مع عليّ (ع) في ذكرى ولادته..
بوصلة الحق في مدى الزمن
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً}، {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد}، {إنما وليّكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون}.
انفتاح عليّ(ع) على الله
ونلتقي في أهل البيت بعليّ (ع)، وننفتح على عليّ (ع) وهو يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله، لأنه ليس في أفق عليّ إلا الله، حتى أن انفتاحه على رسول الله (ص) إنما هو في طريق الله، لأنه رسول الله وحبيبه. ونلتقي بعليّ (ع) وهو راكع في صلاته، ويأتي فقيرٌ يسأل فلا تشغله صلاته عن زكاته، لأنّ الزكاة عبادة لله كما هي الصلاة، ولذا لم ينفصل عليٌ عن أفق الصلاة وروحيتها عندما مدّ يديه وأعطى السائل، ونزلت هذه الآية تكريماً لعليّ (ع).
ونلتقي بعليّ وفاطمة (ع) عندما نذرا أن يصوما لله إذا شُفي الحسنان (ع) من مرضٍ ألمّ بهما، ويأتي مسكين ويتيم وأسير، ويؤثرانه على نفسيهما، فيقدّمان لهم طعامهما ويبيتان جائعين، ويكرّمهم الله وينزل الآية الكريمة: {ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً* إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً}.
وذلك سرّ عليّ وفاطمة وسر أولادهما (عليهم السلام)، أنهم انطلقوا أولياء لله يحبونه ويخلصون له ويطيعونه ويعبدونه، ويدعون الناس إلى الارتباط به والإيمان به، {عباد مُكرمون* لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون}.
حجة الوداع وتبليغ الرسالة
ولأن علياً(ع) عاش مع الله ورسوله جندياً لهما، وقائداً للأمة بعد رسول الله، أنزل الله تعالى على رسوله أثناء رجوعه من حجة الوداع: {يا أيها الرسول بلّغ ما أُنزل إليك من ربك ـ في ولاية عليّ ـ وإن لم تفعل ـ وقد كان النبيّ بلّغ كل الرسالة آنذاك ـ فما بلّغت رسالته}، لأنك إذا لم تعيّن ربّان السفينة فسوف تضيع السفينة وتتلاقفها الأمواج من هنا وهناك وتنقلب، والله لا يريد لسفينة الإسلام أن تنقلب، إنما أراد أن تكون كسفينة نوح، "مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا ـ لأنه إذا ركب سفينة أهل البيت فإنه يركب سفينة الإسلام في صفائه ونقائه وأصالته ـ ومن تخلّف عنها غرق وهوى".
فوقف رسول الله وقال: "أيها الناس، ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم"؟ قالوا: اللهم بلى، فرفع يد عليّ حتى بان بياض إبطيه للناس، وقال: "من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه ـ من كنت أولى به من نفسه، من كنت قائده ووليّه كما هو الولي في كل شؤون الحياة فعليّ مولاه ـ اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيثما دار". وكان يعرّف الناس من هو عليّ (ع) فيقول: "أنا مدينة العلم وعليّ بابها"، "عليّ مع الحق والحق مع عليّ"، "عليّ مع القرآن لا يفترقان حتى يردا عليّ الحوض"، وعندما استخلفه في المدينة ولم يصحبه معه في غزوة "تبوك"، التي كان الرسول(ص) يعرف أنه لن يحصل فيها حرب، سأله عليّ(ع)عن عدم صحبته له فقال: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى"، وما هي منزلة هارون من موسى: {واجعل لي وزيراً من أهلي* هارون أخي* اشدد به أزري* وأشركه في أمري* كي نسبّحك كثيراً* ونذكرك كثيرا}، وكان عليّ شريك رسول الله ولكن بدون نبوة، ومَنْ كان شريك رسول الله في حركية الرسالة، تماماً كما كان هارون شريك موسى في حركة الرسالة وتحدّياتها، فكيف لا يكون هو المتعيّن لخلافة رسول الله (ص)؟!
حياته(ع) رحلة في خط الله
في الثالث عشر من شهر رجب ـ الذي يصادف يوم الاثنين القادم ـ كانت ولادة عليّ (ع)، وهي ولادة مميّزة، حيث كانت أمه "فاطمة بنت أسد" ـ كما تشير الروايات ـ في الكعبة، وكانت تطوف، وأخذها الطلق، فدخلت الكعبة وولدته هناك.
وهكذا فتح عينيه على بيت الله، وكانت حياته كلها رحلة في خط الله، وكانت شهادته في بيت الله، عندما كان ـ والسيف يفلق هامته، والدماء تنزف من رأسه، والمحراب مضرّج بالدم، والقوم يصرخون ـ يقول بكل هدوء الإنسان الراحل إلى ربه: "بسم الله وبالله وعلى ملّة رسول الله، فزت وربّ الكعبة"، لأنه كان يريد أن تكون كلها في سبيل الله، وأن يموت وهو منفتحٌ على الله.
وكان عليّ (ع) ابن رسول الله تربيةً، كان أبوه "أبو طالب" قد كفل رسول الله بعد وفاة جده عبد المطّلب، فرعاه وربّاه وحماه ونصره عندما حمّله الله تعالى الرسالة، وآمن به، وقد نقل الرواة عنه أنه كان يقول:
ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا
وكان يكتم إيمانه لأنه كان يريد أن يظهر أمام قريش بمظهر الحيادي من أجل أن يحمي رسول الله، وتحمّل الآلام في ذلك كله، وجاء إلى رسول الله ليطرح عليه عرض قريش أن يملكّوه ثرواتهم ويزوّجوه أجمل امرأة فيهم، وسمع "أبو طالب" جواب رسول الله: "والله يا عم، لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه"، وكان ينتظر هذه الكلمة لأنه يعرف أن رسول الله فوق المال والملك والجاه، لأن الرسالة أعظم من ذلك كله، وأي منزلة أعظم من أن يصطفي الله إنساناً ليكون رسوله وسفيره وحبيبه إلى الناس كافة.
أما أمه، فهي فاطمة بنت أسد، وهي التي تكفّلت بتربية رسول الله في طفولته، ويحدثنا رسول الله أنها كانت تفضّله على أبنائها، فكانوا شعثاً غبراً وكان رسول الله نظيفاً شبعاناً، وكان يقول: "إنها أمي بعد أمي"، حتى أن النبي (ص) بعد أن توفّيت ـ وقد كانت خالصة الإيمان كما يقول المؤرخون ـ كفّنها بقميصه ونزل معها في قبرها ودفنها بنفسه ودعا لها. فمن هذين الوالدين وُلِدَ عليّ، وكان أبو طالب كثير العيال، وجاءه رسول الله يطلب منه أن يُكفِله علياً، ويحدّثنا عليّ (ع) كيف كانت طفولته مع رسول الله (ص)، فيقول:
اقتداء عليّ(ع) برسول الله(ص)
"ولقد علمتم موضعي من رسول الله بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا وليد، يضمني إلى صدره، ويكنفني فراشه، ويمسّني جسده، ويُشمني عرفه ـ رائحته الذكية الطيبة ـ وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه، وما وجد لي كذبةً في قول ـ فقد وجدني صادقاً كما كان هو الصادق ـ ولا خطلة في فعل ـ ولا انحرافاً في فعل، وهذا ما تحدث به الإمام الصادق (ع) عندما قال له بعض أصحابه:إني أريد أن أبلغ عندك منزلة عالية، فماذا أفعل؟ قال (ع): "انظر إلى ما بلغ به عليّ عند رسول الله من المنزلة فافعله"، قال: ماذا؟ قال: "الصدق والأمانة" ـ وقد قرن الله به ـ بالنبي ـ من لدن أن كان فطيناً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره، ولقد كنت معه ـ وهو يعيش هذه التربية الإلهية ـ أتبعه اتباع الفصيل إثر أمه، يرفع لي في كل يومٍ من أخلاقه علماً، ويأمرني بالاقتداءِ به، ولقد كان يجاور في كل سنة بـ"حراء"، فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد في الإسلام غير رسول الله وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة وأشمّ ريحَ النبوّة".
