ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :
في رعاية النبوّة:
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}. من أهل هذا البيت الإمام الحسين(ع)، الذي مرّت ذكرى أربعينه. والحسين(ع) يبقى ما بقي الزمن في عقولنا نوراً للفكر الذي يلتقي دائماً بالحقيقة، وفي قلوبنا نبضاً للرُّوح وللإحساس وللمحبَّة، وفي حياتنا عبرةً في خطِّ الرسالة، وحركةً من أجل الإنسان، وثورة من أجل العدالة، ورفضاً للظلم كله وللاستكبار كله.
عاش الحسين(ع) في حضن رسول الله(ص)، حيث كان(ص) يضمّه ويشمّه ويلقي إليه في كل يوم نبضة من روحه ومن روحانيته، وكان يعلّمه في طفولته ليعيش طفولة الرسالة، تماماً كما كان رسول الله(ص) قد علّم أباه من قبله، عندما كان عليّ(ع) يقول: «كان يضمّني حضنه، ويشمّني عرفه، وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه»، قبل أن ينطلق عليّ(ع) في سنّ متقدمة.
رعى رسول الله(ص) طفولة الحسين(ع) تماماً كما رعى طفولة عليّ(ع)، وأعطاه من خلقه خلقاً بمقدار ما يختزن الطّفل في مثل سنّه من الخلق، وكان النبي(ص) يلاعبه وأخاه الحسن(ع)، لأنه كان يريد أن يعطي المسلمين درساً بأنَّ على الأب أو الجد عندما يعيش طفله معه أن يتقمّص طفولته، وأن لا يتكبّر عليه، وكان(ص) يقول: «من كان له صبي فليتصابَ له»، كلّمه كما يتكلَّم الطفل، وتصرّف معه كما يتصرف الأطفال مع بعضهم البعض، حتى تملأ طفولته بمحبّتك، وتوجّهه بالأسلوب الذي يمكن له أن يفهمه أو يتعلّمه.
وعاش الحسين(ع) مع أخيه الحسن(ع) في حضن رسول الله(ص) وفي حضنَيْ عليّ وفاطمة (عليهما السَّلام)، هذا البيت الذي عاشت النبوة في جنباته، وكان الوحي ينـزل صباحاً ومساءً على رسول الله(ص) فيه، وعندما ضمّهم رسول الله(ص)؛ علي وفاطمة والحسن والحسين، إلى كسائه، نزل عليهم جبرائيل: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}، أنتم الطهارة، الطهارة الروحية والعقلية والعملية والحركية، ورأينا كيف أن كلمة أهل البيت أصبحت عَلَماً على هؤلاء.
في رعاية الإمامة:
وانطلق الحسين(ع) بعد انتقال جدّه وأمه إلى الرفيق الأعلى، مع أبيه عليّ(ع)، هو وأخوه الحسن(ع)، كانا معه، يتعلّمان من علمه، هذا العلم الذي قال رسول الله(ص) فيه: «أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها»، والذي قال فيه عليّ(ع): «علّمني رسول الله ألف باب من العلمِ، يُفتَحُ لي من كلِّ بابٍ ألفُ باب»، هذا العلم الذي وصل به إلى الحقيقة التي ليس بعدها حقيقة، فقال: «لو كُشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً»، وقال(ع): «سلوني قبل أن تفقدوني، فإني بطرق السماء أعلم مني بطرق الأرض»، وكان يقول وهو يشير إلى صدره: «إن ها هنا لعلماً جماً لو أصبت له حملة»، ولذلك كانت غربة عليّ(ع) في مجتمعه أعظم من غربة الحسين(ع)، لأن علياً كان يريد أن يرفع من مستوى المجتمع علماً وروحاً وحضارةً وحركةً، ولكن المجتمع كان لا يفهم عليّاً(ع)، وغربة العالِم أن يعيش في مجتمع لا يفهمه ولا يفهم علمه، بل يتعامل معه بالصغائر.
عاشا معه علمه وروحه وتجربته والتحدّيات التي واجهته منذ أن انتقل رسول الله(ص) إلى الرفيق الأعلى، وعاشا مأساة أبيهما، وكان الحسين(ع) ينفتح على كل الأوضاع القلقة التي أحاطت بأخيه الإمام الحسن(ع) وكلِّ المشاكل التي واجهته. كان الحسين حسنياً في كلِّ ما قام به، ولو عاش الحسن مع الحسين لكان الحسن حسينياً في كلِّ ما قام به، ولذلك، فإنَّنا نرفض ما يتحدَّث عنه البعض من أنَّ للحسن(ع) شخصيّةً تختلفُ عن شخصيّةِ الحسين(ع). كان الحسن إسلامياً يلاحظ مصلحة الإسلام في سلمه، وكان الحسين حسنياً يلاحظ مصلحة الإسلام في حربه، حتى قال بعض العلماء: «إن ثورة الحسين(ع) صدى لصلح الحسن(ع)».
وعاش الحسين(ع) بعد أخيه الحسن(ع)، وكان إماماً في تلك الفترة، كان يعيش مع النَّاس ويعلّمهم ويؤدّبهم ويرشدهم، وكان القدوة لهم، لأن مسؤولية الإمام هي مسؤوليّة أن يحرِّر عقول الناس من الجهالة، وقلوبهم من الحقد والعداوة والبغضاء. كان يعيش ـ وهذه مسؤولية كلِّ إمام ـ مع النَّاس ويتحمّل مسؤوليتهم كما كان رسول الله(ص)، وكانت ثورة الإمام الحسين(ع) وجهاً من وجوه إمامته.
الدّاعي إلى التغيير والإصلاح:
كان الإمام الحسين(ع) لا يرتضي لنفسه أن يكون حيادياً عندما تواجه الأمَّةُ المشاكل في قيادتها وفي طريقة الحكم فيها، وفي الانحرافات التي تصيبها في كلِّ مواقعها فتبتعد بها عن إسلامها، كان يتحسَّس المسؤوليَّة في ذلك كلِّه، وكان ينتظر أن ينطلق فريقٌ من الأمَّةِ ليعلن له أنه يريد أن يتحرَّك تحت قيادته وبإمامته. ومن هنا، انطلق الإمام الحسين(ع) عندما جاءته الرَّسائل من الكوفة ليتسلَّم زمام الأمَّة وليقودها ويسير بها كما سار رسول الله(ص)، وكانت أوَّل خطبةٍ له(ع) التي أعلن فيها شخصية القائد الذي لا بد أن يقود الأمة ليغيّرها من حالة الانحراف إلى حالة الاستقامة، إذ وقف خطيباً وقال: "أيُّها النَّاس، إن رسول الله قال: "من رأى منكم سلطاناً جائراً، مستحلاً لحرم الله، ناكثاً بعهده، مخالفاً لسنّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغر عليه ـ أو فلم يغيّر ما عليه ـ بقول ولا بفعل، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله. ألا وإن هؤلاء القوم، قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن، وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله، واستأثروا بالفيء وعطّلوا الحدود، وأنا أحقُّ مَن غيّر»، لأنني أنا الإمامة، ومن مسؤولية الإمام أن يتحرك ليغيّر الواقع من فاسد إلى صالح.
وقد أعلن في خطابه ووصيته لأخيه محمد بن الحنفية عندما ترك المدينة إلى مكة: «هذا ما أوصى به الحسين بن علي بن أبي طالب إلى أخيه محمَّد المعروف بابن الحنفيَّة، أنَّ الحسين يشهدُ أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأنَّ محمَّداً عبده ورسوله، جاء بالحقِّ من عند الحق، وأن الجنة والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ـ لم أخرج من حالة ذاتية أو شخصية، ولم أنطلق لأحصل على الحكم كطموح ذاتي ـ ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمَّة جدي ـ لأن الله تعالى خاطب المؤمنين جميعاً: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}. أريد أن أُصلح الأمَّة في التزامها بالقيادة العادلة التقية المخلصة، والإصلاح في سلوكها العام، وفي علاقات الناس بعضهم ببعض، وفي احترام أموال الأمَّة من قبل الذين يسيطرون عليها ـ أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب ـ لأن سيرتهما هي الإسلام كلّه، وهي الحق كلّه، فالعصمة في رسول الله، وفي عليّ وليّ الله، هي التي تجعل كلَّ ما قالاه وفعلاه هو الحقّ كلّه والإسلام كلّه ـ فمن قبلني بقبول الحق ـ فأنا خرجت مسالماً ولم أخرج محارباً، كما خرج جدّي رسول الله من قبل، والّذي حارب عندما فُرضت عليه الحرب، وأنا أحارب عندما تفرض عليّ الحرب، أما الدعوة فهي دعوة السلام لمن انفتح على السلام بالحق ـ فمن قبلني بالحق فالله أولى بالحق ـ أن لا يقبلني لشخصي، وإنما لأن الحق الذي أدعو إليه هو ما أراده الله تعالى ـ ومن ردّ عليّ هذا أصبر ـ كما صبر رسول الله وأولو العزم من الرسل ـ حتى يحكم الله بيني وبين قومي بالحق والله خير الحاكمين. وهذه وصيتي يا أخي إليك، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب».
وقال(ع) في كتابه إلى أهل البصرة: «أدعوكم إلى كتاب الله، وسنّة رسوله، فإن السنّة قد أُميتت، وإن البدعة قد أُحييت، وإن تسمعوا قولي وتتبعوا دعوتي وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد»، وكان في حديثه مع أهل الكوفة يقول لهم: «لعمري/ ليس الإمامُ العاملُ بالكتاب، والعادل بالقسط، كالذي يحكم بغير الحق ـ يعني الشخصية الرسالية التي تعمل بكتاب الله وتعدل بين الناس، ليست كهؤلاء الذين يسيطرون على الأمَّة ـ ولا يهدي ولا يهتدي، جمعنا الله وإيَّاكم على الهدى، وألزمنا وإيَّاكم كلمة التقوى». كان يحدّث الأمَّة عن الواقع السياسي للأمويين آنذاك، بقيادة يزيد الذي سلّطه أبوه على المسلمين، والّذي أراد أن يأخذ البيعة لنفسه بالقوّة، إذ أوقف شخصاً بيده سيف في يمينه، ومال في شماله، وقال: «أيها الناس من بايع فله هذا _ وأشار إلى المال _ ومن لم يبايع فله هذا» _ وأشار إلى السيف _ وبايعه الذين يخافون من سيفه ويطمعون في ماله. وبدأ يزيد ومن معه يعملون على أساس أن ينهبوا أموال الأمَّة التي هي مال الله، وراحا يستعبدونها، لأنهم اعتبروا أنهم اشتروها بالمال كما يُشترى العبيد، فقال(ع): «اتخذوا مال الله دولاً ـ يتداولونه ويقسّمونه في ما بينهم ـ وعباده خِولاً»، لذا كانت حركة الإمام الحسين(ع) لتحرير المال العام من أيدي الذين يسرقونه ويهدرونه، وتحرير الإنسان من الذين يستعبدونه.
وانطلق الحسين(ع) مع كلِّ الذين واجههم في رحلته من مكة إلى العراق، بالحوار والحكمة والحجة الواضحة، ولكنَّ القوم باعوا أنفسهم للشيطان، وقالوا له: «إنزل على حكم يزيد وابن زياد ليفعلا بك ما يختارانه». وانطلقت عظمة الحسين(ع) في عزته الرسالية وعنفوانه الإسلامي، وهو الّذي نفس أبيه بين جنبيه، انطلق ليقول: "ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلّة والذلة، وهيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وجدود طابت، وحجور طهرت، أنوف حمية ونفوس أبية، لا تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام»، وقال لهم بكل إرادة وتصميم: «لا والله، لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقرّ لكم إقرار العبيد».
إن الحسين(ع) هو النور الذي يضيء عقولنا وقلوبنا وحياتنا، فمهما طال الزمن، لا بد أن يبقى الحسين(ع) في وجداننا روحاً ورسالة وإيماناً وثورةً وحركةً وتصميماً ومواجهةً لكلِّ الظالمين والمستكبرين، حتى نستطيع أن نعيش مع الحسين العِبرة ولا نقتصر على العَبرة، لأن الحسين(ع) كان فكراً ولم يكن مجرَّد دمع. والسلام على الحسين وعلى أبيه وجده وأمه، وعلى ولديه العليين الشهيدين، وعلى أخيه العباس وشقيقته زينب، وعلى الشهداء معه، ورحمة الله وبركاته.
الخطبة الثَّانية
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
عباد الله... اتقوا الله تعالى في كلِّ أموركم، وواجهوا الموقف الذي تفكرون فيه بمسؤوليتكم أمام الله؛ مسؤوليتكم عن الأمة كلها التي لا بد لكلّ فرد منكم أن يهتم بكلِّ قضاياها، سواء كانت قضايا الحرية، أو المواجهة، أو التحديات التي تواجهها، لأن الله تعالى حمّلنا مسؤولية أن نكون أقوياء وأعزَّاء، فماذا هناك في قضايا الأمة؟
الديمقراطية الأمريكية: مصادرة حرية الشعوب:
ما هي صورة أمريكا الديمقراطية في فلسطين، في شعاراتها التي تطوف بها العالم في زعمها "نشر الديمقراطية" من أجل محاربة الطغيان لحماية الشعوب؟
إنها تمنع الشعب الفلسطيني من تأسيس دولته المستقلة التي أقرّها مجلس الأمن في القرارات 242 و338 و194، وذلك على أساس التفاهم بين بوش وشارون حول الكتل الاستيطانية في الضفة الغربية، ومنع العودة إلى خطوط 1967 ـ بعد الانسحاب من غزّة ـ ومنع عودة اللاجئين، إضافةً إلى حديث ضبابي عن القدس وعن الجدار العنصري، وإعطاء الكيان الصهيوني صفة الدولة اليهودية الّتي تهدّد العرب المقيمين فيها مستقبلاً.
والسؤال للإدارة الأمريكية: هل هذا هو نموذج الديمقراطية التي يدعو إليها الرئيس بوش؟ وما هي قضية حريات الشعب الفلسطيني أمام طغيان إسرائيل عليه في سياستها التدميرية، أم أن لإسرائيل الحق في الطغيان على الآخرين كما هو الحق لأمريكا في منع محاكمة الجنود الأمريكيين من قِبَل الدول الأخرى، في ارتكابهم جرائم الحرب التي يقومون بها في بلاد العالم؟
أمريكا: تشجيع للمجازر الشارونيَّة:
إنَّ على أمريكا أن تتفهّم السبب الذي يدفع إلى كراهية العرب والمسلمين لها، لأنها تعتبرهم ـ أمام اليهود ـ في المركز المتأخّر للإنسانية. وهم ينتظرون زيارة رجل المجازر شارون للرئيس بوش ليرجع بتشجيع جديد لمغامراته الوحشية ضد الفلسطينيين من قِبَل الرئيس الأمريكي ووزيرة خارجيته، مع تحذير وتهديد للمسؤولين في البلاد العربية والإسلامية إذا عارضوا ذلك، لأن المطلوب ـ أمريكياً وإسرائيلياً ـ إسقاط الإرادة القوية والممانعة الفاعلة للخطط المرسومة في خط التحالف الأمريكي ـ الإسرائيلي، لإضعاف الواقع العربي والإسلامي كلّه تحت عناوين مكافحة الإرهاب ونشر الديمقراطية، وعلى الجميع أن يواجهوا ذلك بوعي وحذر وموقف قويّ فاعل.
نرفض الاستكبار:
إنَّ أمريكا ـ ومعها أوروبَّا وإسرائيل ـ تتحدَّث عن رفض التدخّل في لبنان في سياسته وانتخاباته من أيَّة دولة عربية، أو من أيّ حزب لبناني يتلقَّى الدعم من سوريا وإيران ـ بحسب تصريح مساعد وزيرة الخارجية الأمريكي ـ ولكنها تسمح لنفسها بالتدخّل من خلال سفاراتها ومخابراتها في أيّ بلد في العالم، في السياسة والأمن والحركة والاقتصاد، وتدفع بالأحزاب المدعومة من قِبَلها لتنفيذ خطّتها على أكثر من صعيد، بما في ذلك نشر الفوضى والاهتزاز السياسي والأمني بحجّة نشر الديمقراطية أو لإسقاط الطغيان، في كلمة حقٍّ يُراد بها باطل، لأن الخطة الأمريكية هي السيطرة على العالم كلّه، لتأمين مصالحها وتوسيع نفوذها ومحاصرة الدول الأخرى ـ حتى من حلفائها ـ اقتصادياً وسياسياً.
إنّنا نؤكِّد رفضنا لأيِّ استكبارٍ عالميّ، ونؤكِّد بقاء عناصر القوَّة في الأمة التي إذا كان زعماؤها الذين وظّفتهم أمريكا لمحاصرة شعوبهم وحماية مصالحهم الاحتكارية قد سقطوا، فإنَّ الشعوب لم تسقط، بل بقيت تهتف بسقوط الاستكبار الأمريكي، ولذلك، فإن من الصعب أن ترتاح أمريكا، لأن الشعوب تعرف كيف تحرّك البدائل والفرص الجديدة لحساباتها، لا لحساب حركة الطغيان الأمريكي ـ الإسرائيلي.
ونوجّه نداءنا إلى الفلسطينيين؛ الشعب والسلطة والانتفاضة، لنقول لهم: إن تحالف بوش ـ شارون لن يحقِّق لكم الحرية والسيادة والاستقلال إلا على مستوى الدولة المسخ المحاصَرة بالمستوطنات وبالجدار من جميع الجهات، ما يفرض عليكم التفاهم والتقارب على أساس وحدة الموقف والخطة والحركة، والحوار الموضوعي العقلاني حول ما تختلفون فيه، لتفرضوا أهدافكم على هذا التّحالف الشيطاني وتُدخلوه في أكثر من مأزق، لأن الشعب الذي يريد الحياة والحرية لن تستطيع أية قوة أن تسقطه وتهزمه، بل لا بد أن ينتصر ولو كره الكافرون.
عودة العراق نموذجاً للوحدة:
أمَّا العراق، فلا يزالُ يتخبط في حركته السياسيّة والأمنية، بفعل الفوضى التي صنعها المحتلّ من خلال المجازر اليومية التي استغلَّها الإرهابيون وتابعها جنود الاحتلال، ومن خلال الانحراف السياسي الذي حوّل العراق إلى وطن طائفي في المسألة المذهبية، وعرقيّ في المسألة القومية، بحيث أصبح الخطُّ السياسيّ للعراقي هو طائفته لا وطنه، على مستوى المواقع الحكومية الرسميّة، أو المواقع النيابية، وحتى على المستوى العسكري الذي يتمثّل في منع الجيش العراقي من الدخول إلى المناطق الكردية، على الرغم من الحديث عن الوحدة العراقية. ونلاحظ أن العراق تحوّل إلى مأزق للاحتلال الأمريكي الذي لا يعرف كيف يحمي جنوده، أو يركّز خطته، أو يؤكد شعاراته في نشر الديمقراطية أمام هذه الفوضى السياسية.
إننا نقول لأهلنا في العراق، من المسلمين السنّة والشيعة، ومن سائر الطوائف: إنَّ عليكم الالتفات إلى اللعبة الأمريكية لتكونوا موحَّدين في مواجهة الاحتلال الذي لا يريد الخير للعراقيين، بل لنفسه ولمصالحه، ولأن العراق الذي أرادته أمريكا نموذجاً للتمزيق والتجزئة، يمكن بفضل جهودكم ووحدتكم أن يتحوّل ـ كما كان في تاريخه ـ إلى موقع للوحدة، ونموذج لإسقاط الاستكبار في المنطقة كلها.
لبنان: لا بديل من الحوار المباشر:
أمَّا لبنان الذي يعيش القلق الأمني، والفوضى السياسية، والسقوط الاقتصادي، والّذي يواجه الفراغ الدستوري، ويدخل في المتاهات الضائعة بفعل الخطة الأمريكية ـ الدولية، فإنه يتخبط في حالة من الاهتزاز المتنوّع بأبعاده، ولا سيَّما أن الذين يتنازعون البلد في طموحاتهم الانتخابية، يتحاربون على أساس إسقاط كل فريق للفريق الآخر، من خلال استغلال الفرص والظروف الدولية، والغرائز الشعبية، واللّعبة السياسية الكيدية على صعيد الضغوط الحادّة، أما الشعب الذي يحاول كل فريق أن يستغل اسمه، ويعتبره ممثلاً له على أساس العواطف والمشاعر المتوتّرة التي لا تخضع لحسابات دقيقة، فإنه يعيش قلق الأمن والجوع والحرمان، في خطوط معقّدة لا يعرف فيها ما هي خطة المعارضة في إصلاح الواقع للبلد، وما هي خطة الموالاة في ذلك، فلا يسمع إلا الصراخ الذي تتنوّع أصداؤه.
ويتحدث الناس في همساتهم وحساسياتهم أن المعركة قد تنقلنا من موقع إقليمي للتدخّل إلى موقع دولي، بحيث نستبدل ضغطاً بضغط، ولكن من وراء غشاء كثيف هنا ورقيق هناك، ويضيفون أنَّ البعض ممن يرفعون الشعارات الكبيرة في الديمقراطية والحرية والإصلاح كانوا سرّ مشكلة لبنان، ويتساءلون: هل تاريخ الهدر والفساد والثراء الفاحش على حساب الشعب يعيد نفسه، لأن القضية ليست تغيير القوانين لكن تغيير الإنسان، {إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم}...
إننا نقول للبنانيين جميعاً: لا بديل لكم عن الحوار المباشر، حاوروا بعضكم بعضاً قبل الانتخابات وبعدها، وافتحوا قلوبكم للمحبة وللاعتراف بالآخر، ولدراسة المرحلة بدقة، وللتفاهم على رزنامة سياسية مرحلية أو مستقبلية تشمل الحكومة والانتخابات وغيرهما، لأن هذه السفينة التي توشك على الغرق هي سفينة الوطن التي تحملكم جميعاً، فاعملوا على صيانتها لتجري بكم إلى برّ الأمان، قبل أن تأتي الأساطيل لتحملكم إلى المهاجر، وإلى متاهات الضياع. |