ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :
المحبـّة نُصـح
ما هي مسؤولية الإنسان المسلم في الإسلام، في علاقته بالناس على جميع المستويات؟ كيف تكون علاقته بالقيادات والقاعدة؟ كيف يتصرف معها؟ كيف يفكر لها؟ كيف يخطط لكل قضاياها؟ إن هناك عنواناً كبيراً في هذا الاتجاه كلّف الله تعالى به رسله في كل حركة الرسالات، وكلّف الله تعالى به أولياءه، وأراده للمؤمنين جميعاً، فقد كان الأنبياء يخاطبون أممهم ويحدثونهم عندما يقدّمون لهم الرسالة عن القلب الذي ينبض بالمحبة للناس، على أساس أن المحبة تفرض النصح، لأنك عندما تنصح إنساناً، فمعنى ذلك أنك تريد له الخير وتريد أن تجنّبه الشر، وأن تصلح أمره وتبعده عمّا يفسد أمره.
فنحن نقرأ قوله تعالى عن بعض الأنبياء: {أبلّغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون}، فأنا الإنسان الناصح لكم، ولست في موقع الإنسان الذي يستعلي ويريد السيطرة عليكم والزعامة فيكم، ولكني أريد أن أربطكم برسالة الله التي أوحى بها إليّ، لأن مستوى علاقتي بالله في ما يوحي به إليّ لا يتحقّق لكم. وفي آية كريمة أخرى يقول: {أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين}، ناصح يحمل الأمانة في أن يرتفع بكم إلى أعلى المستويات، حتى لا تخطئوا ولا تنحرفوا أو تسقطوا، وحتى تكونوا المجتمع الذي يعيش في سلام مع نفسه ومع ربه ومع الآخرين.
النصح أحبّ العبادة
ونقرأ في الحديث عن رسول الله(ص) وهو يقول: "قال الله عزّ وجلّ: أحبّ ما تعبّد لي به عبدي النصح لي". وهو لا يحتاج إلى نصح عبده، لأنه العالِم بكل الأشياء بشكل مطلق، ولكنه يحبّ لعباده أن ينصحوا له بأن يوحّدوه ويعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وأن يطيعوه في ما فيه الصلاح والخير لهم. وعنه(ص): "من لا يهتم بأمر المسلمين فليس منهم ـ من لا يهتم بكل ما يعرض لهم من مشاكل وتحديات تُفرض عليهم، وفي كل الحروب التي تشنّ عليهم، والانحرافات التي تزحف إليهم، فإنه ليس من المسلمين، حتى لو صلّى ما شاء وصام ما شاء وحجّ ما شاء، لأنه لا يبالي أسَقَطَ المسلمون أم لم يسقطوا، لأنك عندما تكون جزءاً من أمّة، فإن الجزء يتفاعل مع الكل.
ولذلك نقرأ في الحديث: "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر"، فالإسلام يريد من المسلمين أن يكونوا جسداً واحداً، يتألم الكل لما يتألم منه البعض، وهذا ما نعانيه في كل حياتنا العامة والخاصّة؛ الآخرون يتقدّمون ونحن نتخلّف، والآخرون يقوون ونحن نُضعف بعضنا بعضاً ـ ومن لم يصبح ويمسِ ناصحاً لله ولرسوله ولكتابه ولإمامه ولعامّة المسلمين فليس منهم"، فهو ليس من الله ولا من النبي ولا من القرآن ولا من الإمام ولا من عامة المسلمين في شيء، فهو خارج هذا النطاق، كأن النبي(ص) يقول لكل واحدٍ منا: فكّر، باعتبارك جزءاً من هذه الأمّة بما يمكن أن يكون نصيحة لها. كُن الإنسان الذي يفكر بالمسؤولية بحجمه، لأن البعض يعتبر أن هذه المسألة هي من مسؤولية العلماء والقيادة، ولكنك قد تملك فكرة أو تجربة لا يملكها الآخرون، فالله يريد أن يفكّر كل واحد منّا بأن يكون مشروع قائد، وهذا ما نقرأه في دعاء الافتتاح: "اللهمّ إنّا نرغب إليك في دولة كريمة، تعزّ بها الإسلام وأهله، وتذلّ بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك"...
الدّين النصيحة
وعن النبي(ص) لأصحابه قال: "الدين النصيحة"، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال(ص): "لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامّتهم". وعنه(ص): "إن أعظم الناس منزلةً عند الله يوم القيامة، أمشاهم في أرضه بالنصيحة لخلقه"، فعندما ينصح الأمة ـ سواء للأفراد أو الجماعات ـ فإنه يبلغ بذلك المنزلة العظيمة عند الله، وعنه(ص): "من يضمن لي خمساً أضمن له الجنة: النصيحة لله عزّ وجلّ، والنصيحة لرسوله، والنصيحة لكتاب الله ـ الاهتمام بتعلّم القرآن وتلاوته والتدبّر بآياته والعمل بما فيه ـ والنصيحة لدين الله ـ حتى نحفظ الإسلام قوياً في كل شرائعه وعقائده وأوضاعه ـ والنصيحة لجماعة المسلمين".
وفي الحديث عن الإمام الصادق(ع): "إن عليّاً(ع) كان عبداً ناصحاً لله عزّ وجلّ ـ لأنه أعطى كل عقله وكل قلبه وكل جسده وكل حركته لله تعالى، لأن عليّاً لم يفكر لنفسه وإنما فكّر لله ـ فنصحه، وأحبّ الله عزّ وجلّ فأحبّه"، وهو ما عبّر عنه رسول الله(ص) عندما قال في واقعة خيبر: "لأعطينَّ الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله". وعنه(ع) أنه قال: "يجب للمؤمن على المؤمن النصيحة له في المشهد والمغيب"، في إعطائه الرأي الناصح، والموقف الذي فيه نصح له من الناحية العملية. وعنه(ص): "ما أخلص المودة من لم ينصح"، فمن يحبك ويصادقك ويودّك، فإن علامة صدقه في المودة والحب، أن ينصحك إذا رأى لك طريقاً يمكن أن يعطيك النتائج الكبرى.
وعنه(ع): "عليكم بالنصح لله في خلقه ـ بأن تجنّب عباد الله ما يضرّهم وما يُسقطهم ـ فلن تلقاه بعمل أفضل منه". وعن رسول الله(ص): "أنسك الناس نسكاً أنصحهم جيباً وأسلمهم قلباً لجميع المسلمين"، وعن أمير المؤمنين(ع): "لينصح الرجل منكم أخاه كنصيحته لنفسه"...
وعن الإمام زين العابدين(ع) عن حق الناصح والمستنصِح: "فأما حق المستنصح ـ في أي جانب من الجوانب ـ أن تؤدي إليه النصيحة ـ أن تجهد فكرك وتنصحه لتحلّ مشكلته أو لتسدد خطاه ـ وليكن مذهبك الرحمة له، وحق الناصح أن تلين له جناحك ـ أن تتواضع له ـ وتصغي إليه بسمعك، فإن أتى الصواب حمدت الله عزّ وجلّ، وإن لم يوافق رحمته ولم تتهمه، وعلمت أنه أخطأ ولم تؤاخذه بذلك، إلا أن يكون مستحقاً للتهمة، فلا تعبأ بشيء من أمره على حال"، وقد ورد في بعض الأحاديث: "من استنصحه أخوه ولم ينصحه سلبه الله رأيه".
