معركة بدر بين الماضي والحاضر

معركة بدر بين الماضي والحاضر

في مثل هذا اليوم، كانت معركة بدر التي خاضها المسلمون كأول معركة مواجهة بينهم وبين قريش، ذلك لأن الله سبحانه وتعالى لم يرد لرسول الله(ص) وللمسلمين معه أن يقاتلوا قريش في مكة، حيث كانت المرحلة التي قضاها رسول الله(ص) في مكة قبل الهجرة، والتي استغرقت ثلاث عشرة سنة، هي مرحلة الدعوة. فقد كان النبي(ص) يريد أن يدعو إلى الإسلام مستفيداً من موقع مكة المميز في الجزيرة العربية، لأن مكة كانت تمثل العاصمة الثقافية للمنطقة، حيث كان كل شعراء الجزيرة العربية وكل خطبائها يجتمعون في كل سنة في سوق اسمه سوق عكاظ، ليعرض كل منهم ما عنده من شعر، وما عنده من خطابة، ليتميز الشعراء الكبار والخطباء الكبار بما يقدّمون من شعرهم ومن خطابتهم، ويجتمع الناس ليستمعوا إلى هؤلاء.

موقع مكّة في الجزيرة العربيّة

وكانت مكة أيضاً عاصمة تجارية للمنطقة، فقد كانت قريش تتميز بقدرة اقتصادية، لأنه كان تجار قريش يعملون على أن يذهبوا رحلة الشتاء والصيف التي حدّثنا الله عنها {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ}... كانوا يذهبون إلى اليمن وإلى الشام حتى يبيعوا بضائعهم ويستوردوا البضائع المختلفة، ثم يأتوا فيها إلى مكة ويأتي من كل المناطق إلى مكة حتى يشتروا منها ويبيعوا فيها..

وكانت تمثل إلى جانب ذلك مركزاً العاصمة الدينية، لأن الكعبة كانت يُحج إليها منذ زمن إبراهيم(ع)، حيث فرض الحج بشكل مختصر منذ زمن إبراهيم(ع) عندما أنزل عليه قوله: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ}.. فبدأ الحجُّ منذ عهد إبراهيم، عندما بنى الكعبة وبنى المسجد الحرام، ولهذا يجب أن يصلي الإنسان في الحجِّ ركعتي الطواف وراء مقام إبراهيم الذي كان يصلي فيه، وكانت تقاليد الحجِّ من التقاليد المعروفة عند العرب، حتى بعد أن طرأت عقيدة الشرك عندهم، وصاروا يعبدون الأصنام، وقضية المجيء إلى الكعبة والطواف حول الكعبة والحجِّ لها بدأت عند العرب بشكل طبيعي جداً، وعلى هذا الأساس، كانوا يحجُّون إليها، وكان حجُّهم يُثير غيرة كثير من الملوك الذين كانوا محيطين بالمنطقة القريبة من مكة. وهذه قضية أبرهة الذي هاجم مكة بالأفيال، وأراد أن يهدم الكعبة، بعد أن عمل لنفسه كعبة، وطلب من الناس أن يحجوا إليها، ولكن لم يفعلوا، فكانوا يوسخون فيها، فلما عرف ذلك، قال سوف أهدم الكعبة، والله صرفه فيما حدّثنا: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ}.. فكانت العاصمة الدينية التي يأتي إليها العرب من سائر أنحاء الجزيرة العربية حتى يحجُّوا إلى الكعبة.

إذاً مكة تمثل مركز تجمع؛ تجمع الذي يقصدون التجارة، وتجمع الذين يقصدون الثقافة، وتجمع الذين يقصدون الحج، ولهذا كان وجود النبي(ص) في مكة طيلة هذه المدة، حتى يستفيد من موقع مكة لأجل إيصال الدعوة الإسلامية إلى كل هؤلاء الناس، دون أن يحتاج مثلاً إلى أن يسافر، لأن الكل سوف يأتون، فيستغل الفرصة في هذا المجال. وكان رسول الله(ص) عندما يسمع أنه جاء رئيس قبيلة أو رئيس عشيرة أو وجيه أو ما إلى ذلك، كان يقصده في بيته ليدعوه إلى الله سبحانه وتعالى، وكان ينتقل من بيت إلى بيت حتى يدعو الناس إلى الله سبحانه وتعالى. فعندما انطلق النبي(ص) بدعوته، كانت قرش تضطهد المسلمين، وكانت تعذب بعضهم وتقتل بعضهم، وتشرد بعضهم وتجلدهم بالسياط وما إلى ذلك. وكان بعض المسلمين يملكون القوة ويستطيعون أن يصادموا ويستطيعون أن يهاجموا ويدافعوا عن أنفسهم، فكانوا يأتون إلى رسول الله(ص) ويقولون: يا رسول الله، ائذن لنا أن ندافع عن أنفسنا، نحن غير قادرين أن نتحمل، هؤلاء الجماعة لا يوافقون أن نبقى على ديننا، ولا يقبلوا من عندنا حتى نترك ديننا. فكان النبي(ص) يقول إني لم أؤمر بقتال.

القتال في الإسلام لا بدّ من أن يكون بإذن شرعي، يعني لا يحق لأحد أن يقاتل الناس من دون إذن شرعي. لماذا؟ لأن الحياة ملك لله سبحانه وتعالى، حياتنا ملك الله، وحياة غيرنا ملك الله، وإذا كان الأمر كذلك، فالله لم يرخّص لنا أن نُعرّض حياتنا للخطر إلاّ بإذن خاصّ، ولم يسمح لنا بأن نقتل غيرنا إلاّ بإذن خاص، ولذا القتال يحتاج إلى إذن، لأنه ليس حالة مزاجية، فيقاتل الإنسان كيفما يكون ويهجم كيفما يكون.. ليس هكذا!

ولهذا كان النبي(ص) عندما يرى أن المسلمين غير قادرين على أن يتحملوا هذا الضغط الذي يواجههم، كان يطلب منهم أن يهاجروا. ولذا هاجر إلى الحبشة كثير من الرجال ومن النساء الذين لم يستطيعوا أن يصمدوا أمام تعذيب قريش، ولا يريدون أن يتركوا دينهم، فهاجروا إلى الحبشة حتى يفرّوا بدينهم من ذلك. فبقيت هذه الحالة مدة ثلاث عشرة سنة، بعد أن هاجر النبي(ص) إلى المدينة، وركّز قواعد الدين الجديد، وأصبح أغلب أهل المدينة مسلمين ما عدا اليهود، ودخل أغلب هؤلاء عن اقتناع، وبقيت جماعة صغيرة لما رأوا أن الإسلام انتشر، دخلوا في الإسلام من باب النفاق، لأن الجو العام كلّه أصبح إسلامياً، فاضطروا إلى أن يدخلوا في الإسلام، ولم يبقَ هناك إلاّ اليهود ولم يدخلوا في الإسلام في المدينة، وعمل النبي(ص) أول الأمر على تركيز المجتمع بالمدينة، يعني بدأ يعلم المسلمين ويثقفهم ويركزهم ويقويهم، ثم بعدها عقد معاهدة في ذلك الوقت، معاهدة عدم اعتداء، ومعاهدة من خوارج اليهود إلى وقت معين، حتى يجمّد مواجهتهم للإسلام والمسلمين، وبعد أن استتبّ للنبي(ص) الأمر، فكّر أنه ما دامت قريش قوية وتسيطر على المقدّرات التجارية والأمنية والسياسية في الجزيرة العربية، فلن يستطيع أحد أن يدخل الإسلام، لأن الكل يخافون من قريش، وليسوا مستعدين أن يأتوا للنبيّ(ص) ويدعوا للإسلام.

وهذا شيء موجود في كلّ وقت، لأن هناك كثير من الناس ربما يحبون أن يدخلوا مع بعض الجماعات أو ينتموا إلى بعض الجهات الإسلامية، ولكنهم يخافون، بعضهم يخافون من أهلهم، وبعضهم يخافون من الناس الّذين حولهم، وبعضهم يخافون من القوى الحزبية.

إن الناس عندما ترى قوة معينة موجودة عند جماعة معينة، فإنهم يهابون هذه الجماعة، فيوصون بعضهم البعض أن لا تدخلوا في أيّ شيء ضد هؤلاء الجماعة. هذا موجود عندنا. كذلك العرب، عندما سمعوا دعوة النبي محمد(ص)، وتفهمَّوا إنسانية الدعوة وعظمتها والحلول التي تقدمها لمشكلات الإنسان، ورأوا في الإسلام خيراً وسعادة، قالوا إذا نحن نريد أن نتبع محمد بن عبد الله، فمعنى ذلك أنّ قريش سوف تضغط علينا ضغوطاً اقتصادية وضغوطاً سياسية وضغوطاً أمنية، وسوف تمنعنا من الدخول إلى مكة.

والنبي(ص) أراد أن يخترق هذا الحاجز، يعني أراد أن يدخل مع قريش في عملية صراع لإثبات قوّة الإسلام وحتى يهزم قريش، فإذا انهزمت قريش سقطت هيبتها، وإذ سقطت هيبتها يسقط الحاجز بين الناس وبين الدخول إلى الإسلام، ويبدأ الناس يدخلون في دين الله أفواجاً.

التخطيط لمعركة بدر

ولهذا قرر النبي(ص) أن يحاصر قريش تجارياً، وكانت طريق قوافل قريش التجارية تمر قريباً من المدينة في طريقها إلى الشام، حيث كان طريق الشام يمرّ قرب المدينة في ذلك الوقت. ولذلك فقد صمَّم رسول الله على أن يتعرض لبعض قوافل قريش التجارية التي كان يقودها أبو سفيان، وقرّر أن يذهب مع المسلمين ليأخذوا هذه القافلة ويستفيدوا منها، وحتى يقطع الطريق على قريش، فلا تمر بهذا الطريق إلى الشام، فتضعف اقتصادياً، كأول موقف من مواقف التحدي ومن مواقف ما نسميه في عصرنا هذا الحصار الاقتصادي، بأن يمنعوا الطرق التجارية.

وصمَّم رسول الله على هذا، ولم يكن المسلمون قد مرّوا بتجربة حرب سابقة، وهم حديثو العهد بالإسلام.

والله يحدثنا في القرآن، أنّ المسلمين تفاجأوا بالأمر، فسلّم بعضهم به قائلاً: ما دام النبيّ يأمر بشيء، يجب أن نمشي ونحن مغمضو العيون. بعضهم كانوا يريدون أن يعترضوا ويجادلوا، لعلهم يبررون لأنفسهم التراجع، وهذه الصورة عرّفنا الله إياها بالقرآن {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} يعني الله أخرجك يا محمد ودعاك إلى أن تخرج إلى المدينة لتواجه قريش بخطة، وهي خطة الحق، وحتى تستطيع أن تثبت الحق {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ}، يعني طرحت عليهم أمر الله وتعليماته فأخذوا يجادلونك {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ}، كما يؤخذ أحدهم إلى ساحة الإعدام، فكيف تصبح حالته النفسية؟

الله يقول إن بعض هؤلاء المؤمنين عندما دعوتهم إلى أن يواجهوا الموقف بهذا الشّكل، فإنهم واجهوه كما يواجهه الإنسان الذي يُقاد إلى ساحة الإعدام، لشدّة قلقهم على مصيرهم، وهذا يحدث لدى فريق من الناس ممّن يأخذ ببعض المبادئ حالة الراحة أو حالة السِّلم، دون التّفكير في الحرب والصراع والمشاكل، وعندما يطلب منه أن يخوض مشكلة، فإنه يصبح في حالة طوارئ نفسية، ويشعر بالرعب والفزع. وهكذا كان بعض المسلمين في بداية إسلامهم {وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ..}.. الله يقول لكم إما أن تحصلوا على القافلة وتغنموها، وإما أن تكون الحرب، وأنت تتمنون من الله أن لا يدخلكم في حرب {وَيُرِيدُ الله أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ}.. يعني الله دفع النبيّ إلى أن يقوم بهذا الموقف على أساس أن يحقّ الحقّ ويقطع دابر الكافرين {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}..

وانطلق النبي(ص)، وكان لأبي سفيان جواسيس وعيون، فعرف أن هناك تخطيطاً من قبل الرسول(ص) لأخذ القافلة، فأرسل رسولاً من قبله إلى مكّة، حتى يستنجد بجماعه من قريش ليستعدّوا للحرب، ثم حاول أبو سفيان بحيلة معيَّنة أن يخرج عن الطريق المألوف ويذهب على طريق الساحل حتى يبتعد.. ونجت القافلة.

استعداد قريش للمعركة

وحينما وصل الصوت إلى مكة، اجتمعوا واستعدوا، لأنه لا يوجد شخص إلا وعنده مال في هذه القافلة، فاجتمعوا واستعدوا لحرب رسول الله(ص)، حتى يدافعوا عن أموالهم في هذا المجال، وبعد أن نجا أبو سفيان، بعث لهم خبراً، وكانوا مستعدين ومستنفرين للخرب، وعندما بلغهم أنّ القافلة نجت، قال بعضهم: لماذا نواصل المسير ما دمنا كنا نريد أن ندافع عن أموالنا، وها هي قد نجت؟ وقال البعض الآخر: لا بدّ من أن نقاوم محمداً حتى نقضي عليه وعلى كل جماعته حتى يصفو لنا الأمر. وانتصر الرأي الثاني، وهكذا انطلقت قريش بقوتها. وكانت تملك قوة سلاح مميزة، وتملك قوة مالية مميزة، وكان عدد مقاتليها ألف شخص خرجوا لقتال النبي(ص) بشكل استعراضي؛ الطبول والدفوف، والغناء والرقص، كأنهم يسيرون إلى حلقة عرس أو حفلة نصر.

وعرف النبي بنجاة القافلة، وعرف باستعداد قريش وجماعتها، وكان مع النبي ثلاثمائة وأربعة عشر شخصاً أو خمسة عشر شخصاً أو عشرين شخصاً، ولم يكن عندهم عدة كبيرة، فالسيوف التي كانت عندهم قليلة، والرماح التي عندهم قليلة، ولم يكن عندهم من الخيول إلاّ فرسان، وكان عندهم سبعون بعيراً يتعاقبون عليها، فكان النبي(ص) وعلي(ع) وشخص ثالث يتعاقبون على بعير واحد، حتى يقال إنه كان علي ورفيقه الآخر راكبين، والنبي كان يمشي حسب التعاقب، فوصلوا إلى عقبة هناك وقالوا له: يا رسول الله، أنزلنا. نحن ننزل وأنت تركب، فأنت لا تتحمل الصعود. فقال لهما: ما أنتما بأقوى على المشي مني، وما أنتما بأكثر حاجة للأجر مني.. ولم يوافق على الركوب، بل صعد إلى العقبة بنفسه.

المسلمون على المحكّ

وهكذا، لم يكن يوجد استعداد كامل للمعركة، لأنَّ المسلمين خرجوا على أساس التعرض للقافلة، وإذا المعركة أمامهم بشكل كبير، فجمع النبيّ أصحابه هؤلاء، لأن الله سبحانه كان قد أدّب رسوله على أن لا يتحرك بأي أمر من الأمور إلاّ على أساس مشاورة أصحابه، رغم أنه كان لا يحتاج أن يسأل أحداً. لماذا؟ لأنّ النبيّ لم يعيّنه الناس، وليس هم الذين انتخبوه، إنما الله هو الّذي انتخبه، فهو المصطفى الذي اصطفاه الله واختارهُ من بين الناس وأرسله رسولاً، ولذلك لا يحقّ للناس أن يقولوا: نحن انتخبناه ويجب أن يشاورنا. ثم إنما يستشير الشّخص عندما يخاف أن يخطئ، ولكنّه {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}. فالنبيّ لا يخطئ، بل هو معصوم، ولكنّ الله أراد أن يعطي الناس درساً للحاكم والمحكوم والقيادة والقاعدة، فيجب على القيادة أن تشاور القاعدة، ويجب على الحاكم أن يشاور الشّعب، حتى يعي الشّعب مسؤوليّاته ومواقفه، وحتى يصير هناك نوع من أنواع التّواصل الفكري والرّوحي والسياسي بين القاعدة والقيادة.

ولهذا جمع النبيّ أصحابه وسألهم: ما هو رأيكم؟ نحن سنواجه حرباً، فهل أنتم مستعدون للحرب، وأنتم قليلون وهم كثيرون، وأنتم ضعفاء وهم أقوياء؟ هل أنتم مستعدّون للحرب أم لا؟

ووقف ممثل المهاجرين المقداد بن الأسود(رض)، وقال له: "يا رسول الله، سر على بركة الله، إننا لا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}، ولكن نقول لك: اذهب أنت وربّك فقاتلا وإنّا معكما مقاتلون. يا رسول الله، لو سرت بنا إلى برك الغماد ـ يعني مدينة الحبشة ـ لسرنا معك".

ولم يكتفِ النبي بهذا، لأن الأكثرية المقاتلة كانت من الأنصار الذين هم من المدينة، وكان النبي متعاقداً معهم لمّا بايعوه في مكّة قبل أن يهاجر إلى المدينة، على أن يحموه مما يحمون به أنفسهم وعوائلهم، أما خارج بلدهم، فالبيعة لم تكن مركّزة على هذا الأساس، ففكر النبيّ أنّه ربَّما يحتجّ الأنصار، فيقولون نحن لم نتّفق معك على أن نقاتل خارج بلدنا، فاتّفاقنا معك أن ندافع عنك في بلدنا، لهذا خشي النبيّ(ص) أن يخذلوه في هذا المجال، وكان إيمان بعضهم لا بزال غير قويّ.

هنا، في هذا المجال، قام سعد بن معاذ(رض)، وكان ممثّل الأنصار، فقال له: "يا رسول الله، إنّا نراك سكتّ كأنك تريدنا. نقول؟"، قال: نعم، إني أنتظر كلامكم. قال له: "يا رسول الله، لقد آمنّا بك وصدَّقناك وعاهدناك على الموت. والله لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك!". وهكذا استتمّ لرسول الله(ص) الرأي والتّأييد.

وساروا حتى بلغوا مكان بدر، وهو المكان الذي تمرّ عليه القوافل بين مكّة والمدينة، وكانت الساحة ساحة صعبة، لأنّ أولئك يملكون القوّة العدديّة والسّلاح والمال، والمسلمون لا يملكون إلاّ القليل من ذلك. هنا جاء العامل الغيبي، فالمسلمون هرعوا إلى الله، لأنَّ المعركة صارت معركة صعبة، وليس لهم إلّا أن يرجعوا إليه. والله يحدِّثنا: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ}، يعني كانوا في حالة استغاثة. وكان النبيّ(ص) يقول في ابتهاله: "اللهمَّ إن تهلك هذه العصابة، فلن تعبد في الأرض أبداً". وكلمة العصابة هذه الأيّام صار لها مدلول ليس طيّباً، ولكنّ أساساً تعني الجماعة القليلة العدد، وهي مأخوذة من عصبة الرّأس، فالجماعة القليلة العدد المتضامنة مع بعضها البعض، يسمّونها العصابة، مثلما العصابة الّتي تلفّ الرأس كله وتربطه من جميع جوانبه، كذلك هؤلاء كأنهم مرتبطون بعقيدتهم.

وأنت إن أردت أن تُعبَد، فإنك لن تُعبَد إلّا من خلال هؤلاء الذين يمثلون الطليعة الإسلاميّة التي تقود الناس للإسلام، وعلى هذا الأساس انصرنا يا ربّ. هنا يقول الله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ}.. أنتم خائفون لأنكم ثلاثمائة وخمسة عشر وهم ألف، فأنا أبعث لكم أنفساً من الملائكة يكونون احتياطيين لكم ليسندوكم. ثم بيّن لهم الله أنّ إرسال الملائكة لا يعني أن يتّكل المسلمون عليهم في القتال {وَمَا جَعَلَهُ الله إِلَّا بُشْرَى}. الله جعلهم بشارة، وليس معناه أن يقاتلوا عنكم، أنت يجب عليكم أن تقاتلوا، لأن الله يريد للمسلمين أن يقاتلوا هم ويستعينوا بنصر الله، وإلّا فإن الله قادر على إلحاق الهزيمة بأيّ جيش عن طريق المعجزة، ولكنّه أراد للناس أن يتحركوا من موقع المعاناة، وأراد أن يرفع معنويات المسلمين، ويشعرهم بأنّ عليهم أن لا يخافوا، لأنهم ليسوا وحدهم، فالله معهم، والملائكة معهم، كما هي كلمة النبي(ص): {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا}. والله أراد أن ينزع عنصر الخوف من نفوسهم، فأراد أن يجعل الجوَّ محاطاً بالملائكة، بحيث يشعر المسلمون وهم يقاتلون بأنهم يقاتلون والملائكة معهم تُشجّعهم وتسندهم، فإذا اقترب منهم خطر، منعت عنهم الخطر، ولكن هم الذين يقاتلون.. ولذا قال: {وَمَا جَعَلَهُ الله إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}. إنّ الله سبحانه وتعالى أنزل عليهم شيئاً آخر، فهم قد قطعوا هذا الطّريق الطويل من المدينة إلى بدر الّذي يبلغ مائة أو مائة وخمسين كيلومتراً، بين مشي على الأقدام وركوبٍ على الجمال، وما يستتبع ذلك من تعب شديد... فوصلوا مجهدين لا يقوون على خوض المعركة بشكل قويّ، فماذا فعل الله؟ أول شيء ألقى النعاس عليهم في ليلة المعركة {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ}، يعني أنّ الله ألقى عليهم النعاس حتى يناموا أو يشعروا بالأمان، لأن الإنسان الذي أمامه معركة لا يستطيع النوم، لكنّ الله عندما أراد أن يطمئن قلوبهم، أراد أن يؤمّنهم.. ولذا لاحظوا الآية ماذا تقول: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ}، ثم بعد ذلك، أنزل الله المطر عليهم، لأنّ الأرض كانت تغرس فيها الرجل، وكانت صعبة، وكان عليهم غبرة، وربما كان بعضهم يحتاج إلى غسل مثلاً، فكانوا بحاجة إلى ماء، والماء عندهم قليل، فيقول الله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ}، أي أنّ المطر كان مطراً هادئاً خفيفاً غير شديد، بحيث يستطيع الشّخص أن يغتسل فيه براحة. وعندما يكون الماء هكذا، فهو لا يوحّل الأرض بل يثبّتها، ولهذا فإنّ الله ثبّت لهم الأرض بواسطة هذا المطر، وأيضاً أنعش الجوّ حولهم، وجعل الشّخص الّذي يريد أن يتنظّف، يتنظّف بالمطر، لأنه لا يوجد ماء قريب، والّذي يريد أن يغتسل يغتسل بالمطر {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ}.. الله بعث تعليمات إلى الملائكة {فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا} يعني ثبتوهم حتى يثبتوا.. ثم خاطب المؤمنين {وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} اضربوا أيديهم واضربوا أعناقهم.

بداية المعركة

وهكذا بدأت المعركة، فبرز أول الأمر أبطال قريش، ونزل لهم جماعة من الأنصار، قالوا لرسول الله: يا محمد، ابعث إلينا أكفاءنا، فأرسل إليهم عليّاً وحمزة والحارث من أقربائه، وتبارزوا، ولم يمر وقت طويل حتى هزمت قريش، ويقال إنّ علياً(ع) قتل نصف القتلى، وشارك في قتل النصف الآخر، حتى هنّأ جبرائيل رسول الله على بطولة عليّ(ع) الذي لم يكن قد حارب سابقاً أبداً، وكان عمره آنذاك اثنين وعشرين سنة. ونقل أنّ جبرائيل قال لرسول الله: "لا فتى إلاّ عليّ، ولا سيف إلّا ذو الفقار"، لما أبلاه عليّ(ع) في معركة بدر.

وهكذا انهزم المشركون بين قتيل وجريح وأسير ومهزوم وبدأت القوة الإسلامية تفرض نفسها على ساحة بلاد الجزيرة العربية آنذاك، وأصبح الإسلام قوة، وبدأ يمتدّ، ثم بعد ذلك امتدت الحروب بين رسول الله(ص) وقريش، حتى كان فتح مكّة، ونزلت الآية: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً}..

العبرة من معركة بدر

إذاً، كانت معركة بدر من أجل أن يردّ رسول الله التحدي للمشركين، وأن يثبت القوّة، وأن يوحي للمسلمين بأنّ عليهم أن يضاعفوا قوّتهم، وأن لا ينهزموا أمام قوَّة الأعداء، وكان يريد منهم أن يقف أحدهم في مقابل العشرة {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً}، أي أنَّ الله سبحانه وتعالى أراد من المسلمين أن يكون كلّ واحد قدر عشرة، وأن ينمّوا قوّتهم على هذا الأساس. ثم رأى أن المسلمين ليس عندهم هذه الهمّة الزائدة، فقال: {الْآَنَ خَفَّفَ الله عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ}، أي أنّه يجب على المسلم إذا لم يقدر أن يقف مقابل عشرة، أن يقف مقابل اثنين على الأقلّ.

ونفهم من هذا، أنه لا بدّ للمسلمين من أن يأخذوا بأسباب القوة، وأن لا يعيشوا حياة الاسترخاء والضعف أمام أعدائهم، وأن لا ينظروا إلى قوة أعدائهم وإلى ضعفهم؛ بل عليهم أن يعرفوا أنّ من الممكن أن يغلب الضّعفاء الأقوياء {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله}..

وهكذا، انطلقت بدر لتسجل الموقف الإسلاميّ القويّ الصّابر الصّامد الذي استطاع أن يهزم المشركين. ونحن نحتاج في ظروفنا الحاضرة إلى أن نواجه التحديات التي تأتي إلينا بروحية المسلمين في بدر، وأنا أعطيكم نموذجاً من العقلية التي كانت موجودة، عندما دعا النبي(ص) أصحابه إلى أن ينطلقوا لمعركة قريش، قال أحدهم: "يا رسول الله، هذه قريش ما ذلّت منذ عزّت"، أي أنّ قريش ليس من الممكن أن تُذلَّ، وليس من الممكن أن تنهزم.. ومعنى هذا أننا مهزومون حتماً إذا قاتلنا قريش.

هكذا كانت العقلية، والآن لنر عندنا نحن العقلية المماثلة، ما هي؟ العقلية المماثلة أن الإنسان الذي يقف ضد إسرائيل والناس الذين يدعون إلى قتال إسرائيل، فإن الكلمة التي تقال لهم: هذه إسرائيل هاجمت الجيوش العربية في عدة معارك فهزمتها، إسرائيل مع أمريكا، فمن يقدر على أمريكا؟! ومن يقدر على إسرائيل؟! الجندي الإسرائيلي ليس له مثيل في العالم! هؤلاء استطاعوا أن يهزموا عدة جيوش عربية.

أليس هذا الكلام هو الذي يقال؟ الشيء نفسه كان يقال في ذلك الزّمن: هذه قريش ما ذلّت منذ عزّت، وهذه إسرائيل ما انهزمت منذ انتصرت، لو كنّا نحن باقين على هذه العقليّة، لكنّا الآن تحت أقدام إسرائيل، لكن عندما انطلق المجاهدون، وانطلقت أيضاً القيادة الإسلامية العليا المتمثّلة بالإمام الخميني ـ حفظه الله ـ في انطلاقة المواجهة ضد إسرائيل، عندما حصل هذا الشيء، جرّب المجاهدون من الشباب المؤمن المسلم أن يضربوا إسرائيل، فرأوا أن الجندي الإسرائيلي يموت ويجرح ويهرب ويخاف ويرتعب، وليس كما يقولون أنّ الجندي الإسرائيلي لا يموت، وليس هناك شكّ في أن الجندي الإسرائيلي يكون داخل الدبابة وهو خائف، معنى هذا أنهم ليسوا أقوياء، بل هم ضعفاء، ولكن نحن أيضاً ضعفاء، وعندما نصير أقوياء، وننمّي قوتنا ونضاعفها ونكثرها، وتتحرّك الروح الإسلامية في كلّ المسلمين، فلن يبقى هناك أحد من إسرائيل.. ولكن إسرائيل باقية لأنّ المسلمين كلهم يحبون الراحة، ويحبون الاسترخاء، ويحبون النوم، ولا يحبون التعب، وهم مستعدّون لأن يعطوا بأيديهم إعطاء الذّليل. هنا روح بدر تريد أن تدفعنا إلى أن لا نفكر نحن في قوة الأعداء وفي ضعفنا، بل علينا أن نصنع من هذا الضعف قوّة، وأن نعتمد على الله، وأن نستغيث بالله، وأن نواصل خطّ السّير حتى نستطيع أن نحصل على ما نحصل عليه.

اتّفاق 17 أيار

النقطة الأخرى، بعد يومين تأتي ذكرى 17 أيار، عندما صارت المفاوضات بين إسرائيل ولبنان بإشراف أمريكا، حتى تعطي إسرائيل شروطاً أمنية وسياسية واقتصادية، لتجعلا لبنان تحت سلطتهما بطريقة قانونية، وربما يتذكّر الكثير منكم المسألة، في يوم اتفاق 17 أيار، عندما كانوا يوقّعون الاتفاق، كم كان في البلد سياسيون وشخصيات وقيادات؟ هل يوجد أحد ارتفع صوته؟ بالعكس، كثير من الناس الآن الذين يهدّدون ويرعدون ويدَّعون أنهم أسقطوا اتفاق 17 أيار ،كانوا يقولون يجب أن ندعم أمين الجميل في المفاوضات، ويحب أن ندعم الحكم، ويجب أن يكون المفاوض اللبناني قويّاً في مفاوضاته مع إسرائيل.

وهذا المجلس النيابي أغلب نوّابه صوَّتوا لمصلحة الاتفاق مع إسرائيل، من الذي قال لا؟! مجموعة بسيطة من العلماء ومن الرجال المؤمنين ومن النّساء المؤمنات الذين اجتمعوا في الاعتصام الاحتجاجي في هذا المسجد([1])، وكان أفراد الجيش اللبناني المظفّر على سطوح البنايات وعلى مفارق الطرق، لا ليقاتلوا إسرائيل ويحموا الناس منها، بل جاؤوا ليحموا إسرائيل من الناس، وليقصفوا المسجد والأبرياء، ولكن نحن نرفع رؤوسنا، والحمد لله، بالشباب المؤمنين والنساء المؤمنات، من فتيات وكبيرات السن اللّواتي نزلن إلى الشارع، ووقفن أمام هؤلاء الجنود المغرَّر بهم والضباط الحاقدين، وقلن لهم اقتلونا وأطلقوا علينا الرصاص!

لاحظنا أن جماعة من الجيش أطلقوا الرصاص وعملوا ما عملوا، وسقط الشهيد السيّد المرحوم محمد نجدي برصاص الجيش اللّبناني الذي كان يجب أن يوجه رصاصه إلى إسرائيل وليس إلى الشباب المؤمن، وجرح من جرح، واعتقل من اعتقل، والكلّ ساكت. ولم تخرج أيّ تظاهرة، ولم يرتفع أيّ صوت، حتى عندما ثار العلماء المسلمون والشّباب والنساء، صار الكلام عليهم مثل المطر؛ ماذا جاؤوا يعملون؟ هؤلاء يريدون أن يورطونا من جديد، ويريدون أن يقتلونا، ويريدون أن يربكوا لنا الوضع.

ومرّت الأيام، وانقلبت القصّة، وأصبحوا كلهم أبطال إسقاط اتفاق 17 أيار، من هم الذين أسقطوه؟ إنهم هذه الجماعة المؤمنة الطيبة من العلماء الّذين اعتصموا، ومن الرجال الذين اعتصموا، ومن النساء اللّواتي اعتصمن، هؤلاء الّذين ثبتوا أمام الرّصاص.. الّذي أسقط اتفاق 17 أيار، ولم يمكّن إسرائيل من أن تقوم بما تريد به، هو هذه المجموعة من الناس، والذي أسقطه هو دم الشهيد محمد نجدي، رحمة الله عليه، هؤلاء الذين أسقطوه، ولكن الكل ادَّعوا البطولة.. والمؤمنون عندما يعملون، فإنهم لا يعملون لكي يتحدّث الناس عنهم، بل ليتحدث الله عنهم، وهذا هو الأساس، لكن نحن نأخذ درساً من هذا، هذه المجموعة الصغيرة من الناس، الذين اجتمعوا في المسجد آنذاك، إنما اجتمعوا من خلال تكليفهم الشّرعي، أولئك مجتمعون في خلدة حتى يوقعوا، وهؤلاء مجتمعون في مسجد الإمام الرضا حتى يحتجوا. وتغلب الاجتماع الذي انطلق في المسجد على الاجتماع الذي انطلق هناك بالاتّفاق بين ممثل لبنان وإسرائيل وأمريكا، وبهذا سقط الجميع أمام هؤلاء المؤمنين {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله}.

الشّيء الذي يجب أن نفكّر فيه، أنّ هناك أموراً لا تأتي نتائجها إلّا مع الوقت، فعندما يصف لنا الطّبيب دواءً، فقد لا يكون الشّفاء مباشرةً، فقد يقول لنا إنَّ الشّفاء سيكون بعد سنة مثلاً، أو بعد سنتين أو ثلاث، ولكن عليك أن تواظب على الدّواء، ولكنَّ بعض النّاس يريد الشّفاء مباشرة، وإلّا يعتبر أنّ الدّواء لا ينفع، وهكذا القضايا السياسيّة والاجتماعية..

 ومن ذلك نأخذ درساً، أنّ هذه الفئات المؤمنة الطيّبة الصّغيرة، استطاعت ـ بحمد الله ـ أن تطرد أمريكا من بيروت، وأن تطرد فرنسا من بيروت، وأن تطرد إسرائيل من كثير من جنوب لبنان، وهم قلّة من الناس.. نأخذ من هذا الدّرس، أننا كلما أصبحنا أقرب إلى روح البدريّين، أصبحنا أقرب إلى الانتصار، وأنّ الله سوف ينصرنا إذا أخذنا بأسباب النّصر، والحمد لله ربّ العالمين..

* خطبة الجمعة لسماحته ألقاها من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) بتاريخ: 21 صفر 1426 هـ/ 1 نيسان - أبريل 2005م.


([1]) مسجد الإمام الرضا(ع) في الضاحية الجنوبية في بيروت.

في مثل هذا اليوم، كانت معركة بدر التي خاضها المسلمون كأول معركة مواجهة بينهم وبين قريش، ذلك لأن الله سبحانه وتعالى لم يرد لرسول الله(ص) وللمسلمين معه أن يقاتلوا قريش في مكة، حيث كانت المرحلة التي قضاها رسول الله(ص) في مكة قبل الهجرة، والتي استغرقت ثلاث عشرة سنة، هي مرحلة الدعوة. فقد كان النبي(ص) يريد أن يدعو إلى الإسلام مستفيداً من موقع مكة المميز في الجزيرة العربية، لأن مكة كانت تمثل العاصمة الثقافية للمنطقة، حيث كان كل شعراء الجزيرة العربية وكل خطبائها يجتمعون في كل سنة في سوق اسمه سوق عكاظ، ليعرض كل منهم ما عنده من شعر، وما عنده من خطابة، ليتميز الشعراء الكبار والخطباء الكبار بما يقدّمون من شعرهم ومن خطابتهم، ويجتمع الناس ليستمعوا إلى هؤلاء.

موقع مكّة في الجزيرة العربيّة

وكانت مكة أيضاً عاصمة تجارية للمنطقة، فقد كانت قريش تتميز بقدرة اقتصادية، لأنه كان تجار قريش يعملون على أن يذهبوا رحلة الشتاء والصيف التي حدّثنا الله عنها {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ}... كانوا يذهبون إلى اليمن وإلى الشام حتى يبيعوا بضائعهم ويستوردوا البضائع المختلفة، ثم يأتوا فيها إلى مكة ويأتي من كل المناطق إلى مكة حتى يشتروا منها ويبيعوا فيها..

وكانت تمثل إلى جانب ذلك مركزاً العاصمة الدينية، لأن الكعبة كانت يُحج إليها منذ زمن إبراهيم(ع)، حيث فرض الحج بشكل مختصر منذ زمن إبراهيم(ع) عندما أنزل عليه قوله: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ}.. فبدأ الحجُّ منذ عهد إبراهيم، عندما بنى الكعبة وبنى المسجد الحرام، ولهذا يجب أن يصلي الإنسان في الحجِّ ركعتي الطواف وراء مقام إبراهيم الذي كان يصلي فيه، وكانت تقاليد الحجِّ من التقاليد المعروفة عند العرب، حتى بعد أن طرأت عقيدة الشرك عندهم، وصاروا يعبدون الأصنام، وقضية المجيء إلى الكعبة والطواف حول الكعبة والحجِّ لها بدأت عند العرب بشكل طبيعي جداً، وعلى هذا الأساس، كانوا يحجُّون إليها، وكان حجُّهم يُثير غيرة كثير من الملوك الذين كانوا محيطين بالمنطقة القريبة من مكة. وهذه قضية أبرهة الذي هاجم مكة بالأفيال، وأراد أن يهدم الكعبة، بعد أن عمل لنفسه كعبة، وطلب من الناس أن يحجوا إليها، ولكن لم يفعلوا، فكانوا يوسخون فيها، فلما عرف ذلك، قال سوف أهدم الكعبة، والله صرفه فيما حدّثنا: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ}.. فكانت العاصمة الدينية التي يأتي إليها العرب من سائر أنحاء الجزيرة العربية حتى يحجُّوا إلى الكعبة.

إذاً مكة تمثل مركز تجمع؛ تجمع الذي يقصدون التجارة، وتجمع الذين يقصدون الثقافة، وتجمع الذين يقصدون الحج، ولهذا كان وجود النبي(ص) في مكة طيلة هذه المدة، حتى يستفيد من موقع مكة لأجل إيصال الدعوة الإسلامية إلى كل هؤلاء الناس، دون أن يحتاج مثلاً إلى أن يسافر، لأن الكل سوف يأتون، فيستغل الفرصة في هذا المجال. وكان رسول الله(ص) عندما يسمع أنه جاء رئيس قبيلة أو رئيس عشيرة أو وجيه أو ما إلى ذلك، كان يقصده في بيته ليدعوه إلى الله سبحانه وتعالى، وكان ينتقل من بيت إلى بيت حتى يدعو الناس إلى الله سبحانه وتعالى. فعندما انطلق النبي(ص) بدعوته، كانت قرش تضطهد المسلمين، وكانت تعذب بعضهم وتقتل بعضهم، وتشرد بعضهم وتجلدهم بالسياط وما إلى ذلك. وكان بعض المسلمين يملكون القوة ويستطيعون أن يصادموا ويستطيعون أن يهاجموا ويدافعوا عن أنفسهم، فكانوا يأتون إلى رسول الله(ص) ويقولون: يا رسول الله، ائذن لنا أن ندافع عن أنفسنا، نحن غير قادرين أن نتحمل، هؤلاء الجماعة لا يوافقون أن نبقى على ديننا، ولا يقبلوا من عندنا حتى نترك ديننا. فكان النبي(ص) يقول إني لم أؤمر بقتال.

القتال في الإسلام لا بدّ من أن يكون بإذن شرعي، يعني لا يحق لأحد أن يقاتل الناس من دون إذن شرعي. لماذا؟ لأن الحياة ملك لله سبحانه وتعالى، حياتنا ملك الله، وحياة غيرنا ملك الله، وإذا كان الأمر كذلك، فالله لم يرخّص لنا أن نُعرّض حياتنا للخطر إلاّ بإذن خاصّ، ولم يسمح لنا بأن نقتل غيرنا إلاّ بإذن خاص، ولذا القتال يحتاج إلى إذن، لأنه ليس حالة مزاجية، فيقاتل الإنسان كيفما يكون ويهجم كيفما يكون.. ليس هكذا!

ولهذا كان النبي(ص) عندما يرى أن المسلمين غير قادرين على أن يتحملوا هذا الضغط الذي يواجههم، كان يطلب منهم أن يهاجروا. ولذا هاجر إلى الحبشة كثير من الرجال ومن النساء الذين لم يستطيعوا أن يصمدوا أمام تعذيب قريش، ولا يريدون أن يتركوا دينهم، فهاجروا إلى الحبشة حتى يفرّوا بدينهم من ذلك. فبقيت هذه الحالة مدة ثلاث عشرة سنة، بعد أن هاجر النبي(ص) إلى المدينة، وركّز قواعد الدين الجديد، وأصبح أغلب أهل المدينة مسلمين ما عدا اليهود، ودخل أغلب هؤلاء عن اقتناع، وبقيت جماعة صغيرة لما رأوا أن الإسلام انتشر، دخلوا في الإسلام من باب النفاق، لأن الجو العام كلّه أصبح إسلامياً، فاضطروا إلى أن يدخلوا في الإسلام، ولم يبقَ هناك إلاّ اليهود ولم يدخلوا في الإسلام في المدينة، وعمل النبي(ص) أول الأمر على تركيز المجتمع بالمدينة، يعني بدأ يعلم المسلمين ويثقفهم ويركزهم ويقويهم، ثم بعدها عقد معاهدة في ذلك الوقت، معاهدة عدم اعتداء، ومعاهدة من خوارج اليهود إلى وقت معين، حتى يجمّد مواجهتهم للإسلام والمسلمين، وبعد أن استتبّ للنبي(ص) الأمر، فكّر أنه ما دامت قريش قوية وتسيطر على المقدّرات التجارية والأمنية والسياسية في الجزيرة العربية، فلن يستطيع أحد أن يدخل الإسلام، لأن الكل يخافون من قريش، وليسوا مستعدين أن يأتوا للنبيّ(ص) ويدعوا للإسلام.

وهذا شيء موجود في كلّ وقت، لأن هناك كثير من الناس ربما يحبون أن يدخلوا مع بعض الجماعات أو ينتموا إلى بعض الجهات الإسلامية، ولكنهم يخافون، بعضهم يخافون من أهلهم، وبعضهم يخافون من الناس الّذين حولهم، وبعضهم يخافون من القوى الحزبية.

إن الناس عندما ترى قوة معينة موجودة عند جماعة معينة، فإنهم يهابون هذه الجماعة، فيوصون بعضهم البعض أن لا تدخلوا في أيّ شيء ضد هؤلاء الجماعة. هذا موجود عندنا. كذلك العرب، عندما سمعوا دعوة النبي محمد(ص)، وتفهمَّوا إنسانية الدعوة وعظمتها والحلول التي تقدمها لمشكلات الإنسان، ورأوا في الإسلام خيراً وسعادة، قالوا إذا نحن نريد أن نتبع محمد بن عبد الله، فمعنى ذلك أنّ قريش سوف تضغط علينا ضغوطاً اقتصادية وضغوطاً سياسية وضغوطاً أمنية، وسوف تمنعنا من الدخول إلى مكة.

والنبي(ص) أراد أن يخترق هذا الحاجز، يعني أراد أن يدخل مع قريش في عملية صراع لإثبات قوّة الإسلام وحتى يهزم قريش، فإذا انهزمت قريش سقطت هيبتها، وإذ سقطت هيبتها يسقط الحاجز بين الناس وبين الدخول إلى الإسلام، ويبدأ الناس يدخلون في دين الله أفواجاً.

التخطيط لمعركة بدر

ولهذا قرر النبي(ص) أن يحاصر قريش تجارياً، وكانت طريق قوافل قريش التجارية تمر قريباً من المدينة في طريقها إلى الشام، حيث كان طريق الشام يمرّ قرب المدينة في ذلك الوقت. ولذلك فقد صمَّم رسول الله على أن يتعرض لبعض قوافل قريش التجارية التي كان يقودها أبو سفيان، وقرّر أن يذهب مع المسلمين ليأخذوا هذه القافلة ويستفيدوا منها، وحتى يقطع الطريق على قريش، فلا تمر بهذا الطريق إلى الشام، فتضعف اقتصادياً، كأول موقف من مواقف التحدي ومن مواقف ما نسميه في عصرنا هذا الحصار الاقتصادي، بأن يمنعوا الطرق التجارية.

وصمَّم رسول الله على هذا، ولم يكن المسلمون قد مرّوا بتجربة حرب سابقة، وهم حديثو العهد بالإسلام.

والله يحدثنا في القرآن، أنّ المسلمين تفاجأوا بالأمر، فسلّم بعضهم به قائلاً: ما دام النبيّ يأمر بشيء، يجب أن نمشي ونحن مغمضو العيون. بعضهم كانوا يريدون أن يعترضوا ويجادلوا، لعلهم يبررون لأنفسهم التراجع، وهذه الصورة عرّفنا الله إياها بالقرآن {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} يعني الله أخرجك يا محمد ودعاك إلى أن تخرج إلى المدينة لتواجه قريش بخطة، وهي خطة الحق، وحتى تستطيع أن تثبت الحق {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ}، يعني طرحت عليهم أمر الله وتعليماته فأخذوا يجادلونك {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ}، كما يؤخذ أحدهم إلى ساحة الإعدام، فكيف تصبح حالته النفسية؟

الله يقول إن بعض هؤلاء المؤمنين عندما دعوتهم إلى أن يواجهوا الموقف بهذا الشّكل، فإنهم واجهوه كما يواجهه الإنسان الذي يُقاد إلى ساحة الإعدام، لشدّة قلقهم على مصيرهم، وهذا يحدث لدى فريق من الناس ممّن يأخذ ببعض المبادئ حالة الراحة أو حالة السِّلم، دون التّفكير في الحرب والصراع والمشاكل، وعندما يطلب منه أن يخوض مشكلة، فإنه يصبح في حالة طوارئ نفسية، ويشعر بالرعب والفزع. وهكذا كان بعض المسلمين في بداية إسلامهم {وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ..}.. الله يقول لكم إما أن تحصلوا على القافلة وتغنموها، وإما أن تكون الحرب، وأنت تتمنون من الله أن لا يدخلكم في حرب {وَيُرِيدُ الله أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ}.. يعني الله دفع النبيّ إلى أن يقوم بهذا الموقف على أساس أن يحقّ الحقّ ويقطع دابر الكافرين {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}..

وانطلق النبي(ص)، وكان لأبي سفيان جواسيس وعيون، فعرف أن هناك تخطيطاً من قبل الرسول(ص) لأخذ القافلة، فأرسل رسولاً من قبله إلى مكّة، حتى يستنجد بجماعه من قريش ليستعدّوا للحرب، ثم حاول أبو سفيان بحيلة معيَّنة أن يخرج عن الطريق المألوف ويذهب على طريق الساحل حتى يبتعد.. ونجت القافلة.

استعداد قريش للمعركة

وحينما وصل الصوت إلى مكة، اجتمعوا واستعدوا، لأنه لا يوجد شخص إلا وعنده مال في هذه القافلة، فاجتمعوا واستعدوا لحرب رسول الله(ص)، حتى يدافعوا عن أموالهم في هذا المجال، وبعد أن نجا أبو سفيان، بعث لهم خبراً، وكانوا مستعدين ومستنفرين للخرب، وعندما بلغهم أنّ القافلة نجت، قال بعضهم: لماذا نواصل المسير ما دمنا كنا نريد أن ندافع عن أموالنا، وها هي قد نجت؟ وقال البعض الآخر: لا بدّ من أن نقاوم محمداً حتى نقضي عليه وعلى كل جماعته حتى يصفو لنا الأمر. وانتصر الرأي الثاني، وهكذا انطلقت قريش بقوتها. وكانت تملك قوة سلاح مميزة، وتملك قوة مالية مميزة، وكان عدد مقاتليها ألف شخص خرجوا لقتال النبي(ص) بشكل استعراضي؛ الطبول والدفوف، والغناء والرقص، كأنهم يسيرون إلى حلقة عرس أو حفلة نصر.

وعرف النبي بنجاة القافلة، وعرف باستعداد قريش وجماعتها، وكان مع النبي ثلاثمائة وأربعة عشر شخصاً أو خمسة عشر شخصاً أو عشرين شخصاً، ولم يكن عندهم عدة كبيرة، فالسيوف التي كانت عندهم قليلة، والرماح التي عندهم قليلة، ولم يكن عندهم من الخيول إلاّ فرسان، وكان عندهم سبعون بعيراً يتعاقبون عليها، فكان النبي(ص) وعلي(ع) وشخص ثالث يتعاقبون على بعير واحد، حتى يقال إنه كان علي ورفيقه الآخر راكبين، والنبي كان يمشي حسب التعاقب، فوصلوا إلى عقبة هناك وقالوا له: يا رسول الله، أنزلنا. نحن ننزل وأنت تركب، فأنت لا تتحمل الصعود. فقال لهما: ما أنتما بأقوى على المشي مني، وما أنتما بأكثر حاجة للأجر مني.. ولم يوافق على الركوب، بل صعد إلى العقبة بنفسه.

المسلمون على المحكّ

وهكذا، لم يكن يوجد استعداد كامل للمعركة، لأنَّ المسلمين خرجوا على أساس التعرض للقافلة، وإذا المعركة أمامهم بشكل كبير، فجمع النبيّ أصحابه هؤلاء، لأن الله سبحانه كان قد أدّب رسوله على أن لا يتحرك بأي أمر من الأمور إلاّ على أساس مشاورة أصحابه، رغم أنه كان لا يحتاج أن يسأل أحداً. لماذا؟ لأنّ النبيّ لم يعيّنه الناس، وليس هم الذين انتخبوه، إنما الله هو الّذي انتخبه، فهو المصطفى الذي اصطفاه الله واختارهُ من بين الناس وأرسله رسولاً، ولذلك لا يحقّ للناس أن يقولوا: نحن انتخبناه ويجب أن يشاورنا. ثم إنما يستشير الشّخص عندما يخاف أن يخطئ، ولكنّه {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}. فالنبيّ لا يخطئ، بل هو معصوم، ولكنّ الله أراد أن يعطي الناس درساً للحاكم والمحكوم والقيادة والقاعدة، فيجب على القيادة أن تشاور القاعدة، ويجب على الحاكم أن يشاور الشّعب، حتى يعي الشّعب مسؤوليّاته ومواقفه، وحتى يصير هناك نوع من أنواع التّواصل الفكري والرّوحي والسياسي بين القاعدة والقيادة.

ولهذا جمع النبيّ أصحابه وسألهم: ما هو رأيكم؟ نحن سنواجه حرباً، فهل أنتم مستعدون للحرب، وأنتم قليلون وهم كثيرون، وأنتم ضعفاء وهم أقوياء؟ هل أنتم مستعدّون للحرب أم لا؟

ووقف ممثل المهاجرين المقداد بن الأسود(رض)، وقال له: "يا رسول الله، سر على بركة الله، إننا لا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}، ولكن نقول لك: اذهب أنت وربّك فقاتلا وإنّا معكما مقاتلون. يا رسول الله، لو سرت بنا إلى برك الغماد ـ يعني مدينة الحبشة ـ لسرنا معك".

ولم يكتفِ النبي بهذا، لأن الأكثرية المقاتلة كانت من الأنصار الذين هم من المدينة، وكان النبي متعاقداً معهم لمّا بايعوه في مكّة قبل أن يهاجر إلى المدينة، على أن يحموه مما يحمون به أنفسهم وعوائلهم، أما خارج بلدهم، فالبيعة لم تكن مركّزة على هذا الأساس، ففكر النبيّ أنّه ربَّما يحتجّ الأنصار، فيقولون نحن لم نتّفق معك على أن نقاتل خارج بلدنا، فاتّفاقنا معك أن ندافع عنك في بلدنا، لهذا خشي النبيّ(ص) أن يخذلوه في هذا المجال، وكان إيمان بعضهم لا بزال غير قويّ.

هنا، في هذا المجال، قام سعد بن معاذ(رض)، وكان ممثّل الأنصار، فقال له: "يا رسول الله، إنّا نراك سكتّ كأنك تريدنا. نقول؟"، قال: نعم، إني أنتظر كلامكم. قال له: "يا رسول الله، لقد آمنّا بك وصدَّقناك وعاهدناك على الموت. والله لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك!". وهكذا استتمّ لرسول الله(ص) الرأي والتّأييد.

وساروا حتى بلغوا مكان بدر، وهو المكان الذي تمرّ عليه القوافل بين مكّة والمدينة، وكانت الساحة ساحة صعبة، لأنّ أولئك يملكون القوّة العدديّة والسّلاح والمال، والمسلمون لا يملكون إلاّ القليل من ذلك. هنا جاء العامل الغيبي، فالمسلمون هرعوا إلى الله، لأنَّ المعركة صارت معركة صعبة، وليس لهم إلّا أن يرجعوا إليه. والله يحدِّثنا: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ}، يعني كانوا في حالة استغاثة. وكان النبيّ(ص) يقول في ابتهاله: "اللهمَّ إن تهلك هذه العصابة، فلن تعبد في الأرض أبداً". وكلمة العصابة هذه الأيّام صار لها مدلول ليس طيّباً، ولكنّ أساساً تعني الجماعة القليلة العدد، وهي مأخوذة من عصبة الرّأس، فالجماعة القليلة العدد المتضامنة مع بعضها البعض، يسمّونها العصابة، مثلما العصابة الّتي تلفّ الرأس كله وتربطه من جميع جوانبه، كذلك هؤلاء كأنهم مرتبطون بعقيدتهم.

وأنت إن أردت أن تُعبَد، فإنك لن تُعبَد إلّا من خلال هؤلاء الذين يمثلون الطليعة الإسلاميّة التي تقود الناس للإسلام، وعلى هذا الأساس انصرنا يا ربّ. هنا يقول الله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ}.. أنتم خائفون لأنكم ثلاثمائة وخمسة عشر وهم ألف، فأنا أبعث لكم أنفساً من الملائكة يكونون احتياطيين لكم ليسندوكم. ثم بيّن لهم الله أنّ إرسال الملائكة لا يعني أن يتّكل المسلمون عليهم في القتال {وَمَا جَعَلَهُ الله إِلَّا بُشْرَى}. الله جعلهم بشارة، وليس معناه أن يقاتلوا عنكم، أنت يجب عليكم أن تقاتلوا، لأن الله يريد للمسلمين أن يقاتلوا هم ويستعينوا بنصر الله، وإلّا فإن الله قادر على إلحاق الهزيمة بأيّ جيش عن طريق المعجزة، ولكنّه أراد للناس أن يتحركوا من موقع المعاناة، وأراد أن يرفع معنويات المسلمين، ويشعرهم بأنّ عليهم أن لا يخافوا، لأنهم ليسوا وحدهم، فالله معهم، والملائكة معهم، كما هي كلمة النبي(ص): {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا}. والله أراد أن ينزع عنصر الخوف من نفوسهم، فأراد أن يجعل الجوَّ محاطاً بالملائكة، بحيث يشعر المسلمون وهم يقاتلون بأنهم يقاتلون والملائكة معهم تُشجّعهم وتسندهم، فإذا اقترب منهم خطر، منعت عنهم الخطر، ولكن هم الذين يقاتلون.. ولذا قال: {وَمَا جَعَلَهُ الله إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}. إنّ الله سبحانه وتعالى أنزل عليهم شيئاً آخر، فهم قد قطعوا هذا الطّريق الطويل من المدينة إلى بدر الّذي يبلغ مائة أو مائة وخمسين كيلومتراً، بين مشي على الأقدام وركوبٍ على الجمال، وما يستتبع ذلك من تعب شديد... فوصلوا مجهدين لا يقوون على خوض المعركة بشكل قويّ، فماذا فعل الله؟ أول شيء ألقى النعاس عليهم في ليلة المعركة {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ}، يعني أنّ الله ألقى عليهم النعاس حتى يناموا أو يشعروا بالأمان، لأن الإنسان الذي أمامه معركة لا يستطيع النوم، لكنّ الله عندما أراد أن يطمئن قلوبهم، أراد أن يؤمّنهم.. ولذا لاحظوا الآية ماذا تقول: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ}، ثم بعد ذلك، أنزل الله المطر عليهم، لأنّ الأرض كانت تغرس فيها الرجل، وكانت صعبة، وكان عليهم غبرة، وربما كان بعضهم يحتاج إلى غسل مثلاً، فكانوا بحاجة إلى ماء، والماء عندهم قليل، فيقول الله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ}، أي أنّ المطر كان مطراً هادئاً خفيفاً غير شديد، بحيث يستطيع الشّخص أن يغتسل فيه براحة. وعندما يكون الماء هكذا، فهو لا يوحّل الأرض بل يثبّتها، ولهذا فإنّ الله ثبّت لهم الأرض بواسطة هذا المطر، وأيضاً أنعش الجوّ حولهم، وجعل الشّخص الّذي يريد أن يتنظّف، يتنظّف بالمطر، لأنه لا يوجد ماء قريب، والّذي يريد أن يغتسل يغتسل بالمطر {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ}.. الله بعث تعليمات إلى الملائكة {فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا} يعني ثبتوهم حتى يثبتوا.. ثم خاطب المؤمنين {وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} اضربوا أيديهم واضربوا أعناقهم.

بداية المعركة

وهكذا بدأت المعركة، فبرز أول الأمر أبطال قريش، ونزل لهم جماعة من الأنصار، قالوا لرسول الله: يا محمد، ابعث إلينا أكفاءنا، فأرسل إليهم عليّاً وحمزة والحارث من أقربائه، وتبارزوا، ولم يمر وقت طويل حتى هزمت قريش، ويقال إنّ علياً(ع) قتل نصف القتلى، وشارك في قتل النصف الآخر، حتى هنّأ جبرائيل رسول الله على بطولة عليّ(ع) الذي لم يكن قد حارب سابقاً أبداً، وكان عمره آنذاك اثنين وعشرين سنة. ونقل أنّ جبرائيل قال لرسول الله: "لا فتى إلاّ عليّ، ولا سيف إلّا ذو الفقار"، لما أبلاه عليّ(ع) في معركة بدر.

وهكذا انهزم المشركون بين قتيل وجريح وأسير ومهزوم وبدأت القوة الإسلامية تفرض نفسها على ساحة بلاد الجزيرة العربية آنذاك، وأصبح الإسلام قوة، وبدأ يمتدّ، ثم بعد ذلك امتدت الحروب بين رسول الله(ص) وقريش، حتى كان فتح مكّة، ونزلت الآية: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً}..

العبرة من معركة بدر

إذاً، كانت معركة بدر من أجل أن يردّ رسول الله التحدي للمشركين، وأن يثبت القوّة، وأن يوحي للمسلمين بأنّ عليهم أن يضاعفوا قوّتهم، وأن لا ينهزموا أمام قوَّة الأعداء، وكان يريد منهم أن يقف أحدهم في مقابل العشرة {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً}، أي أنَّ الله سبحانه وتعالى أراد من المسلمين أن يكون كلّ واحد قدر عشرة، وأن ينمّوا قوّتهم على هذا الأساس. ثم رأى أن المسلمين ليس عندهم هذه الهمّة الزائدة، فقال: {الْآَنَ خَفَّفَ الله عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ}، أي أنّه يجب على المسلم إذا لم يقدر أن يقف مقابل عشرة، أن يقف مقابل اثنين على الأقلّ.

ونفهم من هذا، أنه لا بدّ للمسلمين من أن يأخذوا بأسباب القوة، وأن لا يعيشوا حياة الاسترخاء والضعف أمام أعدائهم، وأن لا ينظروا إلى قوة أعدائهم وإلى ضعفهم؛ بل عليهم أن يعرفوا أنّ من الممكن أن يغلب الضّعفاء الأقوياء {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله}..

وهكذا، انطلقت بدر لتسجل الموقف الإسلاميّ القويّ الصّابر الصّامد الذي استطاع أن يهزم المشركين. ونحن نحتاج في ظروفنا الحاضرة إلى أن نواجه التحديات التي تأتي إلينا بروحية المسلمين في بدر، وأنا أعطيكم نموذجاً من العقلية التي كانت موجودة، عندما دعا النبي(ص) أصحابه إلى أن ينطلقوا لمعركة قريش، قال أحدهم: "يا رسول الله، هذه قريش ما ذلّت منذ عزّت"، أي أنّ قريش ليس من الممكن أن تُذلَّ، وليس من الممكن أن تنهزم.. ومعنى هذا أننا مهزومون حتماً إذا قاتلنا قريش.

هكذا كانت العقلية، والآن لنر عندنا نحن العقلية المماثلة، ما هي؟ العقلية المماثلة أن الإنسان الذي يقف ضد إسرائيل والناس الذين يدعون إلى قتال إسرائيل، فإن الكلمة التي تقال لهم: هذه إسرائيل هاجمت الجيوش العربية في عدة معارك فهزمتها، إسرائيل مع أمريكا، فمن يقدر على أمريكا؟! ومن يقدر على إسرائيل؟! الجندي الإسرائيلي ليس له مثيل في العالم! هؤلاء استطاعوا أن يهزموا عدة جيوش عربية.

أليس هذا الكلام هو الذي يقال؟ الشيء نفسه كان يقال في ذلك الزّمن: هذه قريش ما ذلّت منذ عزّت، وهذه إسرائيل ما انهزمت منذ انتصرت، لو كنّا نحن باقين على هذه العقليّة، لكنّا الآن تحت أقدام إسرائيل، لكن عندما انطلق المجاهدون، وانطلقت أيضاً القيادة الإسلامية العليا المتمثّلة بالإمام الخميني ـ حفظه الله ـ في انطلاقة المواجهة ضد إسرائيل، عندما حصل هذا الشيء، جرّب المجاهدون من الشباب المؤمن المسلم أن يضربوا إسرائيل، فرأوا أن الجندي الإسرائيلي يموت ويجرح ويهرب ويخاف ويرتعب، وليس كما يقولون أنّ الجندي الإسرائيلي لا يموت، وليس هناك شكّ في أن الجندي الإسرائيلي يكون داخل الدبابة وهو خائف، معنى هذا أنهم ليسوا أقوياء، بل هم ضعفاء، ولكن نحن أيضاً ضعفاء، وعندما نصير أقوياء، وننمّي قوتنا ونضاعفها ونكثرها، وتتحرّك الروح الإسلامية في كلّ المسلمين، فلن يبقى هناك أحد من إسرائيل.. ولكن إسرائيل باقية لأنّ المسلمين كلهم يحبون الراحة، ويحبون الاسترخاء، ويحبون النوم، ولا يحبون التعب، وهم مستعدّون لأن يعطوا بأيديهم إعطاء الذّليل. هنا روح بدر تريد أن تدفعنا إلى أن لا نفكر نحن في قوة الأعداء وفي ضعفنا، بل علينا أن نصنع من هذا الضعف قوّة، وأن نعتمد على الله، وأن نستغيث بالله، وأن نواصل خطّ السّير حتى نستطيع أن نحصل على ما نحصل عليه.

اتّفاق 17 أيار

النقطة الأخرى، بعد يومين تأتي ذكرى 17 أيار، عندما صارت المفاوضات بين إسرائيل ولبنان بإشراف أمريكا، حتى تعطي إسرائيل شروطاً أمنية وسياسية واقتصادية، لتجعلا لبنان تحت سلطتهما بطريقة قانونية، وربما يتذكّر الكثير منكم المسألة، في يوم اتفاق 17 أيار، عندما كانوا يوقّعون الاتفاق، كم كان في البلد سياسيون وشخصيات وقيادات؟ هل يوجد أحد ارتفع صوته؟ بالعكس، كثير من الناس الآن الذين يهدّدون ويرعدون ويدَّعون أنهم أسقطوا اتفاق 17 أيار ،كانوا يقولون يجب أن ندعم أمين الجميل في المفاوضات، ويحب أن ندعم الحكم، ويجب أن يكون المفاوض اللبناني قويّاً في مفاوضاته مع إسرائيل.

وهذا المجلس النيابي أغلب نوّابه صوَّتوا لمصلحة الاتفاق مع إسرائيل، من الذي قال لا؟! مجموعة بسيطة من العلماء ومن الرجال المؤمنين ومن النّساء المؤمنات الذين اجتمعوا في الاعتصام الاحتجاجي في هذا المسجد([1])، وكان أفراد الجيش اللبناني المظفّر على سطوح البنايات وعلى مفارق الطرق، لا ليقاتلوا إسرائيل ويحموا الناس منها، بل جاؤوا ليحموا إسرائيل من الناس، وليقصفوا المسجد والأبرياء، ولكن نحن نرفع رؤوسنا، والحمد لله، بالشباب المؤمنين والنساء المؤمنات، من فتيات وكبيرات السن اللّواتي نزلن إلى الشارع، ووقفن أمام هؤلاء الجنود المغرَّر بهم والضباط الحاقدين، وقلن لهم اقتلونا وأطلقوا علينا الرصاص!

لاحظنا أن جماعة من الجيش أطلقوا الرصاص وعملوا ما عملوا، وسقط الشهيد السيّد المرحوم محمد نجدي برصاص الجيش اللّبناني الذي كان يجب أن يوجه رصاصه إلى إسرائيل وليس إلى الشباب المؤمن، وجرح من جرح، واعتقل من اعتقل، والكلّ ساكت. ولم تخرج أيّ تظاهرة، ولم يرتفع أيّ صوت، حتى عندما ثار العلماء المسلمون والشّباب والنساء، صار الكلام عليهم مثل المطر؛ ماذا جاؤوا يعملون؟ هؤلاء يريدون أن يورطونا من جديد، ويريدون أن يقتلونا، ويريدون أن يربكوا لنا الوضع.

ومرّت الأيام، وانقلبت القصّة، وأصبحوا كلهم أبطال إسقاط اتفاق 17 أيار، من هم الذين أسقطوه؟ إنهم هذه الجماعة المؤمنة الطيبة من العلماء الّذين اعتصموا، ومن الرجال الذين اعتصموا، ومن النساء اللّواتي اعتصمن، هؤلاء الّذين ثبتوا أمام الرّصاص.. الّذي أسقط اتفاق 17 أيار، ولم يمكّن إسرائيل من أن تقوم بما تريد به، هو هذه المجموعة من الناس، والذي أسقطه هو دم الشهيد محمد نجدي، رحمة الله عليه، هؤلاء الذين أسقطوه، ولكن الكل ادَّعوا البطولة.. والمؤمنون عندما يعملون، فإنهم لا يعملون لكي يتحدّث الناس عنهم، بل ليتحدث الله عنهم، وهذا هو الأساس، لكن نحن نأخذ درساً من هذا، هذه المجموعة الصغيرة من الناس، الذين اجتمعوا في المسجد آنذاك، إنما اجتمعوا من خلال تكليفهم الشّرعي، أولئك مجتمعون في خلدة حتى يوقعوا، وهؤلاء مجتمعون في مسجد الإمام الرضا حتى يحتجوا. وتغلب الاجتماع الذي انطلق في المسجد على الاجتماع الذي انطلق هناك بالاتّفاق بين ممثل لبنان وإسرائيل وأمريكا، وبهذا سقط الجميع أمام هؤلاء المؤمنين {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله}.

الشّيء الذي يجب أن نفكّر فيه، أنّ هناك أموراً لا تأتي نتائجها إلّا مع الوقت، فعندما يصف لنا الطّبيب دواءً، فقد لا يكون الشّفاء مباشرةً، فقد يقول لنا إنَّ الشّفاء سيكون بعد سنة مثلاً، أو بعد سنتين أو ثلاث، ولكن عليك أن تواظب على الدّواء، ولكنَّ بعض النّاس يريد الشّفاء مباشرة، وإلّا يعتبر أنّ الدّواء لا ينفع، وهكذا القضايا السياسيّة والاجتماعية..

 ومن ذلك نأخذ درساً، أنّ هذه الفئات المؤمنة الطيّبة الصّغيرة، استطاعت ـ بحمد الله ـ أن تطرد أمريكا من بيروت، وأن تطرد فرنسا من بيروت، وأن تطرد إسرائيل من كثير من جنوب لبنان، وهم قلّة من الناس.. نأخذ من هذا الدّرس، أننا كلما أصبحنا أقرب إلى روح البدريّين، أصبحنا أقرب إلى الانتصار، وأنّ الله سوف ينصرنا إذا أخذنا بأسباب النّصر، والحمد لله ربّ العالمين..

* خطبة الجمعة لسماحته ألقاها من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) بتاريخ: 21 صفر 1426 هـ/ 1 نيسان - أبريل 2005م.


([1]) مسجد الإمام الرضا(ع) في الضاحية الجنوبية في بيروت.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية