الصدق والأمانة عنوان الشخصية الرسالية

الصدق والأمانة عنوان الشخصية الرسالية

الصدق والأمانة عنوان الشخصية الرسالية


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

صفتان من الصفات التي ترتفع بأخلاقية الإنسان تجعلانه أميناً على الحقيقة، وعلى الناس والحياة، وهما الصفتان اللتان مثّلتا المعنى الذي كان يعيشه رسول الله (ص) قبل النبوّة وبعدها، حتى غلبتا على اسمه، وهما: الصدق والأمانة، ما جعل قريشاً عندما تتحدث عنه تقول: "جاء الصادق الأمين".

الصدق انفتاح وإخلاص للحقيقة

وهاتان الصفتان تمثِّلان الأساس الذي تبنى عليه المجتمعات، لأن مسألة الصدق هي مسألة الانفتاح والإخلاص للحقيقة، في كل المواقف والأشياء، فالصدق هو انفتاحك على الله تعالى في كل كيانك، فتكون صادقاً مع الله، والصدق مع الله هو السير معه سبحانه في كل ما يرضاه ويحبّه، وأن تكون صادقاً مع نفسك فلا تكذب عليها ولا تغشّها، وأن تكون صادقاً مع الناس كلهم، بقطع النظر عن طبيعة هؤلاء الناس، كافراً كان الإنسان أو مسلماً، فلا فرق في الصدق بين الصدق مع الفاسق ومع العادل ـ لأن قضية الصدق والكذب ليست مربوطة بالآخرين، بل هي مربوطة بمصداقيتك لنفسك، فالصدق هو أنت في ما تنفتح به على الحقيقة، والكذب هو أنت في ما تغشّ به الحقيقة.

الأمانة مسؤولية

وقضية الأمانة تمثل المسؤولية، سواء في المال الذي يودع عندك، أو في العمل الذي يوكل إليك، أو في الوظيفة التي تتحمّل مسؤوليتها، أو في الحكم الذي تتحمّل كل موارده ومصادره، أو في التكاليف التي حمّلك الله تعالى إياها كأمانة، وذلك هو قوله تعالى: {إنّا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنّها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً}.

لذلك، فإن الأمانة لا تقتصر على أمانة المال، بل تمتد إلى كل مسؤولياتك التي أودعها الله تعالى أو الناس عندك، مالاً أو وظيفة أو تكليفاً. فالإنسان إذا صدق مع الله ومع الناس ومع نفسه، استطاع أن يجعل الحياة من داخل نفسه وخارجها تتحرك مع الحقيقة ولا تقترب من الباطل والكذب والزيف والغش والخداع، وهكذا إذا أخذ بالأمانة، فإنه يكون المؤتمن على كل حركة الحياة في مسؤولياتها وحقوقها وواجباتها.

الصدق والأمانة من سمات الأنبياء

وقد حضّ الله تعالى على تأدية الأمانة إلى أهلها، وهذا ما أكّده القرآن والأحاديث الواردة عن النبي(ص) وعن الأئمة من أهل البيت(ع). فعن الإمام الصادق (ع) قال: "إن الله عزّ وجلّ لم يبعث نبيّاً إلا بصدق الحديث وأداء الأمانة إلى البرّ والفاجر"، فهاتان القيمتان الأخلاقيتان هما العنوان الكبير لكل الرسالات، لأن الصدق والأمانة يبنيان العلاقة مع الله ومع الناس، ويعمّران الدنيا، ويعطيان الحياة امتداداً وقوةً وانفتاحاً.

وفي الحديث عنه (ع) وهو يتحدث كيف نقوّم الإنسان، هل هو مؤمن أم غير مؤمن، ما هو المقياس؟ بعض الناس قد يرى أن المقياس أن نذهب إلى المسجد لنراه في صلاته أو في حجّه أو صومه وما إلى ذلك، من دون أن يخضع للاختبار في حركة الحياة، في بيته ومجتمعه ومواقع المسؤولية. يقول الإمام الصادق (ع): "لا تغتروا بصلاتهم ولا بصيامهم، فإن الرجل ربما لهج بالصلاة والصوم حتى لو تركه استوحش ـ بحيث أصبحت العبادة من صلاة وصوم عادةً اعتادها منذ صغره ـ ولكن اختبروهم عند صدق الحديث وأداء الأمانة"، راقبوه في بيته وفي السوق وفي المجتمع، هل إذا حدّث صدق وإذا ائتُمن أدّى الأمانة أم لا.. وقد ورد: "لا دين لمن لا أمانة له ولو صام وصلّى".

الصدق زكاة الأعمال

وعن الإمام الصادق (ع) قال: "من صدق لسانه زكا عمله". وكان الأئمة من أهل البيت(ع) يوصون الأشخاص الذي يأتون إليهم لينقلوا أحاديثهم ويروون الروايات عنهم، فيقولون (ع): "تعلّموا الصدق قبل الحديث". وفي حديث بعض أصحاب الإمام الصادق(ع) وكنيته "أبو كهمس" قال: قلت لأبي عبد الله (ع): "عبد الله بن أبي يعفور" يقرئك السلام، قال(ع): "عليك وعليه السلام، إذا أتيت عبد الله فأقرئه السلام وقل له: إن جعفر بن محمد يقول لك: انظر ما بلغ به عليّ عند رسول الله فالزمه، فإن عليّاً إنما بلغ ما بلغ به عند رسول الله (ص) بصدق الحديث وأداء الأمانة"، انظر ما هي درجة عليّ (ع) عند رسول الله(ص)، لماذا أحبَّه هذا الحب وقرّبه إليه إلى هذه الدرجة؟ لأنه كان صادق الحديث ومؤدياً للأمانة، وكأنه (ع) يقول: إن قيمتك عندي هي بالتزامك صدق الحديث وأداء الأمانة، تماماً كما كان عليّ (ع) عند رسول الله(ص).

وفي الحديث عن الإمام الصادق (ع) قال لبعض أصحابه وهو "فضيل بن يسار": "يا فضيل، إن الصادق أول من يصدّقه الله عزّ وجلّ يعلم أنه صادق ـ إن الله يطّلع عليك عندما تتحدث، فإذا تحدثت بالصدق فإن الله من فوق عرشه يقول لك: صدقت يا فلان ـ وتصدّقه نفسه تعلم أنه صادق"، فلا تتطلع في حديثك هل إن الناس يصدّقونك أم لا، بل تتطلّع هل أنت صادق عند نفسك وعند الله.. وعن الإمام الصادق (ع) يقول: "إنما سُمّي النبي إسماعيل صادق الوعد لأنه وعد رجلاً في مكان ـ من دون أن يحدد له وقتاً ـ فانتظره في ذلك المكان سنة، فسمّاه الله عزّ وجلّ "صادق الوعد"، ثم قال: "إن الرجل أتاه بعد ذلك، فقال له إسماعيل: ما زلت منتظراً لك منذ سنة".

الدعوة من خلال القدوة

وعن الإمام الباقر(ع) قال: "إن الرجل ليصدق حتى يكتبه الله صدّيقاً"، وفي حديث الإمام الصادق (ع) يقول: "إن العبد ليصدق حتى يُكتب عند الله من الصادقين، ويكذب حتى يُكتب عند الله من الكاذبين، فإذا صدق قال الله عزّ وجلّ: صدق وبرّ، وإذا كذب قال الله عزّ وجلّ: "كذب وفجر". ويقول (ع) وهو يتوجه للوعاظ والخطباء والعلماء والمؤمنين جميعاً، إذا أردتم أن تكونوا دعاةً للإسلام، فلا تقتصروا على الدعوة باللسان، بل من خلال القدوة، يقول (ع): "كونوا دعاة للناس بالخير بغير ألسنتكم ليروا منكم الاجتهاد ـ في طاعة الله ـ والصدق ـ في الحديث ـ والورع"، عن محارم الله تعالى.

إن الصدق في الحديث والوعد والعمل يمثِّل الخط المستقيم الذي إذا تحرك الناس معه فإنهم يشعرون بالاستقرار والطمأنينة، بينما إذا تحدث الناس بالكذب فإن الكذب يغيّر الصورة عند الإنسان، فيتصرف بطريقة قد يظلم فيها الناس والحقيقة والحياة.

إن الدين صدقٌ وأمانة؛ صدق مع الله وأمانة على الحياة، وصدق مع النفس وأمانة مع النفس، وصدقٌ مع الناس وأمانةٌ مع الناس، أن لا تخونهم في قضاياهم العامة والخاصة. هذه هي القيمة الإسلامية التي يريد الله تعالى للمسلمين أن يأخذوا بها، من أجل أن يرتفعوا ليكونوا في مواقع القرب من الله والإخلاص له وللناس وللحياة، وعلينا أن نربي أنفسنا وأجيالنا على ذلك كله.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله في ما حمّلكم من مسؤولية تجاه أنفسكم، والناس من حولكم، وتجاه الإسلام والمسلمين، أن تخلصوا لله في ذلك كله، ولا تعيشوا الأنانية والفردية، ليتحسس المسلم أنه ليس مجرد فرد، بل هو جزء من أمّه، ولا بد له من أن يعطي أمته من عقله وقلبه وكل طاقاته ما يرتفع بها إلى الدرجات العليا، وما يحميها من المساوىء والأخطار، وما يدفع بها إلى أن تعيش الوحدة في كل مواقعها..

ونحن كأمة مسلمة، نعيش في هذه المرحلة من تاريخنا، والتي يمكن أن تترك تأثيرها على مستقبلنا ومستقبل أجيالنا ومستقبل الإسلام والمسلمين، نعيش التحديات الكبرى من جانب أعداء الله من المستكبرين والكافرين، حتى تكون كلمتهم هي العليا وكلمتنا هي السفلى. فلا يكفي أن تكون أنت عزيزاً وأمتك ذليلة، إن عزّتك وقوتك من عزة أمتك وقوتها، ذلك ما ينبغي لنا أن نفكر به ونستعدّ ونخطط له، حتى نستطيع أن نحفظ أمتنا من كل من يريد بها سوءاً، فتعالوا لنتعرّف على التحديات والأخطار التي يخطِّط لها الآخرون من أجل إضعافنا ومصادرة أوضاعنا، فماذا هناك:

محاولات لتفكيك الانتفاضة

أمريكا تحتجّ وتستنكر الردّ العسكري الذي قامت به الانتفاضة على الاغتيالات والاعتقالات والاجتياحات للفلسطينيين، لأن ذلك يمثّل ـ بالنسبة الى إدارتها ـ نشاطاً "إرهابياً لا بدّ من معاقبته من السلطة الفلسطينية"، ولكنها لم تستنكر الخروقات والاعتداءات للجيش الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، ولم تنبس ببنت شفة، بل اكتفت بكلمات لا معنى لها بضرورة "التزام الطرفين بخريطة الطريق"، وتؤكد على ضرورة "تفكيك منظمات الانتفاضة، لأنها ـ بحسب زعمها ـ تعرقل السلام"، من دون أن تتحدث عن عرقلة الحكومة الصهيونية وحزبها لخريطة الطريق من حيث المبدأ..

إننا نفهم من خلال هذه السياسة الأمريكية الملتزمة بإسرائيل على حساب الشعب الفلسطيني، أن المطلوب هو إيقاف المقاومة في حركة الانتفاضة ضد الاحتلال بالمطلق، من دون التزامٍ بانسحاب اليهود من الأرض المحتلة، ومن دون دعم للسلطة الفلسطينية أمام التعديات الصهيونية، لأنها تريدها أن تبقى خاضعة للابتزاز اليهودي في كل الأمور، وتخطط لدخول الفلسطينيين في المفاوضات مع العدو من دون أية أوراق ضاغطة وأية قوة رادعة، ليقدّم الفلسطينيون التنازلات للعدو في الأمور المصيرية، كالقدس وعودة اللاجئين والمستوطنات والجدار العازل وغير ذلك، لأنهم لا يملكون ذاتياً أيّ عنصر للضغط أو أيّ دعم دوليّ، ولا سيما أمريكي..

ومن اللافت أن الاتحاد الأوروبي الذي يعمل لتجديد العلاقة مع أمريكا وإسرائيل، استنكر عمليات الانتفاضة، من دون أن يقارن بينها وبين الجرائم الإسرائيلية في قتل الفلسطينيين واعتقالهم وهدم بيوتهم.. كما فوجئنا باستنكار رد المقاومة الإسلامية في لبنان على الاعتداءات الصهيونية في اختراق الأجواء اللبنانية، وفي اغتيال المجاهد علي صالح، الذي أراد العدو من خلاله فتح ملف الاغتيالات الأمنية في لبنان على الطريقة المستخدَمة في فلسطين، معتمداً على التأييد الأمريكي والأوروبي لعملياته الإجرامية، ما قد يعيد لبنان إلى الدوّامة التي خرج منها منذ انتهاء الحرب..

إن على الشعوب العربية والإسلامية البقاء في عملية مراقبة للساحة الفلسطينية، ومحاولة الضغط على كل الأعمال التي يُراد بها إسقاط القضية وإخضاعها للخطة الإسرائيلية ـ الأمريكية في تنفيذ الاستراتيجية الصهيونية، لأن المسألة هي مسألة المصير المستقبلي للعرب والمسلمين.

العراق: خطورة المرحلة

ويبقى العراق الجرح المفتوح على كل احتمالات الأعراض المرضية، فالأمن لا يرتكز على أية قاعدة يستند إليها المواطن هناك، والخدمات الحياتية الضرورية لا تزال من دون تحريك على صعيد سلطات الاحتلال التي أعطت العراقيين الوعود المعسولة، هؤلاء الذين يتساقطون يومياً بأطفالهم ونسائهم ورجالهم من المدنيين بسلاح الجيش الأمريكي، الذي يمارس ضدهم القبضة الحديدية بحجة البحث عن "صدام" وجماعته؟!

إننا نقول لأهلنا في العراق: إن المرحلة لا تزال في موقع الخطورة، لأن للاحتلال خططه التي قد لا تلتقي بمصالحكم بل بمصالحه، ولذلك فإن المطلوب هو عدم الاستسلام للخديعة الأمريكية في وعودهم السخية بالحرية والرخاء والاستقرار، لأنهم لا يملكون أيّ أساس للثقة بذلك.. وليس معنى ذلك السقوط في قبضة الشلل، بل المسألة هي المزيد من الحذر الذكيّ، وإدارة الأمور بأيدي المخلصين من الشعب غير الخاضعين للاحتلال، من أجل حفظ النظام وإبقاء الشعار التحريري الشامل: "لا للاحتلال"، لأن العراق لا بدّ أن يبقى حراً من أية قوة أجنبية، ولا بد من التخطيط لكل الوسائل الكفيلة بتحقيق ذلك.

الأمن... يحقق سلامة المواجهة

أما في لبنان، فقد تحدث البعض عن الإصلاح الإداري، ولكن السؤال: من هو الذي يملك القوة في محاسبة الكبار الذين يمثّلون الحماية السياسية للفساد، باعتبار أن الفساد الإداري هو من نتاج الفساد السياسي؟؟ إن المطلوب من أصحاب النفوذ ـ إذا كانوا صادقين ـ أن يحاسبوا الذين ينتمون إليهم قبل مطالبة الآخرين بالخضوع للحساب.. ثم السؤال الآخر: ما هي آلية الإصلاح، ومَن يصلح مَن، لأن الفساد قد بلغ الجذور السياسية والإدارية في البلد؟؟

وتبقى مسألة الكهرباء أمام خيارين: التعتيم الكامل أو الاقتراض.. والسؤال التقليدي: هل يمكن أن يصل التحقيق الموعود إلى نتيجة حاسمة، أم أن هذا الملف ـ كغيره من الملفات ـ سوف يقبع في الأدراج ليُفتح ملف آخر من خلال التسويات بين الكبار، لحماية مجرم محسوب على فلان ومجرم محسوب على فلان؟؟

إننا لا نريد الحديث عن الهروب من الخطر المعيشي الداخلي بحجة الخطر الخارجي، في المرحلة التي تهتزّ فيها المنطقة، لأن الأمن الاجتماعي والاقتصادي هو الذي يحقق سلامة المواجهة لحماية الأمن الخارجي.. وعلينا التصدي للإهمال في الداخل كما نتصدى لما يخطط له العدو، لأننا في أكثر من حرب وعلى أكثر من جبهة، ولأن الخسارة في أية جبهة سوف تنعكس على الجبهة الأخرى.

الصدق والأمانة عنوان الشخصية الرسالية


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

صفتان من الصفات التي ترتفع بأخلاقية الإنسان تجعلانه أميناً على الحقيقة، وعلى الناس والحياة، وهما الصفتان اللتان مثّلتا المعنى الذي كان يعيشه رسول الله (ص) قبل النبوّة وبعدها، حتى غلبتا على اسمه، وهما: الصدق والأمانة، ما جعل قريشاً عندما تتحدث عنه تقول: "جاء الصادق الأمين".

الصدق انفتاح وإخلاص للحقيقة

وهاتان الصفتان تمثِّلان الأساس الذي تبنى عليه المجتمعات، لأن مسألة الصدق هي مسألة الانفتاح والإخلاص للحقيقة، في كل المواقف والأشياء، فالصدق هو انفتاحك على الله تعالى في كل كيانك، فتكون صادقاً مع الله، والصدق مع الله هو السير معه سبحانه في كل ما يرضاه ويحبّه، وأن تكون صادقاً مع نفسك فلا تكذب عليها ولا تغشّها، وأن تكون صادقاً مع الناس كلهم، بقطع النظر عن طبيعة هؤلاء الناس، كافراً كان الإنسان أو مسلماً، فلا فرق في الصدق بين الصدق مع الفاسق ومع العادل ـ لأن قضية الصدق والكذب ليست مربوطة بالآخرين، بل هي مربوطة بمصداقيتك لنفسك، فالصدق هو أنت في ما تنفتح به على الحقيقة، والكذب هو أنت في ما تغشّ به الحقيقة.

الأمانة مسؤولية

وقضية الأمانة تمثل المسؤولية، سواء في المال الذي يودع عندك، أو في العمل الذي يوكل إليك، أو في الوظيفة التي تتحمّل مسؤوليتها، أو في الحكم الذي تتحمّل كل موارده ومصادره، أو في التكاليف التي حمّلك الله تعالى إياها كأمانة، وذلك هو قوله تعالى: {إنّا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنّها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً}.

لذلك، فإن الأمانة لا تقتصر على أمانة المال، بل تمتد إلى كل مسؤولياتك التي أودعها الله تعالى أو الناس عندك، مالاً أو وظيفة أو تكليفاً. فالإنسان إذا صدق مع الله ومع الناس ومع نفسه، استطاع أن يجعل الحياة من داخل نفسه وخارجها تتحرك مع الحقيقة ولا تقترب من الباطل والكذب والزيف والغش والخداع، وهكذا إذا أخذ بالأمانة، فإنه يكون المؤتمن على كل حركة الحياة في مسؤولياتها وحقوقها وواجباتها.

الصدق والأمانة من سمات الأنبياء

وقد حضّ الله تعالى على تأدية الأمانة إلى أهلها، وهذا ما أكّده القرآن والأحاديث الواردة عن النبي(ص) وعن الأئمة من أهل البيت(ع). فعن الإمام الصادق (ع) قال: "إن الله عزّ وجلّ لم يبعث نبيّاً إلا بصدق الحديث وأداء الأمانة إلى البرّ والفاجر"، فهاتان القيمتان الأخلاقيتان هما العنوان الكبير لكل الرسالات، لأن الصدق والأمانة يبنيان العلاقة مع الله ومع الناس، ويعمّران الدنيا، ويعطيان الحياة امتداداً وقوةً وانفتاحاً.

وفي الحديث عنه (ع) وهو يتحدث كيف نقوّم الإنسان، هل هو مؤمن أم غير مؤمن، ما هو المقياس؟ بعض الناس قد يرى أن المقياس أن نذهب إلى المسجد لنراه في صلاته أو في حجّه أو صومه وما إلى ذلك، من دون أن يخضع للاختبار في حركة الحياة، في بيته ومجتمعه ومواقع المسؤولية. يقول الإمام الصادق (ع): "لا تغتروا بصلاتهم ولا بصيامهم، فإن الرجل ربما لهج بالصلاة والصوم حتى لو تركه استوحش ـ بحيث أصبحت العبادة من صلاة وصوم عادةً اعتادها منذ صغره ـ ولكن اختبروهم عند صدق الحديث وأداء الأمانة"، راقبوه في بيته وفي السوق وفي المجتمع، هل إذا حدّث صدق وإذا ائتُمن أدّى الأمانة أم لا.. وقد ورد: "لا دين لمن لا أمانة له ولو صام وصلّى".

الصدق زكاة الأعمال

وعن الإمام الصادق (ع) قال: "من صدق لسانه زكا عمله". وكان الأئمة من أهل البيت(ع) يوصون الأشخاص الذي يأتون إليهم لينقلوا أحاديثهم ويروون الروايات عنهم، فيقولون (ع): "تعلّموا الصدق قبل الحديث". وفي حديث بعض أصحاب الإمام الصادق(ع) وكنيته "أبو كهمس" قال: قلت لأبي عبد الله (ع): "عبد الله بن أبي يعفور" يقرئك السلام، قال(ع): "عليك وعليه السلام، إذا أتيت عبد الله فأقرئه السلام وقل له: إن جعفر بن محمد يقول لك: انظر ما بلغ به عليّ عند رسول الله فالزمه، فإن عليّاً إنما بلغ ما بلغ به عند رسول الله (ص) بصدق الحديث وأداء الأمانة"، انظر ما هي درجة عليّ (ع) عند رسول الله(ص)، لماذا أحبَّه هذا الحب وقرّبه إليه إلى هذه الدرجة؟ لأنه كان صادق الحديث ومؤدياً للأمانة، وكأنه (ع) يقول: إن قيمتك عندي هي بالتزامك صدق الحديث وأداء الأمانة، تماماً كما كان عليّ (ع) عند رسول الله(ص).

وفي الحديث عن الإمام الصادق (ع) قال لبعض أصحابه وهو "فضيل بن يسار": "يا فضيل، إن الصادق أول من يصدّقه الله عزّ وجلّ يعلم أنه صادق ـ إن الله يطّلع عليك عندما تتحدث، فإذا تحدثت بالصدق فإن الله من فوق عرشه يقول لك: صدقت يا فلان ـ وتصدّقه نفسه تعلم أنه صادق"، فلا تتطلع في حديثك هل إن الناس يصدّقونك أم لا، بل تتطلّع هل أنت صادق عند نفسك وعند الله.. وعن الإمام الصادق (ع) يقول: "إنما سُمّي النبي إسماعيل صادق الوعد لأنه وعد رجلاً في مكان ـ من دون أن يحدد له وقتاً ـ فانتظره في ذلك المكان سنة، فسمّاه الله عزّ وجلّ "صادق الوعد"، ثم قال: "إن الرجل أتاه بعد ذلك، فقال له إسماعيل: ما زلت منتظراً لك منذ سنة".

الدعوة من خلال القدوة

وعن الإمام الباقر(ع) قال: "إن الرجل ليصدق حتى يكتبه الله صدّيقاً"، وفي حديث الإمام الصادق (ع) يقول: "إن العبد ليصدق حتى يُكتب عند الله من الصادقين، ويكذب حتى يُكتب عند الله من الكاذبين، فإذا صدق قال الله عزّ وجلّ: صدق وبرّ، وإذا كذب قال الله عزّ وجلّ: "كذب وفجر". ويقول (ع) وهو يتوجه للوعاظ والخطباء والعلماء والمؤمنين جميعاً، إذا أردتم أن تكونوا دعاةً للإسلام، فلا تقتصروا على الدعوة باللسان، بل من خلال القدوة، يقول (ع): "كونوا دعاة للناس بالخير بغير ألسنتكم ليروا منكم الاجتهاد ـ في طاعة الله ـ والصدق ـ في الحديث ـ والورع"، عن محارم الله تعالى.

إن الصدق في الحديث والوعد والعمل يمثِّل الخط المستقيم الذي إذا تحرك الناس معه فإنهم يشعرون بالاستقرار والطمأنينة، بينما إذا تحدث الناس بالكذب فإن الكذب يغيّر الصورة عند الإنسان، فيتصرف بطريقة قد يظلم فيها الناس والحقيقة والحياة.

إن الدين صدقٌ وأمانة؛ صدق مع الله وأمانة على الحياة، وصدق مع النفس وأمانة مع النفس، وصدقٌ مع الناس وأمانةٌ مع الناس، أن لا تخونهم في قضاياهم العامة والخاصة. هذه هي القيمة الإسلامية التي يريد الله تعالى للمسلمين أن يأخذوا بها، من أجل أن يرتفعوا ليكونوا في مواقع القرب من الله والإخلاص له وللناس وللحياة، وعلينا أن نربي أنفسنا وأجيالنا على ذلك كله.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله في ما حمّلكم من مسؤولية تجاه أنفسكم، والناس من حولكم، وتجاه الإسلام والمسلمين، أن تخلصوا لله في ذلك كله، ولا تعيشوا الأنانية والفردية، ليتحسس المسلم أنه ليس مجرد فرد، بل هو جزء من أمّه، ولا بد له من أن يعطي أمته من عقله وقلبه وكل طاقاته ما يرتفع بها إلى الدرجات العليا، وما يحميها من المساوىء والأخطار، وما يدفع بها إلى أن تعيش الوحدة في كل مواقعها..

ونحن كأمة مسلمة، نعيش في هذه المرحلة من تاريخنا، والتي يمكن أن تترك تأثيرها على مستقبلنا ومستقبل أجيالنا ومستقبل الإسلام والمسلمين، نعيش التحديات الكبرى من جانب أعداء الله من المستكبرين والكافرين، حتى تكون كلمتهم هي العليا وكلمتنا هي السفلى. فلا يكفي أن تكون أنت عزيزاً وأمتك ذليلة، إن عزّتك وقوتك من عزة أمتك وقوتها، ذلك ما ينبغي لنا أن نفكر به ونستعدّ ونخطط له، حتى نستطيع أن نحفظ أمتنا من كل من يريد بها سوءاً، فتعالوا لنتعرّف على التحديات والأخطار التي يخطِّط لها الآخرون من أجل إضعافنا ومصادرة أوضاعنا، فماذا هناك:

محاولات لتفكيك الانتفاضة

أمريكا تحتجّ وتستنكر الردّ العسكري الذي قامت به الانتفاضة على الاغتيالات والاعتقالات والاجتياحات للفلسطينيين، لأن ذلك يمثّل ـ بالنسبة الى إدارتها ـ نشاطاً "إرهابياً لا بدّ من معاقبته من السلطة الفلسطينية"، ولكنها لم تستنكر الخروقات والاعتداءات للجيش الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، ولم تنبس ببنت شفة، بل اكتفت بكلمات لا معنى لها بضرورة "التزام الطرفين بخريطة الطريق"، وتؤكد على ضرورة "تفكيك منظمات الانتفاضة، لأنها ـ بحسب زعمها ـ تعرقل السلام"، من دون أن تتحدث عن عرقلة الحكومة الصهيونية وحزبها لخريطة الطريق من حيث المبدأ..

إننا نفهم من خلال هذه السياسة الأمريكية الملتزمة بإسرائيل على حساب الشعب الفلسطيني، أن المطلوب هو إيقاف المقاومة في حركة الانتفاضة ضد الاحتلال بالمطلق، من دون التزامٍ بانسحاب اليهود من الأرض المحتلة، ومن دون دعم للسلطة الفلسطينية أمام التعديات الصهيونية، لأنها تريدها أن تبقى خاضعة للابتزاز اليهودي في كل الأمور، وتخطط لدخول الفلسطينيين في المفاوضات مع العدو من دون أية أوراق ضاغطة وأية قوة رادعة، ليقدّم الفلسطينيون التنازلات للعدو في الأمور المصيرية، كالقدس وعودة اللاجئين والمستوطنات والجدار العازل وغير ذلك، لأنهم لا يملكون ذاتياً أيّ عنصر للضغط أو أيّ دعم دوليّ، ولا سيما أمريكي..

ومن اللافت أن الاتحاد الأوروبي الذي يعمل لتجديد العلاقة مع أمريكا وإسرائيل، استنكر عمليات الانتفاضة، من دون أن يقارن بينها وبين الجرائم الإسرائيلية في قتل الفلسطينيين واعتقالهم وهدم بيوتهم.. كما فوجئنا باستنكار رد المقاومة الإسلامية في لبنان على الاعتداءات الصهيونية في اختراق الأجواء اللبنانية، وفي اغتيال المجاهد علي صالح، الذي أراد العدو من خلاله فتح ملف الاغتيالات الأمنية في لبنان على الطريقة المستخدَمة في فلسطين، معتمداً على التأييد الأمريكي والأوروبي لعملياته الإجرامية، ما قد يعيد لبنان إلى الدوّامة التي خرج منها منذ انتهاء الحرب..

إن على الشعوب العربية والإسلامية البقاء في عملية مراقبة للساحة الفلسطينية، ومحاولة الضغط على كل الأعمال التي يُراد بها إسقاط القضية وإخضاعها للخطة الإسرائيلية ـ الأمريكية في تنفيذ الاستراتيجية الصهيونية، لأن المسألة هي مسألة المصير المستقبلي للعرب والمسلمين.

العراق: خطورة المرحلة

ويبقى العراق الجرح المفتوح على كل احتمالات الأعراض المرضية، فالأمن لا يرتكز على أية قاعدة يستند إليها المواطن هناك، والخدمات الحياتية الضرورية لا تزال من دون تحريك على صعيد سلطات الاحتلال التي أعطت العراقيين الوعود المعسولة، هؤلاء الذين يتساقطون يومياً بأطفالهم ونسائهم ورجالهم من المدنيين بسلاح الجيش الأمريكي، الذي يمارس ضدهم القبضة الحديدية بحجة البحث عن "صدام" وجماعته؟!

إننا نقول لأهلنا في العراق: إن المرحلة لا تزال في موقع الخطورة، لأن للاحتلال خططه التي قد لا تلتقي بمصالحكم بل بمصالحه، ولذلك فإن المطلوب هو عدم الاستسلام للخديعة الأمريكية في وعودهم السخية بالحرية والرخاء والاستقرار، لأنهم لا يملكون أيّ أساس للثقة بذلك.. وليس معنى ذلك السقوط في قبضة الشلل، بل المسألة هي المزيد من الحذر الذكيّ، وإدارة الأمور بأيدي المخلصين من الشعب غير الخاضعين للاحتلال، من أجل حفظ النظام وإبقاء الشعار التحريري الشامل: "لا للاحتلال"، لأن العراق لا بدّ أن يبقى حراً من أية قوة أجنبية، ولا بد من التخطيط لكل الوسائل الكفيلة بتحقيق ذلك.

الأمن... يحقق سلامة المواجهة

أما في لبنان، فقد تحدث البعض عن الإصلاح الإداري، ولكن السؤال: من هو الذي يملك القوة في محاسبة الكبار الذين يمثّلون الحماية السياسية للفساد، باعتبار أن الفساد الإداري هو من نتاج الفساد السياسي؟؟ إن المطلوب من أصحاب النفوذ ـ إذا كانوا صادقين ـ أن يحاسبوا الذين ينتمون إليهم قبل مطالبة الآخرين بالخضوع للحساب.. ثم السؤال الآخر: ما هي آلية الإصلاح، ومَن يصلح مَن، لأن الفساد قد بلغ الجذور السياسية والإدارية في البلد؟؟

وتبقى مسألة الكهرباء أمام خيارين: التعتيم الكامل أو الاقتراض.. والسؤال التقليدي: هل يمكن أن يصل التحقيق الموعود إلى نتيجة حاسمة، أم أن هذا الملف ـ كغيره من الملفات ـ سوف يقبع في الأدراج ليُفتح ملف آخر من خلال التسويات بين الكبار، لحماية مجرم محسوب على فلان ومجرم محسوب على فلان؟؟

إننا لا نريد الحديث عن الهروب من الخطر المعيشي الداخلي بحجة الخطر الخارجي، في المرحلة التي تهتزّ فيها المنطقة، لأن الأمن الاجتماعي والاقتصادي هو الذي يحقق سلامة المواجهة لحماية الأمن الخارجي.. وعلينا التصدي للإهمال في الداخل كما نتصدى لما يخطط له العدو، لأننا في أكثر من حرب وعلى أكثر من جبهة، ولأن الخسارة في أية جبهة سوف تنعكس على الجبهة الأخرى.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية