ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :
المستضعفون ورثة الأرض:
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ* وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ}(القصص/5-6).
يتحدث الله سبحانه وتعالى في هاتين الآيتين، عن سنّة من سننه في حركة الإنسان في الكون؛ فربما يسيطر المستكبرون على الناس، فيظلمونهم، ويذبّحون أبناءهم، ويصادرون ثرواتهم، ويبغون في الأرض بغير الحق، ولكن ذلك لن يكون سنّة الحياة، بل إنَّ الله تعالى أراد في كل مرحلة من المراحل، أن يمنَّ على المستضعفين في الأرض، ويمكّن لهم، ويمنحهم القوة، ليكونوا القادة، وليرثوا الأرض، وليسقط كل الفراعنة وكل المستكبرين. وقد عبّر الله تعالى عن ذلك في قوله: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}(آل عمران/140)، وقد ورد عندنا، أن هذه الآية الكريمة قد توحي بظهور الإمام المهدي(عج)، الذي نستقبل ذكرى مولده في اليوم الخامس عشر من شعبان، والذي يصادف يوم الإثنين المقبل.
وقد حدّثنا رسول الله(ص) بشكل عام عن ذلك: «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض». ففي كل زمان يكون فيه الكتاب، يكون إمام من العترة. وقد ورد في حديث رسول الله(ص): «لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد، لطوّل الله ذلك اليوم حتى يملك رجل من أهل بيتي، تجري الملاحم على يديه، ويُظهر الإسلام، لا يُخلف الله وعده، وهو سريع الحساب». ويروى عن رسول الله(ص) أنه قال: «لا تنقضي الساعة حتى يملك الأرض رجل من أهل بيتي، يملأها عدلاً كما مُلئت قبله جوراً».
هذه المسألة هي من المسائل التي لا يختلف المسلمون حولها من حيث المبدأ، فالمسلمون جميعاً يؤمنون بالإمام المهدي(عج)، سواء كانوا سنّة أو شيعة، ولكن الفرق بينهما، هو أن الشيعة يقولون إنه وُلد، وإن الله أراد بحكمته أن يغيب غيبة طويلة، إلى أن تنطلق حكمته في ظهوره. وقد يستبعد الكثيرون من الناس هذا العمر الطويل، ونحن نعرف أن الله هو الذي يقدّر للإنسان عمره، وقد حدّثنا الله عن نوح النبي(ع)، أنه «لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً»، ولا نعرف ما هي المدة التي قضاها بعد أن ترك قومه بعد الطوفان.
تبليغ الرسالة:
لذلك، فإذا كانت المسألة من ناحية قدرة الله، فإنَّ قدرة الله لا تقف عند حدّ. وقد ذكر المختصون من العلماء في علوم الحياة، أن من الممكن للإنسان إذا اكتُشف سرّ الحياة فيه، أن يعيش عمراً طويلاً جداً. وقد يتساءل بعض الناس عن الفائدة والمنفعة من إمام غائب عن الأنظار! ولكن المسألة هي أن الإمامة تتحرك في خطين: الخط الأول الإمامة الظاهرة، والتي تتحرك في حياة الناس، لتبلّغ رسالة رسول الله(ص)، ولتستكمل كل ما يُراد للناس أن يفهموه ويعرفوه من الإسلام، في عقيدته وشريعته، وفي كل مفاهيمه ومنهاجه، وهذا ما قام به الأئمة من أهل البيت(ع)، منذ عليّ(ع) حتى الإمام الحسن العسكري(ع)، فقد ملأوا الدنيا علماً في كل ما يحتاجه الناس من العلم، حتى لم يعودوا في حاجة إلى شخص يعلّمهم ذلك. ويروى أنّ الشّيعة في زمن الغيبة الصغرى كانوا يراسلون الإمام الحجة(عج) بواسطة السفراء الأربعة، وعندما حصلت الغيبة الكبرى، أرسل إليه البعض مسائل أشكلت عليه، فكان من جوابه(عج): «وأما الحوادث الواقعة ـ الجديدة ـ فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا، فإنهم حجتي عليكم، وأنا حجة الله».
