بسم الله الرّحمن الرّحيم
ألقى سماحة آي الله العظمى، السيد محمد حسين فضل الله، خطبة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور حشدٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسية والاجتماعية، وجمعٍ غفير من المؤمنين.. ومما جاء في خطبتيه:
الخطبة الأولى
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}[الأحزاب: 33].
في هذا الشَّهر، وهو شهر رجب الحرام الَّذي جعله الله تعالى من الأشهر الحُرُم الَّتي حرّم فيها القتال، إلا في حالات الدّفاع عن النفس أو عن الأمَّة ممن يعتدي عليها، في بداية هذا الشّهر، نلتقي بمناسبة ولادة إمامين من أئمة أهل البيت(ع)، وهما الإمام محمد بن علي الباقر(ع) والإمام علي الهادي(ع)، وفي هذا اليوم بالذات ـ الثالث من شهر رجب ـ ذكرى وفاة الإمام الهادي(ع).
الانفتاح على ثقافة القرآن
ونحن في هذا الصَّدد، نحاول أن نطلّ على دور هذين الإمامين، لنستهدي بعد ذلك ببعض كلماتهما فيما نحتاجه في حياتنا. الإمام الباقر(ع) هو من الأئمَّة الَّذين ساعدتهم الظّروف على أن ينفتحوا على السَّاحة الإسلاميَّة بأوسع مجالات الانفتاح، فأغنى بعلمه حركة الثقافة الإسلاميّة، وروى عنه الرّواة الكثير مما أودعوه في كتبهم من شؤون العقيدة في الخطِّ الفلسفي، ومن شؤون الشّريعة، ومن قضايا التاريخ، حتى إنّك عندما تقرأ الموسوعات التاريخية كـ"تاريخ الطبري" وأمثاله، تجد أنَّه يتحدَّث عن كثيرٍ من قضايا التاريخ الإسلاميّ بالرواية عن الإمام الباقر(ع).
وكان الإمام الباقر(ع) يدعو أصحابه إلى أن يسألوه، وكان يطلب منهم أنه إذا حدّثهم عن أيّ شيء من شؤون الثّقافة الإسلاميّة، أن يطالبوه بالدَّليل على ذلك من القرآن، لأنّه كان يريد للمسلمين من حوله، ولشيعته بالذّات، أن ينفتحوا على ثقافة القرآن، وأن يرجعوا كلّ مفاهيمهم الإسلامية إلى القرآن الَّذي هو الأساس في الثّقافة الإسلاميّة، والحديث في السنّة يمثّل تفصيل ما أجمله القرآن، وتوضيح ما وقع فيه إشكال.
وقد كان الإمام الباقر(ع) رحِب الصَّدر مع الَّذين يختلفون معه في الرأي، فكان يحاورهم بكلّ انفتاح، وينطلق معهم بالكلمة الطيِّبة والبرهان القويّ، لأنّه كان يرى ـ كما خطَّط له القرآن ـ أنّك إذا اختلفت مع شخص، سواء في العقيدة، أو الشَّريعة، أو السّياسة، أو أيّ شيء من شؤون الثقافة في الحياة، فإنّك لا تستطيع أن تقنعه بالضّغط أو بالعنف، وبأساليب السّباب والاتهامات غير المسؤولة، ولكن بإمكانك أن تقنعه بالحجَّة والكلمة الواضحة.
وهذا ما ينبغي لنا أن نتعلَّمه من القرآن الكريم، ومن رسول الله(ص)، ومن سيرة أهل البيت(ع)، أن لا نتعقَّد من الخلافات الفكريَّة، فلا نرجم بعضنا بعضناً بالحجارة الكلاميّة، بل نقدّم الدليل والحجّة والبرهان، ونستهدي القرآن بقوله: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}[فصلت: 34].
الأمّة في سلّم الأولويّات
وقد كان الإمام الباقر(ع) معنيّاً بالشأن السّياسيّ، فكان يراقب التّحديات التي تواجه الدّولة ـ وهي الدّولة الأمويّة ـ بالرغم من العلاقة السلبيَّة الَّتي كانت بين أئمّة أهل البيت(ع) والأمويّين، ولكنّ الإمام(ع) كجدّه أمير المؤمنين(ع)، كان يراعي مصلحة المسلمين، فقد ذكر التاريخ الإسلاميّ، أنّ عبد الملك بن مروان ـ الخليفة الأموي ـ واجه تحدّياً في مسألة العملة التي كان يتداولها المسلمون، وهي عملة الرّوم، وكان ملك الروم قد هدّد بأنه سوف يكتب على العملة سبّ النبيّ(ص)، وعرض الخليفة الأمر على الإمام الباقر(ع)، فطمأنه ووجَّهه إلى استصدار عملة إسلاميّة، وسقط تحدّي ملك الرّوم آنذاك، وعندما حدثت المعركة بين الأمويّين ومعارضيهم في الدَّاخل، كان للإمام دورٌ في تحريك الموقف السّياسيّ ضدّ الأمويّين، لأنّه كان يرى في إسقاط الدّولة الأمويَّة مصلحة للمسلمين.
وهكذا، رأينا أنَّ الإمام الباقر(ع) كان يتحرّك في كلّ القضايا الإسلاميَّة، بقدر ما تسمح له ظروفه والفرص الثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة، بالأسلوب الحكيم السلميّ، لأنّه لم تكن له أية ظروف واقعية تسمح بأن يقود الثورة بطريقة عسكريّة.. وملأ الإمام ـ بذلك ـ الساحة علماً من علْم الإسلام، وحكمةً من حكم الإسلام، وحركيَّة من حركية الإسلام، وكان معه الإمام جعفر الصّادق(ع)، الَّذي شاركه في بعض ذلك، وأكمل رسالته بعد ذلك من خلال الظّروف الواسعة.
الهادي(ع): ملاحقة الانحرافات
أمّا الإمام محمد الهادي(ع)، فقد كانت ظروفه أضيق، فقد اضطُهد من خلفاء زمانه، وواجه الكثير من الضغوط، حتى إنَّ المتوكّل العباسي استقدمه من المدينة إلى بغداد في ظروف سيّئة جداً، ولكن الإمام الهادي(ع) كان أكبر من التحدّي، وواجه المتوكّل بأكثر من أسلوب يتحدّى به طغيانه وسلطانه.
وكان الإمام(ع) إلى جانب ذلك معنيّاً بملاحقة كلّ الانحرافات الفكريَّة الّتي كانت تعيش في الواقع الشيعي بالذات، والواقع الإسلاميّ بشكل عام، فكان يرصد كلّ الانحرافات، سواء تلك التي كان البعض ينطلق بها من تحميل اللّفظ القرآني ما لا يتحمَّل، أو في مسألة الغلوّ في الأئمّة(ع)، أو في تأكيد القاعدة الإسلاميَّة في اعتبار العقل أساساً في الثقافة والحجّة، وقد قدّم الإمام الهادي(ع) الكثير الكثير في المجال الثقافي الإسلامي والتربية الإسلامية، وكان محلّ تقدير المجتمع آنذاك، بالرغم من أن المجتمع كان يدين بالولاء للخلافة العباسيَّة.
ونحن في التزامنا بإمامة الأئمَّة من أهل البيت(ع)، من خلال عقيدتنا بأنهم خلفاء رسول الله(ص) وأوصياؤه، وهم الحجّة من بعده، وهم المعصومون فيما فكَّروا وقالوا وفعلوا، نحاول أن نأخذ بعض هديهم، ففيه كلّ الهدى، وبعض وصاياهم، ففيها كلّ النَّصيحة والخير.. ونبدأ بعض كلمات الإمام الباقر(ع)، التي كان يخاطب فيها شيعته الَّذين يمثّلون الخطّ الإسلاميّ في خطّ أهل البيت(ع)، كيف يريد الإمام الباقر(ع) للشيعة أن يتمثّلوه في سلوكهم العملي مع الله ومع بعضهم البعض، وفي الخطّ المستقيم في عقيدتهم بأهل البيت(ع).
من سمات التشيّع
تعالوا إلى حديث الإمام الباقر(ع). عن "أبي إسماعيل"، قال: قلت لأبي جعفر الباقر(ع): جُعلت فداك، إنّ الشيعة عندنا كثير، فقال(ع): "هل يعطف الغني على الفقير، وهل يتجاوز المحسن عن المسيء، وهل يتواسون؟"، فقلت: لا، فقال: "ليس هؤلاء شيعة"، لأنّ التشيّع يمثّل أصالة القيمة الإسلاميّة، ولأنّ الالتزام بأهل البيت ليس مجرّد نبضة قلب بحبّهم، بل هو خطّ يجمع الملتزمين بالقيم الإسلاميّة الرّوحيّة التي تشدّ المؤمنين إلى بعضهم البعض، ليكونوا مثلاً لقوم رسول الله(ص): "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الأعضاء بالحمَّى والسهر".
وفي روايةٍ أخرى، قال الإمام الباقر(ع) لـ"خيثمة": "أبلغ من ترى من موالينا السَّلام، وأوصهم بتقوى الله العظيم ـ أن تكون التَّقوى هي الخطّ الّذي يتحركون فيه، فيطيعون الله بما أمرهم أن يفعلوه، ويتركون ما نهاهم عنه ـ وأن يعود غنيّهم على فقيرهم، وقويّهم على ضعيفهم، وأن يشهد حيّهم جنازة ميّتهم، وأن يتلاقوا في بيوتهم، فإن لُقْيا بعضهم بعضاً حياة لأمرنا، رحم الله عبداً أحيا أمرنا"، ولا أمر لأهل البيت(ع) إلا الإسلام الّذي يرتكز على الإيمان بالله ورسوله وأوليائه وكتابه واليوم الآخر، والسّير على خطّ الله ورسوله. ولذلك، يريدون أن يلتقي الملتزمون بولايتهم التي هي ولاية الإسلام، ليتحدّثوا في ذلك، وليقوّوا عقيدتهم بما يحمله كلّ واحد منهم من ثقافة لا يحملها الآخر، وليتعاونوا على تحريك هذه الثقافة الإسلاميَّة الولائيّة في الخطّ العمليّ.
الولاية لا تُنال إلا بالورع
ويكمل الإمام الباقر(ع): "يا خيثمة، أبلغ موالينا أنا لا نغني عنهم من الله شيئاً إلا بالعمل، وأنَّهم لن ينالوا ولايتنا إلا بالورع ـ والولاية بالنّسبة إلينا موقف مع الله ومع رسول الله ومع الإسلام، وليست الولاية مجرّد عاطفة، ولكنَّها التزام بالإسلام وبالله ـوأنَّ أشدّ النّاس حسرةً يوم القيامة، من وصف عدلاً ثم خالفه إلى غيره".
وفي كلمةٍ ثالثة، قال الإمام الباقر(ع): "يا معشر الشّيعة، كونوا النّمرقة الوسطى ـ والنّمرقة هي عبارة عن الوسادة المتوسّطة التي تريح الإنسان في نومه وقعوده ـيرجع إليكم الغالي ـ الَّذي يصل إلى درجة الغلوّ، بأن يجد فيكم خطَّ الاعتدال ـويلتحق بكم التالي"، فقال له رجل من الأنصار: جُعلت فداك، من الغالي؟ قال: "قوم يقولون فينا ما لا نقوله في أنفسنا، فليس أولئك منا ولسنا منهم"، قال: ومن التّالي؟ قال: "المرتاد المتطلّب، يبلغه الخير فيؤجر عليه، والله ما معنا من الله براءة ـ الله لم يقل لأحد إنَّ لك براءة من النار، بل قال: اعملوا، قالها للأنبياء وللأئمَّة، والله تعالى علّم نبيّه أن يقول: {قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}[الأنعام: 15]، والأنبياء والأئمَّة(ع) إنما وصلوا إلى ما وصلوا إليه من الدّرجات العليا، بمعرفتهم لله وطاعتهم له ـ ولا بيننا وبين الله قرابة، ولا لنا على الحجَّة، ولا نتقرّب إلى الله إلا بالطّاعة. فمن كان مطيعاً لله تنفعه ولايتنا، ومن كان عاصياً لله لا تنفعه ولايتنا، ويحكُم لا تغترّوا، ويحكُم لا تغتروا".
ويقول(ع) في نصٍّ آخر: "إنَّما شيعة عليّ المتباذلون في ولايتنا، المتحابّون في مودّتنا، المتزاورون لإحياء دين الله، الَّذين إذا غضِبوا لم يظلموا، وإذا رضوا لم يسرفوا، بركةٌ على من جاوروا، سلمٌ لمن خالطوا". ويقول الإمام الباقر(ع): "إذا أردت أن تعرف أنَّ فيك خيراً فانظر قلبك، فإن كان قلبك يحبّ أهل طاعة الله، ويبغض أهل معصيته، ففيك خير والله يحبّك، وإن كان قلبك يبغض أهل طاعة الله ويحبّ أهل معصيته، فليس فيك خير والله يبغضك، والمرء مع من أحبّ"، وعليكم أن تفكّروا فيمن تحبّونهم وتوالونهم، هل ترضون أن تحشروا معهم يوم القيامة؟ إذا رضيتم فوالوهم، وإلا فراجعوا حساباتكم.
بين الإيمان والإسلام
ومن كلمات الإمام الهادي(ع)، وهو يبيّن لنا الفرق بين الإيمان والإسلام، يقول(ع): "الإيمان ما وقر في القلوب وصدّقه العمل ـ أن تكون مؤمناً، يعني أن يعيش الإيمان في عقلك عقيدةً تعتقدها وتلتزمها في وجدانك، ولكن أن يصدِّقها عملك، بحيث يتحوّل الإيمان إلى خطّ عمليّ ـوالإسلام ما جرى على اللّسان ـ من التلفّظ بالشّهادتين ـ وحلّت به المناكحة"، أي التّزاوج.
وعن الحسن بن مسعود قال: دخلت على أبي الحسن علي بن محمد الهادي، وقد نُكبت إصبعي ـ جُرحت ـ وتلقّاني راكب وصدم كتفي، ودخلت في زحمة، فخرقوا عليّ ثيابي، فقلت: كفاني الله شرّك من يوم فما أشأمك! فقال لي: "يا حسن، تتكلَّم بهذا وأنت تغشانا، ترمي بذنبك مَن لا ذنب له؟!"، فأثاب عليّ عقلي، وتبيّنت خطأي، فقلت: يا مولاي، أنا أستغفر الله، فقال لي: "ما ذنب الأيام حتى صرتم تتشاءمون بها إذا جوزيتم بأعمالكم فيها"؟ قال الحسن: أنا أستغفر الله أبداً، وهي توبتي يابن رسول الله، فقال: "والله ما ينفعكم، ولكنَّ الله يعاقبكم بذمّها على ما لا ذمّ عليها فيه، أما علمت يا حسن، أنَّ الله هو المثيب والمعاقب والمجازي بالأعمال عاجلاً وأجلاً؟!"، قلت: بلى يا مولاي، قال: "لا تعُد، ولا تجعل للأيّام صنعاً في حكم الله".
هذه بعض كلمات الإمامين العظيمين من أهل البيت(ع)، وعلينا أن نستهدي بها، ونسير في خطّ أهل البيت(ع)، لأنَّ خطَّهم هو خطّ الطّهر والصّفاء والحقّ كلّه، {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}.
الخطبة الثانية
عباد الله، اتّقوا الله في كلّ ما تقبلون عليه، فإنَّ رسول الله والأئمّة من أهل بيته، كانوا أئمّة التقوى والقدوة لنا في مواجهة الظّالمين والمستكبرين، بأن نواجههم بكلّ ما نستطيع من أجل إسقاط ظلمهم عن الناس، وإزالة استكبارهم عنهم، وهذا ما قال الله تعالى عنه: {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}[هود: 113]، فإنّ من تقوى الله أن نواجه كلّ ظالم، سواء كان فرداً أو دولةً أو محوراً دوليّاً، لننكر عليه ذلك.
ولذلك، لا بدَّ من أن نفرّغ كل قلوبنا من كلّ تعاطفٍ مع الظالمين، وكلّ تبرير لظلمهم، حتى لو اختلفنا مع المظلومين في الدّين أو المذهب، لأنَّ الله لا يريد لأحدٍ أن يُظلَم. وهكذا، لا بدَّ من أن نسير في هذا الخطّ المستقيم، وأن نحدِّد مواقفنا السياسيَّة على ضوء المنهج الإسلاميّ، لتكون كلمة الله في العدل هي العليا، وكلمة الكافرين في الظلم هي السفلى. ونحن نواجه الكثير من حركة الظّلم وخطط المستكبرين، وعلينا أن نملك الوعي لذلك كلّه. فماذا هناك؟
خرق قواعد اللّعبة
لا تزال الانتفاضة ـ الَّتي تقترب من الدّخول في سنتها الثانية ـ تثبت أنَّها مستمرّة من أجل الحصول على التّحرير للشَّعب الفلسطينيّ، بالرغم من الضّغوط الهائلة المتمثّلة في الحدث الأميركيّ الضَّخم الذي شغل العالم كلّه، وأعطى إسرائيل الفرصة الذهبية للهجوم على أكثر من مدينة فلسطينيَّة، لممارسة القتل والتدمير بطريقة وحشيّة، وتقديم العمليات الاستشهادية في فلسطين كنموذج للعمليَّة التي استهدفت أميركا، للإيحاء بأنَّ هذا هو "الأسلوب الإسلامي" في مواجهة العالم المتحضّر، في محاولةٍ للتأكيد أنَّ العرب ـ ومنهم الفلسطينيون ـ كانوا وراء الحادث.
ثم كانت اللّعبة الأميركيّة لفرض وقف إطلاق النار على الفلسطينيّين تحت تأثير الأوضاع القلقة المخيفة التي أثارتها أميركا في أكثر من منطقة، ولا سيما في المنطقة العربيَّة والإسلاميَّة.. ولكن إسرائيل بقيت في دائرة المناورة السياسية، لتفرض شروطها المذلّة على السلطة الفلسطينيَّة الّتي تلهث وراء الاجتماع بوزير خارجية العدوّ، الذي لن يقدّم لها شيئاً إلا فرض شروط الاستسلام عليها، لإيقاف الانتفاضة قبل أن تتجاوز سنتها الأولى.. وقد استطاع المجاهدون أن يخرقوا قواعد اللعبة الأميركية ـ الإسرائيلية، ليثبتوا أنّ الانتفاضة تبقى في الموقف القوي الّذي يقودها نحو الاستمرار، لأنَّ القضيَّة لا تزال بحاجة إلى ذلك، لأنّه لا بديل من الانتفاضة في حركة التحرير.
حذار الخضوع للخطة الأميركيّة
وإننا ـ في هذه المناسبة ـ نحذّر الدول العربيَّة، ومعها الدّول الإسلاميَّة، من الخضوع للخطة الأميركية التي تريد حلّ القضية الفلسطينية بالشروط الإسرائيلية، مستغلّةً الزلزال السياسيّ في العالم بفعل الحدث الأميركي، للإيحاء إلى العرب بأنَّ أميركا سوف تتحرّك للضغط على إسرائيل في مقابل دخول الدول العربيّة في التحالف معها ضدّ ما تسميه الإرهاب، مع أنّنا نعلم أنها لن تقدّم شيئاً كبيراً في مستوى الطموحات المشروعة للشّعب الفلسطينيّ، تماماً كما حدث بعد حرب الخليج الثانية، عندما قادوا العرب إلى مؤتمر "مدريد" الَّذي أنتج اتفاق "أوسلو"، والَّذي حاصر الفلسطينيين في الزاوية الإسرائيلية.
إنّنا نحذِّر أهلنا المجاهدين الصّابرين في فلسطين من اللعبة الجديدة ـ القديمة، في إسقاط حركتهم التحريرية، بإدخالها في المتاهات السياسية التفاوضية، التي لن تنتهي إلى نتيجة حاسمة لمصلحتهم في قضية التحرير، كما ندعو الشعوب العربية والإسلامية إلى الاستمرار في الوقوف مع الشَّعب الفلسطيني في هذه المرحلة الدقيقة والصعبة، والضغط على المسؤولين، لئلا يقدّموا التنازلات السياسيّة على حساب مستقبله السياسي، بفعل الخطة الأميركية ـ الإسرائيلية.. إنَّ هذه الإشراقة التحرريَّة هي الّتي تمثّل القيمة العليا التي ترتفع بالأمّة إلى مستوى العنفوان في حركة الحاضر والمستقبل، ومن الجريمة الكبرى أن يعمل أحد على إطفائها بأية وسيلة سياسيّة.
أميركا تستغلّ الحدث
أما الحدث الأميركي الضَّخم، فقد بدأت أميركا تستغلّه من أجل تنفيذ خطَّتها السياسية الأمنيَّة، في تحقيق أكثر من مكسب سياسيّ وأمنيّ في العالم، تحت شعار التّحالف الدوليّ للحرب على ما تسميه الإرهاب من أجل "سلامة البشريّة كلّها".. ولكنها ـ في الواقع ـ تعمل من أجل استعادة هيبتها وعنفوانها في قيادة العالم سياسياً وأمنياً واقتصادياً، وذلك بالتهديد القوي للدول الصغرى، بأنها سوف تُعزل سياسياً واقتصادياً إذا لم تدخل في التحالف.. أما الدول الكبرى المتحالفة معها أو القريبة منها، فإنها قد تمارس معها أسلوب التخويف، بأنها إذا لم تخضع للخطة الأميركية، فسوف يواجهها "الإرهاب" بالطريقة التي واجه فيها أميركا.
إنَّ أميركا تخوض حرباً نفسيَّة ضد الشعوب، وذلك بعرض عضلاتها العسكريَة في أكثر من منطقة، ولا سيّما الشَّرق، وتخطّط لضرب أفغانستان وأكثر من دولة في المنطقة، وللحصار الاقتصادي لأكثر من دول متمردة على التحالف.
وإننا في الوقت الَّذي ننظر بإيجابية إلى بعض المواقف الغربية التي حاولت أن تنأى قليلاً عن جوّ الحقد والعداوة المثار ضدّ الإسلام والمسلمين في الغرب، إلا أنَّنا نعتقد أنَّ هذا المناخ من الحقد الذي أُثير في السابق، ولا يزال يُثار عند كلّ حادث من هذا النوع، انطلق منذ مدّة من خلال اعتبار الحلف الأطلسي أنَّ الإسلام هو العدوّ الجديد للغرب، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وأنَّ تفاعلات هذا الموقف لا تزال تتوالى.
من هنا، فإنّنا نعتبر أنَّ هذا الشّحن الغربّي ضد الإسلام والمسلمين وضدّ العرب، هو نتيجة طبيعية لهذه التربية السياسيَّة والاجتماعيَّة الخاطئة التي ينبغي للدول الغربيَّة أن تتجاوزها، كما ينبغي على العرب والمسلمين أن يفهموا أهدافها، ليعملوا على إسقاط هذه الأهداف بالوسائل الإسلاميّة الحضاريّة الَّتي ينبغي أن لا تغيب عن خطابهم وحركتهم.
إنَّ المطلوب ـ الآن ـ هو عدم السّقوط تحت تأثير هذه الحرب النفسيَّة، لأنّ أميركا لا تمثِّل القضاء والقدر، فللشّعوب كلمتها في مواقع القوَّة لديها، وإذا كان القويّ يملك الكثير من موازين القوّة، فإنَّ للشعوب موازينها في أكثر من موقع في خطّ الصّمود والمواجهة.. إنَّ العاصفة قد تصنع المأساة في أكثر من ساحة، ولكنَّها سوف تدمّر نفسها في النهاية، وتذكّروا قول الله تعالى: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}[آل عمران: 139].
أميركا المخطِّط الأوّل للإرهاب
لقد عشنا في لبنان كضحايا للإرهاب في الحرب المجنونة التي خطَّطت لها أميركا، وسقط الكثير من القتلى والجرحى بفعل الإرهاب الأميركي في متفجّرة "بئر العبد" وغيرها من عمليات التفجير، وكانت قمة الإرهاب الاجتياح الإسرائيلي الَّذي أنتج أكثر من مجزرة، ولا سيَّما مجرزة "صبرا وشاتيلا"، ثم مجزرة "قانا"، في الوقت الَّذي كانت الإدارات الأميركية المتعاقبة تدعم إسرائيل اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً، وتمنع إدانتها في المحافل الدوليَّة، ولا سيما في مجلس الأمن، ولا تزال تساندها في إرهابها للشعب الفلسطيني الذي خاض ـ ولا يزال ـ الانتفاضة من أجل حريته.
ولذلك، فإننا نتساءل: هل تريد أميركا من الدّول العربيَّة والإسلاميَّة أن تساندها في حماية الإرهاب الإسرائيلي للشَّعب الفلسطينيّ، وأن تقمع الشعوب المستضعفة، بما فيها الشعوب العربية والإسلامية، باسم الحرب على الإرهاب، لأنّ كلّ معارض للسياسة الأميركية إرهابي في نظر أميركا؟ هذا هو السؤال الكبير الذي نوجّهه إلى الإدارة الأميركية الحالية، وإلى السَّفير الأميركي الذي قدم إلينا ليتحدّث عن "مجموعة الإرهاب في لبنان"، ليقول إنَّ المجاهدين في المقاومة الإسلامية إرهابيون!
إننا نقول للّبنانيّين ـ في هذه المرحلة الدقيقة ـ إنَّ علينا أن نحتفظ بمبادئنا وقيمنا التي تفرّق بين المقاومة والإرهاب، وأن نعرف أنَّ أميركا تمارس في طروحاتها المتنوّعة إرهاباً سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وأمنياً على العالمين العربيّ والإسلاميّ، بفعل أساليب التهديد بالعزلة السياسيَّة والاقتصاديَّة، وإنَّ علينا أن نؤكّد لأميركا أنَّ الحرب على ما تسمّيه الإرهاب لن تحقّق انتصاراً، وعليها الابتعاد عن الضّغط على الشعوب، لأنَّ قهر المستضعفين ـ في أيّ مكان ـ بفعل السياسة الاستكباريَّة، هو البؤرة الطبيعيّة لإنتاج أكثر من عملية عنف متنوّع متحرّك، قد يتحوّل إلى الشّكل الإرهابيّ.