بسم الله الرّحمن الرّحيم
ألقى سماحة آية الله العظمى، السيد محمد حسين فضل الله، خطبة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور حشدٍ من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وجمع غفير من المؤمنين.. ومما جاء في خطبته الأولى:
الخطبة الأولى
مع وصايا عليّ(ع)
لا نزال في أجواء أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(ع)، في مناسبة ذكرى مولده، لنعيش معه وصاياه وكلماته الّتي تعالج أكثر من شأنٍ من شؤون النّفس في كلِّ ما يؤدِّي إلى تزكيتها، أو في كلِّ شأنٍ من شؤون الحياة في كلِّ ما يؤدّي إلى حمايتها من الانحراف، ولذلك، علينا أن نلتقط بعض كلماته من "نهج البلاغة"، لنتعلّم منها كيف نتحرك في الخطّ المستقيم.
ومن خصوصيّات عليّ(ع)، أنّه كان الداعي إلى الله تعالى في ابتهالاته وصلواته وفي كلّ حالاته، لأنَّ ميزة عليّ(ع)، أنه كان المحبّ لله، والعاشق له، ولذلك كان يعيش معه، فما من أمرٍ من أمور النّفس في الدّاخل والخارج، وما من مشكلةٍ تواجهه مما كان يحيط به من المشاكل، إلا ويلجأ إلى ربّه ليشكو إليه آلامه، وليستمدَّ منه القوّة، ولينفتح من خلاله على الأفق الرَّحب الّذي يتيح له أن ينظر إلى الحياة دائماً من خلال الله تعالى.
الاستعاذة بالله من الرّياء
في هذا الدّعاء القصير، يعالج الإمام عليّ(ع) حالة نموذج من النَّاس، يحبّون أن يظهروا بمظهر التَّقوى والاستقامة والإخلاص، ولكنَّهم في باطن أمرهم ليسوا على شيء من ذلك، فهم بعيدون عن التّقوى وعن الاستقامة وعن كلّ حالات الإخلاص، وهذا ما يسمّى بالنّفاق، وهو أن يكون باطنك شيئاً، وأن يكون ظاهرك على خلاف باطنك. فالإمام(ع) ـ وهو المعصوم الَّذي لا يبتلى بشيءٍ من ذلك ـ يتحدَّث من خلال عنوان الإنسان في ذاته، لأنَّ الأنبياء أو الأئمّة(ع) في كلّ أدعيتهم، يتحدَّثون من خلال عنوان الإنسان في ذواتهم، لا من خلال خصوصيّة النبوّة أو الإمامة في شخصه، لأنّه معصوم بلحاظ مقام النبوّة أو الإمامة، ولكنَّه يخاطب ربّه ـ كما هو الإنسان عندما يخاطب ربَّه ـ تواضعاً لله وخشوعاً له، بحيث يعترف بالذّنوب الّتي لم يفعلها، باعتبار أنَّها ذنوب الإنسان في حالاته العاديّة عندما ينطلق في خطِّ الانحراف. يقول(ع):
"اللّهمّ إنّي أعوذ بك ـ أستجير بك وأطلب منك أن تنقذني من هذه الحالة ـ من أن تحسّن في لامعة العيون علانيتي ـ أن تجعلني أظهر للنّاس بمظهرٍ تلتمع عيونهم عندما تنظر إليّ إعجاباً ـ وتقبّح فيما أبطن لك سريرتي ـ وتجعل سريرتي، وهي المنطقة الداخلية السرّية من حياتي، قبيحةً لا توحي بالخير، ولا تبعث على الاحترام ـ محافظاً على رئاء النّاس من نفسي ـ أحاول أن أُري الناس المظهر الجيّد من نفسي ليمدحوني ـ بجميع ما أنت مطَّلع عليه مني، فأبدي للنّاس حسن ظاهري، وأفضي إليك بسوء عملي، تقرّباً إلى عبادك ـ حتى أتقرّب إلى الناس بذلك ـ وتباعداً من مرضاتك".
وكان(ع) ـ تواضعاً منه وخشوعاً لله ـ إذا مدحه أحد في وجهه قال: "اللّهمّ اجعلني خيراً مما يظنّون، واغفر لي ما لا يعلمون".
حسرات كسب المال الحرام
الحديث الثاني، يحدِّث عن بعض النّاس الّذين يتاجرون بالحلال والحرام، أو بالحرام، بحيث يكون كلّ همّهم أن يجمعوا المال، ولا ينظرون إلى مصدر هذا المال، هل هو من الحرام أو من الحلال، فيبيعون ما حرّم الله بيعه، ويأخذون المال من المصادر التي حرَّم الله أخذ المال منها؛ هؤلاء الَّذين يأكلون أموال النّاس بالباطل من خلال السَّرقة والرّشوة وما إلى ذلك، ثم يموتون ويأتي ورثتهم من بعدهم، وقد يكون أحد الورثة صالحاً، ولا يعرف مصدر أموال مورّثه، فكيف حسرة هذا الإنسان يوم القيامة؟ يقول(ع): "إنَّ أعظم الحسرات يوم القيامة ـ لأنه يوم نهاية المصير، فالحسرة تكون عميقةً جدّاً ـ حسرة رجل كسب مالاً في غير طاعة الله، فورثه رجل، فأنفقه في طاعة الله ـ أخرج منه حقوق الله، وتصدَّق منه، وأنفقه في الحلال ـ فدخل به الجنَّة، ودخل به الأوَّل النار"، مع أنَّ المال واحد، ولكنَّ الأوّل دخل النار، لأنه كسبه من حرام، أو لم يخرج حقَّ الله منه، بينما الوارث الصّالح دخل فيه الجنّة.
طاعة الخالق أوّلاً
النُّقطة الثَّالثة، يتحدَّث فيها الإمام(ع) عن البعض ممن قد يبتلى نتيجة بعض الضّغوط العاطفيَّة أو الاجتماعيَّة أو السياسيَّة أو الاقتصاديَّة أو الأمنيَّة، بطاعة شخصٍ صاحب سطوة، أو يرتبط به من خلال العاطفة، كالأولاد مع أبيهم وأمّهم، أو الأب والأمّ أمام أولادهم، وهكذا، إلى أن تصل القضيّة إلى رئيس العشيرة أو الحزب أو الحركة. هنا، ربما يطلب منك هذا أو ذاك أن تطيعه في أوامره الّتي يأمرك بها، بقتل، أو ضرب، أو سجن، أو سرقة، أو تجسّس، أو تشهير بفلان، أو إثارة فتنة في المجتمع، فيقول(ع): "لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق"، فالأشياء الّتي هي من المباحات، النَّاس مسلَّطون فيها على أنفسهم بالطّاعة أو عدم الطّاعة، لكن عندما يطلب منك أحد أمراً محرَّماً مثلاً، كأن تشهد زوراً ـ حتَّى لصالح أبيك أو أخيك ـ وشهادة الزّور تلقي بك في نار جهنَّم، {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}، فهل أنت حرّ في أن تطيعه؟ لذلك، لا بدَّ من أن نلتفت إلى هذه المسألة، لأنَّ الأمر يدور بين الله تعالى وبين فلان، وأمام الله، ليس هناك أحد، مهما كان حجمه أو درجة قربه إليك، ومن نحن أمام النّبيّ(ص)؟! ومع ذلك، فإنَّ الله تعالى يعلِّمه أن يقول لكلِّ الّذين يدعونه إلى معصية الله ليجاملهم: {قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}.
قوام الدّنيا
في الكلمة الرابعة، يتحدَّث الإمام عليّ(ع) عن الأمور الّتي تقوم بها الدّنيا، فيقول لـ(جابر بن عبدالله الأنصاري): "يا جابر، قوام الدّين والدّنيا بأربعة: عالم يستعمل علمه ـ العالم الّذي يعمل بعلمه ـ وجاهل لا يستنكف أن يتعلَّم ـ الجاهل الَّذي لا يرضى لنفسه أن يبقى على جهله، لأنَّ الجهل يوقعه في كثيرٍ من المزالق والمهالك، والعلم ليس فيه صغير وكبير ـ وجواد لا يبخل بمعروفه، وفقير لا يبيع آخرته بدنياه ـ هو فقير فعلاً، ولكنَّه لا يتنازل عن دينه وموقفه وقناعته، لأنَّ الدّنيا لا تعوِّض عن الآخرة ـفإذا ضيَّع العالم علمه ـ لم يعلِّم النَّاس، ولم يعظهم ويرشدهم ـ استنكف الجاهل أن يتعلَّم ـ وهناك حديث عن النبيّ(ص) يؤكِّد ضرورة أن يُظهر العالم علمه: "إذا ظهرت البدع، فعلى العالم أن يُظهر علمه، وإن لم يفعل، فعليه لعنة الله" ـ يا جابر، من كثرت نعم الله عليه ـ أعطاه الله مالاً وسلطةً وقوّةً وعلماً ـ كثرت حوائج النّاس إليه، فمن قام لله فيها ـ فبذلها إلى من يحتاج إليها ـ عرَّضها للدّوام والبقاء، ومن لم يقم لله فيها بما يجب، عرّضها للزّوال والفناء".
الاستقالة من عثرة الغفلة
وهناك كلمة أخيرة تتحدَّث عن الَّذين يأتون إلى المساجد: "يأتي على النّاس زمان لا يبقى فيه من القرآن إلا رسمه ـ بحيث يجعل المسلم القرآن في صدر البيت، ولكنَّه لا يقرأ فيه ولا يتدبّره ـ ومن الإسلام إلا اسمه ـ هو مسلم في الهويّة، لكنّه لا يعيش التقوى في حياته ـ مساجدهم يومئذٍ عامرة من البناء، خراب من الهدى، سكَّانها وعمّارها شرّ أهل الأرض ـ لأنه يأتي إلى المسجد وقلبه في الخارج ـ منهم تخرج الفتنة ـ يصلّي لأنّه اعتاد على الصّلاة، ولكن عندما ينتهي من صلاته، يخرج ليفتن بين النّاس ـ وإليهم تأوي الخطيئة، يردّون من شذَّ عنها فيها، ويسوقون من تأخَّر عنها إليها، يقول الله سبحانه: فبي حلفت، لأبعثنَّ على أولئك فتنةً أترك الحليم فيها حيران، وقد فعل ـ والإمام(ع) يقصد مرحلةً معيَّنةً، وهي فتنة معاوية وطلحة والزّبير والخوارج، وما إلى ذلك ـ ونحن نستقيل الله عثرة الغفلة"، أن لا يبتلينا بالغفلة عن ذكره ودينه ومراقبة حقِّه، لأنَّ ذلك يصيبنا بالعثرة الّتي تبعدنا عنه.
هذه كلمات النّور والحقّ والوعي. فتعالوا إلى عليّ(ع) نعيش معه، ونبقى معه، ونسير معه، فإنَّه مع الحقّ والحقّ معه، يدور معه حيثما دار.
الخطبة الثانية
عباد الله، اتّقوا الله وأطيعوه في كلِّ أموركم، فإنَّ التَّقوى هي الّتي تقودكم إلى رضوانه وجنّته، وطاعة الله تمتدّ إلى جميع نواحي الحياة؛ أن تطيعوه في أموركم الخاصَّة والعامَّة، في مواقفكم الاجتماعيَّة والسياسيَّة والأمنيَّة، لأنَّه ما من واقعةٍ إلا ولله فيها حكم. لذلك، علينا أن ندرس في كلِّ مسألةٍ ما هو أمر الله وما هو نهيه، وعلينا أن ندرس أوضاعنا، حتى نعرف ما يدور حولنا ومن حولنا، حتى لا نبتلي بتأييد ظالمٍ والسَّير مع مستكبر، ولا نبتلي بالحياد بين الظّالم والمظلوم، وبين الخير والشّرّ، فنحن في مرحلةٍ تشتبه فيها الأمور، وتشتبك فيها الأوضاع، ولا سيَّما أنَّ المستكبرين يريدون فرض حربٍ علينا، ولذلك، لا بدَّ لنا أن نعرف مواطئ أقدامنا. فماذا هناك؟
الانتفاضة.. مواصلة التحدِّي
لم تتوقَّف الانتفاضة بالرّغم من كلِّ الوحشيَّة الصّهيونيَّة الّتي تستخدم كلَّ الأسلحة الأميركيّة المتطوّرة في قتل الفلسطينيّين على مستوى خطَّة الإبادة، ولم يخضع المجاهدون من أبطال الانتفاضة للجنة "ميتشل"، أو لخطّة "تينيت"، لأنهم قرّروا ـ في الاستراتيجيّة الجهاديَّة من أجل التَّحرير ـ أن يواصلوا التحدّي ضدَّ الأمن الإسرائيليّ لإسقاطه، لفرض الحقّ الفلسطيني على الضَّمير العالميّ، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي وأميركا، ولكسر الحصار السّياسيّ الّذي أُريد له أن يطوِّق الانتفاضة تحت تأثير وقف إطلاق النّار، ويفشل مخطَّط الرئيس الأميركي ومناشدته لسلطة الحكم الذّاتيّ الهادفة إلى منع المجاهدين من اقتحام هذه المستوطنة أو تلك، أو القيام بعمليَّة استشهاديَّة هنا وهناك.
