثر من بلد إسلامي تنتظره الفوضى البنّاءة التي قد تتمثّل في فوضى سياسية، وقد تتمظهر في فوضى أمنية، أو في انهيار اقتصادي، من خلال دائرة الفتنة السنية الشيعية، أو التطرف والاعتدال، أو العروبة والفارسية؛ لتكون هذه العناوين عنصراً من عناصر الإثارة الغرائزية التي تمنع العقل من أن يواجهها بتفكير منطقي موضوعي، وتمنع العقلاء من التحرّك لإبعاد عناصر الفتنة عن واقع الأمة الإسلامية التي تتخبّط في مشاكلها الاقتصادية والسياسية والأمنية، ما يجعل أي عنصر جديد من عناصر التفجير المتنوع يزيد الأمور سوءاً، ويمنع الأمة في مستقبلها من التحوّل إلى فجر جديد في تطلعاتها التحريرية الإبداعية.
العراق: تكامل بين التكفيريين والاحتلال
ويبقى العراق الجرح النازف الذي يتفجر بأهله وجامعاته ومدارسه وأسواقه ومساجده ومقدساته، حيث تتكامل قوات الاحتلال مع القوات التكفيرية المستحلة لدماء الشعب العراقي بمختلف أطيافه المدنية، ما يؤدي إلى إبقاء المأساة العراقية التي يمثل الاحتلال المدخل لكل أوضاعها وامتداداتها، الأمر الذي دفع بالشعب العراقي إلى الهجرة الجماعية إلى دول الجوار ودول الغرب، طلباً للأمن على أنفسهم وعيالهم وأموالهم. وهذا ما يفرض على كل فرقاء السياسة أن يرتفعوا إلى مستوى المرحلة إذا كانوا معنيين بوطنهم وسلامته، وأن يجمّدوا الكثير من خلافاتهم التي لا يستفيد منها إلا المحتلّ الذي يلعب لعبة التحرّك من الانفتاح على طائفة هنا، ليستبدل بها طائفة أخرى في عملية الفتنة المذهبية التي يخطط لها في المنطقة.
ومن جهة أخرى، فإن الدول الست التي صوّتت في مجلس الأمن على العقوبات ضد إيران في مجلس الأمن، تلتقي الآن لدراسة تشديد العقوبات في قرار جديد، انطلاقاً من الرغبة الأمريكية في الضغط على إيران في ملفها النووي السلمي، في حين تصرّ تلك الدول ـ بما فيها أمريكا ـ على أنّ إيران تخطط لصنع السلاح النووي، في الوقت الذي تدعو إيران هذه الدول للمفاوضات للدفاع عن مشروعها وتقديم الضمانات في البقاء على الجانب السلمي فيه. ولكن القضية عند دول الغرب، هي أن لا تملك إيران الخبرة العلمية النووية لتلبية احتياجاتها من الطاقة؛ لأنهم يريدون للمنطقة الإسلامية أن تبقى في حاجة إلى مساعدتهم في كل متطلباتها.
إيحاءات بالتخطيط لحرب لبنانية ـ سورية مستقبلاً
أما في لبنان، فهناك أكثر من إشاعة بأنّ بعض الجهات التي خاضت الحرب الأهلية في الماضي، إضافة إلى الجهات التي تخطط لإيجاد قوة عسكرية على الأساس المذهبي، تقوم بتحضيرات معينة في المناطق لتصفية حسابات داخلية من جهة، ولتنفيذ الخطة الأمريكية في إرباك الوضع اللبناني الأمني من جهة ثانية. ولسنا ندري إن كان في هذا الاتّجاه طلب بعض الزعماء السياسيين من الولايات المتحدة الأمريكية المساعدة العسكرية ـ إلى جانب الدعم السياسي ـ من أجل الحرب ضد سوريا، ما قد يوحي بأن هناك تخطيطاً لحرب سورية ـ لبنانية في المستقبل. هذا، إضافةً إلى تبادل الاتهامات في المسؤولية عن قضايا الاغتيالات، وتراشق الكلمات الحادة التي تثير المشاعر وتوتّر الساحة السياسية، وتربك كل الحلول اللبنانية السلمية لمصلحة الأوضاع الحادّة التي قد يتحدّث فيها البعض في الداخل والخارج عن التخطيط للحل العسكري الذي يحاول من خلاله فريق في هذه الطائفة السيطرة بالقوة على فريق آخر في طائفته.
إن الواقع اللبناني يتحرك على كفّ العفريت الأمريكي والجنيّ الإسرائيلي، ليلتقي ذلك بتشجيع من المواقع الرسمية العربية... فإلى أين يسار بلبنان؟ بل أين هو لبنان الآن أيها المستضعفون اللبنانيون من الأكثرية الصامتة الجائعة المحرومة المستلبة التي يتاجر بها السياسيون لتأكيد زعاماتهم ولاستعادة مواقعهم... ولتجديد دور المحرقة التي يشعلها مَن في الخارج ليكون الحطب هو مَن في الداخل؟!