إن رواة الأحاديث الذين رووا عن الأئمة(ع)، إضافةً إلى القرآن الكريم، وما ورد عن النبي(ص)، يستطيعون أن يعرّفوكم كل ما تحتاجون إليه، لأن النبي(ص) والأئمة من أهل البيت(ع)، لم يتركوا شيئاً يحتاجه الناس في كل أمور دينهم، مما يتحركون به في دنياهم، إلا وتحدثوا به، فليس هناك أي فراغ من الناحية العلمية، وقد ورد في الأحاديث: «العلماء ورثة الأنبياء»، بمعنى أن الأنبياء(ع) لم يورّثوا درهماً ولا ديناراً، وإنما ورّثوا علماً من علومهم. وورد عن النبي(ص): «العلماء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا» ـ ما داموا في خط الله والرسالة والمسؤولية ـ قالوا: وما دخولهم في الدنيا؟ قال(ص): «اتّباع السلطان ـ الذين يتبعون سلاطين الجور حتى يحصلوا على أموالهم، فيؤيدون هذا السلطان الجائر أو ذاك، ويصدرون لحسابهم في كل يوم فتوى بالحرب إذا أرادوا الحرب، وفتوى بالسلم إذا أرادوا السلم ـ فإذا فعلوا ذلك فاحذورهم على دينكم»، فانظروا إن كان يحبّ الله أكثر أو يحبّ الدنيا أكثر، لأنه إذا كان يحبّ الدنيا أكثر، فإنه سوف يتاجر بالدين لحساب الدنيا.
فمرحلة الأئمة(ع) كانت مرحلة إعطاء الرسالة كل ما تحتاجه من الوضوح، وإعطاء الناس كل ما يحتاجونه من الرسالة. ويبقى إمام واحد لم يُعدّ من قبل الله للتعاطي مع الرّسالة بالطريقة التي كان عليها الأئمة السابقون، وإنما أُعدّ من أجل أن يحكم العالم على أساس الحق، حتى يُظهر الإسلام في كل مكان في العالم، فلا يبقى هناك غير الإسلام. حتى إنه ورد في أحاديث أهل البيت(ع)، أنّ السيد المسيح عيسى ابن مريم(ع) يخرج معه، وينفتح على دين الإسلام من خلال نصرته للإمام(عج). فالنبي(ص)، بحسب الظروف التي عاشها، والمشاكل التي واجهته، استطاع أن ينشر الإسلام في منطقة معينة، ثم جاء مَن بعده ونشروا الإسلام، حتى أصبح المسلمون في العالم يمثلون ملياراً وبضعة ملايين شخص، ولكن في مرحلة الظهور، يشمل الإسلام العالم كله، بحيث لا يبقى للكفر أي موقع.
إقامة العدل العالمي:
والخط الثاني الذي تتحرّك فيه الإمامة هو العدل العالمي: «يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن مُلئت ظلماً وجوراً»، بحيث يتحرك العدل في كل علاقات الناس، سواء في بيوتهم في العائلة الصغيرة، أو في أسواقهم ونواديهم، أو في كل أوضاعهم السياسية والثقافية والاجتماعية، فلا يظلم أحد أحداً. وهذان الهدفان: أن يعمّ الإسلام العالم، وأن يعمّ العدل العالم، هما المهمة التي أعدّ الله تعالى وليّه ليحققها: «اللهم أظهر به دينك وسنّة نبيّك، حتى لا يستخفي بشيء من الحق، مخافة أحد من الخلق» «اللهم أعزّه وأعزز به، وانصره وانتصر به»، ونقرأ في دعاء الافتتاح : «اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة ـ وهي دولته (عج ) ـ تعزّ بها الإسلام وأهله، وتذلّ بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة».
وفي ضوء هذا، نستوحي أنّه لا يكفي أن نقيم الاحتفالات بذكرى مولده(عج) ولا يكفي أيضاً أن ندعو الله إلى أن يعجّل ظهوره، فغيبته وظهوره غيب من غيب الله، ولكنَّ أمامنا هدفين: الأول أن الغيبة لا تعني الخروج من مسؤوليتنا عن الإسلام، بل يجب على كل مسلم ومسلمة أن يحمل رسالة الإسلام، كالمسلمين الذين حملوا الرسالة في زمن رسول الله(ص)، فقد حملوها دعوةً في الحرب وفي السّلم، حتى دخل الناس في دين الله أفواجاً، وعلى المسلمين أن يعمل كل واحد منهم في سبيل أن ينشر الإسلام؛ أن يحمله إلى أهله، أن يدعو إليه كل الناس الذين له علاقة بهم، سواء كان في بلده أو في المغتربات، لأنّ الإسلام هو أمانة الله في عنق كل مسلم ومسلمة؛ أن نحمل الإسلام إلى أبنائنا وأحفادنا كما حمله آباؤنا إلينا: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً}(الأحزاب/39).
وما نستوحيه أيضاً في ذكرى مولده الشريف، أن نكون مع العدل في كل مكان، ومع العادلين في كل موقع، لأن الله تعالى أراد للعدل أن ينتشر في الكون كله. وقد حدّثنا القرآن الكريم عن أن أساس الرسالات هو إقامة العدل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}(الحديد/25). والعدل لا بد من أن يعم المسلمين والكافرين. فالله لا يقبل منا أن نظلم الكافرين، وقد ذكرت لكم أكثر من مرة الحديث الذي رواه بعض أئمة أهل البيت(ع): «أوحى الله إلى نبيّ في مملكة جبار من الجبارين، أن ائتِ هذا الجبار وقل له إنني إنما استعملتك ـ أبقيتك في ملكك ـ لتكفّ عني أصوات المظلومين، فإني لن أدع ظلامتهم ولو كانوا كفّاراً». فالعدل لكل الناس، والظلم لا بد أن يبتعد عن كل الناس.
وفي ضوء هذا، فإننا أمام كل الواقع الذي يمارسه المستكبرون في العالم، نقف مع كل شعب يُظلم، ومع كل إنسان يُظلم، مسلماً كان أو غير مسلم، فإذا كان الله تعالى قد أعدّ وليّه من أجل العدل العالمي، فعلينا أن نؤمن بالعدل ونحمله شعاراً وخطاً في كل موقع من مواقع العالم، فنكون ضد الظالمين في كل موقع، ومع المظلومين في كل موقع، وتلك كانت آخر وصية لأمير المؤمنين(ع)، لولديه الحسنين(ع) ولكل من بلغه كتابه: «كونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً».
في ذكرى مولده(عج) ندعو الله أن يعجّل فرجه، وأن يجعلنا من أنصاره وأعوانه والمجاهدين بين يديه، وأن نكون أمة العدل في خط الإسلام، لأن الإسلام في كل أحكامه ينطلق من قاعدة العدل، ويتحرك في خط العدل: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}(الأنعام/152)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ}(النساء/135).
إننا ننتظره بكل عقولنا وقلوبنا، وبكل حركتنا، في سبيل إحقاق الحق وسيادة العدل: «اللهم أرنا الطلعة الرشيدة، والغرّة الحميدة»، «اللهم وصلّ على ولي ّ أمرك القائم المؤمّل، والعدل المنتظر، وحفّه بملائكتك المقربّين، وأيّده بروح القدس يا ربّ العالمين. اللهمَّ اجعله الداعي إلى كتابك، والقائم بدينك...»، واجعلنا من أنصاره وأعوانه، والمستشهدين بين يديه.
الخطبة الثانية
بسم الله الرَّحمن الرحيم
عباد الله... اتقوا الله، وواجهوا العالم بالعدل، وواجهوا المستكبرين من أجل إسقاط الظلم، ليكون العالم عالماً يتحرك بالعدل، ويواجه الظلم في كل مكان وفي كل واقع. إننا عندما نتحدث عن العدل والظلم، لا بد لنا من أن ندرس مواقع الظلم في كل مكان، من خلال المستكبرين الذين يظلمون الناس وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، لنعرف كيف نواجههم وكيف نتحداهم.
11 أيلول - سبتمبر أطلق يد أمريكا في العالم:
قبل أيام، مرّت ذكرى أحداث 11 أيلول (سبتمبر) في أمريكا، التي غيّرت وجه العالم سياسياً وأمنياً، ومنحت الإدارة الأمريكية أكثر من فرصة للتدخّل في أكثر من موقع عربي وإسلامي، وللنفاذ إلى المواقع الحيوية للعرب والمسلمين، تحت شعار "الحرب ضد الإرهاب"، الذي كان "الإرهاب الإسلامي" في المنطقة العربية والإسلامية عنواناً له، وذلك بإثارة الفوضى الأمنية في ساحاتها، وتدمير الجمعيات الخيرية العاملة على مساعدة الفقراء والمحرومين، بحجة دعمها لما تسمّيه الإرهاب، والدخول على خط مواقع التربية الإسلامية، بزعمها أن هذه التربية تشجّع على العنف.
