التقوى والطاعة : السبيل إلى رضى الله وطريق العبور إلى الآخرة

التقوى والطاعة : السبيل إلى رضى الله وطريق العبور إلى الآخرة

التقوى والطاعة : السبيل إلى رضى الله وطريق العبور إلى الآخرة


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

الطاعة تقرّب من الجنة

في القرآن الكريم تأكيدٌ على عنوانين يقرّبان الإنسان إلى الله تعالى، ولا شيء غيرهما، وهما الطاعة والتقوى، حتى إن قرب الأنبياء والأولياء إلى الله تعالى إنما كان من خلال هذين العنوانين، لأن الله هو خالق الجميع، فليس بينه وبين أيّ عبد من عباده أية قرابة، وإنما يكرم عباده من خلال العمل والطاعة والتقوى، وهذا ما أكدت عليه أحاديث رسول الله(ص) والأئمة من أهل البيت(ع).

ومن بين هذه الأحاديث التي تؤكِّد على الطاعة، عن أبي جعفر محمد الباقر(ع) قال: "خطب رسول الله(ص) في حجة الوداع ـ وهي خطبة خطبها رسول الله (ص) في آخر حجة حجّها والمسلمون مجتمعون هناك، وكأنه أراد أن يبلّغهم رسالته الأخيرة ممّا يأخذون به أو يدعونه ـ فقال: أيها الناس، والله ما من شيء يقرّبكم من الجنة ويباعدكم من النار إلا وقد أمرتكم به، وما من شيء يقرّبكم من النار ويباعدكم من الجنة إلا وقد نهيتكم عنه ـ فإن الله قد حرّم ما يفسد الإنسان في عقله وقلبه وحياته، وما يفسد نظام الكون كلّه، وبذلك تكون المشكلة في الإنسان الذي قد يرتكب أعمالاً تؤدي إلى غضب الله وسخطه، "وهذا ما لا تقوم له السموات والأرض" ـ ألا وإن الروح الأمين ـ ولعل المقصود به جبرائيل ـ نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها ـ فالله تعالى، ومن خلال الأسباب التي أودعها في الكون والإنسان، جعل لكل إنسان رزقاً معيناً قد يحصل عليه بجهده أو من حيث لا يحتسب مما يقدّمه الآخرون إليه، فالإنسان لا بد من أن يستكمل رزقه قبل أجله ـ فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ـ حاولوا أن تأخذوا الرزق من حلاله، ولا تستعجلوا الأمر لتأخذوه من حرامه، ولا تبذلوا كلَّ جهدكم وحياتكم في طلب المال، لأن للحياة أكثر من مسؤولية وموقع ـ ولا يحمل أحدكم استبطاء شيء من الرزق أن يطلبه من غير حلّه، فإنه لا يُدرك ما عند الله إلا بطاعته"، فإذا أردت أن تحصل على رضى الله ورحمته، فإن الطاعة هي التي يمكن لها أن تقرّبك منه سبحانه.

وفي حديث آخر للإمام الباقر مع أحد أصحابه، وكان (ع) يتحدث معه عن مسألة التشيّع، وهل هو مجرد خفقة قلب في حب أهل البيت(ع)، أو أنه عقيدة وموقف وحركة والتزام وطاعة وتقوى، لأن الكثير من الناس يتحدثون عن أن "حبّ عليّ حسنة لا تضرّ معها سيئة"، والقرآن الكريم يكذّب ذلك: {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يُجزَ به ثمّ لا يجد له من دون الله وليّاً ولا نصيراً}، هذا نص القرآن، وما "خالف كتاب الله فاضربوا به عرض الجدار"، كما يقول أهل البيت (ع)..

شيعتنا من اتقى الله وأطاعه

يقول الإمام الباقر (ع) لصاحبه "جابر بن عبد الله الأنصاري": "يا جابر، أيكفي من ينتحل التشيّع أن يقول بحبنا أهل البيت، فوالله ـ وعندما يحلف الإمام الباقر (ع) فمعنى ذلك أن القضية في المستوى الخطير ـ ما شيعتنا إلا من اتقى الله وأطاعه، وما كانوا يُعرفون ـ الشيعة الأوائل الذين كانوا يلتفون حول عليّ والحسن والحسين(ع) ـ إلا بالتواضع والتخشّع والأمانة وكثرة ذكر الله والصوم والصلاة والبرّ بالوالدين والتعاهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة والغارمين والأيتام، وصدق الحديث وتلاوة القرآن وكفّ الألسن عن الناس إلا من خير، وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء"، فقلت: يابن رسول الله، ما نعرف اليوم أحداً بهذه الصفة؟! فقال (ع): "يا جابر، لا تذهبنّ بك المذاهب ـ لا تأخذك الأفكار والتمنيات ـ حسب الرجل أن يقول أحبّ علياً وأتولاه ثم لا يكون مع ذلك فعّالاً ـ بأن يقتدي بعليّ (ع) في إخلاصه لله ولرسوله وفي طاعة لله والتزامه بالحق ـ فلو قال إني أحبّ رسول الله فرسول الله خير من عليّ ـ وليسمعها الذين يحاولون أن يقدِّموا الإمام عليّ(ع) على النبي(ص)، وعليّ(ع) يفتخر أن النبي (ص) ربّاه وعلّمه ـ أويكفي الرجل أن يقول إني أحبّ رسول الله ثم لا يتبع سيرته ولا يعمل بسنّته ما نفعه حبّه إياه شيئاً. فاتقوا الله واعملوا لما عند الله، ليس بين الله وبين أحد قرابة، أحبّ العباد إلى الله عزّ وجلّ وأكرمهم عليه أتقاهم وأعملهم بطاعته. والله يا جابر، ما يُتقرّب إلى الله تبارك وتعالى إلا بالطاعة، وما معنا براءة من النار، ولا على الله لأحد من حجة، من كان لله مطيعاً ـ هذا هو خط أهل البيت (ع) ـ فهو لنا وليّ، ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدوّ، وما تنال ولايتنا إلا بالعمل والورع".

الصبر طريق إلى الجنة

وطبعاً هذا مما يحتاج إلى صبر. وفي حديث يبيّن فيه جائزة الذين يصبرون على طاعة الله وعن معصيته وعن البلاء، قال أبو عبد الله الصادق(ع): "إذا كان يوم القيامة يقوم عنق من الناس فيأتون باب الجنة فيضربونه، فيقال لهم: من أنتم؟ فيقولون: نحن أهل الصبر.. فيقال لهم: علامَ صبرتم؟ فيقولون: كنا نصبر على طاعة الله ونصبر عن معاصي الله، فيقول الله عزّ وجلّ: صدقوا أدخلوهم الجنة، وهو قول الله عزّ وجلّ: {إنما يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب}.

الارتباط النوعي للتقوى

وفي حديث عن الإمام الباقر (ع) ـ ونحن إنما نبيّن هذه الأحاديث حتى نعرف كيف ننفتح على أهل البيت(ع)، وكيف نرتبط بهم أمام هذا الغلوّ الذي بدأ بعض الناس يمارسونه ويعتقدونه وينطلقون به باسم حبّ أهل البيت (ع) ـ فعنه (ع): "يا معشر الشيعة، شيعة آل محمد، كونوا النمرقة الوسطى ـ وهي الوسادة المتوسطة لا المنخفضة ولا المرتفعة ـ يرجع إليكم الغالي ـ الذي ينحرف كثيراً إلى أن يتحدث بالغلوّ ـ ويلحق بكم التالي ـ وهو المتأخّر ـ قال له رجلٌ من الأنصار يقال له "سعد": جُعلت فداك، ما الغالي؟ فقال (ع): "قوم يقولون فينا ما لا نقوله في أنفسنا ـ بحيث يرتفعون بنا عن الدرجة التي وضعنا فيها الله ـ فليس أولئك منا ولسنا منهم"، قال: فما التالي؟ قال: "المرتاد، يبلّغه الخير فيؤجر عليه"، ثم أقبل علينا فقال: "والله ما معنا من الله براءة، ولا بيننا وبين الله قرابة، ولا لنا على الله من حجة، ولا نتقرّب إلى الله إلا بالطاعة، فمن كان منكم مطيعاً لله تنفعه ولايتنا، ومن كان منكم عاصياً لله لم تنفعه ولايتنا، ويحكم لا تغتروا، ويحكم لا تغتروا".

وفي بعض الأحاديث التي تبيّن ارتباط التقوى بالنوعية، أي بوعي الإنسان لعمله وصلابة موقفه أمام المعصية والانحراف، عن مفضّل بن عمر قال: كنت عند أبي عبد الله(ع) فذكرنا الأعمال، فقلت: ما أضعف عملي، فقال (ع): "مه، استغفر الله، إن قليل العمل مع التقوى خير من كثير العمل بلا تقوى" ـ هل ينطلق عملك، مع قلّته، من روح تخاف الله ويمنعها هذا الخوف من أن تقبل على المعصية ـ فقلت: كيف يكون كثير بلا تقوى؟ قال (ع): "نعم، مثل الرجل يُطعم طعامه، ويرفق جيرانه، ويوطئ رحله، فإذا ارتفع له الباب من الحرام دخل فيه، فهذا العمل بلا تقوى، ويكون الآخر ليس عنده، فإذا ارتفع له الباب من الحرام لم يدخل فيه".

إنّ الله تعالى يريدنا أن نتقرّب إليه، ونحن عندما نصلي ونصوم ونحجّ ونعتمر إنما نضمر في أنفسنا أننا نفعل ذلك قربةً إلى الله، فعلينا أن نعمّق إحساسنا بالحاجة إلى القرب من الله تعالى والحصول على رضاه ولا شيء إلا رضاه، وعلينا عندما نعيش في الدنيا أن نعرف أن الدنيا ليست دار بقاء، بل أن نحدّق دائماً بالآخرة، كما قال قوم قارون له: {وابتغ فيما آاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض}.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله في كل مسؤولياتكم التي حمّلكم الله إياها،في أعمالكم الفردية والجماعية، في الخاص من أمور المسلمين وفي العام، لأن الله تعالى أراد للمسلمين أن يعيشوا الاهتمام بأمور بعضهم البعض، وأن يعيشوا النصرة لبعضهم البعض في مواجهة أعداء الله من الكافرين والمستكبرين الذين يكيدون للإسلام وأهله، ويخططون من خلال إسقاط المسلمين في حريتهم وكرامتهم واقتصادهم وسياستهم وأمنهم، ليكون المسلمون مجرد هامش من هوامش استكبارهم.

إن على المسلمين في سائر أنحاء العالم أن يجمّدوا كل خلافاتهم ليقفوا ضد التحدي الأكبر الذي لا يفرق بين مذهب ومذهب، وبين عرق وعرق، وبين قومية وقومية، لأنه يريد رأس الإسلام كله.. إننا لا نزال نواجه في أوضاعنا الإسلامية الكثير من التحديات، ولا بد لنا أن نعرف جيداً كيف نفهمها ونواجهها بما نستطيع في خططنا لنرد التحدي بمثله، فماذا هناك؟

أمريكا: مراعاة مشاعر اللوبي الصهيوني

لا تزال القضية الفلسطينية تخضع للتحرّك في متاهات التفاصيل الجزئية التي يصنعها الكيان العبري، بإبعاد الجانب السياسي عن الواجهة، واستبداله بالجانب الأمني، تحت تأثير الشعار اليهودي الصهيوني "الدفاع عن الشعب اليهودي"، من دون التوقف أمام المشكلة الحقيقية وهي الاحتلال، وحاجة الشعب الفلسطيني إلى التحرير وإقامة دولته المستقلة على أرضه..

