ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:
الخطبة الأولى
بسم الله الرَّحمن الرحيم
العدل للناس جميعاً:
في المفهوم الإسلامي الأصيل، أن الله تعالى أنزل كل الرسالات، وأرسل كل الرسل، ووضع الميزان كله من أجل هدف واحد، وهو إقامة القسط بين الناس، والقسط هو العدل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}(الحديد/25)، فالعدل هو أساس كل الرسالات، وهو الذي يوحِّدها في كلِّ مفاهيمها وشرائعها، حتى إن الإيمان بالتوحيد هو حركة عدل، لأنَّ علينا أن نحفظ لله حقه في أن نوحّده بالألوهية فلا إله غيره، ولا شريك له، وأن نوحّده بالعبادة فلا معبود غيره، وأن نوحّده بالطاعة فلا طاعة لغيره.
إنَّ علاقة الإنسان بربِّه هي علاقة عدل، وهكذا هي علاقة المسلمين برسول الله(ص)، لأنّ من حقّ الرسول(ص) الذي أرسله الله تعالى رحمةً للعالمين، والذي جاهد في الله حقَّ جهاده، والذي أُوذي كما لم يؤذَ نبيّ مثله، من حقه على المسلمين أن يلتزموا رسالته ويتّبعوها، وأن يجعلوها عنواناً لحياتهم، وشريعةً لقوانينهم، وأن يعيشوا معنى رساليته في معنى رسوليته، ليبقى خط الرسالة في خطِّ التوحيد من خلال الشهادتين: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله. وقد ربط الله تعالى بين محبته من قِبَل الناس وبين اتّباعهم الرسول(ص)، فقال تعالى، على لسان رسوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}(آل عمران/31).
والعدل هو ما يربط الإنسان بالإنسان، سواء كان الإنسان مسلماً أو غير مسلم، لأنه لا دين للعدل، فالعدل للناس جميعاً، ولا دين للظلم فالظلم ليس ديناً مع الناس جميعاً، وقد ورد في تراث الأئمة من أهل البيت(ع)، أن «الله عزّ وجلّ أوحى إلى نبيّ من أنبيائه في مملكة جبّار من الجبّارين، أن ائتِ هذا الجبار وقل له إنني لم أستعملك على سفك الدماء واتخاذ الأموال، وإنما استعملتك لتكفّ عني أصوات المظلومين، فإني لن أدع ظلامتهم وإن كانوا كفاراً»، فالله لا يريد لنا أن نظلم الكافر، كما لا يريد لنا أن نظلم المسلم، بل أن نعطي كل ذي حقّ حقه، قريباً كان أو بعيداً، ضعيفاً كان أو قوياً، وهذا هو معنى العدل.
رفض الظلم:
وقد ورد في الحديث الشريف عن رسول الله(ص): «ما من مظلمة أشدُّ من مظلمة لا يجد صاحبها عليها عوناً إلا الله»، وهي مظلمة الضعيف، فإن ظلم الضعيف هو أقسى الظلم وأشدّه وأفحشه. وورد عن رسول الله(ص): «اتقوا الظلم فإنه ظلمات يوم القيامة». ويريد الله تعالى منا أن نعمل على أن نقتلع الظلم من داخل نفوسنا، وأن نرفضه من ألسنتنا وفي سلوكنا، وقد ورد عن الإمام جعفر الصادق(ع): «العامل بالظلم والمعين له والراضي به شركاء ثلاثتهم»، لأن الإنسان الذي يختزن الرضى بظلم الظالم، هو مشروع جنيني للظلم، كما أن الإنسان الذي يعذر الظالم، هو حركة بيانية في تأكيد الظلم، وقد ورد في بعض الكلمات المأثورة: «من عَذَر ظالماً بظلمه، سلّط الله عليه من يظلمه، فإن دعا لم يُستجب له ولم يأجره الله على ظُلامته». وورد في الحديث: «من أكل من مال أخيه ظلماً ولم يردّه إليه، أكل جذوةً من النار يوم القيامة».
وورد عن الإمام عليّ(ع): «الظلم ثلاثة: ظلم لا يُغفر، وظلم لا يترك، وظلم مغفور لا يطلب، فأما الظلم الذي لا يُغفر فالشرك بالله ـ وهذا ما عبّر عنه الله تعالى حكاية عن قول لقمان لابنه: {يا بني لا تُشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم}، فالمشركون يظلمون الله في حقه في التوحيد ـ أما الظلم الذي يُغفر، فظلم العبد نفسه عند بعض الهنات، وأما الظلم الذي لا يُترك، فظلم العباد بعضهم بعضاً»، ويتابع الإمام عليّ(ع) كلامه: «القصاص هناك شديد، ليس هو جرحاً بالمدى، ولا ضرباً بالسياط، ولكنه ما يُستصغر ذلك معه».
تربية النفس على العدل:
في ضوء ذلك كله، علينا أن نربي أنفسنا وأجيالنا على العدل، لأن الله أقام الإسلام على أساس العدل، وعلينا أن نعمل بكل ما عندنا من قوة في أن نكون موقعاً واحداً في مواجهة الظالمين والمستكبرين، أن نعطي الضعفاء حقوقهم، فلا يظلم الإنسان زوجته أو أولاده أو الموظفين عنده أو الضعفاء الذين يقعون في دائرة مسؤولياته. إن الله تعالى أراد للمسلمين أن يصنعوا مجتمع العدل، وأن يقدّموا الإسلام للناس على أنه إسلام العدل الذي يعطي لكل ذي حق حقه.
ومن العدل للإسلام أن نأخذ بأسباب الوحدة الإسلامية التي يلتقي فيها المسلمون على عقيدة الإسلام، وأن يتحاوروا فيما اختلفوا فيه، وأن ينطلقوا كما قال الله تعالى وهم في معركة مع المستكبرين كلهم: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ}(الصف/4).
الخطبة الثانية
بسم الله الرَّحمن الرحيم
عباد الله... اتقوا الله وواجهوا الموقف من موقع واحد، من موقع الأمة الواحدة التي أراد الله لها أن تعتصم بحبل الله جميعاً ولا تتفرّق، وأن تنطلق من قاعدة الأخوّة التي فرضها الله بين المؤمنين في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}(الحجرات/10)، وأن نواجه المستكبرين من موقع واحد، لأن المعركة الآن هي معركتنا في العالم كله ضد المستكبرين كلهم، فقد برز الكفر كله والشرك كله إلى الإيمان كله والى التوحيد كله، فتعالوا لنأخذ بأسباب الوعي في كل قضايا الإسلام والمسلمين، فماذا هناك:
بوش: نموذج الطّغيان الأعلى:
ماذا لدى الرئيس الأميركي من جديد؟ إنه يحاسب الحكومة اللبنانية لسماحها للمقاومة الإسلامية بأن تتواجد على حدود لبنان، ما سمح بالحرب التي حدثت في 12 تموز بفعل أسر الجنديين الإسرائيليين واختراق الخط الأزرق، ولكنه لم يحاسب العدو الصهيوني لاختراقه حدود لبنان جواً وبحراً وبراً طيلة السنين الماضية بما يبلغ مئات المرات، ولم يحاسبه على اختطافه لعدد من اللبنانيين من داخل بيوتهم أو في عرض البحر، ولم يتحدث عن الأسلحة الأمريكية المتطورة لدى إسرائيل التي تهدد بها لبنان، ما أدّى إلى أن تتحمل المقاومة مسؤولية الدفاع عن أرضها وشعبها، وتطرح على المسؤولين وضع استراتيجية للدفاع عن الوطن في مؤتمر الحوار الوطني، ولكن مشكلة الرئيس الأميركي، أنّه ينظر إلى الأمور بعين واحدة، لا ترى إلاّ أمن إسرائيل الذي يعتدي على أمن الآخرين.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، يرفع بوش مستوى تهديداته لإيران ونظامها ورئيسها الذي وصفه بالطاغية، بعدما اعتبر أن التطرف الشيعي يعادل التطرف السني في خطره على الأميركيين وعدائه لأمريكا، وفي موازاة خطورة التهديد الذي أصدره بوش، نشر البيت الأبيض الاستراتيجية الجديدة لمكافحة الإرهاب التي لم تعد تركِّز على تنظيم القاعدة، بل على إيران والمجموعات. الصغيرة، مثل حزب الله وحماس والجهاد، وعلى اعتبار سوريا دولة داعمة للإرهاب، لتأييدها لهذه المجموعات، واتهام إيران بالتخطيط لامتلاك السلاح النووي الذي يمنحها فرصةً لابتزاز العالم وتشكيل خطر أكبر على الشعب الأمريكي بحسب زعمه.