هذا هو الخط الإسلامي في ما يتحمّله الإنسان المسلم في كل القضايا التي تهم المسلمين، سواء كانوا أفراداً أو جماعات؛ أن يشعر كل مسلم بأنه مسؤول عن أن يجهد نفسه في إعطاء الرأي الصحيح الذي يرفع مستوى المسلمين ويسدد خطاهم ويقوي مواقع ضعفهم، ويحرك الموقف في رد التحدي بمثله، حتى نكون المجتمع الذي يهتم بعضه بكل هموم البعض الآخر، لنكون في موقع الأمة التي تتوحّد في كل قضاياها وأوضاعها وأهدافها ووسائلها، حتى نستطيع أن نواجه الأمم الأخرى من موقع الأمة المتعاونة الناصحة، {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون}.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله... اتقوا الله في كل أموركم، ولا سيما في هذه المرحلة الصعبة التي برز فيها الكفر كله والاستكبار كله إلى الإيمان والاستضعاف كله. كونوا الأمة الواحدة المتعاونة المتناصحة التي يهتم كل فرد فيها بأمور المسلمين جميعاً، حتى نحقق الانتصار على الأعداء في هذه المعركة، وعلينا أن نتابع ما يفعله المستكبرون وما يخططون له في إسقاط مواقعنا وإضعاف كل أوضاعنا، فماذا هناك؟
الديمقراطية الأمريكية نفاق وخداع
لا يزال الرئيس بوش يلاحق الوضع في لبنان يومياً، في مخاطبة الشعب الأمريكي، ليوحي له بأنه يتحرك في سياسته اللبنانية من أجل إدخال لبنان في "جنة" الديمقراطية، استكمالاً لمشروعه حول ما يسمّيه "نشر الديمقراطية"، في عملية نفاق وخداع، لأن الديمقراطية في لبنان كانت هي الوحيدة منذ الأربعينات على صعيد الانتخابات والحريات الإعلامية والسياسية، بما فيها حرية التظاهر، ضد أيّ وضع سياسي لا يوافق عليه الشعب...
أما الحرية في الحركة في خط المواجهة، فقد كان الشعب اللبناني في بيروت وفي الجنوب، هو الذي ثار في وجه الاحتلال الإسرائيلي الذي ساندته أمريكا وشجّعته حتى على مستوى تبريرها لمجزرة صبرا وشاتيلا ومجزرة قانا، إلى آخر قائمة المجازر الوحشية التي كان المندوب الأمريكي في مجلس الأمن يدافع عنها، لأن القضية عندها هي تأييد سياسة إسرائيل على حساب أمن الشعوب كلها... وما زالت السياسة الأمريكية في هذا الاتجاه، حتى قرأنا بالأمس، أن الإدارة الأمريكية طلبت من إسرائيل الكف عن إطلاق تصريحات بخصوص انسحاب القوات السورية من لبنان، لأن هذا "يُلحق الضرر بمصالح الولايات المتحدة في المنطقة"، إذ إن إسرائيل بذلك تحوّل الولايات المتحدة في نظر العرب إلى دمى في أيديها... وهذا ما أكدناه مراراً، من أن سياسة واشنطن تُصنع في تل أبيب، بفعل إدارة المحافظين الجدد واللوبي الصهيوني المسيطر على الإدارة الأمريكية في مرحلة بوش...
لقد أعلنت سوريا استعدادها للانسحاب بجيشها ومخابراتها، وبدأت تنفيذه، ما جعله مسألة محسومة سياسياً وأمنياً، ولكن الرئيس بوش لا يزال يتحدث عنه بطريقة سلبية، ليستعرض عضلاته السياسية كما لو كان هو بطل الانسحاب، للحصول على شعبية جديدة لدى الأمريكيين...
خلفيات القرار 1559
إننا نلاحظ أن الأمريكيين ـ ومعهم الفرنسيون ـ يحاولون الإيحاء بأن الشعب اللبناني يتمثل في فريق معيّن، ولذلك فإنهم يعملون على اللقاء معه والتعاون مع أوضاعه، في الوقت الذي يعرفون أن هناك فريقاً لبنانياً آخر يمثّله الذين تظاهروا في يوم الثلاثاء، وهم يمثلون مختلف الطوائف والأطياف اللبنانية...
وهنا، لا بد من السؤال: ما هو مفهوم الديمقراطية لدى صنّاع القرار 1559؟ هل هو قرار الأقلية أو الأكثرية؟ لقد وقفوا سياسياً في تصريحاتهم وفي لقاءاتهم ليثيروا اللبنانيين على بعضهم البعض، لا ليجمعوهم على قاعدة واحدة أو على تفاهم مشترك على صعيد الحوار، الأمر الذي جعل الكثيرين من اللبنانيين يعتبرون موقفهم تدخّلاً سلبياً في لبنان، ولا سيما عندما تحدث بعضهم عن استعداده لملء الفراغ الأمني الذي قد يحدث بعد الانسحاب السوري!!
إن الكثيرين يعرفون أن خلفية القرار1559 لم تنطلق من الغيرة على المصالح اللبنانية، بل من خلال الضغط على سوريا، على أساس العلاقات المرتبطة بالمصالح الأمريكية والفرنسية السياسية والأمنية والاقتصادية، ما جعلهم يتعاملون مع لبنان كورقة في أيديهم على أساس لعبة الأمم...
لقد أكّدنا ـ ولا نزال نؤكد ـ أن اللبنانيين يريدون بلدهم حراً سيداً مستقلاً، ولكنهم يتساءلون عن الذين ساهموا بطريقة وبأخرى في القبول بالأوضاع السلبية والخضوع لها، والتي أحاطت بالواقع السياسي والأمني في الحكومات السابقة التي كان للكثيرين الدور في تأكيدها وتركيزها في الماضي؟!
هل الديمقراطية رفض الحرية للشعوب!!
إننا نسأل الرئيس بوش: ما هو مفهومه للديمقراطية وحريات الشعوب في موقفه من حريات الشعب الفلسطيني الذي تمنعه إسرائيل في احتلالها من ممارسة حريته؟ وما هو مفهومه لاحترام الشرعية الدولية، في رفضه لتطبيق قرارات الأمم المتحدة بشأن الفلسطينيين؟ وما هو مفهومه للحريات بالنسبة إلى المناطق المحتلة في الجولان وفي مزارع شبعا؟ إنه يتحدث على طريقة كلمات الحق التي يُراد بها باطل، ولذلك فإننا لا نستطيع الوثوق بالسياسة الأمريكية وبكل شعارات الرئيس بوش، لأننا جرّبنا الأفعال ولم نجدها مطابقةً للأقوال...
ولذلك، فإننا نحذّر شعوب المنطقة العربية والإسلامية، ولا سيما الشعبين العراقي والفلسطيني، من كل هذا الخداع السياسي، ليدرسوا خلفيات الشعارات، ولا يسقطوا أمام معانيها الظاهرة.
العراق: الدعوة إلى استنكار المجازر
وإذا عدنا إلى العراق الجريح، فإننا نجد الضحايا التي تسقط في كل يوم، بفعل المناخ الذي أوجده الاحتلال الأمريكي، وبفعل الفئات التكفيرية التي تقتل المسلمين في مساجدهم وفي مواقعهم الدينية من خلال عقلية حاقدة وحشية همجية، وقد تجلّى ذلك في المجزرة الجديدة ضد المسلمين الشيعة في الموصل، والتي ذهب ضحيتها العشرات من القتلى والجرحى...
إننا ندعو جميع المسلمين في العالم كله، ولا سيما علماء المسلمين، إلى استنكار هذه المجازر الوحشية بالصوت العالي الذي لا يجهّل الفاعلين الذين لا يخجلون ولا يخافون من تبني هذه المجازر بدم بارد.
لبنان: الارتماء في أحضان الخارج يعقِّد الأمور
أما لبنان الذي يسقط فيه اللبنانيون في داخل أزماتهم الاقتصادية، ويعيشون فيه الجوع المدمِّر، والمستقبل المجهول، والفوضى السياسية، فإنه بدأ يفقد أيّ أمل في الخروج من هذا النفق المظلم الذي يتحرك فيه الوسط السياسي في جدال يحاول فيه القائمون عليه تسجيل النقاط على فريق هنا وفريق هناك، في الأجواء التي قد تصل بالبلد إلى الفراغ الدستوري، من خلال تجميد الحكومة أو تأجيل الانتخابات، ما يعطّل كل أوضاع الناس المستضعفين الذين لا يملكون الاستمرار في حياتهم، فيلجأون إلى الهجرة وإلى السقوط في البطالة والجوع والحرمان، من دون أن يجدوا أيّ حل للمشكلة التي يتحمّل مسؤوليتها الذين أُثروا على حساب الناس في مواقعهم الرسمية وغير الرسمية، ولا يجرأ أحدهم أن يجيب على سؤال: من أين لك هذا!!
أيها السياسيون المحترفون: ارفعوا أيديكم عن المستضعفين الجائعين المحرومين في لبنان، ولا تقحموهم في الفوضى التي تأكل الأخضر واليابس. إن الارتماء في أحضان الخارج لن يحقق للبنان أيّ حل لمشكلته، بل سوف يجعل المشكلة أكثر تعقيداً. |