حتى إنّ الإدارة الأمريكية ضغطت على أكثر من دولة إسلامية لإلغاء المدارس القرآنية، وخطَّطت لاحتلال أفغانستان والعراق بشكل مباشر، وما زالت تشجّع إسرائيل في حربها على الفلسطينيين واحتلالها لأراضيهم، واتهامهم بالإرهاب في مواجهتهم للاحتلال لتحرير بلدهم، ودعم اليهود في مصادرة الأراضي الفلسطينية بالمستوطنات الكبرى في الضفة الغربية والقدس، والجدار العنصري الذي اجتاح أراضي الفلسطينيين، وحاصر كل أوضاعهم، وشرّد أهلها الفقراء، ومَنَع اللاجئين من العودة إلى مدنهم وقراهم، وجمّد المفاوضات بحجة أن السماح بها يتوقّف على تهديم البنية التحتية للانتفاضة، من دون أيّ ضغط على اليهود في الانسحاب من الأراضي المحتلة تحت تأثير "خارطة الطريق".
إن أمريكا ـ التي استطاعت تعبئة العالم تحت شعار مكافحة الإرهاب والضغط على الأمم المتحدة لتشريع ذلك ـ لم تسمح لمجلس الأمن ولأية دولة أخرى، مناقشة مصطلح الإرهاب وتحديد تعريفه، ليتسنى لها محاربة المقاومين لتحرير بلدهم من الاحتلال، سواء الاحتلال الأمريكي أو الصهيوني في تحالفهما الاستراتيجي، بما يتمثّل في خططهما من إرهاب الدولة، وإسقاط حقوق الإنسان، ومصادرة حرية الشعوب المستضعفة في تقرير المصير.
وهذا ما نجده في إعلامها السياسي الذي يتَّهم المقاومة في مناطق احتلالها واحتلال إسرائيل بالإرهاب، مع الضغط على أكثر الدول العربية والإسلامية للخضوع لمسألة التّطبيع مع إسرائيل، باعتبار أن الشرط الوحيد لصداقة أيّ بلد مع أمريكا، هو المرور بالعلاقة مع إسرائيل بشكل مباشر أو غير مباشر، وهذا ما نلاحظه في قمة الدول العالمية في هذه الأيام، في التحرّك الأمريكي لإلغاء مقاطعة العرب والمسلمين لإسرائيل اقتصادياً وسياسياً، والإقبال على مصافحة شارون واللقاء معه.
المشكلة في السياسة الأمريكية:
إن المشكلة مع أمريكا، هي أن سياستها في المنطقة والعالم ترتكز على المصالح الإسرائيلية الأمنية والاقتصادية والسياسية على حساب مصالح الدول والشعوب، بل إن أمريكا قد تتنازل عن بعض مصالحها لحساب مصلحة إسرائيل، وهذا ما جعلها تحصد كراهية الشعوب العربية والإسلامية لإدارتها، كنتيجة للسياسة المعادية لدول المنطقة وشعوبها.
لقد كنّا أول من أدان أعمال العنف التي حدثت في أمريكا وإسبانيا وبريطانيا وغيرها من الدّول، لأننا نرفض هذا النوع من الأعمال، ولأنه ليست لدينا أيّ عقدة من شعوب الغرب، بل إننا نعمل ـ كما علّمنا الإسلام ـ على كسب صداقة شعوب العالم الذي نريده أن يبادلنا احتراماًَ باحترام، وصداقة بصداقة، وأن يضغط على إداراته الرسمية لتمتنع عن اضطهادنا في كل علاقاتها معنا. إننا أمة السلام والعدل، ولسنا أمة الحرب والظلم.
إفرضوا العزلة على التكفيريين:
ومن جانب آخر، فإننا نتابع الجرائم الوحشية التي يقوم بها التكفيريون ضد العمّال الفقراء في مجزرة الكاظمية وفي المجازر الأخرى في بغداد وفي أكثر من بلد عراقي، ما يحصد في يوم واحد أكثر من ثمانمائة شخص بين قتيل وجريح، الأمر الذي جعل هؤلاء يحاربون المدنيين ثأراً لما يقوم به المحتل ضدهم. ومن اللافت إعلان الزرقاوي الحرب الشاملة على "الشيعة الروافض" ـ على حدّ تعبيره ـ في كل أنحاء العراق "من دون رحمة أو شفقة"، مما يُراد من خلاله إيجاد حرب داخلية بين المسلمين، بما قد يثيره من أعمال رد الفعل التي يجتذبها هذا النوع من الفعل الوحشي الذي قد يمتد إلى العالم الإسلامي كله.
إننا ندعو علماء المسلمين وكل الفعاليات الإسلامية من جميع الأطياف، إلى اتخاذ موقف حاسم صريح، للتنديد بأمثال هذا الإعلان، بالكلمات القوية التي تفرض العزلة الإسلامية على كل هذه الفئات، وبلزوم التفريق بين المقاومة التي تواجه المحتل في احتلاله، وبين الفئات التي تقتل المدنيين الأبرياء تحت عناوين التكفير والحقد المذهبي، حتى لا يختلط الأمر على بعض الناس بطريقة وبأخرى.
كما ندعو الشعب العراقي الجريح إلى أن يقف صفاً واحداً، في وحدة إسلامية وطنية، ضد كل هؤلاء الذين يقتلون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق باسم الدين والدين منهم بُراء. وعلى العراقيين أن يعرفوا أنهم يتعرضون لمؤامرة متنوّعة الاتجاهات، حتى يبقى العراق غارقاً في دماء شعبه، في عملية الإرباك الشعبي، والفوضى الأمنية، والإفلاس الاقتصادي بفعل اللصوص من الداخل والخارج.
لبنان على مفترق طرق:
أما لبنان، فلا يزال مشغولاً بالأوضاع القلقة المسيطرة على إعلامه وسياسته، بفعل التحليلات والتأويلات والتعليقات بما يصدر من التحقيقات والتسريبات، بعيداً عن الأوضاع المعيشية، والانهيارات الاقتصادية، والمشاكل الشعبية في مواجهة ضغوط موسم المدارس على الفئات الفقيرة، التي لا تملك الإمكانات التي تتيح لها إدخال أولادها إلى المدارس. هذا إلى جانب الرحلات السياسية إلى هذه العاصمة الأوروبية أو الأمريكية، من أجل الاستماع إلى دول الوصاية الجديدة التي تتدخّل في خطوط السياسة المحلية وفي الشؤون الرئاسية، وأصبح للبنان أكثر من لبنان في هذا الموقع أو ذاك، في عملية تنافس يلغي فيها بعضهم بعضاً، وفي أسلوب تراشق بالاتهامات المبنية على الخلفيات النفسية والطائفية والحزبية، وإلى إطلاق أحكام شبه قضائية، لأن الكثيرين في الوسط السياسي، قد تحوّلوا ـ بقدرة قادر ـ إلى قضاة يدينون ويحكمون قبل أن يصدر المحققون تقريرهم، ما قد يؤدي إلى الكثير من النتائج السلبية على جميع المستويات.
وإلى جانب ذلك، برزت الدعوات الإجرامية التي تدعو اللبنانيين إلى قتل الفلسطينيين ومصادرة أملاكهم، وإخراج لبنان من الجامعة العربية، لأن العروبة تمثّل التخلّف لدى هؤلاء، إضافةً إلى الوقوف ضد سوريا والارتباط بإسرائيل. إننا نجد في هذه الدعوات المنطق الذي يعزل لبنان عن محيطه، ويعيد اللبنانيين إلى أجواء الحرب، الأمر الذي ينبغي الوقوف أمامه بكل قوة وإخلاص.
إن لبنان على مفترق طرق، وعلى الجميع أن يتحركوا لمنع الوصاية الكبرى، ومنع التدخّل والتداخل بين الطوائف، قبل أن ننتقل إلى مرحلة اللااستقرار السياسي التي تمهّد لزعزعة الاستقرار الأمني والاقتصادي والاجتماعي. إن المنطقة تهتز بفعل الخطة الأمريكية في الفوضى البنّاءة، ويُراد للبنان أن يعيش في دائرة هذا الاهتزاز، للضغط على الواقع العربي، ولا سيما سوريا، وعلينا أن نعرف كيف نبتعد عن ذلك. |