ونحن أمام ذلك كله نتساءل: من هو الطاغية؟ أليس الطاغية هو من يبعث بكل قوَّته العسكرية، بالإضافة إلى قوات حلف الأطلسي، لاحتلال أفغانستان تحت شعار مكافحة الإرهاب، حيث لا يزال الشعب الأفغاني يواجه المجازر اليومية حتى الآن، في استخدام السلاح الأمريكي ضد المدنيين العزَّل؟! وهكذا الأمر في احتلال العراق، الذي لا يزال يواجه الفوضى الأمنية التي تتمثَّل في المجازر المتحركة ضد المدنيين، من خلال الفئات التي يدعمها بشكل غير مباشر، من أجل البقاء مدة أطول لتنفيذ استراتيجيته في استخدام العراق كجسر للضغط على دول الجوار في المنطقة، وكمصدر للثروة البترولية في خطته للسيطرة على بترول العالم...
ويتجدد السؤال: من هو الطاغية؟ أليس هو الرئيس بوش في إدارته الحاقدة على العرب والمسلمين في حربه على لبنان التي خطَّط لها مع إسرائيل لتدمير بنيته التحتية، وفي المجازر الوحشية وتهديم البيوت على رؤوس المدنيين العزَّل من الأطفال والنساء والشيوخ في قرى الجنوب وفي الضاحية وفي أماكن أخرى تحت شعار الحرب على حزب الله، الذي كان يتحرك في ساحة المعركة ضد العدو لا في المواقع المدنية؟! أليس الطاغية هو الذي ينصب جسراً جوياً لنقل القنابل الذكية المتطورة للعدو الإسرائيلي في أثناء الحرب لقتل المزيد من المدنيين، لأن هذا العدو لم يستخدمها إلا ضد المدنيين والمواقع المدنية؟!
لقد كانت الحرب على لبنان حرباً أمريكية إسرائيلية، هذا ولا تزال أمريكا تخطط للتعويض عن هزيمة إسرائيل في الحرب، باستغلال مجلس الأمن لإصدار القرارات ضد لبنان بطريقة ملتبسة تخدم العدو، وهذا ما استفاد منه في حصاره الجوي والبحري، حتى إن القرار الصادر من مجلس الأمن لم يقرر ـ حتى الآن ـ وقف إطلاق النار.
إن أمريكا ـ ومعها إسرائيل ـ لا تزال تحاصر لبنان سياسياً في خطة خبيثة متحركة، لتحويله إلى ساحة من ساحات الصراع لخدمة مشروعها في المنطقة في حركة حرب المحاور التي تديرها في إطار مصالحها الاستراتيجية، الأمر الذي سوف يجعل من هذا البلد ساحة لا تعرف الاستقرار في حركة اللعبة الأمريكية التي يديرها سفيرها في بيروت من جهة، والمندوبون المتوافدون على لبنان من جهة ثانية، والفريق الداخلي الذي يخدم خطوطها السياسية من جهة ثالثة.
الدول الغربية: أسلوب نفاقي خادع:
ومن جانب آخر، فإننا نتابع زعماء الغرب المتحالفين مع أمريكا الضاغطة على قراراتهم ومع إسرائيل، هؤلاء يتحدثون بأسلوب نفاقي خادع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، وبعضهم غارق حتى أذنيه في دماء العراقيين بعد جريمة احتلال العراق، كما أن عدداً كبيراً منهم يحوّل عينيه عن فلسطين، حتى لا يرى القتل اليومي المفتوح الذي يمارسه الاحتلال الإسرائيلي ضد أطفال فلسطين ونسائها وشيوخها.
وما زالت هذه الدول تتابع وقائع الحرب الإسرائيلية ـ الأمريكية على لبنان، التي فاقت في وحشيتها واستهدافاتها التدميرية كل الحدود المتوقعة لأيِّ حرب، بل إنَّ هذه الدُّول كانت تحرِّض إسرائيل على متابعة حربها بأقصى ما تقدر عليه من قسوة وقدرة على التدمير، مع التنويه بجهدها الاستثنائي في القضاء على ما يسمونه الإرهاب الإسلامي، حتى وهم يشاهدون صور مذابح الأطفال في قانا وأخواتها من قرى الجنوب والبقاع وضواحي بيروت الجنوبية، أو صور التدمير المنهجي للعدوان وأسباب الحياة في معظم أنحاء لبنان.
لقد كانت هذه الحرب حرباً عالمية ضد لبنان بقيادة أمريكا التي كانت تستهدف إسقاط المقاومة وانتصار إسرائيل التي كانت تخطط لاستكمال استعراض قوتها ضد العالم العربي والإسلامي، ولكنها واجهت الهزيمة المنكرة ـ باعتراف أركان العدو ـ بفضل جهاد المجاهدين الذين باعوا أنفسهم لله، وأخلصوا جهادهم في سبيل المستضعفين من عباد الله... وإذا كانت القوى الدولية قد استنفرت جنودها للقدوم إلى لبنان لتفرض الرقابة الدولية عليه، فإنها لا تستهدف حماية لبنان، بل حماية إسرائيل، ولذلك كانت تخضع للشروط الإسرائيلية في تواجدها وفي عديدها ونوعية دولها....
إننا نقول للرئيس بوش: لقد استطعت أن تكون النموذج الوحشي الأعلى في الطغيان، لأنك لا تزال ـ مع إدارتك المتطرفة الحاقدة ـ تهدد الشرق الأوسط وتكيل الاتهامات للمعارضين لسياستك من دون حساب، في منطق يوحي بالسخرية في حديثك عن الخطر على أمريكا من إيران، في الوقت الذي يعرف الجميع، أن الخطر هو على العالم كله من القوة الأمريكية المستكبرة في تخطيطها لأكثر من حرب استباقية، ولا سيما في ذكرى أحداث 11 أيلول، التي استغلتها الإدارة الأمريكية لفرض سيطرتها على العالم، في الوقت الذي يلاحظ الجميع أن هذه الأحداث لم تخضع لأيّ قانون قضائي يحدِّد فيه المسؤوليات بشكل دقيق، لأن هناك أسراراً خفية في العمق لا يجرؤ البعض على إظهارها خوفاً من انقلاب السحر على الساحر.
لقد أطلقت أمريكا الحرب ضد ما تسميه الإرهاب تحت تأثير هذه الأحداث، ولكنها لم تحدِّد مضمون الإرهاب، ولذلك اعتبرت المقاومة ضد الاحتلال في فلسطين إرهاباً، كما اعتبرت المقاومة ضد احتلالها في العراق وأفغانستان إرهاباً، وهي تضع المقاومة الإسلامية في لبنان ضد المحتل في الخانة نفسها...
ونحن نعرف أنَّ النموذج الأكثر وحشية للإرهاب، هو إرهاب الدولة في إسرائيل وأميركا، مما يجب أن يعرفه العالم ويقف ضده، في خطة واسعة تحرر الإنسانية من شروره. أما حديث الرئيس الأميركي عن التطرف الشيعي والسني، فإنه ليس حديثاً موزوناً، لأن ما يسميه تطّرفاً، هو رد فعل للتطرف الأمريكي ضد الإسلام والمسلمين، في سياسته الحاقدة ضد الدين الإسلامي وضد المسلمين، بمن فيهم مسلمو أمريكا.
لبنان: لا حياد بين المقاومة والعدو:
أما في لبنان، فإننا ندعو إلى الأخذ بأسباب الوحدة الوطنية، وإعادة الحوار إلى مواقعه السياسية الموضوعية التي يمكن أن تفتح المستقبل اللبناني، على قضايا الحرية والعدالة والسيادة والاستقلال، وأن تبتعد بالبلد عن أية وصاية دولية ـ أمريكية أو أوربية ـ كما هي بعض المظاهر في الواقع اللبناني وأن يتعاون الجميع في صناعة الدولة التي تملك القدرة على الدفاع ضد العدوان، لا الدولة التي تستقيل من الدفاع تحت شعار أنها تقف على الحياد بين العدو والمقاومة... ثم لا بد من التخطيط القانوني العملي لإدارة تحاسب المفسدين على فسادهم، سواء كان الفساد في الماضي، عندما كان البعض في موقع المسؤولية، أو في الحاضر والمستقبل.
إن الشعب يريد دولة يمارس فيها المسؤولون مسؤوليتهم على أساس النظافة والنـزاهة والعدالة، فلا يبقى أحد فوق القانون، ولا يسقط الشعب تحت تأثير المحاور العائلية والطائفية والحزبية، ولا يصادر الطائفيون لبنان لحساب هذه الطائفة أو تلك في امتيازاتهم الطائفية، مسيحية أو إسلامية، بل يكون لبنان الوطن للمواطنين كلهم من دون تمييز، فهل نحلم بالوصول إلى هذا الوطن في مستقبل الأحلام؟! |