وكان أول من صلّى مع رسول الله، وهذا ما عبّر عنه في بعض كلماته: "اللهم إني أول من سمع وأجاب وأناب، لم يسبقني إلا رسول الله بالصلاة"، وقد تميّز عليّ (ع) عن كل الصحابة آنذاك أن جبهته لم تسجد لصنم قطّ، لأنه كان مع رسول الله يعيش روحية الإسلام قبل أن يبعث الرسول بالرسالة.. وعاش عليّ المشاهد كلها، وعاش مع رسول الله ليله ونهاره، وبات على فراش النبي ليلة الهجرة، وبقي في مكة يؤدي ودائع الناس التي كانت عند رسول الله، لأنه كان المؤتمن عنده، وهاجر إلى المدينة حيث كان ينتظره رسول الله(ص)، وزوّجه رسول الله ابنته الحبيبة لديه والقريبة إليه وهي فاطمة الزهراء (ع)، سيدة نساء العالمين، وقد جاء عن بعض أئمة أهل البيت (ع): "لو لم يكن عليّ لما كان لفاطمة كفؤ".
سمات عليّ(ع)
وأحاطت به التعقيدات التي أبعدته عن موقعه، ولكنه كان يتحسس مسؤوليته في حماية الرسالة، فلم يتحرك بالفتنة مطالباً بحقه، وقد سمع منه المسلمون الكثير، وساعد الذين تقدّموه بالرأي والنصح والمشورة، واشتهرت كلمته: "لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن بها جور إلا عليّ خاصة"، المسألة عندي أن تسلم أمور المسلمين وعزّتهم وكرامتهم ووحدتهم، ولست من الذين يحركون قضاياهم الشخصية ليسقطوا القضايا العامة.
ولنستمع إلى أحد أصحابه، وهو "ضرار بن غمرة"، حيث قدم على معاوية الذي طلب منه أن يصف علياً (ع)، فامتنع، ولكن معاوية أصر عليه فقال: إذا كان لا بد من وصفه فإنه كان والله بعيد المدى ـ لا يعيش في أفق محدود، فلقد كان مداه في الفكر والتقوى والزهد والبطولة هو المدى البعيد الذي يمتدّ ـ شديد القوى ـ كان يمثِّل القوّة العظيمة ـ يقول فصلاً ـ إذا قال فقوله الفصل الذي لا نزاع بعده ـ ويحكم عدلاً ـ وإذا حكم فإنه لا يحكم إلا بالعدل، وهو الذي قال: "الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له، والقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه" ـ يتفجّر العلم من جوانبه ـ إذا تحدث عن العلم فإنك تشعر أن الينابيع تتفجّر من كل جنبات ذاته، لأنه أخذ علمه من معينٍ صافٍ، وهو رسول الله(ص) ـ وتنطق الحكم من نواحيه ـ وإذا تحرك وتصرَّف وأمر ونهى فإنه يضع الأشياء في مواضعها ـ يستوحش من الدنيا وزهرتها ـ لأنه يشعر بالغربة فيها، فقلبه متعلق بلقاء الله في الآخرة ـ ويأنس باللّيل ووحشته ـ لأن الليل هو زمن الصفاء والهدوء الذي يفرغ فيه لربه بعيداً عن كلِّ ضجيج الناس ليعبد ربه ويناجيه ـ وكان غزير الدمعة ـ يبكي من محبة الله وخشيته ـ طويل الفكرة، يقلّب كفيه ويخاطب نفسه ـ لأنه يجلس مع نفسه ليدرسها وينظم لها كل خطوطها، وليكتشف عمق علاقة نفسه بربه ـ ويعجبه من اللباس ما خشن ـ كان لا يلبس اللباس الناعم، لأنه كان يريد أن يساوي أقل المسلمين في لباسه ـ ومن الطعام ما جشب، كان فينا كأحدنا ـ وتلك هي صفة رسول الله، فقد كان مع المسلمين كأحدهم، لا يميّز نفسه عنهم لا في جلوس ولا في أيّ وضع يميّز فيه القادة أنفسهم ـ يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه، ويأتينا إذا دعوناه، وينبئنا إذا استنبأناه، ونحن والله مع تقريبه إيانا وقربه منا لا نكاد نكلّمه هيبة له، فإن تبسّم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يعظّم أهل الدين ـ إذا جاءه المتديّنون، وهذا ما أمر الله به رسوله: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعدُ عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً} ـ ويقرّب المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، وأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه، قابضاً على لحيته يتململ تململ السليم ـ الشخص المريض ـ ويبكي بكاء الحزين، فكأني أسمعه الآن وهو يقول: "يا ربنا، يا ربنا"، ثم يقول: "يا دنيا يا دنيا غرّي غيري، ألي تعرضت أم إليّ تشوّفت، قد بنتك ثلاثاً ـ طلقتك ثلاثاً ـ لا رجعة فيها، فعمرك قصير، وخطرك كبير وعيشك حقير، آه من قلة الزاد وبُعد السفر ووحشة الطريق".
فبكى معاوية ووكفت دموعه على لحيته ما يملكها، ثم جعل ينشفها بكمه وقد اختنق القوم بالبكاء، وقال ـ وهو الذي حارب علياً (ع) وعطّل مسيرته ـ: رحم الله أبا الحسن كان والله كذلك، فكيف حزنك عليه يا ضرار؟ قال: حزن من ذُبح ولدها في حجرها، فهي لا تلقأ عبرتها ولا يسكن حزنها.
إمام الزمن
الحديث عن عليّ (ع) في حجم الزمن كله، لأن علياً كان إمام الزمن، عاش للإسلام كله، وعاش مع الله بكله، وكان يقول للناس: "ليس أمري وأمركم واحداً، إنني أريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم". كان عليّ إنسان الإسلام وإمام الإسلام، فإذا أردتم أن تكونوا مع عليّ، فكونوا مع الله ورسوله ومع الإسلام كله، لأن علياً كان مع الله ورسوله ومع الإسلام كله. علينا أن نولد في ولادة عليّ ولادة العقل بالحق، وولادة الروح بالإيمان، وولادة الحياة بالعدل، ونردد مع الشاعر:
يا سماء اشهدي ويا أرض قرّي واخشعي إنني ذكرت عليا
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله.. اتّقوا الله وانطلقوا في خط الله ورسوله وأوليائه، فإن الله أراد لنا أن نقف ضد المستكبرين فلا نؤيدهم ونتبعهم، ولا نسقط أمام كلِّ تهويلهم، ولأن الله أراد للمؤمن مهما كان مستضعفاً في حياته أن لا يستضعف عقله وقلبه أمام الذين يريدون أن يستضعفوا واقعه ويملأوا قلبه بالحقد والظلم والشر، وأراد الله لنا أن لا نركن إلى الذين ظلموا، وتوعَّدنا بالنار إذا ركنَّا إليهم ركون اتباعٍ وسياسة واقتصاد وما إلى ذلك.
ونحن في موقعنا هذا ومرحلتنا هذه نخوض معركةً في حجم العالم، مع الاستكبار العالمي الذي أعلن حربه على المستضعفين كلّهم، والمسلمين في مواقعهم، باسم محاربة الإرهاب، لأنه يرى أن أيّ مساسٍ بمصالحه السياسية والأمنية والاقتصادية يمثل عملاً إرهابياً.. فتعالوا لنحدد الموقف ولنرى ما هي أهم التطورات في هذا الأسبوع:
سنة من عمر الانتفاضة
في هذا اليوم تنتهي السنة الأولى من عمر الانتفاضة، لتبدأ السنة الثانية، والفلسطينيون يؤكدون صمودهم أمام الوحشية الصهيونية المدعومة أمريكياً في أشد عمليات الإرهاب قسوةً، في الوقت الذي يتحدث فيه المسؤولون الأمريكيون عن المجاهدين بأنهم إرهابيون، وأنه لا بدّ للعالم من أن يعلن حربه عليهم، تماماً كما كانوا ـ ولا يزالون ـ يتحدثون عن المقاومة الإسلامية للاحتلال الإسرائيلي في لبنان بصفة الإرهاب؟!
وبدأ الأمريكيون يعملون على تهدئة الجو، وتبريد الانتفاضة الفلسطينية، تحت شعار "حلّ مشكلة الصراع الفلسطيني"، تبعاً لحاجة أمريكا إلى ذلك من أجل تقديم دفعة من الحساب السياسي ـ على سبيل الرشوة ـ للدول العربية والإسلامية، لإدخالهم في التحالف الدولي في الحرب ضد ما تسمّيه أمريكا إرهاباً، لأن هذه الدول لا تستطيع الدخول في هذا الحلف إلا بعد حلّ المشكلة الفلسطينية..
انحياز أمريكي أعمى لإسرائيل
ولكن المشكلة هي أن الاستراتيجية الأمريكية لا تبصر الحل إلا بالعين الإسرائيلية، ولا تضغط للحصول على الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، لأنها لا ترى في إسرائيل دولة احتلال، بل تعتبرها طرفاً في نزاعٍ حول الأرض، ولا ترى الفلسطينيين أصحاب حق فيها، وتمنعهم من أيّ فرصة للقوة في سبيل إيجاد حالة من التوازن في المفاوضات، لأن إسرائيل تحتلّ الأرض كلها، حتى ما يسمى بأرض الحكم الذاتي، وهي تملك أقوى قوة عسكرية في المنطقة موجَّهة فعلاً إلى الانتفاضة، في الوقت الذي تعتمد فيه على الدعم الأمريكي بشكل مباشر، والدعم الأوروبي بشكل غير مباشر.
وهذا هو الذي يجعل المفاوضات عبثية لا يملك فيها الطرف الفلسطيني أية فرصة إيجابية لتحقيق مطالبه الشرعية، كشعبٍ يملك تقرير مصيره، لتكون النتيجة هي فرض الشروط الإسرائيلية عليه في إبقاء المستوطنات التي تحوّل المناطق الفلسطينية المسموح بها إلى جزرٍ معزولة خاضعة للسلطة الإسرائيلية، ومصادرة القدس، ومنع عودة اللاجئين، وإخضاع المصادر الحيوية لإسرائيل، لتكون الدولة الفلسطينية مجرد مسخ مشوّه لا يملك لنفسه ضرّاً ولا نفعاً إلا بإرادة العدو..
ولذلك، فإننا نريد لأخوتنا وأهلنا في فلسطين الاستمرار في الانتفاضة، لأنها هي التي تفرض على العالم الخضوع لحقوق الشعب الفلسطيني، وتُثقل ضميره بالمآسي المتمثّلة في ضحايا الوحشية الصهيونية، وتهزّ المنطقة بالرفض للسياسة الأمريكية المساندة للإرهاب الإسرائيلي، وتربك التحالف الدولي في حرب ما يسمونه إرهاباً بقدر ما يتصل الأمر بالدول العربية والإسلامية.. ونحذّر هذه الدول من الخضوع للضغط الأمريكي والإرهاب، بالضغط على الفلسطينيين للقبول بما يفرضه الحل الأمريكي ـ الإسرائيلي، لأن ذلك سوف يكون في مستوى الخيانة للمستقبل العربي والإسلامي.
لماذا لا يدان الإرهاب الإسرائيلي؟؟
ونقول لأمريكا: إنها تطلب من العالم أن يدين التفجيرات التي أنتجت المأساة لكثير من الأبرياء من الأمريكيين وغيرهم، فلماذا لم تشارك العالم العربي والإسلامي في إدانة الإرهاب الإسرائيلي الذي هو في مستوى إرهاب الدولة المدعومة منها بكل قوة؟؟ وهل أن اعتبار العمل الإسرائيلي ـ أمريكياً ـ دفاعاً عن النفس يبرر هدم البيوت وتشريد أصحابها، وجرف البساتين لتجويع الشعب الفلسطيني، واستعمال الطائرات الحربية والمدافع والدبابات والصواريخ ضد المدنيين، واغتيال السياسيين الفلسطينيين بقرار حكومي، هل هذا هو الدفاع عن النفس؟ وهل الدفاع الشرعي الفلسطيني عن نفسه وانتفاضته لتحرير أرضه يمثّل عملاً إرهابياً؟ كيف يمكن أن يتقبّل العالم المتحضّر هذا المنطق الأمريكي في اعتبار المقاتلين من أجل تحرير أرضهم من الاحتلال إرهابيين؟!
لقد رفضنا التفجيرات التي أصابت الأبرياء من الشعب الأمريكي وغيره، واعتبرناها عملاً غير إنساني وغير استشهادي، ولكننا نريد لأمريكا ـ إذا كانت جادّةً في حربها ضد الإرهاب ـ أن تبدأ بالحرب على الإرهاب الإسرائيلي، وتفرض على إسرائيل الانسحاب من الأرض الفلسطينية لإعادة الأرض إلى أهلها الشرعيين، وأن تغيّر سياساتها الداعمة لأكثر من نظام بوليسي من حلفائها.
الارتفاع إلى مستوى المرحلة
إننا نريد أن تبدأ السنة الثانية للانتفاضة بوعي جديد، وقوة جديدة، ولتستمر ـ حتى لو قطعت الأعوام القادمة ـ حتى تبلغ سنة التحرير، وما ضاع حق وراءه مطالب.. ونريد للشعوب العربية والإسلامية أن تبقى مع الشعب الفلسطيني في موقع المساندة والمساعدة، والضغط على أكثر من نظامٍ حتى يبلغ الحق نصابه، ولترتفع الدول العربية في "الجامعة العربية" والدول الإسلامية في "منظمة المؤتمر الإسلامي" إلى مستوى المرحلة، لتلتقي وتجتمع وتخطط ـ ولو لمرة واحدة ـ في تجاوز الضغوط الأمريكية في فرض مصالحها السياسية والاقتصادية والأمنية على مصالحنا الحيوية والمصيرية، وفي الوقوف ضد الإرهاب الذي يستهدف إنسانية الإنسان، ويعتدي على الأبرياء، ويصادر الحريات، لأن ذلك هو الذي يحقق للأمة في الخط العربي والإسلامي عزتها وكرامتها وعنفوانها الحضاري.
استهداف المقاومة والاستراتيجية اللبنانية
أما في لبنان، فإن هناك حركة تشبه حركة الأشباح، في خلفيات السياسة الأمريكية، وفي ألاعيب الضغوط الدولية الأخرى، بما يشبه الحرب النفسية التي تستهدف المقاومة، وتسيء إلى الاستراتيجية اللبنانية في التأكيد على الانفتاح على المنطقة ـ ولا سيما على سوريا ـ في عملية تضامن وتكامل.
لذلك، لا بدّ للشعب اللبناني أن يجد قوته في وحدته الوطنية، وأن يبقى الحوار هو الخط الذي ينفتح على كل خلاف سياسي أو حلّ اقتصادي، وأن يعمل الجميع على مواجهة المشكلة الحياتية للمستضعفين من أفراد الشعب، ولا سيما في موسم المدارس الذي يُثقل كاهل ذوي الدخل المحدود، مع التأكيد على تخفيف الضرائب، والقيام بالحاجات الملحّة في الخدمات الضرورية للناس كلهم، ليكون الموقف في مستوى القوة في جميع الاتجاهات. |