وقد انضمّت الإدارة الأمريكية إلى هذا الاتجاه، فهي في الوقت الذي تطرح فيه مشروع الدولة الفلسطينية المستقلّة، فإنها تربط قيامها بتفكيك البنى التحتية للانتفاضة ونزع سلاحها، في لهجة تهديدية ضاغطة على حكومة السلطة.. من دون أن تتحدث عن الحلّ الطبيعي الواقعي للأمن،وهو انسحاب الاحتلال تحت تأثير الحل السياسي، لأنها لا تريد الاعتراف بأن هناك احتلالاً إسرائيلياً مخالفاً لحقوق الإنسان في العالم..

كما إن أمريكا لا تضغط على إسرائيل لتسهيل مسألة خارطة الطريق، سواء من خلال إطلاق الأسرى الفلسطينيين، أو من خلال بناء الجدار الذي أثارت الملاحظات حوله ولكنها لم تصدر قراراً ضاغطاً على حكومة "شارون"، مراعاةً لمشاعر اللوبي الصهيوني والمحافظين الجدد في أمريكا.. ولأنها تعرف أن الساحة العربية تخضع للعبة الألفاظ الاستهلاكية، في خطة أمريكية ـ إسرائيلية تمنح إسرائيل استكمال خططها الاستيطانية العنصرية بالسرّ، وتستنكر ذلك علناً، تماماً كما كانت جرت عليه عادة العرب أنهم يتحدثون معها شيئاً ويصرّحون لشعوبهم بشيء آخر..

السعي لإزالة الاحتلال الصهيوني

إن الجميع يعرف أن إسرائيل ـ ولا سيما حكومتها الحالية ـ تعمل على تعطيل أيّ حلّ سياسي يمنح الفلسطينيين حقوقهم الشرعية، لأنها ترى في ذلك خطراً على كيانها اليهودي الذي يرفض أيّ وجود عربي أو إسلامي مستقلّ حرّ.. ولذلك، نجدها تقوم بخدعة الإفراج عن الأسرى، في الوقت الذي تعتقل فيه أضعافهم، وتواصل اجتياح مدنهم وقراهم ومخيماتهم تحت شعار البحث عن المطلوبين، وتتابع التضييق الوحشي على الشعب الفلسطيني من خلال الحواجز التي تمنعهم من التحرك بحرية في ممارسة حياتهم الإنسانية، ثم تزيل بعضها لتطوّقها بحواجز أخرى في المنطقة المحيطة بها، من أجل خداع الرأي العام الأمريكي والحصول على تأييد الرئيس الأمريكي..

إن "شارون" يعمل على أساس دفع المجاهدين إلى الانسحاب من الهدنة، ومحاصرة حكومة السلطة، لجعل الكرة في الملعب الفلسطيني، بحجة أنها لا تلتزم بالهدنة ولا بخريطة الطريق، ليفرضها على الفلسطينيين بطريقته الخاصة..

إننا نعتقد بضرورة التحرك الفلسطيني ـ من الشعب والسلطة ـ لإبقاء القضية المركزية، وهي إزالة الاحتلال وتحقيق الاستقلال في الوجدان السياسي العام، على مستوى الواقع العربي والإسلامي والدولي، وتحريك التفاصيل في نطاق الاستراتيجيا لئلا يضيع الهدف في لعبة التكتيك.. إن البعض يتحدث عن الواقعية السياسية في المسألة الفلسطينية، ويطرح القبول بما تفرضه اللعبة الأمريكية ـ الإسرائيلية، ولكننا نعتقد أن الواقعية السياسية هي إبقاء الاستراتيجيا في ساحة الواقع، والبحث عن كلِّ المفردات التي يمكن أن تخدم الهدف..

إن هذه المرحلة قد يُراد لها أن تكون المرحلة النهائية التي قد تفرض على الشعب الفلسطيني الحل الإسرائيلي، في استغلالٍ لعناوين الحرب ضدّ ما يسمّونه الإرهاب، ونتائج الاحتلال الأمريكي للعراق، والتهديد الأمريكي للمنطقة كلها، لتخضع لما يُخطط لها سياسياً وأمنياً واقتصادياً، والمراهنة على أمريكا من قِبَل بعض العرب هي مراهنة على السراب الذي يحسبه الظمآن ماءً، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً..

وهناك عدة نقاط لا بد من إثارتها أمام السياسة الأمريكية في المرحلة الراهنة.. وهي:

سوريا وإيران: رفض التهديدات الأمريكية

النقطة الأولى: إن أمريكا تستخدم العصا الغليظة في تهديدها لأكثر من دولة في المنطقة العربية والإسلامية، من أجل إخضاعها لمصالحها.. فنراها تهدد سوريا لتنفيذ شروطها في الضغط على المجاهدين في فلسطين ولبنان، وكأن من واجبها الوقوف ضد ما تسمّيه أمريكا الإرهاب من أجل حماية الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.. وإننا ـ بهذه المناسبة ـ نقدّر لسوريا موقفها الصلب في مواجهتها للضغط الإسرائيلي، ورفضها التهديد جملةً وتفصيلاً.. كما نراها تهدد إيران الإسلامية تحت عنوان "دعم الإرهاب"، من أجل الموافقة على الاعتراف بإسرائيل التي تحتل فلسطين كلها رغماً عن الشعب الفلسطيني.. ثم في اتهامها بصنع السلاح النووي، لتفرض عليها القبول بشروط وكالة الطاقة النووية التي هي شروط أمريكية، من دون أيّ دلائل تؤكد ذلك، بالرغم من نفي إيران أيّ خطة لصنع هذا السلاح على أساس أنه محرَّم شرعاً، ومن دون أيّ مكاسب لإيران في الاعتراف الدولي بحقها في استخدام الخبرة النووية للأغراض السلميّة..

إننا نراقب هذه الخطة الأمريكية الضاغطة التي تركت تأثيرها على الاتحاد الأوروبي، مستغلةً حاجته لإعادة العلاقات معها.. ونريد للشعب الإيراني أن يواجه الخطر الجديد الذي يخطط لحرب سياسية وإعلامية واقتصادية قد تقترب من بعض الممارسات العسكرية.. ونقول لهذا الشعب المسلم: إن الوحدة الآن تمثل المصير كله في سلامة الإسلام والوطن والحرية في مواجهة الاستكبار.

العراق: توزع الأدوار في مواجهة الاحتلال

النقطة الثانية: إن الاحتلال الأمريكي للعراق لا يزال يتابع حالة الضغط الخفي تارة والمعلن تارة أخرى على العراقيين، من خلال خطوط سياسية قد توحي في العلن بامتلاك العراقيين إدارة أمورهم، ولكنها قد تختزن في الخفاء التوجيه الأمريكي للتقيّد بالتفاصيل الأمنية والاقتصادية والسياسية..

إنّنا نثق بالشعب العراقي وبطاقاته الفاعلة، ونريد له أن ينتبه جيداً لأسرار لعبة الاحتلال ولخططه في تأكيد مصالحه على حساب مصالح الشعوب، لأن المؤمن لا يُلدغ من جحر مرتين.. لقد مات الماضي بكل جرائمه ووحشيته، وعلينا أن نعرف كيف نحدّق بالحاضر من أجل صناعة المستقبل، لنعرف كيف نتوزّع الأدوار في مواجهة الاحتلال.

النقطة الثالثة: إن حادثة التفجير في الضاحية الجنوبية لبيروت، والتي تبرز فيها ملامح الخطط الإسرائيلية في ملاحقة المجاهدين، قد تحمل أكثر من دلالة سياسية وأمنية بقدر ما يرتبط الأمر بالمقاومة ولبنان بشكل عام، ما يفرض على الجميع الوقوف أمام الجريمة الإسرائيلية بخطةٍ دقيقة توقفها عند حدّها، ليكون كل مواطن خفيراً.

انفجار إندونيسيا يشوّه الوجه الإسلامي

النقطة الرابعة: إننا ـ من موقعنا الإسلامي الشرعي ـ نستنكر بشدة التفجير الأخير في إندونيسيا، الذي سقط فيه أكثر من شخص لا علاقة له بالوضع السياسي الدولي في السياسة الأمريكية، ونرى أن مثل هذه الأعمال لا تحقق أيّ هدف إسلامي، بل إنها تشوّه الوجه الإسلامي المشرق في الاعتداء على المواقع المدنية، ولا سيما أن حدوث ذلك في مناطق إسلامية يضعف الواقع الأمني للمسلمين ويعقّد أوضاعهم..

إنّنا نعلن ذلك على مستوى الفتوى، إنّ مثل هذه الأعمال لا تملك الشرعية الإسلامية من قريب أو بعيد، في الوقت الذي نؤكد فيه أننا نعارض السياسة الأمريكية التي تصادر مصالح الشعوب وتستخدم شعار "الحرب ضد الإرهاب" في الضغط على كل الأحرار، لا سيما من الإسلاميين..

إنّ الجهاد لا بد أن ينطلق من قاعدة إسلامية تدرس الأمن الإسلامي والمصالح الإسلامية والنتائج السلبية على صورة الإسلام في العالم، وليس الجهاد انفعالاً وعنفاً لا يخضع لخطة مدروسة شاملة.

لبنان متخم بالفضائح

وأخيراً، إننا نواجه في لبنان أكثر من فضيحة سياسية واقتصادية في أكثر من موقع إداري أو سياسي، ما يترك تأثيره الوحشي على قضايا الناس الحياتية وأوضاعهم الاقتصادية.. وينطلق الجدل هنا وهناك حول مسؤولية هذا أو ذاك..

والسؤال: إن أكثر من مشكلة كالكهرباء والضمان والنفايات وسيارات المازوت لم تكن وليدة الوقت الحاضر، ولكنها نتيجة التراكمات التي تحركت من خلال أكثر من وزير أو مدير أو رئيس وما إلى ذلك، فلماذا لا يصار إلى فتح باب المحاسبة في كل تطورات المشكلة، بحيث لا يكون الخارج من الوزارة بعيداً عن الحساب في الممارسة الوزارية والإدارية؟؟

أيُّها المسؤولون: إن لبنان الإشعاع بدأ يتحوّل إلى لبنان الظلام، وإن لبنان الإبداع بدأ يتحوّل إلى لبنان التخلّف السياسي والحضاري، فإلى أين تسيرون فيه؟؟ إن الثقة في المجلس النيابي لا تعني ثقة الشعب، لأن قانون الانتخاب ـ بالإضافة إلى التخلّف السياسي في واقع البلد ـ لم ينتج غالباً ممثلين للشعب، بحيث يستمعون إلى نبض الشعب في مشاكله وآلامه.

التقوى والطاعة : السبيل إلى رضى الله وطريق العبور إلى الآخرة


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

الطاعة تقرّب من الجنة

في القرآن الكريم تأكيدٌ على عنوانين يقرّبان الإنسان إلى الله تعالى، ولا شيء غيرهما، وهما الطاعة والتقوى، حتى إن قرب الأنبياء والأولياء إلى الله تعالى إنما كان من خلال هذين العنوانين، لأن الله هو خالق الجميع، فليس بينه وبين أيّ عبد من عباده أية قرابة، وإنما يكرم عباده من خلال العمل والطاعة والتقوى، وهذا ما أكدت عليه أحاديث رسول الله(ص) والأئمة من أهل البيت(ع).

ومن بين هذه الأحاديث التي تؤكِّد على الطاعة، عن أبي جعفر محمد الباقر(ع) قال: "خطب رسول الله(ص) في حجة الوداع ـ وهي خطبة خطبها رسول الله (ص) في آخر حجة حجّها والمسلمون مجتمعون هناك، وكأنه أراد أن يبلّغهم رسالته الأخيرة ممّا يأخذون به أو يدعونه ـ فقال: أيها الناس، والله ما من شيء يقرّبكم من الجنة ويباعدكم من النار إلا وقد أمرتكم به، وما من شيء يقرّبكم من النار ويباعدكم من الجنة إلا وقد نهيتكم عنه ـ فإن الله قد حرّم ما يفسد الإنسان في عقله وقلبه وحياته، وما يفسد نظام الكون كلّه، وبذلك تكون المشكلة في الإنسان الذي قد يرتكب أعمالاً تؤدي إلى غضب الله وسخطه، "وهذا ما لا تقوم له السموات والأرض" ـ ألا وإن الروح الأمين ـ ولعل المقصود به جبرائيل ـ نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها ـ فالله تعالى، ومن خلال الأسباب التي أودعها في الكون والإنسان، جعل لكل إنسان رزقاً معيناً قد يحصل عليه بجهده أو من حيث لا يحتسب مما يقدّمه الآخرون إليه، فالإنسان لا بد من أن يستكمل رزقه قبل أجله ـ فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ـ حاولوا أن تأخذوا الرزق من حلاله، ولا تستعجلوا الأمر لتأخذوه من حرامه، ولا تبذلوا كلَّ جهدكم وحياتكم في طلب المال، لأن للحياة أكثر من مسؤولية وموقع ـ ولا يحمل أحدكم استبطاء شيء من الرزق أن يطلبه من غير حلّه، فإنه لا يُدرك ما عند الله إلا بطاعته"، فإذا أردت أن تحصل على رضى الله ورحمته، فإن الطاعة هي التي يمكن لها أن تقرّبك منه سبحانه.

وفي حديث آخر للإمام الباقر مع أحد أصحابه، وكان (ع) يتحدث معه عن مسألة التشيّع، وهل هو مجرد خفقة قلب في حب أهل البيت(ع)، أو أنه عقيدة وموقف وحركة والتزام وطاعة وتقوى، لأن الكثير من الناس يتحدثون عن أن "حبّ عليّ حسنة لا تضرّ معها سيئة"، والقرآن الكريم يكذّب ذلك: {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يُجزَ به ثمّ لا يجد له من دون الله وليّاً ولا نصيراً}، هذا نص القرآن، وما "خالف كتاب الله فاضربوا به عرض الجدار"، كما يقول أهل البيت (ع)..

شيعتنا من اتقى الله وأطاعه

يقول الإمام الباقر (ع) لصاحبه "جابر بن عبد الله الأنصاري": "يا جابر، أيكفي من ينتحل التشيّع أن يقول بحبنا أهل البيت، فوالله ـ وعندما يحلف الإمام الباقر (ع) فمعنى ذلك أن القضية في المستوى الخطير ـ ما شيعتنا إلا من اتقى الله وأطاعه، وما كانوا يُعرفون ـ الشيعة الأوائل الذين كانوا يلتفون حول عليّ والحسن والحسين(ع) ـ إلا بالتواضع والتخشّع والأمانة وكثرة ذكر الله والصوم والصلاة والبرّ بالوالدين والتعاهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة والغارمين والأيتام، وصدق الحديث وتلاوة القرآن وكفّ الألسن عن الناس إلا من خير، وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء"، فقلت: يابن رسول الله، ما نعرف اليوم أحداً بهذه الصفة؟! فقال (ع): "يا جابر، لا تذهبنّ بك المذاهب ـ لا تأخذك الأفكار والتمنيات ـ حسب الرجل أن يقول أحبّ علياً وأتولاه ثم لا يكون مع ذلك فعّالاً ـ بأن يقتدي بعليّ (ع) في إخلاصه لله ولرسوله وفي طاعة لله والتزامه بالحق ـ فلو قال إني أحبّ رسول الله فرسول الله خير من عليّ ـ وليسمعها الذين يحاولون أن يقدِّموا الإمام عليّ(ع) على النبي(ص)، وعليّ(ع) يفتخر أن النبي (ص) ربّاه وعلّمه ـ أويكفي الرجل أن يقول إني أحبّ رسول الله ثم لا يتبع سيرته ولا يعمل بسنّته ما نفعه حبّه إياه شيئاً. فاتقوا الله واعملوا لما عند الله، ليس بين الله وبين أحد قرابة، أحبّ العباد إلى الله عزّ وجلّ وأكرمهم عليه أتقاهم وأعملهم بطاعته. والله يا جابر، ما يُتقرّب إلى الله تبارك وتعالى إلا بالطاعة، وما معنا براءة من النار، ولا على الله لأحد من حجة، من كان لله مطيعاً ـ هذا هو خط أهل البيت (ع) ـ فهو لنا وليّ، ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدوّ، وما تنال ولايتنا إلا بالعمل والورع".

الصبر طريق إلى الجنة

وطبعاً هذا مما يحتاج إلى صبر. وفي حديث يبيّن فيه جائزة الذين يصبرون على طاعة الله وعن معصيته وعن البلاء، قال أبو عبد الله الصادق(ع): "إذا كان يوم القيامة يقوم عنق من الناس فيأتون باب الجنة فيضربونه، فيقال لهم: من أنتم؟ فيقولون: نحن أهل الصبر.. فيقال لهم: علامَ صبرتم؟ فيقولون: كنا نصبر على طاعة الله ونصبر عن معاصي الله، فيقول الله عزّ وجلّ: صدقوا أدخلوهم الجنة، وهو قول الله عزّ وجلّ: {إنما يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب}.

الارتباط النوعي للتقوى

وفي حديث عن الإمام الباقر (ع) ـ ونحن إنما نبيّن هذه الأحاديث حتى نعرف كيف ننفتح على أهل البيت(ع)، وكيف نرتبط بهم أمام هذا الغلوّ الذي بدأ بعض الناس يمارسونه ويعتقدونه وينطلقون به باسم حبّ أهل البيت (ع) ـ فعنه (ع): "يا معشر الشيعة، شيعة آل محمد، كونوا النمرقة الوسطى ـ وهي الوسادة المتوسطة لا المنخفضة ولا المرتفعة ـ يرجع إليكم الغالي ـ الذي ينحرف كثيراً إلى أن يتحدث بالغلوّ ـ ويلحق بكم التالي ـ وهو المتأخّر ـ قال له رجلٌ من الأنصار يقال له "سعد": جُعلت فداك، ما الغالي؟ فقال (ع): "قوم يقولون فينا ما لا نقوله في أنفسنا ـ بحيث يرتفعون بنا عن الدرجة التي وضعنا فيها الله ـ فليس أولئك منا ولسنا منهم"، قال: فما التالي؟ قال: "المرتاد، يبلّغه الخير فيؤجر عليه"، ثم أقبل علينا فقال: "والله ما معنا من الله براءة، ولا بيننا وبين الله قرابة، ولا لنا على الله من حجة، ولا نتقرّب إلى الله إلا بالطاعة، فمن كان منكم مطيعاً لله تنفعه ولايتنا، ومن كان منكم عاصياً لله لم تنفعه ولايتنا، ويحكم لا تغتروا، ويحكم لا تغتروا".

وفي بعض الأحاديث التي تبيّن ارتباط التقوى بالنوعية، أي بوعي الإنسان لعمله وصلابة موقفه أمام المعصية والانحراف، عن مفضّل بن عمر قال: كنت عند أبي عبد الله(ع) فذكرنا الأعمال، فقلت: ما أضعف عملي، فقال (ع): "مه، استغفر الله، إن قليل العمل مع التقوى خير من كثير العمل بلا تقوى" ـ هل ينطلق عملك، مع قلّته، من روح تخاف الله ويمنعها هذا الخوف من أن تقبل على المعصية ـ فقلت: كيف يكون كثير بلا تقوى؟ قال (ع): "نعم، مثل الرجل يُطعم طعامه، ويرفق جيرانه، ويوطئ رحله، فإذا ارتفع له الباب من الحرام دخل فيه، فهذا العمل بلا تقوى، ويكون الآخر ليس عنده، فإذا ارتفع له الباب من الحرام لم يدخل فيه".

إنّ الله تعالى يريدنا أن نتقرّب إليه، ونحن عندما نصلي ونصوم ونحجّ ونعتمر إنما نضمر في أنفسنا أننا نفعل ذلك قربةً إلى الله، فعلينا أن نعمّق إحساسنا بالحاجة إلى القرب من الله تعالى والحصول على رضاه ولا شيء إلا رضاه، وعلينا عندما نعيش في الدنيا أن نعرف أن الدنيا ليست دار بقاء، بل أن نحدّق دائماً بالآخرة، كما قال قوم قارون له: {وابتغ فيما آاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض}.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله في كل مسؤولياتكم التي حمّلكم الله إياها،في أعمالكم الفردية والجماعية، في الخاص من أمور المسلمين وفي العام، لأن الله تعالى أراد للمسلمين أن يعيشوا الاهتمام بأمور بعضهم البعض، وأن يعيشوا النصرة لبعضهم البعض في مواجهة أعداء الله من الكافرين والمستكبرين الذين يكيدون للإسلام وأهله، ويخططون من خلال إسقاط المسلمين في حريتهم وكرامتهم واقتصادهم وسياستهم وأمنهم، ليكون المسلمون مجرد هامش من هوامش استكبارهم.

إن على المسلمين في سائر أنحاء العالم أن يجمّدوا كل خلافاتهم ليقفوا ضد التحدي الأكبر الذي لا يفرق بين مذهب ومذهب، وبين عرق وعرق، وبين قومية وقومية، لأنه يريد رأس الإسلام كله.. إننا لا نزال نواجه في أوضاعنا الإسلامية الكثير من التحديات، ولا بد لنا أن نعرف جيداً كيف نفهمها ونواجهها بما نستطيع في خططنا لنرد التحدي بمثله، فماذا هناك؟

أمريكا: مراعاة مشاعر اللوبي الصهيوني

لا تزال القضية الفلسطينية تخضع للتحرّك في متاهات التفاصيل الجزئية التي يصنعها الكيان العبري، بإبعاد الجانب السياسي عن الواجهة، واستبداله بالجانب الأمني، تحت تأثير الشعار اليهودي الصهيوني "الدفاع عن الشعب اليهودي"، من دون التوقف أمام المشكلة الحقيقية وهي الاحتلال، وحاجة الشعب الفلسطيني إلى التحرير وإقامة دولته المستقلة على أرضه..

وقد انضمّت الإدارة الأمريكية إلى هذا الاتجاه، فهي في الوقت الذي تطرح فيه مشروع الدولة الفلسطينية المستقلّة، فإنها تربط قيامها بتفكيك البنى التحتية للانتفاضة ونزع سلاحها، في لهجة تهديدية ضاغطة على حكومة السلطة.. من دون أن تتحدث عن الحلّ الطبيعي الواقعي للأمن،وهو انسحاب الاحتلال تحت تأثير الحل السياسي، لأنها لا تريد الاعتراف بأن هناك احتلالاً إسرائيلياً مخالفاً لحقوق الإنسان في العالم..

كما إن أمريكا لا تضغط على إسرائيل لتسهيل مسألة خارطة الطريق، سواء من خلال إطلاق الأسرى الفلسطينيين، أو من خلال بناء الجدار الذي أثارت الملاحظات حوله ولكنها لم تصدر قراراً ضاغطاً على حكومة "شارون"، مراعاةً لمشاعر اللوبي الصهيوني والمحافظين الجدد في أمريكا.. ولأنها تعرف أن الساحة العربية تخضع للعبة الألفاظ الاستهلاكية، في خطة أمريكية ـ إسرائيلية تمنح إسرائيل استكمال خططها الاستيطانية العنصرية بالسرّ، وتستنكر ذلك علناً، تماماً كما كانت جرت عليه عادة العرب أنهم يتحدثون معها شيئاً ويصرّحون لشعوبهم بشيء آخر..

السعي لإزالة الاحتلال الصهيوني

إن الجميع يعرف أن إسرائيل ـ ولا سيما حكومتها الحالية ـ تعمل على تعطيل أيّ حلّ سياسي يمنح الفلسطينيين حقوقهم الشرعية، لأنها ترى في ذلك خطراً على كيانها اليهودي الذي يرفض أيّ وجود عربي أو إسلامي مستقلّ حرّ.. ولذلك، نجدها تقوم بخدعة الإفراج عن الأسرى، في الوقت الذي تعتقل فيه أضعافهم، وتواصل اجتياح مدنهم وقراهم ومخيماتهم تحت شعار البحث عن المطلوبين، وتتابع التضييق الوحشي على الشعب الفلسطيني من خلال الحواجز التي تمنعهم من التحرك بحرية في ممارسة حياتهم الإنسانية، ثم تزيل بعضها لتطوّقها بحواجز أخرى في المنطقة المحيطة بها، من أجل خداع الرأي العام الأمريكي والحصول على تأييد الرئيس الأمريكي..

إن "شارون" يعمل على أساس دفع المجاهدين إلى الانسحاب من الهدنة، ومحاصرة حكومة السلطة، لجعل الكرة في الملعب الفلسطيني، بحجة أنها لا تلتزم بالهدنة ولا بخريطة الطريق، ليفرضها على الفلسطينيين بطريقته الخاصة..

إننا نعتقد بضرورة التحرك الفلسطيني ـ من الشعب والسلطة ـ لإبقاء القضية المركزية، وهي إزالة الاحتلال وتحقيق الاستقلال في الوجدان السياسي العام، على مستوى الواقع العربي والإسلامي والدولي، وتحريك التفاصيل في نطاق الاستراتيجيا لئلا يضيع الهدف في لعبة التكتيك.. إن البعض يتحدث عن الواقعية السياسية في المسألة الفلسطينية، ويطرح القبول بما تفرضه اللعبة الأمريكية ـ الإسرائيلية، ولكننا نعتقد أن الواقعية السياسية هي إبقاء الاستراتيجيا في ساحة الواقع، والبحث عن كلِّ المفردات التي يمكن أن تخدم الهدف..

إن هذه المرحلة قد يُراد لها أن تكون المرحلة النهائية التي قد تفرض على الشعب الفلسطيني الحل الإسرائيلي، في استغلالٍ لعناوين الحرب ضدّ ما يسمّونه الإرهاب، ونتائج الاحتلال الأمريكي للعراق، والتهديد الأمريكي للمنطقة كلها، لتخضع لما يُخطط لها سياسياً وأمنياً واقتصادياً، والمراهنة على أمريكا من قِبَل بعض العرب هي مراهنة على السراب الذي يحسبه الظمآن ماءً، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً..

وهناك عدة نقاط لا بد من إثارتها أمام السياسة الأمريكية في المرحلة الراهنة.. وهي:

سوريا وإيران: رفض التهديدات الأمريكية

النقطة الأولى: إن أمريكا تستخدم العصا الغليظة في تهديدها لأكثر من دولة في المنطقة العربية والإسلامية، من أجل إخضاعها لمصالحها.. فنراها تهدد سوريا لتنفيذ شروطها في الضغط على المجاهدين في فلسطين ولبنان، وكأن من واجبها الوقوف ضد ما تسمّيه أمريكا الإرهاب من أجل حماية الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.. وإننا ـ بهذه المناسبة ـ نقدّر لسوريا موقفها الصلب في مواجهتها للضغط الإسرائيلي، ورفضها التهديد جملةً وتفصيلاً.. كما نراها تهدد إيران الإسلامية تحت عنوان "دعم الإرهاب"، من أجل الموافقة على الاعتراف بإسرائيل التي تحتل فلسطين كلها رغماً عن الشعب الفلسطيني.. ثم في اتهامها بصنع السلاح النووي، لتفرض عليها القبول بشروط وكالة الطاقة النووية التي هي شروط أمريكية، من دون أيّ دلائل تؤكد ذلك، بالرغم من نفي إيران أيّ خطة لصنع هذا السلاح على أساس أنه محرَّم شرعاً، ومن دون أيّ مكاسب لإيران في الاعتراف الدولي بحقها في استخدام الخبرة النووية للأغراض السلميّة..

إننا نراقب هذه الخطة الأمريكية الضاغطة التي تركت تأثيرها على الاتحاد الأوروبي، مستغلةً حاجته لإعادة العلاقات معها.. ونريد للشعب الإيراني أن يواجه الخطر الجديد الذي يخطط لحرب سياسية وإعلامية واقتصادية قد تقترب من بعض الممارسات العسكرية.. ونقول لهذا الشعب المسلم: إن الوحدة الآن تمثل المصير كله في سلامة الإسلام والوطن والحرية في مواجهة الاستكبار.

العراق: توزع الأدوار في مواجهة الاحتلال

النقطة الثانية: إن الاحتلال الأمريكي للعراق لا يزال يتابع حالة الضغط الخفي تارة والمعلن تارة أخرى على العراقيين، من خلال خطوط سياسية قد توحي في العلن بامتلاك العراقيين إدارة أمورهم، ولكنها قد تختزن في الخفاء التوجيه الأمريكي للتقيّد بالتفاصيل الأمنية والاقتصادية والسياسية..

إنّنا نثق بالشعب العراقي وبطاقاته الفاعلة، ونريد له أن ينتبه جيداً لأسرار لعبة الاحتلال ولخططه في تأكيد مصالحه على حساب مصالح الشعوب، لأن المؤمن لا يُلدغ من جحر مرتين.. لقد مات الماضي بكل جرائمه ووحشيته، وعلينا أن نعرف كيف نحدّق بالحاضر من أجل صناعة المستقبل، لنعرف كيف نتوزّع الأدوار في مواجهة الاحتلال.

النقطة الثالثة: إن حادثة التفجير في الضاحية الجنوبية لبيروت، والتي تبرز فيها ملامح الخطط الإسرائيلية في ملاحقة المجاهدين، قد تحمل أكثر من دلالة سياسية وأمنية بقدر ما يرتبط الأمر بالمقاومة ولبنان بشكل عام، ما يفرض على الجميع الوقوف أمام الجريمة الإسرائيلية بخطةٍ دقيقة توقفها عند حدّها، ليكون كل مواطن خفيراً.

انفجار إندونيسيا يشوّه الوجه الإسلامي

النقطة الرابعة: إننا ـ من موقعنا الإسلامي الشرعي ـ نستنكر بشدة التفجير الأخير في إندونيسيا، الذي سقط فيه أكثر من شخص لا علاقة له بالوضع السياسي الدولي في السياسة الأمريكية، ونرى أن مثل هذه الأعمال لا تحقق أيّ هدف إسلامي، بل إنها تشوّه الوجه الإسلامي المشرق في الاعتداء على المواقع المدنية، ولا سيما أن حدوث ذلك في مناطق إسلامية يضعف الواقع الأمني للمسلمين ويعقّد أوضاعهم..

إنّنا نعلن ذلك على مستوى الفتوى، إنّ مثل هذه الأعمال لا تملك الشرعية الإسلامية من قريب أو بعيد، في الوقت الذي نؤكد فيه أننا نعارض السياسة الأمريكية التي تصادر مصالح الشعوب وتستخدم شعار "الحرب ضد الإرهاب" في الضغط على كل الأحرار، لا سيما من الإسلاميين..

إنّ الجهاد لا بد أن ينطلق من قاعدة إسلامية تدرس الأمن الإسلامي والمصالح الإسلامية والنتائج السلبية على صورة الإسلام في العالم، وليس الجهاد انفعالاً وعنفاً لا يخضع لخطة مدروسة شاملة.

لبنان متخم بالفضائح

وأخيراً، إننا نواجه في لبنان أكثر من فضيحة سياسية واقتصادية في أكثر من موقع إداري أو سياسي، ما يترك تأثيره الوحشي على قضايا الناس الحياتية وأوضاعهم الاقتصادية.. وينطلق الجدل هنا وهناك حول مسؤولية هذا أو ذاك..

والسؤال: إن أكثر من مشكلة كالكهرباء والضمان والنفايات وسيارات المازوت لم تكن وليدة الوقت الحاضر، ولكنها نتيجة التراكمات التي تحركت من خلال أكثر من وزير أو مدير أو رئيس وما إلى ذلك، فلماذا لا يصار إلى فتح باب المحاسبة في كل تطورات المشكلة، بحيث لا يكون الخارج من الوزارة بعيداً عن الحساب في الممارسة الوزارية والإدارية؟؟

أيُّها المسؤولون: إن لبنان الإشعاع بدأ يتحوّل إلى لبنان الظلام، وإن لبنان الإبداع بدأ يتحوّل إلى لبنان التخلّف السياسي والحضاري، فإلى أين تسيرون فيه؟؟ إن الثقة في المجلس النيابي لا تعني ثقة الشعب، لأن قانون الانتخاب ـ بالإضافة إلى التخلّف السياسي في واقع البلد ـ لم ينتج غالباً ممثلين للشعب، بحيث يستمعون إلى نبض الشعب في مشاكله وآلامه.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية