حبُّ النّاس والنّفع لهم والنصيحة لله

حبُّ النّاس والنّفع لهم والنصيحة لله

لبناء مجتمع متماسك ومتكافل:
حبُّ النّاس والنّفع لهم والنصيحة لله


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

الخطبة الأولى

بسم الله الرَّحمن الرحيم

النصيحة عبادة

كيف يتعامل المؤمن مع المؤمن؟ كيف يفكِّر في قضاياه وفي كل أموره؟ قد يحتاج المؤمن إلى النصيحة في أيّ قضية من قضاياه، سواء كانت هذه النصيحة في دين أو في دنيا، مما يريد من خلاله أن يتعرّف الرأي الصحيح الذي يمكن أن يحفظ له أوضاعه. كيف يمكن للمؤمن أن ينصح المؤمنين في مواقفه التي تتَّصل بأوضاعهم، والتي قد يتأثّرون بها سلباً إذا كان الموقف سلباً، أو إيجاباً إذا كان الموقف إيجاباً، لأنّ مواقف بعض الناس، ولاسيما الذين يملكون الموقع المتقدّم في المسؤولية والقيادة، قد تترك نتائجها بشكل أو بآخر على حياة المؤمنين وأوضاعهم، سواء كان ذلك في أمر سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي، لأن الإنسان المسؤول، عليه أن لا يفكر في ذاته في ما يراه من مصلحةٍ أو مفسدة، بل عليه أن يفكِّر في الناس من حوله، وأن يدرس كل أمورهم فيما يعيشونه ويتحركون به؟

على الإنسان المؤمن أن لا يكون ذاتياً، أنانياً، يفكر في نفسه أو في الناس الأقربين إليه فحسب، بل عليه أن يعتبر نفسه جزءاً من مجتمع، وأن يحبّ للناس ما يحبّ لنفسه، ويكره لهم ما يكره لها، وقد ورد في الحديث عن النبي(ص) وعن الأئمة من أهل البيت(ع) أكثر من حديث حول نصيحة المؤمن للمؤمن، سواء كان فرداً أو مجتمعاً، فنقرأ أن المؤمن إذا استشار أخاه المؤمن في أيّ أمر، إذا أراد أن يتزوّج أو يدخل في شراكة في مؤسسة أو تجارة أو ما أشبه ذلك، فعلى الشخص المستنصَح أن لا يفكر في مصلحته الذاتية، بل أن يفكر فيما يحقق لمن استنصحه المصلحة والفائدة.

في الحديث عن رسول الله(ص): "لينصح الرجل منكم أخاه كنصيحته لنفسه"، فكما تفكر في نفسك وتنصحها لتحقق لها ما يربّحها وما يفتح لها أبواب الرزق، عليك أيضاً أن تفكّر في أخيك، وأن تنصحه بالمستوى ذاته من نصيحتك لنفسك. وعنه (ص): "إنَّ أعظم الناس منـزلةً عند الله يوم القيامة، أمشاهم في أرضه بالنصيحة لخلقه"، الذي يتحرك ويسعى بما يحقق النصيحة لخلق الله، وبما يجعلهم يحققون النتائج الطيبة لأنفسهم. وعنه(ص): "أنسك الناس نسكاً ـ والنسك هو العبادة والطاعة، والناسك هو العابد القائم بالطاعات والقربات ـ أنصحهم جيباً ـ والجيب هو الصدر، كونه ينفتح على الخير والمحبة ـ وأسلمهم قلباً لجميع المسلمين"، الذي لا يفكر إلا في الخير للمسلمين جميعاً، ولا يتعقّد من أيّ مسلم، وهو ما تمثل بكلمة أميرنا أمير المؤمنين(ع) عندما أُبعد عن حقه في الخلافة، وكان يساء إليه بين وقت وآخر، قال: "لأسلمنَّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلا عليَّ خاصة".

النُصح طريق إلى الجنّة

ونقرأ في الحديث عن رسول الله(ص) أنه سئل: مَن أحبّ الناس إلى الله؟ فقال(ص): "أنفع الناس للناس"، الشخص الذي يفجّر كل طاقاته، فإن كان عالِماً نفعهم بطاقاته العلمية، وإن كان صاحب قوة حرَّك طاقة القوة لديه، وإن كان صاحب مال نفعهم بطاقاته المالية... وهكذا نلاحظ كيف أن الإسلام يؤكد العمل الاجتماعي الذي ينقذ الناس من الأخطار. يقول الحديث عن رسول الله(ص): "من ردّ عن قوم من المسلمين عادية ماء أو نار ـ كالسيل مثلاً، أو أيّ من الأخطار التي تصيب الناس في بيوتهم ـ وجبت له الجنة". فالجنة لا تُحصّل فقط بالصلاة والصوم على أهميتهما، بل بالتكافل الاجتماعي، ولاسيما في النكبات الاجتماعية كالتي أُصبنا بها في الضاحية وفي قرى الجنوب والبقاع، فإن من يساعد على تسهيل مرور الناس ورفع القنابل الموقوتة التي خلّفها الصهاينة وراءهم، وكل ما من شأنه تخفيف أعباء هذه الكارثة عن كاهلهم، فإن أجره قد يكون الجنة.

وعن الإمام الصادق(ع): "يجب للمؤمن على المؤمن ـ ليست مسألة استحباب، بل هي فريضة ـ النصيحة في المشهد والمغيب"، وعنه(ع) في تفسير قوله تعالى: {وجعلني مباركاً أينما كنت} (مريم:31)، يقول(ع): "جعلني نفَّاعاً للناس"، فالسيد المسيح(ع) يقدّم نفسه إلى الناس وهو في المهد، أن الله جعله نفّاعاً للناس وفي خدمتهم. وعن النبي(ص): "الخلق عيال الله ـ فالله هو الذي تكفّل برزقهم، وهو الذي يعطيهم الصحة والعافية والمال ـ وأحبّ الخلق إلى الله من نفع عيال الله، وأدخل على أهل بيت سروراً"، والله يريد بذلك أن يقرّب بين الناس وأن يجعل العلاقات بينهم علاقات خير وخدمة ومصلحة ورحمة.

الحياديّون لا ينتمون إلى الإسلام

أمَّا في الجانب السلبي، فإننا نقرأ حديث رسول الله(ص): "من أصبح لا يهتمُّ بأمور المسلمين فليس بمسلم"، فهذا الذي لا يكترث بالناس كيف يعيشون، ولا يحاول أن يخفف عنهم أعباء الحياة، هو لا ينتمي بالمعنى العملي إلى الإسلام، ولاسيما أولئك الحياديون الذين لا يقفون مع الشعب الذي يتعرّض للحرب الأمريكية ـ الإسرائيلية، أو يوجّهون الانتقادات للمقاومين ويحمّلونهم مسؤولية كل ردّ فعل قد يقوم به العدو، هؤلاء لو كانوا يواجهون مسؤولية الواقع الإسلامي، لما وقفوا هذه المواقف التي يجد فيها البعض المبرر للهجوم على المجاهدين. وفي الحديث عن النبي(ص): "من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم، ومن سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين ولم يجبه ـ كالعربان الذين يصمّون آذانهم عن استغاثة المظلومين ـ فليس بمسلم"، الإسلام لا بد من أن يجعلك جزءاً من الأمة، وبذلك تقوى الأمة الإسلامية.

لنعش هموم النّاس وآلامهم

وأحبّ أن أنبِّه إلى نقطة، وهي أن كثيرين من الناس تعرَّضت بيوتهم ومحلاّتهم للتهديم، وهناك أناس من المؤمنين قاموا بتقديم المساعدات والإعانات، ولكن هناك من يحاول الإثراء في الحرب ممن يستغلون حاجات الناس الذين يبحثون عن مسكن أو متجر أو بضاعة أو أثاث، فتراهم يرفعون الأسعار، أنا أقول لهؤلاء: عليكم أن تعيشوا همّ هؤلاء الناس الذين فقدوا بيوتهم، فلا نستغل أوضاع الحرب لنكوّن ثروتنا على حساب آلامهم وهمومهم. أحبّ لكل الناس أن تفكّر في هذه النقطة، لأننا نعيش نكبة حقيقية، وشعبنا شعب طيب عزيز وعلينا أن لا نذلّه، ولنتذكّر أن الرزق من الله، فإذا استغليت حاجات الناس، فإنَّ الله سيعاقبك على ذلك في الدنيا قبل الآخرة.

نسأل الله أن يكشف هذه الغمة عن هذه الأمة، وأن يُصلح كل فاسد من أمور المسلمين.

الخطبـة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... {اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون* واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبيّن الله لكم آياته لعلكم تهتدون} (آل عمران:102-103). ماذا هناك؟

أمريكا شريك إسرائيل في الحرب

لا تزال أمريكا تخوض حربها الإسرائيلية ضد لبنان، فقد منحت الكيان الصهيوني فرصة زمنية لكي يتمادى في حصاره البحري والجوي للمرفأ والمطار، وللاستمرار في احتلاله لبعض المواقع في جنوب لبنان، في خرق فاضح للقرار 1701 الذي لم ينص على أيّ شيء من ذلك، لأن المطلوب ـ أمريكياً ـ أن تظهر "إسرائيل" بمظهر القوة بعد أن سقطت في موقع الهزيمة العسكرية تحت ضربات المقاومة، ما يعني أن هذا الحصار لن يرتفع إلا بضغط أمريكي...

ولكن المسألة هي أن أمريكا ليست وسيطاً في هذا الأمر، بل هي شريك للعدو في كل هذه الحرب التي أرادت واشنطن من خلالها أن تحوّل لبنان إلى موقع لنفوذها السياسي، ومركز لمشروعها في تأسيس الشرق الأوسط الجديد، ولكن الصمود اللبناني ـ بمقاومته وشعبه ـ منعها من تحقيق ذلك، لأن هذا الشعب أدرك من خلال وعيه، أن أمريكا عدوّ للعرب والمسلمين تماماً كما هي "إسرائيل"، من خلال هذا التحالف الأمريكي ـ الإسرائيلي في العدوان التاريخي على لبنان والعرب منذ الـ48، والذي لم تخض فيه إسرائيل أيّ حرب ضدنا إلا بالتنسيق والتخطيط مع الإدارات الأمريكية المتعاقبة، وبغطاء سياسي وأمني وعسكري منها.

تغطية أمريكية لحصار لبنان

ولهذا كله، لم يستطع الأمين العام للأمم المتحدة أن يحرّك مسألة رفع الحصار عن لبنان في زيارته للبنان وفلسطين المحتلة، لأن الإدارة الأمريكية تشجّع وتدعم وتغطي "إسرائيل" للاستمرار في هذا الحصار، وهذا ما ينبغي للشعب اللبناني أن يعرفه، كما ينبغي لكل فريق السفارة الأمريكية في لبنان أن يتعرّفه، ولا ندري، فربما كان هذا الحصار يتم بإشراف بعض أفراد هذا الفريق وموافقته، للوصول إلى بعض أهدافه المحلية ضد المقاومة التي لا يزال يحمّلها مسؤولية هذه الحرب ومفاعيلها السلبية المأساوية، تماماً كما لو كانت أمريكا الإسرائيلية بريئة من ذلك، ولعل ما يوحي بقوة الضغط الأمريكي الدولي في المسألة اللبنانية، أن الاتحاد الأوروبي ـ ومعه أكثر دول العالم ـ لا يزال يطالب برفع الحصار الإسرائيلي عن لبنان، ولكن أمريكا ترفض ذلك، لأنها لا تحترم المجتمع الدولي الذي تتاجر باسمه.

إبادة إسرائيلية منظَّمة ضدّ الشعب الفلسطيني

ولا تزال أمريكا تخوض حربها الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، الذي يتعرّض لعملية إبادة منظّمة، من خلال عمليات القتل اليومي لأطفاله ونسائه وشيوخه بالأسلحة الأمريكية المتطوّرة، كما يواجه تدمير بنيته التحتية بحجة مواجهة فصائله المجاهدة التي تعتبرها أمريكا "مجموعة من الإرهابيين"، لأن التعريف الأمريكي للإرهاب يشمل كل موقع أو فصيل أو مجموعة لا تتناغم مع سياستها وتسعى إلى تحرير الأرض من الاحتلال، ولهذا عطّلت أمريكا في خطتها السياسية المفاوضات بين حكومة العدو والشعب الفلسطيني، حتى ولو على أقل قدر ممكن من حقوقه الشرعية، ومنعت اللجنة الرباعية الدولية من تنفيذ "خارطة الطريق"، لأنها ترى أن دور هذه اللجنة هو البقاء في الوقت الضائع لتستكمل إسرائيل خطتها في السيطرة الجغرافية على فلسطين، من خلال المستوطنات والجدار العنصري الفاصل وتهويد القدس، بموافقة رئيس أمريكا الذي أعلن رفضه لعودة اللاجئين إلى ديارهم في فلسطين، على الرغم من القرار 194 الصادر عن مجلس الأمن، والذي كان قراراً أمريكياً، ولكن ما يصح للعدو في رفضه لقرارات مجلس الأمن لا يحقّ لغيره عند أمريكا، لأن الضغط الأمريكي يجعل إسرائيل فوق القانون الدولي.

إن أمريكا تتحدث عن صواريخ المقاومة ضد العدو في فلسطين، ولكنها لا تتحدث عن الأسلحة الأمريكية التي تجتاح فلسطين كلها، وتحاصر غزة والضفة الغربية والقدس بغطاء أمريكي!! ومن اللافت أننا لا نجد للأنظمة العربية أيّ دور ضاغط في منع العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني، حتى من الدول التي صالحت إسرائيل، بل إن بعضها قد رفض الاعتراف بالحكومة الفلسطينية التي شكّلتها حركة حماس، والتي انتُخبت من الشعب الفلسطيني.

ولهذا، على الفلسطينيين أن يقتنعوا بالحقيقة السياسية الأمنية التي تؤكد أنّ أمريكا لن تمنح الشعب الفلسطيني أيّ حلّ لمشكلته إلا الحلّ الإسرائيلي الذي لا يسمح إلا بقيام الدولة الفلسطينية المسخ والمقطّعة الأوصال غير القابلة للحياة، وإن عليهم أن يتابعوا جهادهم للتحرير، وأن يستفيدوا من تجربة المقاومة الإسلامية في لبنان التي استطاعت أن تكسر هيبة إسرائيل وتُسقط عنفوانها، وتُنـزل بها أكبر هزيمة في تاريخها، لأن ما أُخذ بالقوة لا يُستردُّ إلا بالقوة.

العراق: نحو مقاومة وطنية لمواجهة الاحتلال

ولا تزال الحرب الأمريكية ضد الشعب العراقي في احتلالها للعراق، والذي حوّل هذا البلد إلى بلد يغرق في الفوضى الأمنية، من خلال جيش الاحتلال الأمريكي والبريطاني الذي يقوم بين وقت وآخر بالمجازر المتنوّعة ضد المدنيين العراقيين في أكثر من مدينة، بحجّة بعض المبررات التي لا تخضع لأيّ منطق إنساني.

ولا تزال الفوضى التي أنتجها الاحتلال تثير الحساسيات لدى أولئك الذين لا يحترمون الإنسان في إنسانيته، من التكفيريين الذين يقتلون المدنيين الأبرياء تحت تأثير حال التكفير التي أغرقت العراق في بحر من الدماء، حتى إنها لا تستثني طفلاً ولا امرأةً ولا شيخاً، فتحوّلوا من قتال المحتل إلى قتال المسلمين من العراقيين، في الوقت الذي ترتكب كل هذه المآسي والمجازر تحت سمع الاحتلال وبصره، من دون أن يمنع أيّ شيء من ذلك، لأن مصلحته تقتضي بقاء هذه الفوضى كمبرر لبقاء احتلاله، وذلك في سبيل تنفيذ خطته في نهب ثروات العراق، وتحريك مواقعه للسيطرة على دول الجوار، لتحقيق استراتيجيته السياسية في خدمة مصالحه الاستكبارية.

وإننا، في هذا الجو، نريد للشعب العراقي أن يرتفع إلى مستوى الوعي الإسلامي السياسي، وأن يلتقي على قاعدة الوحدة الإسلامية والوطنية، وأن ينطلق لمواجهة الاحتلال في مقاومة وطنية تواجه المحتل من موقع واحد، بعيداً عن أية حالة تبتعد عن حركة الحرية والاستقلال، لأن الاحتلال شرّ كله، ولا شرّ أعظم منه في الوطن كله.

أمريكا: مصادرة الأمم المتحدة

وليس بعيداً من ذلك، لا تزال الولايات المتحدة الأمريكية ـ المتحالفة مع "إسرائيل" ـ تعتبر المشروع الإيراني النووي السلمي خطراً عليها، وهي لا تزال تثير الحرب ضد إيران في هذا المشروع، باتهامها بأنها تخطط لصنع السلاح النووي، على الرغم من إصدارها فتوى بتحريم الأسلحة النووية المدمِّرة للإنسان، ولكن أمريكا ـ ومعها دول الاتحاد الأوروبي الخاضع لها ـ لا تريد لأية دولة إسلامية أن تملك الخبرة العلمية المتقدّمة، ولاسيما النووية، التي تمنحها الفرصة للاستفادة من ذلك في مشاريعها الاقتصادية.

وفي هذا المجال، فإننا نلاحظ أن هناك تحضيراً لاستخدام الأمم المتحدة كموقع من مواقع الحرب الاقتصادية والسياسية ضد الجمهورية الإسلامية في إيران، ومنعها من الحصول على حقها الطبيعي الذي ضمنته المواثيق الدولية في مسألة الطاقة النووية السلمية.

إننا ـ أمام هذا الواقع ـ نحذّر من أن تكون آخر حفلات الجنون الأمريكي هي حفلة تسقط فيها الأمم المتحدة سقوطاً نهائياً بعدما جرى احتلالها من قِبَل أمريكا، وهذا ما لاحظناه في حديث المندوب الأمريكي الذي تحدث كجنرال يُسقط قراراته على جنوده، عندما قال: "إن الأمم المتحدة لن تتهاون مع إيران بعد 31 آب"، تماماً كما لو كانت أمريكا تملك الأمم المتحدة، أو أن المندوب الأمريكي هو أمينها العام أو الناطق الرسمي باسمها، بعد أن جُمِّد دور الأمين العام للأمم المتحدة عن كل فعالية في هذا المجلس، بل تحوّل إلى شاهد زور.

حذار من حرب ضد إيران

إننا في الوقت الذي نتابع تصريحات المسؤولين في الإدارة الأمريكية، التي ربما تخطِّط لإيجاد الظروف السياسية والعسكرية لحرب استباقية جديدة ضد إيران، نتصور أن هذا الحلم الأمريكي لن تستطيع الولايات المتحدة الأمريكية أن تبلغه، لأنه قد يحرق المنطقة كلها، ويحوّلها إلى جحيم يؤدي إلى خطر على مقدّرات العالم وعلى ثروته البترولية، وسوف تنطلق الشعوب العربية والإسلامية لتعبّر عن الموقف الحقيقي للعالم العربي والإسلامي تجاه السياسة الأمريكية، تماماً كما عبّرت عن عدائها لهذه السياسة التي أعطت "إسرائيل" كل دعم وغطاء في الحرب الوحشية التي شنتها ضد لبنان. إن أمريكا تحوّلت إلى شيطان أعمى يعيش هستيريا القوة التي قد تسقط كل عنفوانه مهما استعرض عضلاته، وعلى الشعوب أن تعرف كيف تواجه جبروته في عملية تطويق وإسقاط.

لكشف الغموض عن قضيّة الصدر

وأخيراً، فإننا نستذكر في هذا اليوم قائداً إسلامياً كبيراً، استطاع أن يحقق الكثير لشعبه في لبنان وللإسلام والمسلمين، إنه العلاّمة الكبير المجاهد السيد موسى الصدر، الذي أطلق المقاومة ضد إسرائيل، وأعلن أن القدس لن يتحرر إلا من خلال ضربات المؤمنين، وأن السلاح زينة الرجال، ليكون سلاحاً مقاوماً مسؤولاً من أجل الحرية والعزة والكرامة. إننا نتذكّره بكل تقدير واحترام، ونطالب بكشف الغموض عن قضيته، وإعلان النتائج أمام الأمة كلها، لأنه كان للأمة كلها، وللإنسان كله، وللإسلام كله.

وختاماً، إننا نريد للمرحلة التي نعيشها، والمتوّجة بانتصار المجاهدين، أن تتحرك في خط الانتصار السياسي والروحي والثقافي، وأن تطرد الذين يخططون في اتجاه الهزيمة لمصلحة العدو من لبنان كله، ومن العرب كلهم، ومن المسلمين كلهم.

لبناء مجتمع متماسك ومتكافل:
حبُّ النّاس والنّفع لهم والنصيحة لله


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

الخطبة الأولى

بسم الله الرَّحمن الرحيم

النصيحة عبادة

كيف يتعامل المؤمن مع المؤمن؟ كيف يفكِّر في قضاياه وفي كل أموره؟ قد يحتاج المؤمن إلى النصيحة في أيّ قضية من قضاياه، سواء كانت هذه النصيحة في دين أو في دنيا، مما يريد من خلاله أن يتعرّف الرأي الصحيح الذي يمكن أن يحفظ له أوضاعه. كيف يمكن للمؤمن أن ينصح المؤمنين في مواقفه التي تتَّصل بأوضاعهم، والتي قد يتأثّرون بها سلباً إذا كان الموقف سلباً، أو إيجاباً إذا كان الموقف إيجاباً، لأنّ مواقف بعض الناس، ولاسيما الذين يملكون الموقع المتقدّم في المسؤولية والقيادة، قد تترك نتائجها بشكل أو بآخر على حياة المؤمنين وأوضاعهم، سواء كان ذلك في أمر سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي، لأن الإنسان المسؤول، عليه أن لا يفكر في ذاته في ما يراه من مصلحةٍ أو مفسدة، بل عليه أن يفكِّر في الناس من حوله، وأن يدرس كل أمورهم فيما يعيشونه ويتحركون به؟

على الإنسان المؤمن أن لا يكون ذاتياً، أنانياً، يفكر في نفسه أو في الناس الأقربين إليه فحسب، بل عليه أن يعتبر نفسه جزءاً من مجتمع، وأن يحبّ للناس ما يحبّ لنفسه، ويكره لهم ما يكره لها، وقد ورد في الحديث عن النبي(ص) وعن الأئمة من أهل البيت(ع) أكثر من حديث حول نصيحة المؤمن للمؤمن، سواء كان فرداً أو مجتمعاً، فنقرأ أن المؤمن إذا استشار أخاه المؤمن في أيّ أمر، إذا أراد أن يتزوّج أو يدخل في شراكة في مؤسسة أو تجارة أو ما أشبه ذلك، فعلى الشخص المستنصَح أن لا يفكر في مصلحته الذاتية، بل أن يفكر فيما يحقق لمن استنصحه المصلحة والفائدة.

في الحديث عن رسول الله(ص): "لينصح الرجل منكم أخاه كنصيحته لنفسه"، فكما تفكر في نفسك وتنصحها لتحقق لها ما يربّحها وما يفتح لها أبواب الرزق، عليك أيضاً أن تفكّر في أخيك، وأن تنصحه بالمستوى ذاته من نصيحتك لنفسك. وعنه (ص): "إنَّ أعظم الناس منـزلةً عند الله يوم القيامة، أمشاهم في أرضه بالنصيحة لخلقه"، الذي يتحرك ويسعى بما يحقق النصيحة لخلق الله، وبما يجعلهم يحققون النتائج الطيبة لأنفسهم. وعنه(ص): "أنسك الناس نسكاً ـ والنسك هو العبادة والطاعة، والناسك هو العابد القائم بالطاعات والقربات ـ أنصحهم جيباً ـ والجيب هو الصدر، كونه ينفتح على الخير والمحبة ـ وأسلمهم قلباً لجميع المسلمين"، الذي لا يفكر إلا في الخير للمسلمين جميعاً، ولا يتعقّد من أيّ مسلم، وهو ما تمثل بكلمة أميرنا أمير المؤمنين(ع) عندما أُبعد عن حقه في الخلافة، وكان يساء إليه بين وقت وآخر، قال: "لأسلمنَّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلا عليَّ خاصة".

النُصح طريق إلى الجنّة

ونقرأ في الحديث عن رسول الله(ص) أنه سئل: مَن أحبّ الناس إلى الله؟ فقال(ص): "أنفع الناس للناس"، الشخص الذي يفجّر كل طاقاته، فإن كان عالِماً نفعهم بطاقاته العلمية، وإن كان صاحب قوة حرَّك طاقة القوة لديه، وإن كان صاحب مال نفعهم بطاقاته المالية... وهكذا نلاحظ كيف أن الإسلام يؤكد العمل الاجتماعي الذي ينقذ الناس من الأخطار. يقول الحديث عن رسول الله(ص): "من ردّ عن قوم من المسلمين عادية ماء أو نار ـ كالسيل مثلاً، أو أيّ من الأخطار التي تصيب الناس في بيوتهم ـ وجبت له الجنة". فالجنة لا تُحصّل فقط بالصلاة والصوم على أهميتهما، بل بالتكافل الاجتماعي، ولاسيما في النكبات الاجتماعية كالتي أُصبنا بها في الضاحية وفي قرى الجنوب والبقاع، فإن من يساعد على تسهيل مرور الناس ورفع القنابل الموقوتة التي خلّفها الصهاينة وراءهم، وكل ما من شأنه تخفيف أعباء هذه الكارثة عن كاهلهم، فإن أجره قد يكون الجنة.

وعن الإمام الصادق(ع): "يجب للمؤمن على المؤمن ـ ليست مسألة استحباب، بل هي فريضة ـ النصيحة في المشهد والمغيب"، وعنه(ع) في تفسير قوله تعالى: {وجعلني مباركاً أينما كنت} (مريم:31)، يقول(ع): "جعلني نفَّاعاً للناس"، فالسيد المسيح(ع) يقدّم نفسه إلى الناس وهو في المهد، أن الله جعله نفّاعاً للناس وفي خدمتهم. وعن النبي(ص): "الخلق عيال الله ـ فالله هو الذي تكفّل برزقهم، وهو الذي يعطيهم الصحة والعافية والمال ـ وأحبّ الخلق إلى الله من نفع عيال الله، وأدخل على أهل بيت سروراً"، والله يريد بذلك أن يقرّب بين الناس وأن يجعل العلاقات بينهم علاقات خير وخدمة ومصلحة ورحمة.

الحياديّون لا ينتمون إلى الإسلام

أمَّا في الجانب السلبي، فإننا نقرأ حديث رسول الله(ص): "من أصبح لا يهتمُّ بأمور المسلمين فليس بمسلم"، فهذا الذي لا يكترث بالناس كيف يعيشون، ولا يحاول أن يخفف عنهم أعباء الحياة، هو لا ينتمي بالمعنى العملي إلى الإسلام، ولاسيما أولئك الحياديون الذين لا يقفون مع الشعب الذي يتعرّض للحرب الأمريكية ـ الإسرائيلية، أو يوجّهون الانتقادات للمقاومين ويحمّلونهم مسؤولية كل ردّ فعل قد يقوم به العدو، هؤلاء لو كانوا يواجهون مسؤولية الواقع الإسلامي، لما وقفوا هذه المواقف التي يجد فيها البعض المبرر للهجوم على المجاهدين. وفي الحديث عن النبي(ص): "من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم، ومن سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين ولم يجبه ـ كالعربان الذين يصمّون آذانهم عن استغاثة المظلومين ـ فليس بمسلم"، الإسلام لا بد من أن يجعلك جزءاً من الأمة، وبذلك تقوى الأمة الإسلامية.

لنعش هموم النّاس وآلامهم

وأحبّ أن أنبِّه إلى نقطة، وهي أن كثيرين من الناس تعرَّضت بيوتهم ومحلاّتهم للتهديم، وهناك أناس من المؤمنين قاموا بتقديم المساعدات والإعانات، ولكن هناك من يحاول الإثراء في الحرب ممن يستغلون حاجات الناس الذين يبحثون عن مسكن أو متجر أو بضاعة أو أثاث، فتراهم يرفعون الأسعار، أنا أقول لهؤلاء: عليكم أن تعيشوا همّ هؤلاء الناس الذين فقدوا بيوتهم، فلا نستغل أوضاع الحرب لنكوّن ثروتنا على حساب آلامهم وهمومهم. أحبّ لكل الناس أن تفكّر في هذه النقطة، لأننا نعيش نكبة حقيقية، وشعبنا شعب طيب عزيز وعلينا أن لا نذلّه، ولنتذكّر أن الرزق من الله، فإذا استغليت حاجات الناس، فإنَّ الله سيعاقبك على ذلك في الدنيا قبل الآخرة.

نسأل الله أن يكشف هذه الغمة عن هذه الأمة، وأن يُصلح كل فاسد من أمور المسلمين.

الخطبـة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... {اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون* واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبيّن الله لكم آياته لعلكم تهتدون} (آل عمران:102-103). ماذا هناك؟

أمريكا شريك إسرائيل في الحرب

لا تزال أمريكا تخوض حربها الإسرائيلية ضد لبنان، فقد منحت الكيان الصهيوني فرصة زمنية لكي يتمادى في حصاره البحري والجوي للمرفأ والمطار، وللاستمرار في احتلاله لبعض المواقع في جنوب لبنان، في خرق فاضح للقرار 1701 الذي لم ينص على أيّ شيء من ذلك، لأن المطلوب ـ أمريكياً ـ أن تظهر "إسرائيل" بمظهر القوة بعد أن سقطت في موقع الهزيمة العسكرية تحت ضربات المقاومة، ما يعني أن هذا الحصار لن يرتفع إلا بضغط أمريكي...

ولكن المسألة هي أن أمريكا ليست وسيطاً في هذا الأمر، بل هي شريك للعدو في كل هذه الحرب التي أرادت واشنطن من خلالها أن تحوّل لبنان إلى موقع لنفوذها السياسي، ومركز لمشروعها في تأسيس الشرق الأوسط الجديد، ولكن الصمود اللبناني ـ بمقاومته وشعبه ـ منعها من تحقيق ذلك، لأن هذا الشعب أدرك من خلال وعيه، أن أمريكا عدوّ للعرب والمسلمين تماماً كما هي "إسرائيل"، من خلال هذا التحالف الأمريكي ـ الإسرائيلي في العدوان التاريخي على لبنان والعرب منذ الـ48، والذي لم تخض فيه إسرائيل أيّ حرب ضدنا إلا بالتنسيق والتخطيط مع الإدارات الأمريكية المتعاقبة، وبغطاء سياسي وأمني وعسكري منها.

تغطية أمريكية لحصار لبنان

ولهذا كله، لم يستطع الأمين العام للأمم المتحدة أن يحرّك مسألة رفع الحصار عن لبنان في زيارته للبنان وفلسطين المحتلة، لأن الإدارة الأمريكية تشجّع وتدعم وتغطي "إسرائيل" للاستمرار في هذا الحصار، وهذا ما ينبغي للشعب اللبناني أن يعرفه، كما ينبغي لكل فريق السفارة الأمريكية في لبنان أن يتعرّفه، ولا ندري، فربما كان هذا الحصار يتم بإشراف بعض أفراد هذا الفريق وموافقته، للوصول إلى بعض أهدافه المحلية ضد المقاومة التي لا يزال يحمّلها مسؤولية هذه الحرب ومفاعيلها السلبية المأساوية، تماماً كما لو كانت أمريكا الإسرائيلية بريئة من ذلك، ولعل ما يوحي بقوة الضغط الأمريكي الدولي في المسألة اللبنانية، أن الاتحاد الأوروبي ـ ومعه أكثر دول العالم ـ لا يزال يطالب برفع الحصار الإسرائيلي عن لبنان، ولكن أمريكا ترفض ذلك، لأنها لا تحترم المجتمع الدولي الذي تتاجر باسمه.

إبادة إسرائيلية منظَّمة ضدّ الشعب الفلسطيني

ولا تزال أمريكا تخوض حربها الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، الذي يتعرّض لعملية إبادة منظّمة، من خلال عمليات القتل اليومي لأطفاله ونسائه وشيوخه بالأسلحة الأمريكية المتطوّرة، كما يواجه تدمير بنيته التحتية بحجة مواجهة فصائله المجاهدة التي تعتبرها أمريكا "مجموعة من الإرهابيين"، لأن التعريف الأمريكي للإرهاب يشمل كل موقع أو فصيل أو مجموعة لا تتناغم مع سياستها وتسعى إلى تحرير الأرض من الاحتلال، ولهذا عطّلت أمريكا في خطتها السياسية المفاوضات بين حكومة العدو والشعب الفلسطيني، حتى ولو على أقل قدر ممكن من حقوقه الشرعية، ومنعت اللجنة الرباعية الدولية من تنفيذ "خارطة الطريق"، لأنها ترى أن دور هذه اللجنة هو البقاء في الوقت الضائع لتستكمل إسرائيل خطتها في السيطرة الجغرافية على فلسطين، من خلال المستوطنات والجدار العنصري الفاصل وتهويد القدس، بموافقة رئيس أمريكا الذي أعلن رفضه لعودة اللاجئين إلى ديارهم في فلسطين، على الرغم من القرار 194 الصادر عن مجلس الأمن، والذي كان قراراً أمريكياً، ولكن ما يصح للعدو في رفضه لقرارات مجلس الأمن لا يحقّ لغيره عند أمريكا، لأن الضغط الأمريكي يجعل إسرائيل فوق القانون الدولي.

إن أمريكا تتحدث عن صواريخ المقاومة ضد العدو في فلسطين، ولكنها لا تتحدث عن الأسلحة الأمريكية التي تجتاح فلسطين كلها، وتحاصر غزة والضفة الغربية والقدس بغطاء أمريكي!! ومن اللافت أننا لا نجد للأنظمة العربية أيّ دور ضاغط في منع العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني، حتى من الدول التي صالحت إسرائيل، بل إن بعضها قد رفض الاعتراف بالحكومة الفلسطينية التي شكّلتها حركة حماس، والتي انتُخبت من الشعب الفلسطيني.

ولهذا، على الفلسطينيين أن يقتنعوا بالحقيقة السياسية الأمنية التي تؤكد أنّ أمريكا لن تمنح الشعب الفلسطيني أيّ حلّ لمشكلته إلا الحلّ الإسرائيلي الذي لا يسمح إلا بقيام الدولة الفلسطينية المسخ والمقطّعة الأوصال غير القابلة للحياة، وإن عليهم أن يتابعوا جهادهم للتحرير، وأن يستفيدوا من تجربة المقاومة الإسلامية في لبنان التي استطاعت أن تكسر هيبة إسرائيل وتُسقط عنفوانها، وتُنـزل بها أكبر هزيمة في تاريخها، لأن ما أُخذ بالقوة لا يُستردُّ إلا بالقوة.

العراق: نحو مقاومة وطنية لمواجهة الاحتلال

ولا تزال الحرب الأمريكية ضد الشعب العراقي في احتلالها للعراق، والذي حوّل هذا البلد إلى بلد يغرق في الفوضى الأمنية، من خلال جيش الاحتلال الأمريكي والبريطاني الذي يقوم بين وقت وآخر بالمجازر المتنوّعة ضد المدنيين العراقيين في أكثر من مدينة، بحجّة بعض المبررات التي لا تخضع لأيّ منطق إنساني.

ولا تزال الفوضى التي أنتجها الاحتلال تثير الحساسيات لدى أولئك الذين لا يحترمون الإنسان في إنسانيته، من التكفيريين الذين يقتلون المدنيين الأبرياء تحت تأثير حال التكفير التي أغرقت العراق في بحر من الدماء، حتى إنها لا تستثني طفلاً ولا امرأةً ولا شيخاً، فتحوّلوا من قتال المحتل إلى قتال المسلمين من العراقيين، في الوقت الذي ترتكب كل هذه المآسي والمجازر تحت سمع الاحتلال وبصره، من دون أن يمنع أيّ شيء من ذلك، لأن مصلحته تقتضي بقاء هذه الفوضى كمبرر لبقاء احتلاله، وذلك في سبيل تنفيذ خطته في نهب ثروات العراق، وتحريك مواقعه للسيطرة على دول الجوار، لتحقيق استراتيجيته السياسية في خدمة مصالحه الاستكبارية.

وإننا، في هذا الجو، نريد للشعب العراقي أن يرتفع إلى مستوى الوعي الإسلامي السياسي، وأن يلتقي على قاعدة الوحدة الإسلامية والوطنية، وأن ينطلق لمواجهة الاحتلال في مقاومة وطنية تواجه المحتل من موقع واحد، بعيداً عن أية حالة تبتعد عن حركة الحرية والاستقلال، لأن الاحتلال شرّ كله، ولا شرّ أعظم منه في الوطن كله.

أمريكا: مصادرة الأمم المتحدة

وليس بعيداً من ذلك، لا تزال الولايات المتحدة الأمريكية ـ المتحالفة مع "إسرائيل" ـ تعتبر المشروع الإيراني النووي السلمي خطراً عليها، وهي لا تزال تثير الحرب ضد إيران في هذا المشروع، باتهامها بأنها تخطط لصنع السلاح النووي، على الرغم من إصدارها فتوى بتحريم الأسلحة النووية المدمِّرة للإنسان، ولكن أمريكا ـ ومعها دول الاتحاد الأوروبي الخاضع لها ـ لا تريد لأية دولة إسلامية أن تملك الخبرة العلمية المتقدّمة، ولاسيما النووية، التي تمنحها الفرصة للاستفادة من ذلك في مشاريعها الاقتصادية.

وفي هذا المجال، فإننا نلاحظ أن هناك تحضيراً لاستخدام الأمم المتحدة كموقع من مواقع الحرب الاقتصادية والسياسية ضد الجمهورية الإسلامية في إيران، ومنعها من الحصول على حقها الطبيعي الذي ضمنته المواثيق الدولية في مسألة الطاقة النووية السلمية.

إننا ـ أمام هذا الواقع ـ نحذّر من أن تكون آخر حفلات الجنون الأمريكي هي حفلة تسقط فيها الأمم المتحدة سقوطاً نهائياً بعدما جرى احتلالها من قِبَل أمريكا، وهذا ما لاحظناه في حديث المندوب الأمريكي الذي تحدث كجنرال يُسقط قراراته على جنوده، عندما قال: "إن الأمم المتحدة لن تتهاون مع إيران بعد 31 آب"، تماماً كما لو كانت أمريكا تملك الأمم المتحدة، أو أن المندوب الأمريكي هو أمينها العام أو الناطق الرسمي باسمها، بعد أن جُمِّد دور الأمين العام للأمم المتحدة عن كل فعالية في هذا المجلس، بل تحوّل إلى شاهد زور.

حذار من حرب ضد إيران

إننا في الوقت الذي نتابع تصريحات المسؤولين في الإدارة الأمريكية، التي ربما تخطِّط لإيجاد الظروف السياسية والعسكرية لحرب استباقية جديدة ضد إيران، نتصور أن هذا الحلم الأمريكي لن تستطيع الولايات المتحدة الأمريكية أن تبلغه، لأنه قد يحرق المنطقة كلها، ويحوّلها إلى جحيم يؤدي إلى خطر على مقدّرات العالم وعلى ثروته البترولية، وسوف تنطلق الشعوب العربية والإسلامية لتعبّر عن الموقف الحقيقي للعالم العربي والإسلامي تجاه السياسة الأمريكية، تماماً كما عبّرت عن عدائها لهذه السياسة التي أعطت "إسرائيل" كل دعم وغطاء في الحرب الوحشية التي شنتها ضد لبنان. إن أمريكا تحوّلت إلى شيطان أعمى يعيش هستيريا القوة التي قد تسقط كل عنفوانه مهما استعرض عضلاته، وعلى الشعوب أن تعرف كيف تواجه جبروته في عملية تطويق وإسقاط.

لكشف الغموض عن قضيّة الصدر

وأخيراً، فإننا نستذكر في هذا اليوم قائداً إسلامياً كبيراً، استطاع أن يحقق الكثير لشعبه في لبنان وللإسلام والمسلمين، إنه العلاّمة الكبير المجاهد السيد موسى الصدر، الذي أطلق المقاومة ضد إسرائيل، وأعلن أن القدس لن يتحرر إلا من خلال ضربات المؤمنين، وأن السلاح زينة الرجال، ليكون سلاحاً مقاوماً مسؤولاً من أجل الحرية والعزة والكرامة. إننا نتذكّره بكل تقدير واحترام، ونطالب بكشف الغموض عن قضيته، وإعلان النتائج أمام الأمة كلها، لأنه كان للأمة كلها، وللإنسان كله، وللإسلام كله.

وختاماً، إننا نريد للمرحلة التي نعيشها، والمتوّجة بانتصار المجاهدين، أن تتحرك في خط الانتصار السياسي والروحي والثقافي، وأن تطرد الذين يخططون في اتجاه الهزيمة لمصلحة العدو من لبنان كله، ومن العرب كلهم، ومن المسلمين كلهم.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية