الإمام زين العابدين(ع): تحويل المأساة إلى منهج رسالي

الإمام زين العابدين(ع):  تحويل المأساة إلى منهج رسالي

الإمام زين العابدين(ع):  تحويل المأساة إلى منهج رسالي


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

القمّة في الروحانية والعبادة:
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً}،. من أهل هذا البيت الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع)، الذي نلتقي بذكرى وفاته في الخامس والعشرين من شهر محرم الحرام. وعندما نعيش مع هذا الإمام، فإنّنا ننفتح على آفاقٍ واسعة من الإمامة التي تنوّعت أبعادها، وانفتحت آفاقها، وعاشت من أجل أن تملأ عقول الناس علماً، وقلوبهم روحاً، وحياتهم خيراً وحركةً.
عندما نلتقي بهذا الإمام، فإننا نجده يمثّل القمَّة في روحانيته؛ في عبادته لله تعالى وذوبانه فيه وحبّه له، وعندما نقرأ أدعيته المتنوّعة، فإننا نجده يناجي الله سبحانه وتعالى، ليخطِّط للإنسان في مناجاته لربه، كيف ينفتح إيمانه بربه على كلِّ معاني السمو والصفاء والخير، وكيف يريد للإنسان أن ينفتح في دعائه لله على كلِّ منهج الإسلام، فأنت عندما تقرأ أدعية الإمام زين العابدين(ع)، فإنك تشعر أنه يتحدث مع الله تعالى ليعيش الإسلام كلّه في دعائه، في كلّ مفاهيمه وبرامجه الأخلاقية، وكل انطلاقته الروحية، حتى إنك تشعر عندما تدخل في أدعيته، أنك تدخل مدرسة إسلامية ثقافية روحية عرفانية حركية، فتمتلئ في دعائك بالله، وتمتلئ في دعائك بالحياة كلها في خط الإسلام.
وبذلك أعطانا الإمام زين العابدين(ع) منهجاً جديداً في أن نعيش مع الله تعالى كلَّ تطلعاتنا الثقافية الإسلامية، وكل انفتاحاتنا الروحية، حتى لا يبتعد الإنسان عن الحياة عندما ينطلق مع الله تعالى.

عاشوراء الرسالة:

ثم عندما ندخل إلى عمق حياة هذا الإمام، فإننا نجد أنه عاش مع أبيه الحسين(ع) وكل الصفوة الطيبة من أهل بيته وأصحابه كلَّ عاشوراء، فقد عاش عاشوراء الرسالة في كلِّ ما طرحه الإمام الحسين(ع) من خطوط الرسالة في حركة الواقع الذي أراد أن يغيّره، وفي كل عناوين الرسالة في كل ما أراد الحسين(ع) أن يحمله، ليرتفع به إلى الله، وليؤكّد إنسانية الإنسان في مسألة العزّة والكرامة والحركة في خط التحدي للظالمين. وعاش الإمام زين العابدين(ع) كربلاء في كلِّ فصول المأساة التي لا مأساة تتجاوزها؛ عاش مأساة الطفل الرضيع وهو يُذبح، والشباب المجاهد وهو يسقط في ساحة الجهاد، والشيخ الكبير التسعيني وهو يُستشهد، وعاش المأساة في كلِّ مواقع النساء في حزنهنّ وصبرهن وشجاعتهن وفي كل القيم، وكان مع مرضه يتابع ذلك كله، ويجمع ذلك كله في وعيه، من دون أن يسقط، ومن دون أن يتجاوز المأساة، ومن دون أن يعيش بعيداً عنها.
وهكذا كان الإمام(ع) في موقفه من الطغاة في الكوفة والشام، في موقع القمة في شجاعة الموقف، وفي موقع التحدي. ولذلك فإننا عندما ندرس زين العابدين(ع)، نرفض هذه الصورة التي يقدّمها الكثيرون من قرّاء العزاء، لنتصوّره ذليلاً منهاراً باكياً، لأننا عندما نقرأ موقفه من ابن زياد ويزيد، نجد قمة الصمود والشجاعة والعزة والكرامة. مشكلتنا مع الكثيرين هي أنهم يريدون منّا أن تُستنـزف دموعنا، لا أن تكبر عقولنا وينفتح وعينا على الأئمة من أهل البيت(ع).

أستاذ المرحلة الثقافية الإسلامية:

وعاش المأساة بكلِّ أبعادها، ولكنَّها لم تمنعه، عندما رجع إلى المدينة، من أن يكون المدرسة التي التقى عندها الكثيرون من العلماء الذين قادوا الحركة الثقافية الإسلامية، فكانوا يأخذون من علمه، حتى ذكر بعض الذين كتبوا سيرته، أنه روى عنه الفقهاء من العلوم ما لا يُحصى كثرةً، وحُفظ عنه من المواعظ والأدعية وفضائل القرآن والحلال والحرام والمغازي والأيام ما هو مشهور بين العلماء. لم تمنعه ذكرياته عن المأساة العظيمة من أن يتحرك برسالته من خلال مسؤوليته في إمامته، فملأ الحياة الإسلامية علماً وروحاً وروحانيةً وحركةً، حتى اعتبره بعض الباحثين أستاذ المرحلة الثقافية الإسلامية في تلك المسألة.

منهج في التّسامح والعفو:

وكان الإمام زين العابدين(ع) ينفتح في حياته كلّها على التوعية العامة للناس، من خلال موقع القدوة الأخلاقية الرائعة التي ترتفع وتسمو حتى تصل إلى مستوى القمة، فالمؤرخون يكتبون في تاريخه، أنَّ المدينة عندما انقلبت على يزيد وحاربت الأمويين، وكان من الأمويين في المدينة مروان بن الحكم؛ هذا الإنسان الحاقد على أهل البيت(ع)، والذي قال لوالي المدينة إن "عليك أن لا تسمح للحسين من الخروج إلاّ بعد أن يبايع وإلاّ فاضرب عنقه"، وكان لديه عائلة كبرى من أولاده وأحفاده وأحفاد أولاده يقدّرون بأربعمائة امرأة وطفل، وكان حائراً أين يضعهم بعد أن يهرب من المدينة تحت ضغط الجماهير، ولم يقبل أحد من وجهاء المدينة أن يجير بناته وأولاده، وجاء إلى علي بن الحسين(ع)، وهو الثاكل الذي قتل الأمويون أباه وإخوانه وأعمامه وأهل بيته وأصحاب أبيه، جاء إليه يستجيره، وأهل البيت(ع) فوق الحقد وفوق المأساة، فقال(ع) له: «إبعث بعيالك إلى عيالي»، وقالت بعض بناته: «ما وجدنا من الإحسان والرعاية في بيت أبينا ما وجدناه في بيت علي بن الحسين»، ويقول الشاعر وهو يبيّن الفارق بين أهل البيت(ع) وبين غيرهم من هذه النماذج من الناس:

ملكنا فكان العفو منا سجيّةً            فلمَّا ملكتم سال بالدم أبطح
وحللتم قتل الأسارى وطالما           غدونا عن الأسرى نعفّ ونصفح
فحسبكم هذا التفاوت بيننا           وكل إناء بالذي فيه ينضح

وفي قصَّةٍ أخرى، كان هناك بعض ولاة الأمويين في المدينة، وكان هذا الوالي يسيء إلى عليّ بن الحسين(ع) إساءةً بالغةً، ومرّت الأيام، وعُزل هذا الوالي، وأمر الخليفة أن يُعرض أمام الناس ليأخذوا الحرية في شتمه وضربه، وكان هذا الوالي المعزول يفكِّر في ما يجري عليه من علي بن الحسين وأهل بيته، لأنه أساء إليهم بما لم يسىء إلى أحد، وكان الإمام(ع) في عالم آخر، إذ جمع أهل بيته وقال لهم: «لا تعرضوا له بسوء وأعطوه طيِّب الكلام»، ومرّ عليه الإمام(ع) وأهل بيته وتحدثوا عنه بأطيب الكلام، وقالوا له: إذا كانت عندك ديون أو أمور أخرى فنحن مستعدّون لذلك، وكان هذا الرجل يقول: «الله أعلم حيث يجعل رسالته»، لأنه لم يجد من هذا السموّ والصدر الواسع والخلق العظيم ما وجده عند أهل البيت(ع).
وفي قصّةٍ أخرى، أنه مرّ عليه بعض أقربائه فشتمه، وكان أصحاب الإمام(ع) معه، فلمّا ذهب هذا الرجل قال الإمام(ع) لمن حوله: «إذهبوا بنا إلى فلان حتى تسمعوا منّي ردّي عليه»، فظنوا أنه يريد أن يواجهه بالعنف، قالوا: كنا نمشي مع الإمام(ع) وهو يقول: {والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحبّ المحسنين}، وعندما وصل إلى داره، خرج الرجل متوثّباً للشر، فقال لـه الإمام زين العابدين(ع): «يا أخي، إنك كنت قد وقفت عليّ آنفاً فقلت وقلت، فإن كنت قلت ما فيّ فأستغفر الله منه، وإن كنت قلت ما ليس فيّ فغفر الله لك»، فاهتزَّ هذا الرجل وقال: لقد أخطأت معك والله أعلم حيث يجعل رسالته.

مالئ الحياة علماً وروحانية...

كان(ع) يملأ الحياة علماً وروحانية وأخلاقاً، وكان يقول لبعض أصحابه عندما رآه وهو يبكي من خشية الله: جدَّك رسول الله وأمير المؤمنين، وجدتك السيدة الزهراء، وعمك الحسن وأبوك الحسين، فقال(ع) له: «دع عنك ذكر أبي وجدي، خلق الله الجنة لمن أطاعه ولو كان عبداً حبشياً، وخلق النار لمن عصاه ولو كان سيّداً قرشياً». كان يريد أن يركّز أنّ الإسلام لا يؤكد على النسب حتى في النسب العظيم، بل على العمل: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}، كما كان يقول الإمام عليّ(ع): «إن وليّ محمد من أطاع الله وإن بعدت لحمته، وإن عدو محمد من عصى الله وإن قربت قرابته»، ثم تلا قوله تعالى: {إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتّبعوه}. إنَّ الأئمة(ع) يؤكدون أن النسب لا يرفع صاحبه في مستوى القيمة، وإنما يرفعه إذا كان يحمل فضائل من انتسب إليه.
وكان الإمام زين العابدين(ع) كوناً إنسانياً واسعاً، عاش الناس منه في وعي فتح عقولهم وقلوبهم، وإذا كان(ع) يبكي الإمام الحسين(ع)، فإنه كان يبكي لا جزعاً، لأنه الصّابر العظيم، بل لينبّه النّاس إلى مأساة عاشوراء، لتبقى ذكرى للذّاكرين، وعبرةً للمعتبرين، ووعياً لمن يريدُ الوعي. كان(ع) يخطط لتبقى عاشوراء في مدى الزمن، ولتختلط فيها الرسالة بالعاطفة، فتنطلق العاطفة لتعمّق الرسالة في وجدان الناس. وهكذا كان الإمام زين العابدين(ع) هو أوَّلُ من خطَّط لانطلاقة هذه الذكرى التي نعيش بركاتها في هذه الأيام.
وقد كان يتحدَّث مع النَّاس أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، وكان يقول: «التّارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كالنّابذ كتاب الله وراء ظهره»، وكان(ع) يذكّر الناس بالخطِّ الإسلامي الأخلاقي: «إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: ليقم أهل الفضل؟ فيقوم ناس من الناس، فيقال لهم: انطلقوا إلى الجنة بغير حساب، فتتلقّاهم الملائكة فيقولون: ما فضلكم؟ فيقولون: كنا إذا جُهل علينا حلمنا، وإذا ظُلمنا صبرنا، وإذا أُسيء إلينا عفونا، فيقولون: ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين. ثم ينادي منادٍ: ليقم أهل الصبر، فيقوم ناس من الناس، فيقال لهم: انطلقوا إلى الجنة بغير حساب، فتتلقّاهم الملائكة، فيقولون: ما كان صبركم؟ فيقولون: صبّرنا أنفسنا على طاعة الله، وصبرنا عن معاصي الله، فيقولون لهم: ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين. ثم ينادي منادٍ: ليقم جيران الله، فيقوم ناس من الناس وهم قليل، فيقال لهم انطلقوا إلى الجنة، فتتلقاهم الملائكة فيقال لهم: بم جاورتم الله في داره؟ فيقولون: كنا نتزاور في الله، ونتجالس في الله، ونتباذل في الله، فيقولون: ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين».
هذا هو درس الإمام زين العابدين(ع)، وكم له من دروسٍ لا بدَّ لنا أن نعيشها ونتعلّمها وننطلق في حياتنا لنحوّلها إلى منهجٍ روحيّ أخلاقيّ، وسلام الله على زين العابدين، وعلى أبيه وعمه وجدّه وجدّته، وعلى رسول الله (ص) ورحمة الله وبركاته.

الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم


عباد الله... اتقوا الله وواجهوا التحدّيات بموقف قوي ينفتح على الله تعالى ليستلهمه القوّة، ويتحرك مع الأمَّةِ كلّها ليؤكّد حركة القوّة، وليواجه المستكبرين والظالمين بكلِّ مواقع التحدي التي يتحدّاهم بها، وعلينا أن نتابع كل الأوضاع الإسلامية التي تواجه العالم الإسلامي كلّه، فماذا هناك؟

القرار 1559: المصلحة الأمريكية:

التحالف الأمريكي ـ الأوروبي يتحدَّث بقوة عن الشرعية الدولية، وضرورة الالتزام بها من قِبَل سوريا ولبنان بقدر ما يتصل الموضوع بالقرار 1559، في أكثر من أسلوب حادّ قد يستبطن التهديد والإثارة، وتنطلق حركة الموفدين الدوليين، كما ينطلق نشاط سفاراتهم في نطاق خطة مرسومة تتحرك للاتصال بفريق لبناني معيّن لإيجاد حالة من الاهتزاز السياسي، التي يحاول الإعلام المتنوّع من خلالها، أن يشير في وسائله إلى الخوف من الاهتزاز الأمني. وهكذا، امتدت المسألة إلى المستوى الكبير من الخطورة بعد حادثة الاغتيال المشؤومة الوحشية، حيث تحرّكت مفرداتها لتصنع مناخاً تختلط فيه المأساة بالسياسة، في عملية إثارة لكل العناوين المطروحة في الساحة محلياً وإقليمياً ودولياً.
لقد أكّدنا أكثر من مرة، أن من حقِّ لبنان ـ كأيّ بلد آخر ـ أن يعيش حريته في المسألة الأمنية والسياسية، وأن يمارس استقلاله وسيادته في تقرير مصيره، وأن تكون علاقاته بالقريبين منه والبعيدين عنه مبنية على قاعدة السيادة والاحترام المتبادل.
ولكننا نتساءل: لماذا هذا الموقف الحادّ الذي يشبه الحالة العدوانية بما يتصل بهذا القرار، في الوقت الذي نلاحظ أن إسرائيل قد تنكّرت للقرارات الدولية الموجَّهة إليها في مجلس الأمن، كالقرار 194 المتعلّق بعودة اللاجئين إلى أرضهم الذي شرّعته أمريكا بناءً على اقتراح تقدَّمت به، ثم رفضه الرئيس بوش أخيراً في "رسالة الضمانات" إلى شارون، وهكذا بالنسبة للقرارين 242 و338 وبقية القرارات المتعلّقة بالمستوطنات والجدار العنصري وكلّ تفاصيل الاحتلال، من دون أن يحرّك المجتمع الدولي، الذي يكرر الرئيس الأمريكي الحديث عنه، ساكناً في الضغط على إسرائيل، لأن ما يجوز عنده لها لا يجوز لغيرها من الدول. ولعل آخر القرارات القرار الذي يشير إلى منع امتلاك أسلحة الدمار الشامل وصنعها، الذي استثنى إسرائيل التي لم توقِّع على حظر هذا السّلاح، في صمتٍ مريبٍ من الدول الكبرى، بينما نجد أن أمريكا ـ ومعها أوروبا ـ تثير الدنيا ضد إيران في مشروعها النووي السلمي، وهي التي وقّعت مع وكالة الطاقة الذرّية على قرار الحظر الدولي. ثم إننا نلاحظ السياسة الأمريكية التي رفضت الشرعية الدولية، وتنكّرت لقرارات مجلس الأمن في مسألة احتلال العراق الذي ارتكز على كذبة كبرى في قضية أسلحة الدمار الشامل؟!
إننا نتساءل: هل المسألة مسألة الحرية والديمقراطية والسلام لشعوب الشرق الأوسط، أو أن المسألة هي مسألة المصالح الأمريكية في استغلال بعض الثغرات في هذا البلد أو ذاك، أو في اتهام المقاومة المنفتحة على قاعدة التحرير بالإرهاب من أجل إثارة الواقع الدولي ضدّها؟

أمريكا في خدمة السّياسة الإسرائيليّة:

ومن الطّريف أن وزيرة الخارجية الأمريكية تلمِّح إلى إمكان تقديم مساعدة أمنية إلى لبنان لملء الفراغ الذي تحدثه القوات السورية عند انسحابها، في الوقت الذي نلاحظ كيف ملأت أمريكا الفراغ الأمني في العراق بالفوضى الأمنية التي حوّلت الواقع هناك إلى ساحة متفجّرة يسقط فيها المدنيون العراقيون أكثر مما يسقط فيها جنودها، بقطع النظر عن الخلفيات الكامنة وراء ذلك من فريق هنا وفريق هناك، من دون أن تتمكَّن من حماية العراقيين!!
وإذا كان المندوب الأمريكي قد جاء إلى لبنان لتنفيذ الخطّة المرسومة للفوضى السياسية والأمنية، في التعليمات التي يوزّعها على السائرين في خط السياسة الأمريكية في المشكلة المتحركة في لبنان، فإنه التقى بوزير خارجية العدو في إعلانه بأن لبنان "المتحرر من الاحتلال السوري سيوقّع اتفاق سلام مع إسرائيل"، على حدّ قوله، من خلال الضجة التي يثيرها البعض حول سلاح المقاومة، ومدى شرعية استمرارها في موقف التصدّي للعدوّ، على الرغم من الكلام الاستهلاكي في الحديث عن حماية المقاومة، مع أكثر من كلمة في مطاوي الحديث.
إن السياسة الأمريكية تتحرك في خطِّ خدمة السياسة الإسرائيلية، في عملية التحالف بينهما على الصعيد الاستراتيجي في السيطرة على المنطقة العربية والإسلامية سياسياً واقتصادياً وأمنياً، وعلينا ـ كأمّة ـ أن نتطلّع إلى المنطقة من حولنا، ولا سيّما إلى فلسطين التي عاشت في مؤتمر لندن في نطاق الاقتراحات المتحرّكة تحت عنوان الحاجة إلى إصلاح الواقع الداخلي كشرط لقيام دولة نموذجية، في الوقت الذي يعرف الجميع، أنَّ الأولوية تكمن في حاجة الشعب الفلسطيني للتحرير الذي يمنحه الفرصة لترتيب أوضاعه العامة من خلال الطاقات المبدعة التي يملكها في إدارة كل شؤونه، من دون حاجة إلى مؤتمرات دولية أو إقليمية.

العراق: مجازر وحشية متنقّلة:

أما العراق الغارق في أجواء الاحتلال، فإنه ينتقل من مجزرة وحشية إلى مجزرة همجية من قِبَل أكثر من جهة، ابتداءً من الفئات التكفيرية الحاقدة على المسلمين باسم الإسلام، إلى جنود الاحتلال الذين يقتلون المدنيين عشوائياً، وكانت مجزرة الحلّة التي تمثل قمة المأساة والوحشية آخر هذه المجازر الهائلة في ضحاياها، ما يتحمّل الاحتلال وحكومته المؤقّتة مسؤوليّته في عدم حماية الشعب من ذلك كله... ونريد للعلماء المسلمين ـ من السنّة والشيعة ـ أن يستمروا في رفع الصوت عالياً ضد هذا الوضع المأساوي الفوضوي، سائلين الله تعالى أن يكشف هذه الغمّة عن الشعب العراقي الجريح المنكوب.

لبنان: العمل المسؤول لإنقاذ البلد:

أما لبنان، الذي يواجه احتمالات الفراغ الحكومي، والفوضى السياسية، والخلل الأمني، فإنه يعيش تحت تأثير الفراغ الاقتصادي الذي تنطلق فيه صرخات الفقر والجوع والحرمان، حيث لا وجود لدولة فاعلة تعالج ذلك كله.
إننا ندعو الجميع إلى التّخطيط بدل الارتجال، وإعمال العقل بدل الانفعال، والحوار الهادئ الذي يدرس الأمور من خلال الاعتراف بالآخر، والمواطنية بدل الطائفية. إننا ندرك أن هناك مشاكل تتصل بالحرية والاقتصاد والسياسة والأمن، وهي بحاجة إلى المزيد من الدراسة وتبادل وجهات النظر، سواء في الداخل أو في الخارج، وإلى الرفق بدل العنف، وإلى التداول في المناخات الفكرية بدل الساحات الشعبية.
إننا نسأل: هل إنّ المطلوب أن نحمل معاول الهدم لإسقاط الوطن من خلال انفعال طائفي أو فئوي أو انتخابي قد يؤدّي إلى سقوط الهيكل السياسي والاقتصادي وربما الأمني على رؤوس الجميع؟ وهل نحن بحاجة إلى الدخول إلى العصر الأمريكي ـ الإسرائيلي من جديد، والذي لن يكون في صالح الشعب كله والأمة كلها؟!
إن المرحلة بحاجة إلى تفكير مسؤول، وإلى قيادة مسؤولة، وإلى شعب مسؤول، فهل نلتقي بذلك كله؟