ومرّت السَّنة الأولى، ودخلت السّنة الثّانية للانتفاضة، ولم يتوقّف إطلاق النّار، لأنَّ أيّ توقّف للمسيرة الجهاديّة، يعني وقوف حركة التَّحرير.. ولم تجد اللّعبة الأميركيَّة بالدّعوة ـ من قِبَل الرّئيس الأمريكي ـ للدّولة الفلسطينيّة أيّ صدى إيجابيّ من قِبَل المجاهدين، لأنَّ هذه الدَّعوة لا تبتعد عن دعوة "شارون" لدولة فلسطينيّة على 42 في المائة من أراضي الضفة الغربية وغزة، من دون جيشٍ أو حدود، أو عودة للاجئين، أو إعادةٍ للقدس، ما يعني أنها دولة خاضعة لـ"دولة إسرائيل" شكلاً ومضموناً، بحيث تتحوَّل إلى سجنٍ كبيرٍ للفلسطينيين، يتمثَّل في جزر مقطَّعة الأوصال، محاصرة بالمستوطنات الصّهيونيَّة من كلِّ جانب.
المستقبل للمجاهدين
إنَّ أميركا لا تضغط على إسرائيل، بل تريد للفلسطينيّين أن يقبلوا بما تقدّمه إسرائيل، وإلا اعتبرتهم أميركا إرهابيّين، واعتبرت الإسرائيليّين في موقع الدّفاع عن النَّفس؟! ولذلك، فإنّنا ندعو الدّول العربيَّة ـ ومعها الدّول الإسلاميَّة ـ أن لا تسقط في أحبولة الخدعة الأميركيّة، والإيحاء بقيام دولة فلسطينيَّة محترمة في نطاق الحقّ الفلسطينيّ المشروع، لأنها سوف تكون دولةً لا لون لها ولا طعم ولا رائحة.. لو كان "بوش" جادّاً في مشروع الدّولة الفلسطينيَّة، لكان من واجبه أن يمنح الفلسطينيّين حجم القوّة الأميركيّة الّتي توازن حجم القوّة الإسرائيليَّة الموجَّهة ضدّ الحقّ الفلسطينيّ، لتحقيق التّوازن الّذي قد يمنح الفلسطينيّين القدرة على تقديم شروطهم الشّرعيَّة في ساحة المفاوضات، ولكنّ أميركا لا تفعل ذلك، لأنها تلتزم إسرائيل بالمطلق في كلِّ خطوطها السّياسيّة والأمنيّة والاقتصاديّة، لتكون الدّولة الأولى في المنطقة.
ولهذا، فإنَّ العرب والمسلمين أمام التحدّي الكبير، في المطالبة بالحقوق المشروعة للشَّعب الفلسطينيّ، بعيداً عن الدّخول في أيِّ تحالفٍ دوليّ مع أميركا، تحت أيّ شعاراتٍ غائمةٍ لا تحمل أيَّ شيءٍ من الوضوح.. وعلى الفلسطينيّين مواصلة الانتفاضة، والثّبات في مواقع التحدّي، لأنَّ المستقبل للمجاهدين في الشّعار القرآني: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ}، إمّا النَّصر أو الشَّهادة.
حرب أميركيّة لتطويع العالم
وتبقى الحرب الأميركيَّة على العالم كلّه لتطويعه، للخضوع لمخطّطاتها السياسيّة ولمصالحها الاقتصاديّة ولاستراتيجيّتها العسكريّة، في أكثر من وسيلةٍ تهديديَّة بالعقوبات الاقتصاديّة والأمنيّة، أو إغرائيّةٍ بالمساعدات ورفع العقوبات الاقتصاديّة عن هذه الدّولة أو تلك، وما إلى ذلك.
إنَّ أميركا تعمل للضَّغط على وزارات الدَّاخليَّة في كلِّ دولة، لتتحرّك هذه الدّول بقواها الأمنيَّة والمخابراتيَّة، لملاحقة كلِّ معارضٍ للسياسة الأميركيَّة، أو محاربٍ للاحتلال الإسرائيليّ، أو مؤيّدٍ للانتفاضة الفلسطينيّة، باسم "مكافحة الإرهاب"، ثم الضّغط على قوانين الدّول في مصادرة الحريات، والعمل على إخضاع التّشريعات الاقتصاديّة للخطّة الأميركيّة، وتحويل السّلطة القضائيّة إلى عنصرٍ تابع لها، للحكم على كلّ شخص أو منظّمة، ممن تطالهم الاتهامات الأميركيَّة، لتكون الأحكام خاضعةً للأدلّة الأميركيّة، حتى لو كانت غير مقنعة للقضاة، لأنَّ المطلوب ـ أميركيّاً ـ هو أن تمثّل الإدارة الأميركيَّة دور النائب العام والقاضي معاً، وما على الدّول إلا أن تصفّق للعدالة الأميركيّة "بلا حدود"، وهي التي لا تملك أيَّ ميزان للعدل.
إنَّ أميركا تمارس حرباً إعلاميَّة وسياسيَّة واقتصاديَّة وأمنيَّة وعسكريَّة في حجم العالم، لتكون بمثابة الحرب الكونيَّة المتعدِّدة الوسائل والأهداف.. ولا تزال تثير التَّهديد بضرب أفغانستان وشعبها الفقير الَّذي لا يملك أيّ قوّة ذاتيّة، إلا إيمانه وإرادته الحرب في مقاومة المحتلّ، وتتحدَّث أنَّ "الأفغان أوّلاً، وأنَّ هناك ستّين دولة على لائحة الاتهام، ولا بدَّ لهذه الدّول من أن ترتّب أوضاعها في هذا التّحالف الجديد، وإلا فلا تلومنّ إلا نفسها"، لأنَّ العصا الأميركيَّة الكونيَّة جاهزة للتدخّل!!
أميركا تخاف إسقاط جبروتها
إنَّ أميركا تتحرَّك من موقع الخوف من المستقبل الَّذي قد يُسقط جبرتها، ولذلك، فإنّها تحاول أن تحيط نفسها بهذا التّحالف الدّوليّ، لتحفظ أمنها واقتصادها وسياستها، حتى لو كان ذلك على حساب أمن الدّول الأخرى وسياستها واقتصادها.. إنّنا نقول لأميركا إنها ليست القضاء والقدر، وإنَّ العدالة الحقيقيَّة هي في إزالة أسباب الإرهاب والعنف في حياة الشَّعوب المستضعفة، لأنَّ ذلك ـ وحده ـ هو الَّذي يمنع الإرهاب، ويمنح الأمن للعالم المتحضِّر، أمَّا استعمال القوّة في طريقة عرض العضلات، فسوف يجتذب أكثر من ردِّ فعل للعنف، وسوف تتكاثر الأشباح الّتي تتجمَّع في الظّلام، ولن يسقط الإرهاب بحربٍ تُخاض ضدَّه على طريقة الإرهاب، بل سوف ينمو من خلال القهر والاضطهاد وآلام الشّعوب.
تحصين السَّاحة الدّاخليَّة
أمَّا في لبنان، فإنَّ المطلوب تحصين السَّاحة الدّاخليَّة، على المستوى السّياسيّ والاقتصاديّ، ولا سيّما في مواجهة التّهديدات الإسرائيليّة، والتّهاويل الإعلاميَّة الَّتي تثير في كلّ يوم حالةً جديدةً من التّخويف والتّهديد، ولا سيَّما في دعوة "شارون" لأميركا إدخال حركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي" في فلسطين، والمقاومة الإسلاميّة في لبنان، في تصنيف المنظَّمات الإرهابيَّة. والظاهر، أنَّ أمريكا قرَّرت ذلك منذ البداية، ولكنَّها أمام الإلحاح تؤخّر الحديث عن هذا الموضوع إلى وقتٍ آخر، بحسب ترتيب الأسماء، ريثما تسمح الظّروف إدراجها في "قائمتها الإرهابيَّة"، لتخويف من يُراد تخويفه، وإرباك من يُراد إرباكه.
ولكنَّ الصَّوت الإلهيَّ القرآنيَّ يبقى في عمق القوَّة وامتداد الحركة، وفي خطِّ الإيمان والتوكّل على الله، بعد استكمال الخطّة: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}.