الإمامة: القيادة المتحرّكة
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {ونريد أن نمنّ على الذين استُضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين* ونمكّن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون} (القصص:5-6). مرّت في الأسبوع الماضي ذكرى ولادة إمام الزمان الحجة بن الحسن (عجلّ الله تعالى فرجه، وسهّل مخرجه)، وعلينا أن نعرف كيف نعيش مع هذه المناسبة، لأن مسألة الإمامة تنطلق من القاعدة التي أطلقها رسول الله(ص) في قوله وهو يودِّع هذه الدنيا: "إني تارك فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً؛ كتاب الله، وهو حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما".
لذلك، فإن مسألة الإمامة التي انطلقت بعد النبوة في خطِّ رعاية الإسلام وحمايته، وتصحيح ما يحاول الآخرون أن يدخلوا فيه من الأخطاء، تمثل القيادة المتحركة التي ترافق الناس في كل قضاياهم، من أجل أن تفتح عقولهم على الحق، وتفتح قلوبهم على الخير، وتفتح حياتهم على العدل، لأن مسألة الإمامة والولاية لأهل البيت(ع)، ليست مسألة حبّ يمتزج في مشاعر القلب، ولكنها موقف وحركة والتزام بالقيادة الإسلامية التي ينطلق الأئمة(ع) بها من أجل أن يربطوا الناس بالرسالة التي انطلق بها رسول الله(ص)، وبكتاب الله تعالى، ليملأوا الحياة بالإسلام، ليكون المجتمع في كل الأجيال مجتمعاً مسلماً، يعيش فيه الأب إسلامه في بيته، ويعيش فيه الناس إسلامهم في نواديهم وأسواقهم وفي مواقع الصراع، حيث لا تكون هناك كلمة إلا كلمة الله والرسول فيما يأخذ به الناس أو فيما يتركونه.
على هذا الأساس، نفهم مسألة الإمامة، وأن ارتباطنا بالأئمة(ع) منذ عليّ(ع) حتى الحجة(عج)، هو ارتباط بالقيادة التي نأخذ منها ما تركته لنا من تراث في تفسير القرآن بحقائقه، وفي تحريك السنّة في حياتنا العامة، لأن الأئمة(ع) إذا كانوا قد فارقونا عندما انتقلوا إلى رحاب الله، وعندما غاب إمام الزمان (عج)، فإنهم لم يتركونا في فراغ، بل أعطونا علماً من علمهم، وتراثاً من تراثهم، وهذا ما أخذ به العلماء الذين أرادنا النبي(ص) أن نأخذ منهم ما تركه لنا من كتاب الله وسنّته، وما تحرك به خلفاؤه من أئمة أهل البيت(ع)، عندما قال: "العلماء ورثة الأنبياء".
وجاء عن النبي(ص) وهو يحدد مواقع العلماء: "العلماء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا"، قالوا: وما دخولهم في الدنيا؟ قال(ص): "اتّباع السلطان ـ اتباع السلطة الجائرة الظالمة، أو الذين يكيدون للإسلام والمسلمين طمعاً في مالهم ووظائفهم ـ فإذا رأيتم العالِم محبّاً لدنياه ـ يعمل للدنيا ولا يعمل للآخرة ـ فاتهموه على دينكم"، لا تأخذوا منه دينكم، لأنه سوف يقدّم لكم بعض دنياه وانحرافه على أنه دين. وقد ورد في الحديث المروي عن إمام الزمان(عج)، عندما أجاب عن بعض الأسئلة التي سأله عنها بعض العلماء في آخر الغيبة الصغرى، قال: "وأما الحوادث الواقعة ـ الأشياء المستجدة ـ فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا ـ إلى من يروي عن أئمة أهل البيت(ع) رواية دراية ووعي وعلم ـ فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله".
إمام العدل والخير
وفي عقيدتنا، أن الإمام الحجة(ع) هو إمام المستضعفين والمظلومين والمقهورين والفقراء والمساكين، وأما دوره، فهو ما ورد في الحديث، أنه إذا ظهر فإنه "يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً". إن دوره هو أن يهدِّم كل مواقع الظلم والمستكبرين في العالم، وأن ينشر العدل في العالم كله ليكون العدل عالمياً. إن رسالته هي رسالة العدل، لأن الله تعالى أكّد في القرآن الكريم، أن قاعدة كل الرسالات منذ آدم(ع) حتى نبيّنا محمد(ص) هي العدل: {لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط} (الحديد:25).
على هذا الأساس، فإن التزامنا به، يفرض علينا أن نأخذ بالعدل في كل أمورنا. إن أنصاره ـ ونحن ندعو لأن نكون من أنصاره وأعوانه والمستشهدين بين يديه ـ هم العادلون، الإنسان الذي يعدل في نفسه فلا يظلمها، ويعدل مع ربه فلا يظلم ربه في حقه، ويعدل مع عائلته ومع الناس كلهم، ويقف في مواجهة كل الظالمين والمستكبرين. لذلك علينا أن ندرس أنفسنا جيداً؛ هل تنطبق علينا صفة جنده وأعوانه وأنصاره؟! إنّ ذلك يتحدد إذا عرف الإنسان نفسه بأنه يأخذ بالعدل، وأنه لا يتحرك بالظلم، ولا يتّبع الظالمين ولا يساعدهم ولا يساندهم في ظلمهم.
ولذلك، ليس من الضروري ما يفعله الكثيرون من الناس عندما يرجعون إلى هذا الكتاب وذاك ليتحدثوا عن علامات الظهور، لأن قضية الظهور هي غيب من غيب الله، ولا يملك أحد أمره أو توقيته، فالله هو الذي يأذن بظهوره، بحسب حكمته ومجيء دوره، تماماً كما أذِن الله لغيبته. إن الإمام الحجة(عج) هو إمام الإسلام والعدل والخير كله، وعلينا أن نتحرك في خط هذه الإمامة، لنكون العادلين الذين يعملون على أن ينشروا العدل في كل مكان، وأن يواجهوا الظالمين في كل مكان.
أن ننتظره، لا في جلسات الشاي والقهوة، بل في خط الجهاد. لذلك فإن المجاهدين هم الذين انتظروه، لأنهم {صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلاً} (الأحزاب:23).
اللهم اجعله الداعي إلى كتابك، والقائم بدينك، استخلفه في الأرض كما استخلفت الذين من قبله، مكّن له دينه الذي ارتضيته له، أبدله من بعد خوفه أمناً يعبدك لا يشرك بك شيئاً، اللهم أعزّه وأعزز به، وانصره وانتصر به، وانصره نصراً عزيزاً، وافتح له فتحاً يسيراً. اللهم إنّا نرغب إليك في دولة كريمة تعزّ، بها الإسلام وأهله، وتذلّ بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة. اللهم أرنا الطلعة الرشيدة، والغرّة الحميدة، واجعلنا من أنصاره وأعوانه والمجاهدين والمستَشهدين بين يديه.
الخطبـة الثانيـة
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله... اتقوا الله، وواجهوا الواقع الإسلامي الذي لا يزال يهتز أمام عدوان المستكبرين، من فلسطين إلى سوريا ولبنان وأفغانستان وإيران والصومال والسودان، مما أراده المستكبرون من العمل على إضعاف هذا العالم الإسلامي لمصلحة استكبارهم واقتصادهم وأمنهم، فماذا هناك؟
الفوضى البنّاءة: مشروع الشرق الأوسط الكبير
لا تزال المرحلة التي تحكم المنطقة حافلة بالكثير من الأوضاع المعقّدة سياسياً وأمنياً، على مستوى التحديات الدولية التي تقودها أمريكا تحت لافتة "الحرب على الإرهاب"، مستغلةً ذكرى أحداث11 أيلول في تحريك خطتها الاستراتيجية في الضغط على منطقة الشرق الأوسط، للتلويح المستمرّ بمشروع الشرق الأوسط الكبير أو الجديد الذي تخطط له إدارتها اليهودية، من خلال الفريق اليهودي والمسيحية المتصهينة المتمثّلة بالمحافظين الجدد، للسيطرة على مقدّرات الشرق الأوسط بالقوة لمصلحة شركاتها الاحتكارية البترولية ومصانع السلاح، ولمحاصرة اقتصاد دول العالم الثالث، وإبقاء الاهتزازات الأمنية والسياسية في أكثر من بلد، من خلال ما يسمّى "الفوضى البنّاءة" أو "الخلاّقة" التي بشَّر بها الرئيس الأمريكي في الفرصة الذهبية لحركته للعبث بمقدّرات الشعوب.
وقد لاحظنا في هذه الخطة الشريرة الخبيثة التي رسمها محور الشر الأمريكي، كيف قام بتجميد الحلّ للمسألة الفلسطينية بإيقاف المفاوضات، بحجة اعتبار الانتفاضة حركة "إرهابية" لا بد من إسقاطها قبل الدخول في الحديث عن الدولة الفلسطينية، من دون أن يمارس أيّ ضغط على إسرائيل للامتناع عن المجازر الوحشية اليومية التي تقوم بها ضد المدنيين الفلسطينيين، ما لا يترك أية فرصة لهدنة أو لالتقاط الأنفاس، لأن أمريكا ترى أن الحلّ هو في الاستسلام الفلسطيني المطلق لإسرائيل، لا في التوازن بين الفريقين. وحتى في الحديث عن الدولة الفلسطينية، فإنّ المطلوب أن تكون دولة هامشية تابعة لإسرائيل كموقع من مواقع نفوذها السياسي والأمني والاقتصادي، لأن ذلك هو ما تخطط له أمريكا الإسرائيلية.
وما نحذّر الفلسطينيين منه ـ سلطةً وحكومةً ومقاومةً ـ في الخداع الذي يطلقه المندوبون الأمريكيون والأوروبيون التلويح بالاجتماع المرتقب مع الرئيس الصهيوني، والذي سوف لا ينتج شيئاً جديّاً، هذا بالإضافة إلى مشروع الجامعة العربية المقدّم إلى مجلس الأمن حول الصراع العربي ـ الإسرائيلي من أجل أن يصل به إلى حلّ واقعي. إننا نعرف أن هذا المجلس هو الذي أعطى إسرائيل كل الشرعية الواقعية طيلة زمن الاحتلال، وذلك بتجميده كل القرارات الدولية ضد إسرائيل، لأن أمريكا وحلفاءها منعت تنفيذ كل هذه القرارات، ولم تضغط إلا بالقرارات المتعلّقة بالواقع العربي، ولاسيما لبنان وسوريا.
الرئيس الأمريكي: استهداف للإسلام والمنطقة
لذلك، فإننا نتصوّر أن العرب، ومن خلال ضعفهم السياسي الذي يختزن الهزيمة، لن يحصلوا على نتيجة إيجابية في تعاملهم مع أمريكا، في كل ما يتعلّق بقضاياهم الحيوية والمصيرية، لأنّ الهدف الأمريكي دائماً هو مصلحة إسرائيل التي يُراد لها أن تكون الأقوى في المنطقة كلها ليخضع لها الجميع. وقد طمأن الرئيس الأمريكي وزيرة الخارجية الإسرائيلية، أنه لن يمارس أيّ ضغط على إسرائيل حول المبادرة العربية، لتبقى إسرائيل على موقفها ضد الحق الفلسطيني في دولة مستقلة قابلة للحياة، وضد حركة العرب في مسألة الصراع.
ولا تزال خطابات الرئيس الأمريكي في هذه المناسبة تتحرك من أجل تخويف الرأي العام الأمريكي والغربي من مواقع في الشرق الأوسط، من لبنان وسوريا إلى إيران وفلسطين، والإيحاء بأن هذه المواقع "تهدد العالم كله"، وتمثل "الخطر على أمنه"، لحشد التأييد له في احتلاله للعراق وأفغانستان، بالرغم من معاناته في السقوط الأمني والسياسي من خلال تخبّطه في وحول تلك البلاد، ولتضخيم ما يسمّيه الخطر الإيراني، ولاسيما في مشروع الملف النووي السلمي الذي تحاول أمريكا وحلفاؤها الإيحاء بأنه مشروع سلاح نووي، على طريقة هذه الإدارة في الكذبة الكبرى التي روّجتها بامتلاك العراق أسلحة دمار شامل لتبرير استخدام القوة في احتلاله، ولاستهداف الإسلام في الهجوم الذي حشدت له المخابرات الأمريكية والأوروبية والصهيونية الكثير من الكتّاب والإعلاميين والسياسيين لتشويه صورته في عقيدته وثقافته، واعتباره السبب في كل الإرهاب المتحرك في العالم، وفي الكراهية الشعبية للسياسة الأمريكية والإسرائيلية، من دون اعتبار للسبب الحقيقي، وهو العدوان السياسي والأمني والاقتصادي لأمريكا في العالم.
الأمم المتحدة: سكوت على تجاوزات إسرائيل
وفي هذا المجال، فإن هناك عدة ملاحظات نسجّلها في عدة قضايا:
ـ أولاً: التنكّر الإسرائيلي لحقوق المدنيين اللبنانيين، والتخطيط بعد الحرب لاغتيال مزارعين في الجنوب مع أطفالهم، ما يوحي بالوحشية اللاإنسانية لدى هؤلاء القتلة، وهو ما تحدث به ضابط من جيش العدو، أن الجيش الإسرائيلي أسقط أكثر من مليون ومئتي قنبلة عنقودية خلال الحرب على لبنان، ولم تستنكر أمريكا أو تدين ذلك، لأنها لا تحترم الإنسان المدني اللبناني.
ـ ثانياً: توسعة إسرائيل للخط الأزرق وتجاوزه من خلال اقتطاع أجزاء من الأراضي اللبنانية خارج هذا الخط، ووضع سياج من الأسلاك الشائكة حولها، وذلك تحت سمع وبصر قوات اليونيفيل، دون أيّ اعتراض أو منع منها، ما يوحي بأن هذه القوات لا تملك منع إسرائيل من أيّ اعتداء على الأرض اللبنانية. ومن اللافت أن الحكومة اللبنانية لم تقدّم ـ حتى الآن ـ احتجاجاً إلى مجلس الأمن على هذا الاختراق الإسرائيلي، بالرغم من التقارير التي قدّمها الجيش اللبناني حول هذا الموضوع؟!
ـ ثالثاً: تصريح المستشارة الألمانية حول إرسال القوات الألمانية البحرية لـ"القيام بواجب حماية وجود إسرائيل"، على حدّ قولها، ما يعني أن دور قوات اليونيفيل هو حماية إسرائيل لا لبنان، وهذا ما يفرض على اللبنانيين ـ بجميع فئاتهم ـ أن يراقبوا التطورات التي يمكن أن تحدث في تفاصيل حركة اليونيفيل في السياسة الخفيّة المرسومة لها، وفي سياسة دولها وعلاقتها بحماية العدو، وعلى الحكومة اللبنانية أن تدقق في ذلك.
وفي هذا الجو، نستمع في هذه الأيام إلى مواقف وكلمات تعمل على تخويف المسلمين بعضهم من بعض، وتعمل في الوقت نفسه على التهوين من الخطر الإسرائيلي على المنطقة وعلى العرب والمسلمين. إنهم يخوّفون العالم العربي من إيران بحجة أنها تعمل "للسيطرة على العراق"، وبحجة سلاحها وطاقتها النووية السلمية، في الوقت الذي أعلنت إيران ـ ولا تزال ـ أنها تعمل لتطوير اقتصادها وحماية نفسها من المحتل الأمريكي في العراق وأفغانستان. أما إسرائيل، الدولة النووية الوحيدة في المنطقة، فإنها هي التي تمثل الخطر على العالم العربي، من خلال أسلحتها النووية، وحروبها الاستباقية، واختراقاتها الاستخباراتية.
البابا: فهم خاطىء للإسلام
ومن جانب آخر، فقد استمع العالم الإسلامي إلى كلام البابا الأخير حول الإسلام، في محاضرة بألمانيا، بحضور جامعيين وعلماء دين، حيث قال: "الإسلام عقيدة ترى أن مشيئة الله ليست مرتبطة بأيّ من مقولاتنا ولا حتى بالعقل"، داعياً إلى حوار بين الثقافات والأديان، وقال: "إن المسيحية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالعقل، وهو الرأي الذي يتباين مع رأي أولئك الذين يسلمون بنشر دينهم بحدّ السيف"، ثم استشهد بقول للامبراطور البيزنطي في القرن الرابع عشر، الذي كتب في حوار مع رجل فارسي، أن النبي محمد "أحضر أشياء شريرة لاإنسانية، مثل أمره بنشر الدين الذي يدعو إليه بالسيف"، واستخدم البابا مصطلح "الجهاد" و"الحرب المقدّسة"، قائلاً إنّ العنف "لا يتفق والطبيعة الإلهية وطبيعة الروح".
إن هذا الكلام المنسوب إلى البابا، يدل على أنه لا يملك ثقافة علمية موضوعية عن الإسلام الذي تحدث عن العقل كقوة مقدّسة لا بد للناس من أن يأخذوا بها في طريقتهم في التفكير في كل الأمور، حتى إن الإسلام أكّد أن العقيدة ترتكز على العقل وليست خارج نطاقه، كما أنه دعا إلى الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، وأراد من المسلمين أن يجادلوا أهل الكتاب ـ وهم اليهود والنصارى، في مصطلحه ـ بالتي هي أحسن، وأن يلتقوا على الكلمة السواء، وأنه لا إكراه في الدين لأن الرشد قد تبيّن من الغيّ. أما الجهاد، فإن القرآن الكريم يؤكد أنه جهاد دفاعي ووقائي، تماماً كما هو في كل الحضارات، وليس جهاداً عدوانياً، وقد جاء في الخطاب القرآني قوله تعالى: {ولا تعتدوا إن الله لا يحبّ المعتدين}.
كما تحدث البابا عن أن الإسلام يرى في عقيدته أن "مشيئة الله لا تخضع لحكومة العقل"، وهذا فهم خاطئ، لأن هذه العقيدة تؤكد حكمة الله ومراعاته لمصالح الخلق في كل مواقع إرادته، لأنه الحكيم الرحمن الرحيم.
إننا ندعو البابا إلى قراءة واعية علمية دقيقة للإسلام، ولا نريده أن يخضع للإعلام المعادي الذي تقوده اليهودية والإمبريالية ضد الإسلام. وإننا في الوقت الذي نوافق معه على حوار الأديان والثقافات الذي أطلقناه منذ عشرات السنين، وأكدنا فيه أن القرآن هو كتاب الحوار الذي حاور الجميع، فإننا لا نقبل اعتذار مصادر الفاتيكان بأن البابا "لم يستهدف الحملة على الإسلام، بل استغلاله من أجل إثارة العنف"، لأن البابا تحدث عن قضايا فكرية في العقيدة الإسلامية في قضية العقل، كما تحدث عن "الحرب المقدّسة"، ونحن نسأله عن رأيه في الحروب الصليبية التي قادها البابوات من قبله كحرب مقدّسة، ونطلب منه أن يقدّم الاعتذار شخصياً ـ لا من خلال مصادره ـ للمسلمين على هذه القراءة الخاطئة التي لا نريد لموقعه الديني أن يقدّمها للعالم.
وإننا في الوقت الذي نستنكر ونحتج بكل قوة على هذا الكلام، ولاسيما في استشهاد البابا بدون مناسبة فكرية بالكلام الامبراطوري المسيء للنبي محمد(ص)، ندعو إلى علاقات إسلامية ـ مسيحية عالمية مرتكزة على الفهم العلمي العميق لوجهة النظر المتبادلة، بعيداً عن كل كلمات الإثارة.
لبنان: الحوار لبناء دولة عادلة
أما في لبنان، فإننا نحذّر من التشنّج في الخطاب السياسي، وندعو إلى حوار موضوعي علمي هادف، يلتقي فيه الجميع على بناء البلد على أسس ثابتة تكفل للبنانيين الحرية والسلام. وإذا كان العنوان العريض هو إنتاج الدولة القادرة القوية العادلة للوطن، فعلينا أن ندير الحوار حول أية دولة نريد، وما هي الآلية العملية التي يمكن أن تحقق لأجهزتها ودفاعها وقوانينها العدالة والقوة، بحيث تستطيع مواجهة العدو الصهيوني في مغامراته العسكرية التي رافقت لبنان منذ ما يقارب الأربعين سنة، في عدوان متحرك من دون سبب أو مبرر.
وعلى اللبنانيين أن يديروا هذا الحوار بعيداً عن أسلوب تسجيل النقاط على بعضهم البعض، وأن لا تكون علاقاتهم ببعضهم البعض خاضعة لاستثناء فريق من الدولة دون فريق، وأن لا يكرروا التجربة الفاشلة لبعض المسؤولين الذين كانوا يتحركون إدارياً ووزارياً ونيابياً مع الذين أساؤوا إلى لبنان، والذين كان الناس يتهمونهم بالسرقة للمال العام والهدر للميزانية. إن الدولة العادلة بحاجة إلى عناصر نظيفة لم تتلوّث بالفساد، ولم تحرك الطائفية في عصبياتها لخدمة مواقعها السياسية، وليست بحاجة إلى الذين كانوا مشكلة لبنان في الحرب والسلم.
ولا بد لنا من التنبيه إلى بعض الأصوات التي تحاول إثارة الفتنة في البلد، كصوت هنري كيسنجر المسؤول عن الحرب الأهلية في لبنان الذي قال: "إن التحرك المقبل لحزب الله سيكون على الأرجح في محاولة الهيمنة على حكومة بيروت عبر ترهيبها، واستخدام المكانة التي اكتسبها خلال الحرب، والتلاعب بالإجراءات الديمقراطية"، على حدّ قوله، وقول شمعون بيريز الذي حذّر من أنه "بعد أسبوع أو أسبوعين من الحرب قد يسيطر الشيعة في لبنان"، وغيرهما من الأصوات التي تلعب على الوتر الطائفي والمذهبي من أجل الفتنة التي قد تجد بعض الذين يستمعون إليها.
إننا نحذّر من الانزلاق وراء ما يطمح له العدو وتخطط له أمريكا، من ركوب الموجة الطائفية أو المذهبية عند كل منعطف سياسي، وندعو الحكومة إلى أن تتحمّل مسؤوليتها اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً وأمنياً، وأن تختار العناصر الأمينة الصادقة المخلصة في قضايا الإغاثة والإعمار التي بدأ الجدل يدور حولها.