الإمام زين العابدين(ع):  تحويل المأساة إلى منهج رسالي


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

القمّة في الروحانية والعبادة:
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً}،. من أهل هذا البيت الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع)، الذي نلتقي بذكرى وفاته في الخامس والعشرين من شهر محرم الحرام. وعندما نعيش مع هذا الإمام، فإنّنا ننفتح على آفاقٍ واسعة من الإمامة التي تنوّعت أبعادها، وانفتحت آفاقها، وعاشت من أجل أن تملأ عقول الناس علماً، وقلوبهم روحاً، وحياتهم خيراً وحركةً.
عندما نلتقي بهذا الإمام، فإننا نجده يمثّل القمَّة في روحانيته؛ في عبادته لله تعالى وذوبانه فيه وحبّه له، وعندما نقرأ أدعيته المتنوّعة، فإننا نجده يناجي الله سبحانه وتعالى، ليخطِّط للإنسان في مناجاته لربه، كيف ينفتح إيمانه بربه على كلِّ معاني السمو والصفاء والخير، وكيف يريد للإنسان أن ينفتح في دعائه لله على كلِّ منهج الإسلام، فأنت عندما تقرأ أدعية الإمام زين العابدين(ع)، فإنك تشعر أنه يتحدث مع الله تعالى ليعيش الإسلام كلّه في دعائه، في كلّ مفاهيمه وبرامجه الأخلاقية، وكل انطلاقته الروحية، حتى إنك تشعر عندما تدخل في أدعيته، أنك تدخل مدرسة إسلامية ثقافية روحية عرفانية حركية، فتمتلئ في دعائك بالله، وتمتلئ في دعائك بالحياة كلها في خط الإسلام.
وبذلك أعطانا الإمام زين العابدين(ع) منهجاً جديداً في أن نعيش مع الله تعالى كلَّ تطلعاتنا الثقافية الإسلامية، وكل انفتاحاتنا الروحية، حتى لا يبتعد الإنسان عن الحياة عندما ينطلق مع الله تعالى.

عاشوراء الرسالة:

ثم عندما ندخل إلى عمق حياة هذا الإمام، فإننا نجد أنه عاش مع أبيه الحسين(ع) وكل الصفوة الطيبة من أهل بيته وأصحابه كلَّ عاشوراء، فقد عاش عاشوراء الرسالة في كلِّ ما طرحه الإمام الحسين(ع) من خطوط الرسالة في حركة الواقع الذي أراد أن يغيّره، وفي كل عناوين الرسالة في كل ما أراد الحسين(ع) أن يحمله، ليرتفع به إلى الله، وليؤكّد إنسانية الإنسان في مسألة العزّة والكرامة والحركة في خط التحدي للظالمين. وعاش الإمام زين العابدين(ع) كربلاء في كلِّ فصول المأساة التي لا مأساة تتجاوزها؛ عاش مأساة الطفل الرضيع وهو يُذبح، والشباب المجاهد وهو يسقط في ساحة الجهاد، والشيخ الكبير التسعيني وهو يُستشهد، وعاش المأساة في كلِّ مواقع النساء في حزنهنّ وصبرهن وشجاعتهن وفي كل القيم، وكان مع مرضه يتابع ذلك كله، ويجمع ذلك كله في وعيه، من دون أن يسقط، ومن دون أن يتجاوز المأساة، ومن دون أن يعيش بعيداً عنها.
وهكذا كان الإمام(ع) في موقفه من الطغاة في الكوفة والشام، في موقع القمة في شجاعة الموقف، وفي موقع التحدي. ولذلك فإننا عندما ندرس زين العابدين(ع)، نرفض هذه الصورة التي يقدّمها الكثيرون من قرّاء العزاء، لنتصوّره ذليلاً منهاراً باكياً، لأننا عندما نقرأ موقفه من ابن زياد ويزيد، نجد قمة الصمود والشجاعة والعزة والكرامة. مشكلتنا مع الكثيرين هي أنهم يريدون منّا أن تُستنـزف دموعنا، لا أن تكبر عقولنا وينفتح وعينا على الأئمة من أهل البيت(ع).

أستاذ المرحلة الثقافية الإسلامية:

وعاش المأساة بكلِّ أبعادها، ولكنَّها لم تمنعه، عندما رجع إلى المدينة، من أن يكون المدرسة التي التقى عندها الكثيرون من العلماء الذين قادوا الحركة الثقافية الإسلامية، فكانوا يأخذون من علمه، حتى ذكر بعض الذين كتبوا سيرته، أنه روى عنه الفقهاء من العلوم ما لا يُحصى كثرةً، وحُفظ عنه من المواعظ والأدعية وفضائل القرآن والحلال والحرام والمغازي والأيام ما هو مشهور بين العلماء. لم تمنعه ذكرياته عن المأساة العظيمة من أن يتحرك برسالته من خلال مسؤوليته في إمامته، فملأ الحياة الإسلامية علماً وروحاً وروحانيةً وحركةً، حتى اعتبره بعض الباحثين أستاذ المرحلة الثقافية الإسلامية في تلك المسألة.

منهج في التّسامح والعفو:

وكان الإمام زين العابدين(ع) ينفتح في حياته كلّها على التوعية العامة للناس، من خلال موقع القدوة الأخلاقية الرائعة التي ترتفع وتسمو حتى تصل إلى مستوى القمة، فالمؤرخون يكتبون في تاريخه، أنَّ المدينة عندما انقلبت على يزيد وحاربت الأمويين، وكان من الأمويين في المدينة مروان بن الحكم؛ هذا الإنسان الحاقد على أهل البيت(ع)، والذي قال لوالي المدينة إن "عليك أن لا تسمح للحسين من الخروج إلاّ بعد أن يبايع وإلاّ فاضرب عنقه"، وكان لديه عائلة كبرى من أولاده وأحفاده وأحفاد أولاده يقدّرون بأربعمائة امرأة وطفل، وكان حائراً أين يضعهم بعد أن يهرب من المدينة تحت ضغط الجماهير، ولم يقبل أحد من وجهاء المدينة أن يجير بناته وأولاده، وجاء إلى علي بن الحسين(ع)، وهو الثاكل الذي قتل الأمويون أباه وإخوانه وأعمامه وأهل بيته وأصحاب أبيه، جاء إليه يستجيره، وأهل البيت(ع) فوق الحقد وفوق المأساة، فقال(ع) له: «إبعث بعيالك إلى عيالي»، وقالت بعض بناته: «ما وجدنا من الإحسان والرعاية في بيت أبينا ما وجدناه في بيت علي بن الحسين»، ويقول الشاعر وهو يبيّن الفارق بين أهل البيت(ع) وبين غيرهم من هذه النماذج من الناس:

ملكنا فكان العفو منا سجيّةً            فلمَّا ملكتم سال بالدم أبطح
وحللتم قتل الأسارى وطالما           غدونا عن الأسرى نعفّ ونصفح
فحسبكم هذا التفاوت بيننا           وكل إناء بالذي فيه ينضح

وفي قصَّةٍ أخرى، كان هناك بعض ولاة الأمويين في المدينة، وكان هذا الوالي يسيء إلى عليّ بن الحسين(ع) إساءةً بالغةً، ومرّت الأيام، وعُزل هذا الوالي، وأمر الخليفة أن يُعرض أمام الناس ليأخذوا الحرية في شتمه وضربه، وكان هذا الوالي المعزول يفكِّر في ما يجري عليه من علي بن الحسين وأهل بيته، لأنه أساء إليهم بما لم يسىء إلى أحد، وكان الإمام(ع) في عالم آخر، إذ جمع أهل بيته وقال لهم: «لا تعرضوا له بسوء وأعطوه طيِّب الكلام»، ومرّ عليه الإمام(ع) وأهل بيته وتحدثوا عنه بأطيب الكلام، وقالوا له: إذا كانت عندك ديون أو أمور أخرى فنحن مستعدّون لذلك، وكان هذا الرجل يقول: «الله أعلم حيث يجعل رسالته»، لأنه لم يجد من هذا السموّ والصدر الواسع والخلق العظيم ما وجده عند أهل البيت(ع).
وفي قصّةٍ أخرى، أنه مرّ عليه بعض أقربائه فشتمه، وكان أصحاب الإمام(ع) معه، فلمّا ذهب هذا الرجل قال الإمام(ع) لمن حوله: «إذهبوا بنا إلى فلان حتى تسمعوا منّي ردّي عليه»، فظنوا أنه يريد أن يواجهه بالعنف، قالوا: كنا نمشي مع الإمام(ع) وهو يقول: {والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحبّ المحسنين}، وعندما وصل إلى داره، خرج الرجل متوثّباً للشر، فقال لـه الإمام زين العابدين(ع): «يا أخي، إنك كنت قد وقفت عليّ آنفاً فقلت وقلت، فإن كنت قلت ما فيّ فأستغفر الله منه، وإن كنت قلت ما ليس فيّ فغفر الله لك»، فاهتزَّ هذا الرجل وقال: لقد أخطأت معك والله أعلم حيث يجعل رسالته.

مالئ الحياة علماً وروحانية...

كان(ع) يملأ الحياة علماً وروحانية وأخلاقاً، وكان يقول لبعض أصحابه عندما رآه وهو يبكي من خشية الله: جدَّك رسول الله وأمير المؤمنين، وجدتك السيدة الزهراء، وعمك الحسن وأبوك الحسين، فقال(ع) له: «دع عنك ذكر أبي وجدي، خلق الله الجنة لمن أطاعه ولو كان عبداً حبشياً، وخلق النار لمن عصاه ولو كان سيّداً قرشياً». كان يريد أن يركّز أنّ الإسلام لا يؤكد على النسب حتى في النسب العظيم، بل على العمل: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}، كما كان يقول الإمام عليّ(ع): «إن وليّ محمد من أطاع الله وإن بعدت لحمته، وإن عدو محمد من عصى الله وإن قربت قرابته»، ثم تلا قوله تعالى: {إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتّبعوه}. إنَّ الأئمة(ع) يؤكدون أن النسب لا يرفع صاحبه في مستوى القيمة، وإنما يرفعه إذا كان يحمل فضائل من انتسب إليه.
وكان الإمام زين العابدين(ع) كوناً إنسانياً واسعاً، عاش الناس منه في وعي فتح عقولهم وقلوبهم، وإذا كان(ع) يبكي الإمام الحسين(ع)، فإنه كان يبكي لا جزعاً، لأنه الصّابر العظيم، بل لينبّه النّاس إلى مأساة عاشوراء، لتبقى ذكرى للذّاكرين، وعبرةً للمعتبرين، ووعياً لمن يريدُ الوعي. كان(ع) يخطط لتبقى عاشوراء في مدى الزمن، ولتختلط فيها الرسالة بالعاطفة، فتنطلق العاطفة لتعمّق الرسالة في وجدان الناس. وهكذا كان الإمام زين العابدين(ع) هو أوَّلُ من خطَّط لانطلاقة هذه الذكرى التي نعيش بركاتها في هذه الأيام.
وقد كان يتحدَّث مع النَّاس أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، وكان يقول: «التّارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كالنّابذ كتاب الله وراء ظهره»، وكان(ع) يذكّر الناس بالخطِّ الإسلامي الأخلاقي: «إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: ليقم أهل الفضل؟ فيقوم ناس من الناس، فيقال لهم: انطلقوا إلى الجنة بغير حساب، فتتلقّاهم الملائكة فيقولون: ما فضلكم؟ فيقولون: كنا إذا جُهل علينا حلمنا، وإذا ظُلمنا صبرنا، وإذا أُسيء إلينا عفونا، فيقولون: ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين. ثم ينادي منادٍ: ليقم أهل الصبر، فيقوم ناس من الناس، فيقال لهم: انطلقوا إلى الجنة بغير حساب، فتتلقّاهم الملائكة، فيقولون: ما كان صبركم؟ فيقولون: صبّرنا أنفسنا على طاعة الله، وصبرنا عن معاصي الله، فيقولون لهم: ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين. ثم ينادي منادٍ: ليقم جيران الله، فيقوم ناس من الناس وهم قليل، فيقال لهم انطلقوا إلى الجنة، فتتلقاهم الملائكة فيقال لهم: بم جاورتم الله في داره؟ فيقولون: كنا نتزاور في الله، ونتجالس في الله، ونتباذل في الله، فيقولون: ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين».
هذا هو درس الإمام زين العابدين(ع)، وكم له من دروسٍ لا بدَّ لنا أن نعيشها ونتعلّمها وننطلق في حياتنا لنحوّلها إلى منهجٍ روحيّ أخلاقيّ، وسلام الله على زين العابدين، وعلى أبيه وعمه وجدّه وجدّته، وعلى رسول الله (ص) ورحمة الله وبركاته.

الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم


عباد الله... اتقوا الله وواجهوا التحدّيات بموقف قوي ينفتح على الله تعالى ليستلهمه القوّة، ويتحرك مع الأمَّةِ كلّها ليؤكّد حركة القوّة، وليواجه المستكبرين والظالمين بكلِّ مواقع التحدي التي يتحدّاهم بها، وعلينا أن نتابع كل الأوضاع الإسلامية التي تواجه العالم الإسلامي كلّه، فماذا هناك؟

القرار 1559: المصلحة الأمريكية:

التحالف الأمريكي ـ الأوروبي يتحدَّث بقوة عن الشرعية الدولية، وضرورة الالتزام بها من قِبَل سوريا ولبنان بقدر ما يتصل الموضوع بالقرار 1559، في أكثر من أسلوب حادّ قد يستبطن التهديد والإثارة، وتنطلق حركة الموفدين الدوليين، كما ينطلق نشاط سفاراتهم في نطاق خطة مرسومة تتحرك للاتصال بفريق لبناني معيّن لإيجاد حالة من الاهتزاز السياسي، التي يحاول الإعلام المتنوّع من خلالها، أن يشير في وسائله إلى الخوف من الاهتزاز الأمني. وهكذا، امتدت المسألة إلى المستوى الكبير من الخطورة بعد حادثة الاغتيال المشؤومة الوحشية، حيث تحرّكت مفرداتها لتصنع مناخاً تختلط فيه المأساة بالسياسة، في عملية إثارة لكل العناوين المطروحة في الساحة محلياً وإقليمياً ودولياً.
لقد أكّدنا أكثر من مرة، أن من حقِّ لبنان ـ كأيّ بلد آخر ـ أن يعيش حريته في المسألة الأمنية والسياسية، وأن يمارس استقلاله وسيادته في تقرير مصيره، وأن تكون علاقاته بالقريبين منه والبعيدين عنه مبنية على قاعدة السيادة والاحترام المتبادل.
ولكننا نتساءل: لماذا هذا الموقف الحادّ الذي يشبه الحالة العدوانية بما يتصل بهذا القرار، في الوقت الذي نلاحظ أن إسرائيل قد تنكّرت للقرارات الدولية الموجَّهة إليها في مجلس الأمن، كالقرار 194 المتعلّق بعودة اللاجئين إلى أرضهم الذي شرّعته أمريكا بناءً على اقتراح تقدَّمت به، ثم رفضه الرئيس بوش أخيراً في "رسالة الضمانات" إلى شارون، وهكذا بالنسبة للقرارين 242 و338 وبقية القرارات المتعلّقة بالمستوطنات والجدار العنصري وكلّ تفاصيل الاحتلال، من دون أن يحرّك المجتمع الدولي، الذي يكرر الرئيس الأمريكي الحديث عنه، ساكناً في الضغط على إسرائيل، لأن ما يجوز عنده لها لا يجوز لغيرها من الدول. ولعل آخر القرارات القرار الذي يشير إلى منع امتلاك أسلحة الدمار الشامل وصنعها، الذي استثنى إسرائيل التي لم توقِّع على حظر هذا السّلاح، في صمتٍ مريبٍ من الدول الكبرى، بينما نجد أن أمريكا ـ ومعها أوروبا ـ تثير الدنيا ضد إيران في مشروعها النووي السلمي، وهي التي وقّعت مع وكالة الطاقة الذرّية على قرار الحظر الدولي. ثم إننا نلاحظ السياسة الأمريكية التي رفضت الشرعية الدولية، وتنكّرت لقرارات مجلس الأمن في مسألة احتلال العراق الذي ارتكز على كذبة كبرى في قضية أسلحة الدمار الشامل؟!
إننا نتساءل: هل المسألة مسألة الحرية والديمقراطية والسلام لشعوب الشرق الأوسط، أو أن المسألة هي مسألة المصالح الأمريكية في استغلال بعض الثغرات في هذا البلد أو ذاك، أو في اتهام المقاومة المنفتحة على قاعدة التحرير بالإرهاب من أجل إثارة الواقع الدولي ضدّها؟

أمريكا في خدمة السّياسة الإسرائيليّة:

ومن الطّريف أن وزيرة الخارجية الأمريكية تلمِّح إلى إمكان تقديم مساعدة أمنية إلى لبنان لملء الفراغ الذي تحدثه القوات السورية عند انسحابها، في الوقت الذي نلاحظ كيف ملأت أمريكا الفراغ الأمني في العراق بالفوضى الأمنية التي حوّلت الواقع هناك إلى ساحة متفجّرة يسقط فيها المدنيون العراقيون أكثر مما يسقط فيها جنودها، بقطع النظر عن الخلفيات الكامنة وراء ذلك من فريق هنا وفريق هناك، من دون أن تتمكَّن من حماية العراقيين!!
وإذا كان المندوب الأمريكي قد جاء إلى لبنان لتنفيذ الخطّة المرسومة للفوضى السياسية والأمنية، في التعليمات التي يوزّعها على السائرين في خط السياسة الأمريكية في المشكلة المتحركة في لبنان، فإنه التقى بوزير خارجية العدو في إعلانه بأن لبنان "المتحرر من الاحتلال السوري سيوقّع اتفاق سلام مع إسرائيل"، على حدّ قوله، من خلال الضجة التي يثيرها البعض حول سلاح المقاومة، ومدى شرعية استمرارها في موقف التصدّي للعدوّ، على الرغم من الكلام الاستهلاكي في الحديث عن حماية المقاومة، مع أكثر من كلمة في مطاوي الحديث.
إن السياسة الأمريكية تتحرك في خطِّ خدمة السياسة الإسرائيلية، في عملية التحالف بينهما على الصعيد الاستراتيجي في السيطرة على المنطقة العربية والإسلامية سياسياً واقتصادياً وأمنياً، وعلينا ـ كأمّة ـ أن نتطلّع إلى المنطقة من حولنا، ولا سيّما إلى فلسطين التي عاشت في مؤتمر لندن في نطاق الاقتراحات المتحرّكة تحت عنوان الحاجة إلى إصلاح الواقع الداخلي كشرط لقيام دولة نموذجية، في الوقت الذي يعرف الجميع، أنَّ الأولوية تكمن في حاجة الشعب الفلسطيني للتحرير الذي يمنحه الفرصة لترتيب أوضاعه العامة من خلال الطاقات المبدعة التي يملكها في إدارة كل شؤونه، من دون حاجة إلى مؤتمرات دولية أو إقليمية.

العراق: مجازر وحشية متنقّلة:

أما العراق الغارق في أجواء الاحتلال، فإنه ينتقل من مجزرة وحشية إلى مجزرة همجية من قِبَل أكثر من جهة، ابتداءً من الفئات التكفيرية الحاقدة على المسلمين باسم الإسلام، إلى جنود الاحتلال الذين يقتلون المدنيين عشوائياً، وكانت مجزرة الحلّة التي تمثل قمة المأساة والوحشية آخر هذه المجازر الهائلة في ضحاياها، ما يتحمّل الاحتلال وحكومته المؤقّتة مسؤوليّته في عدم حماية الشعب من ذلك كله... ونريد للعلماء المسلمين ـ من السنّة والشيعة ـ أن يستمروا في رفع الصوت عالياً ضد هذا الوضع المأساوي الفوضوي، سائلين الله تعالى أن يكشف هذه الغمّة عن الشعب العراقي الجريح المنكوب.

لبنان: العمل المسؤول لإنقاذ البلد:

أما لبنان، الذي يواجه احتمالات الفراغ الحكومي، والفوضى السياسية، والخلل الأمني، فإنه يعيش تحت تأثير الفراغ الاقتصادي الذي تنطلق فيه صرخات الفقر والجوع والحرمان، حيث لا وجود لدولة فاعلة تعالج ذلك كله.
إننا ندعو الجميع إلى التّخطيط بدل الارتجال، وإعمال العقل بدل الانفعال، والحوار الهادئ الذي يدرس الأمور من خلال الاعتراف بالآخر، والمواطنية بدل الطائفية. إننا ندرك أن هناك مشاكل تتصل بالحرية والاقتصاد والسياسة والأمن، وهي بحاجة إلى المزيد من الدراسة وتبادل وجهات النظر، سواء في الداخل أو في الخارج، وإلى الرفق بدل العنف، وإلى التداول في المناخات الفكرية بدل الساحات الشعبية.
إننا نسأل: هل إنّ المطلوب أن نحمل معاول الهدم لإسقاط الوطن من خلال انفعال طائفي أو فئوي أو انتخابي قد يؤدّي إلى سقوط الهيكل السياسي والاقتصادي وربما الأمني على رؤوس الجميع؟ وهل نحن بحاجة إلى الدخول إلى العصر الأمريكي ـ الإسرائيلي من جديد، والذي لن يكون في صالح الشعب كله والأمة كلها؟!
إن المرحلة بحاجة إلى تفكير مسؤول، وإلى قيادة مسؤولة، وإلى شعب مسؤول، فهل نلتقي بذلك كله؟

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية