"والديك فأطعهما وبرّهما حيّين كانا أو ميّتين"

"والديك فأطعهما وبرّهما حيّين كانا أو ميّتين"

لأن من رسالة الإسلام الرحمة لا العقوق
"والديك فأطعهما وبرّهما حيّين كانا أو ميّتين"


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أفٍ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً * واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربّ ارحمهما كما ربياني صغيراً}. ويقول الله سبحانه وتعالى أيضاً: {ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير * وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً واتبع سبيل من أناب إليّ} {ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً وحمله وفصاله ثلاثون شهراً}.

الإقرار بنعمة الله

وهكذا أيها الأحبة، لقد احتفل العالم منذ أيام بيوم الأم، ولم يفصل القرآن بين الأم والأب، وإن كان تحدث عن الأم بشكل أكبر في جانب المعاناة، وفي جانب الحق، {حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً} {حملته أمه وهناً على وهن}، ولكن الفكرة واحدة، وهي أن الإسلام يريد أن يؤكد في وجدان الإنسان إنسانيته في الاعتراف بنعمة الوالدين عليه، تماماً كما هو إحساسه بنعمة الله عليه، لأن أعظم نعمة عند الإنسان هي وجوده في هذه الحياة، لأن الإنسان عندما يخرج من العدم إلى الوجود فإنه يستعد ليصل إلى أعلى الدرجات في الدنيا والآخرة من خلال ما أعطاه الله من روح وعقل وإرادة وأعضاء وأجهزة في جسمه، وما سخر الله له من السموات والأرض، ومن كل ما فيهن، من أجل أن يكون الإنسان الذي ينمي عقله ليعطي الحياة من عقله عقلاً، ويربي قلبه ليعطي الحياة من قلبه المحبة، وينمي طاقاته من أجل أن يعطي الحياة من طاقاته ما تغتني به، حتى إذا فارق الدنيا ورحل جسده عنها بقيت طاقاته فيها.

ثم بعد ذلك إذا أدّى حق الله في نعمة الوجود وفي كل مفرداته، وحرك ما أعطاه الله كانت له الدار الآخرة حياة جديدة يعيش فيها في أفضل حالاته {ورضوان من الله أكبر}.

لذلك فإن قيمة الأبوين في البداية هي أن الله جعلهما السبب المباشر لوجود الإنسان، فالإنسان وجد بقدرة الله، ولكن كان الوالدان الوسيلة لإنجابه، وهكذا بدأت المعاناة في الأم عند النطفة (رحلة الوجود) {حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً}، ونحن نعرف جميعاً ما تعانيه الأم أثناء فترة الحمل، وكيف ترتبك أجهزة جسمها، وما تواجهه من خطر في الوضع وما تعانيه في إرضاعه، حيث يرضع من دمها الذي يتحول إلى لبن، ويعيش دفء الحياة في أحضانها ويتحسس الأمن والقوة في رعايتها، وما تعانيه في التربية وفي الحضانة، ويتحرك دور الأب في رعايته من خلال الجهد الذي يبذله في تحصيل شروط حياة الولد مما يجاهد فيه من أجل عائلته.

شكر الله من شكر الوالدين

ولذلك فإن الأبوين يعطيان لولدهما من حياتهما الكثير، ويبذلان جهدهما في الحياة من أجل أن يحيى أكثر ويقوى أكثر وينمو أكثر، وهما فرحان بكل هذه المعاناة، وبكل هذا التعب، يتطلعان إليه كيف ينمو بين أيديهما، وهما يتألمان، ولكنه الفرح في قلب الألم، ويتعبان، ولكنها الراحة في قلب التعب، ويضحيان ولكنه الغنى في قلب التضحية.

لذلك مهما تصورنا ما يقدمه الأبوان، الأم أولاً، والأب ثانياً للولد، فإنه لا يستطيع أن يقوم بجزء من هذا الحق. يقال أن شخصاً سأل النبي(ص) أنه أعطى أبويه كل جهده وكل طاقته، فرعاهما رعاية كأفضل ما تكون، فهل أدّى حقهما؟ قال له: لم تؤد حقهما بذلك، لأنهما خدماك وجاهدا في سبيلك وهما ينتظران حياتك وأنت تعطيهما وأنت تنتظر مماتهما، وهذا هو الفرق بينك وبينهما. إنك لن تستطيع أن تعوض أمك عن طلقة تصيبها عند الولادة، وعن كل ما تعيشه من آلام الحمل الذي يربك كل حياتها.

ولهذا أيها الأحبة، ربط الله شكر الوالدين بشكره {وأن اشكر لي ولوالديك}، لأن الإنسان إذا لم يتحسس النعمة في ما يقدمه الوالدان فإنه لا يعيش تحسس النعمة فيما يقدمه الله، لأن الله هو الذي هيأهما لك، وهو الذي جعل سر الحياة والنمو في النطفة وفي البويضة، وجعل سر النمو بعد ذلك {علقة ثم مضغة ثم عظاماً ثم كسونا العظام لحماً}.

الإحسان والبر بالوالدين

وقد تحدث النبي(ص) في أكثر من حديث مما نقله أئمتنا من أهل البيت سلام الله عليهم، وتحدث أئمتنا(ع) حول هذا الموضوع، تعالوا لنقرأ ما ورد عن الإمام الصادق(ع) في تفسير هذه الآيات، عن أبي ولاّد الحناط قال: سألت أبا عبد الله جعفر الصادق(ع): {وبالوالدين إحساناً}؟ ما هذا الإحسان؟ فقال: "الإحسان أن تحسن صحبتهما وأن لا تكلفهما أن يسألاك شيئاً مما يحتاجان إليه، وإن كانا مستغنيين ـ أرصد حاجة والديك مما يحبان أن يأكلاه أو يشرباه أو يلبساه أو يحصلا عليه فقدمه إليهما حتى لو كانا مستغنيين عن ذلك تعبيراً عن رعايتك لهما، وعن الإحسان إليهما ـ أليس الله يقول ـ ثم يستشهد الإمام(ع) في الآية ـ {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}، وقال {إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما }، قال: إن أضجراك ـ عندما يبلغ الأب أو الأم السبعين أو الثمانين سنة، فيسوء خلقهما من خلال السن، أو من خلال طبيعة المزاج، حيث قد يبتلى الإنسان بأبوين يملكان مزاجاً سيئاً في كثير من الحالات، وهونوع من البلاء الذي يجب على الإنسان أن يصبر عليه ـ فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما إن ضرباك " لأن الابن يبقى بتصور الأهل ولداً حتى ولو صار عمره خمسين سنة.

فقد يضرب الأب أو الأم الابن ولو كان شرعاً لا يجوز ذلك، فالإمام(ع) يقول: فلا تهرهما إذا ضرباك، وقل لهما قولاً كريماً، ويقول الإمام(ع):" إن ضرباك فقل لهما غفر الله لكما، فذلك منك قول كريم، قال واخفض لهما جناح الذل من الرحمة، قال: لا تمل عينيك بالنظر إليهما إلا برحمة ورقة، ولا ترفع صوتك فوق أصواتهما ولا يدك فوق أيديهما، ولا تقدم قدامهما"، إلا إذا كان هناك حاجة إلى ذلك.

وعن أبي عبد الله(ع) قال: "أدنى العقوق أف ولو علم الله شيئاً أهون منه لنهى عنه، ومن نظر إلى أبويه نظر ناقص لهما وهما ظالمان لم يقبل الله له صلاة".

وعن أبي عبد الله(ع) قال: "ما يمنع الرجل منكم أن يبر والديه حيين أو ميتين يصلي عليهما ـ الصلاة أو الصوم، حيث يفتي علماؤنا بأن يقضي الولد الأكبر ما فات والده، من صوم أو صلاة ـ ويتصدق عنهما ويحج عنهما ويصوم عنهما فيكون الذي صنع لهما له مثل ذلك فيزيده الله ببره وفي صلاته خيراً كثيراً". وهكذا ورد أن رجلاً أتى النبي(ص) فقال: أوصني، قال: "لا تشرك بالله شيئاً، وإن أحرقت بالنار وعُذبت إلا وقلبك مطمئن بالإيمان، ووالديك أطعهما وبرهما حيّين كانا أو ميّتين".

وعن معمر بلا خلاد قال، قلت لأبي الحسن الرضا(ع): أدعو لوالديّ إذا كانا لا يعرفان الحق؟ قال(ع): "ادع لهما وتصدّق عنهما، وإن كانا حيّين لا يعرفان الحق فدارهما، فإن رسول الله(ص) قال: إن الله بعثني بالرحمة لا بالعقوق"، حتى لو كان والدك أو والدتك على خلاف الحق، فإن عليك أن ترحمهما وأن تدعو لهما فإنك لو لم تفعل ذلك لكنت في وضع العاق.

وعن أبي جعفر الباقر(ع) قال: "ثلاث لن يجعل الله لأحد فيهن رخصة، أداء الأمانة إلى البر والفاجر، والوفاء بالعهد، وبرّ الوالدين برّين كانا أو فاجرين". وعن هشام بن سالم قال: جاء رجل إلى النبي(ص) فقال: يا رسول الله، من أبرّ؟ قال(ص): "أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال أباك". حيث هناك فرق شاسع بين الأمومة والأبوة، فالأبوة لا تكلف الأب شيئاً في جسده، أما الأمومة فهي تقلب حياة الأم رأساً على عقب، كما أن الجهد الذي تبذله الأم أكبر بكثير مما يبذله الأب.

وورد في الحديث عن أبي جعفر الباقر(ع) قال: قال موسى(ع): يا رب أوصني، قال: أوصيك بك أو بي ـ ثلاث مرات ـ ؟ بك: ـ أي بنفسك ـ حاول أن تربي نفسك وأن تخلص لها بأن تسيرها في خط الإيمان والتقوى، أو بي: أي أن تعيش لربك وأن تخلص له وتعرفه وتتقيه، وفي أن يجعل الإنسان نفسه في موقع القرب من الله، فهذه تحتاج إلى جهد واهتمام، لأنها تمثل المصير بالنسبة له، كذلك المعرفة بالله فإنها تمثل قضية المصير، فكلما كان إلى الله أقرب كان في سعادة أكبر ـ قال: رب أوصني، قال: أوصيك بأمك مرتين، قال: يا رب أوصني: قال: أوصيك بأبيك. والإمام(ع) ـ يعلق ـ فكان لأجل ذلك يقال إن للأم ثلثي البر وللأب الثلث.

وفي الكافي جاء عن جابر: "أتى رجل إلى رسول الله، فقال: إني رجل شاب نشيط وأحب الجهاد، ولي والدة تكره ذلك، فقال له النبي(ص): ارجع فكن مع والدتك، فوالذي بعثني بالحق نبياً لأنسها بك ليلة خير من جهادك في سبيل الله سنة". وهذا في غير الحالات التي يكون فيها الجهاد ضرورة تحتاج إليه الأمة.

التمثل بأخلاق الإسلام

وهكذا في قصة حصلت للإمام الصادق(ع) مع أحد أصحابه من النصارى، وهو زكريا بن إبراهيم، الذي نقل عنه أنه قال: كنت نصرانياً فأسلمت وحججت، فدخلت على أبي عبد الله(ع) فقلت: إني كنت على النصرانية وإني أسلمت، قال(ع): وأي شيء رأيت في الإسلام؟ قلت: قول الله {ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء} لقد دخل هذا النور في قلبي من خلال ما قرأته عن الإسلام ووعيته، فقال الإمام(ع): لقد هداك الله، اللهم اهده، اللهم اهده، اللهم اهده، سل عما شئت يا بنيّ، فقلت: إن أبي وأمي على النصرانية وأهل بيتي، وأمي مكفوفة البصر، فأكون معهم وآكل من آنيتهم، قال(ع): يأكلون لحم الخنـزير؟ فقلت: لا، ولا يمسونه، قال: لا بأس، فانظر أمك فبرها، وإذا ماتت فلا تكلها إلى غيرك، ولا تخبرن أحداً أنك أتيتني حتى تأتيني بمنى إن شاء الله، قال: فأتيته بمنى والناس حوله كأنه معلم صبيان، وهذايسأله وهذا يسأله، فلما قدمت الكوفة ألطفت لأمي، وكنت أطعمها وأفلي ثوبها ـ من القمل ـ ورأسها وأخدمها، فقالت: يا بني ما كنت تصنع هذا وأنت على ديني، فما الذي أرى منك منذ هاجرت فدخلت في الحنيفية ـ بالإسلام ـ، فقلت: رجل من ولد نبينا أمرني بهذا، فقالت يا بني إن هذا نبي، إن هذه وصايا الأنبياء، قلت: يا أمّه لن يكون بعد نبينا نبي، ولكنه ابنه، فقالت: يا بني دينك خير دين، اعرضه عليّ، فعرضته عليها، فدخلت في الإسلام وعلمتها، فصلّت الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة، ثم عرض لها عارض في الليل، فقالت يا بني أعد عليّ ما علمتني، فأعدته عليها، فأقرت به وماتت، فلما أصبحت كان المسلمون الذين غسلوها وكنت أنا الذي صليت عليها ونزلت في قبرها.

  نستفيد من هذه القصة بعدة نقاط، فالنقطة الأولى هي ما ذكرناه من أن على الإنسان أن يبر والديه بأفضل ألوان البر حتى لو لم يكونا مسلمين. والنقطة الثانية: أن على المسلم أن يتمثل أخلاق الإسلام بأفضل ما يكون، فإن هذا هو أفضل دعاية للدخول في الإسلام، حيث هز الجانب الأخلاقي الروحي لهذه المرأة كل كيانها وتبدى لها الإسلام الدين الذي يفتح الإنسان على إنسانيته في أخلاقه حتى مع اختلاف الدين، وبذلك جذبها للإسلام من دون أن يدعوها إليه، وهذا ما دعا إليه الإمام الصادق(ع): "كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم ليروا منكم الصدق والخير والورع، فإن ذلك داعية". فكلما كنت صادقاً أكثر كلما كنت خيراً أكثر، وكنت ورعاً أكثر كلما جذبت الناس إلى دينك أكثر.

وهذا ما يحتاجه الذين يعيشون في المجتمعات الأخرى التي تختلف عن ديننا وخصوصاً في المغتربات، أن يكونوا الأمناء الصادقين الورعين الخيّرين الذين يحفظون أمن الناس وحياتهم هناك، فإن ذلك يعطي الصورة المشرقة عن الإسلام بدلاً من الذين يعطون الصورة المظلمة عنه.

أيها الأحبة، هذه هي أخلاق الإسلام، وهذا هو تراث الأئمة من أهل البيت(ع)، فإذا كنتم تريدون السير في خط محمد(ص) والأئمة الهداة من أهل بيته، فإن هذا الخط هو خط الأخلاق وخط الإنسانية في جميع مجالات الحياة.

 

الخطبة الثانيـة

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله، اتقوا الله، وكونوا المسلمين الذين يجسدون الإسلام حقاً في عقولهم وحباً في قلوبهم، وخيراً وعدلاً في سلوكهم في الحياة، كونوا المسلمين الذين يحملون مسؤولية الإسلام ليكونوا الدعاة إلى الله، والأدلاء عليه، فقد كان رسول الله(ص) والأئمة الهداة من أهل بيته الدعاة إلى الله والأدلاء كأفضل ما تكون الدعوة، وكانوا المجاهدين في سبيل الله في أحوالهم وأفعالهم كأفضل ما يكون الجهاد، كونوا المسلمين الذين يتحملون المسؤولية، فلا يفكر الإنسان بنفسه فقط، أو بعائلته، بل يفكر بأمته في كل ما يستطيع أن يقدمه للأمة مهما كان ذلك قليلاً أو صغيراً، لأن الأمة إذا تحركت على أساس أن يقدم كل واحد منا فكره في حاجات الفكر، وعاطفته في حاجات العاطفة أو طاقته في حاجات الطاقة، وموقفه في حاجات الموقف، فإننا نستطيع أن نحصل على قوة كبيرة تلتقي بها العقول والقلوب والطاقات والمواقف، لا سيما عندما نواجه التحديات الكبرى على كل المستويات من المستكبرين ومن الكافرين في تحالف غير مقدس، فعلينا أن نعمل على أن يكون المسلم حلف المسلم وأخاه، لنواجه التحديات بموقف واحد، تعالوا لنعرف ما نعيشه من مشاكل وتحديات من خلال الاستكبار الصهيوني والعالمي:

الانتفاضة.. مأزق العدوّ

مع اقتراب نهاية الشهر السادس للانتفاضة تدخل القضية الفلسطينية في مرحلة جديدة في نطاق الغزل الأمريكي ـ الإسرائيلي من جهة، تجديداً للتحالف الاستراتيجي الذي يهدف إلى تثبيت الكيان الصهيوني ودعم قوته العسكرية الضاربة وتقوية أمنه السياسي والعسكري ضد أمن الفلسطينيين والمنطقة كلها والذي يتزامن مع بعض الكلمات الاستهلاكية في تخفيف الحصار الاقتصادي والأمني على الفلسطينيين والاستنكار الخجول على الاستيطان في القدس من جهة أخرى، ثم الضغط على الأنظمة العربية سياسياً لإصدار قرارات معتدلة لمصلحة "شارون" وإثارة الخلافات العربية لا سيما في مسألة الحصار على العراق وعلاقاته مع الدول العربية، ما يجعل القضية الفلسطينية تفقد قوتها في القمة.

وفي هذا الإطار يأتي الضغط الصهيوني العسكري والاقتصادي على الفلسطينيين للتخفيف من ضغط الانتفاضة، وذلك من خلال التهويل بالقبضة الحديدية الوحشية للجزار "شارون"، وهو ما يتطلب من الشعب الفلسطيني الذي يقود الانتفاضة أن يتابع انتفاضته وجهاده ولا يخضع لأيّ تهويل أو تخويف، فقد اكتشف هذا الشعب المجاهد عناصر قوته وضعف العدو كما عرف جيداً مكامن الضعف الصهيوني ليضربها بمواقع قوته، لأن العدو قد دخل في أكثر من مأزق داخلي وخارجي بسبب الانتفاضة، وعلى أبطالها أن يوسعوا مأزقه وأن يعرفوا أن أية قوة داخلية أو خارجية ـ بما في ذلك أمريكاً ـ لا تملك إسقاط الشعب الذي يجاهد من أجل حريته واستقلاله مهما تحدث إعلام الاستكبار عن الجهاد الفلسطيني بالعنف والإرهاب.

الانتفاضة.. فرصة الأمة

إن مما يبعث على السخرية أن يتحدث شارون عن رفض الإرهاب ـ وهو الإرهابي الأول ـ وتتحدث أمريكا ـ لمصلحته ـ عن رفض العنف الفلسطيني من دون أن تتحدث عن العنف الإسرائيلي الذي يمثل الاحتلال أعلى مظاهره بالإضافة إلى إمعانه في التدمير وجرف الأراضي وبناء المستوطنات وقطع الأشجار وقتل الأطفال والنساء والشيوخ وقصف المدنيين وأمثال ذلك مما تمارسه إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني.

من هنا فإن على الشعوب العربية والإسلامية أن تعبر عن تأييدها للانتفاضة في يوم انعقاد القمة العربية لإيصال الصوت العربي والإسلامي القوي الصافي للمؤتمرين فيه، ليعرفوا أن الأمة لا تسمح بإسقاط الحركة الجهادية في فلسطين أو إضعافها، لأنها الفرصة التي لن تتكرر، وهي فرصة للعرب والمسلمين في الصراع الشامل مع العدو الصهيوني، وهذا ما لاحظناه في حديث شارون مع الرئيس الأمريكي حيث هاجم مصر وإيران وسوريا ولبنان طالباً من أمريكا تحديد موقفها من هذه الدول لمصلحة إسرائيل باعتبار ذلك مصلحة لأمريكا في مواجهة الإرهاب.

الوحدة والمقاومة.. السبيل إلى جبه التحدي

ومن جانب آخر، فإننا نتابع الضجة التي تثيرها إسرائيل حول استفادة لبنان من مياهه والتهديد بالتدخل العسكري لمنعه من ذلك، كما لو كان لها الحق في مياه لبنان، ونريد للمسؤولين والشعب اللبناني كله أن يواجه هذا الأسلوب الجديد بكل الوسائل بما في ذلك ردّ القوة بالقوة من خلال الجيش اللبناني والمقاومة، لأن القضية ترتبط بالمصالح الحيوية للبنان، ناهيك عن استمرار العدو في احتلال مزارع شبعا واعتقال الأسرى وسرقة مياه لبنان.

وبهذه المناسبة، فلا بد للبنانيين الذين حققوا الانتصار التاريخي على العدو الإسرائيلي بفضل المقاومة البطلة وبالوحدة الوطنية الشاملة أن يحافظوا على هذه الوحدة في القضايا المصيرية التي يلتقون عليها، وأن يدخلوا في حوار موضوعي هادئ بروح مسؤولة حول القضايا التي يختلفون عليها، وأن لا تتحرك الأساليب السلبية التي توحي بالانقسام الطائفي أو تتحدث بلغة الحرب وذهنية التقسيم، لأن ذلك لن يحقق للأهداف الكبرى شيئاً، بل إنه يدفع الشباب اللبناني إلى اليأس والهجرة إلى بلاد أخرى يجد فيها الأمن والاستقرار والعيش الكريم. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن علينا أن نواكب الحركة السياسية والاقتصادية في حل المشكلة الاقتصادية أو التخفيف منها من أجل أن يقدم الجميع تجربتهم ودراساتهم لإنجاحها، لأنه لن يكون نجاحاً لحكومة دون أخرى بل للوطن كله.

إن علينا أن نتجاوز المرحلة التي كان الناس يحسبون فيها النقاط على بعضهم البعض إلى مرحلة نعمل فيها على تجميع النقاط كلها لمصلحة البلد كله من موقع المسؤولية الشاملة للناس كلهم، لأن القضية هي أن يبقى لبنان أو ينهار وما قيمة السياسة ومواقعها إذا حلت الكارثة تحت تأثير الإفلاس الاقتصادي والانهيار الشامل؟‍‍‍‍

إعادة رسم السياسة الخارجية

وختاماً، إننا أمام مأساة شبابنا وأهلنا في الكونغو نحب أن نركز على نقطتين:

الأولى: موجهة إلى الدولة اللبنانية لوضع خطة جديدة واقعية لتأكيد وتقوية العلاقات بالدول الإفريقية التي يسكنها المغتربون اللبنانيون، بحيث تكون العلاقات في أعلى مستوى لأنها تتصل بموقع لبنان في العالم من حيث قوته الديبلوماسية، وبرعاية المغتربين من خلال توظيف العلاقات بهذه الدول لحل مشاكلهم وتقوية مواقعهم هناك، ثم العمل على اختيار السفراء الذي يشعرون بالمسؤولية تجاه اللبنانيين في علاقتهم بالدولة وبالقضايا الحيوية المتصلة بالمغتربين بالذات، بحيث يمثل السفير لبنان كله في حركته هنا وهناك. الثانية: موجهة إلى إخواننا وأبنائنا في الكونغو وفي بلاد الاغتراب الإفريقي بالذات، أن يعملوا على تأكيد وحدتهم بعيداً عن الخلافات الطائفية والحزبية، وإبعاد كل الذين يسيئون إلى هذه الوحدة بإثارة الخلافات الهامشية من أي جانب وبتحريك أطماعه الذاتية للإساءة إلى أوضاع المغتربين. هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن يحافظوا على أمن البلد الذي يعيشون فيه ولا يتدخلوا في شؤونه الأمنية والسياسية وأن يكونوا عنصر خير وتعاون وسلام، لا سيما أن أفريقيا تعيش في صراعات متحركة تترك تأثيراتها على الواقع كله مما لا يملك فيه أيّ شخص وضوح الرؤية للمستقبل في اتجاه الأحداث، وأن يراقبوا الخطة الإسرائيلية التي تعمل على إرباك الاغتراب اللبناني الناجح.

إن علينا أن نأخذ العبرة من هذه الفاجعة المروعة التي حدثت لشبابنا الأعزاء بفعل الفوضى، وأن نكون عيناً واحدة واعية تحدّق بالواقع كله لتتفادى أية حالة للفوضى والإرباك.

لأن من رسالة الإسلام الرحمة لا العقوق
"والديك فأطعهما وبرّهما حيّين كانا أو ميّتين"


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أفٍ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً * واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربّ ارحمهما كما ربياني صغيراً}. ويقول الله سبحانه وتعالى أيضاً: {ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير * وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً واتبع سبيل من أناب إليّ} {ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً وحمله وفصاله ثلاثون شهراً}.

الإقرار بنعمة الله

وهكذا أيها الأحبة، لقد احتفل العالم منذ أيام بيوم الأم، ولم يفصل القرآن بين الأم والأب، وإن كان تحدث عن الأم بشكل أكبر في جانب المعاناة، وفي جانب الحق، {حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً} {حملته أمه وهناً على وهن}، ولكن الفكرة واحدة، وهي أن الإسلام يريد أن يؤكد في وجدان الإنسان إنسانيته في الاعتراف بنعمة الوالدين عليه، تماماً كما هو إحساسه بنعمة الله عليه، لأن أعظم نعمة عند الإنسان هي وجوده في هذه الحياة، لأن الإنسان عندما يخرج من العدم إلى الوجود فإنه يستعد ليصل إلى أعلى الدرجات في الدنيا والآخرة من خلال ما أعطاه الله من روح وعقل وإرادة وأعضاء وأجهزة في جسمه، وما سخر الله له من السموات والأرض، ومن كل ما فيهن، من أجل أن يكون الإنسان الذي ينمي عقله ليعطي الحياة من عقله عقلاً، ويربي قلبه ليعطي الحياة من قلبه المحبة، وينمي طاقاته من أجل أن يعطي الحياة من طاقاته ما تغتني به، حتى إذا فارق الدنيا ورحل جسده عنها بقيت طاقاته فيها.

ثم بعد ذلك إذا أدّى حق الله في نعمة الوجود وفي كل مفرداته، وحرك ما أعطاه الله كانت له الدار الآخرة حياة جديدة يعيش فيها في أفضل حالاته {ورضوان من الله أكبر}.

لذلك فإن قيمة الأبوين في البداية هي أن الله جعلهما السبب المباشر لوجود الإنسان، فالإنسان وجد بقدرة الله، ولكن كان الوالدان الوسيلة لإنجابه، وهكذا بدأت المعاناة في الأم عند النطفة (رحلة الوجود) {حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً}، ونحن نعرف جميعاً ما تعانيه الأم أثناء فترة الحمل، وكيف ترتبك أجهزة جسمها، وما تواجهه من خطر في الوضع وما تعانيه في إرضاعه، حيث يرضع من دمها الذي يتحول إلى لبن، ويعيش دفء الحياة في أحضانها ويتحسس الأمن والقوة في رعايتها، وما تعانيه في التربية وفي الحضانة، ويتحرك دور الأب في رعايته من خلال الجهد الذي يبذله في تحصيل شروط حياة الولد مما يجاهد فيه من أجل عائلته.

شكر الله من شكر الوالدين

ولذلك فإن الأبوين يعطيان لولدهما من حياتهما الكثير، ويبذلان جهدهما في الحياة من أجل أن يحيى أكثر ويقوى أكثر وينمو أكثر، وهما فرحان بكل هذه المعاناة، وبكل هذا التعب، يتطلعان إليه كيف ينمو بين أيديهما، وهما يتألمان، ولكنه الفرح في قلب الألم، ويتعبان، ولكنها الراحة في قلب التعب، ويضحيان ولكنه الغنى في قلب التضحية.

لذلك مهما تصورنا ما يقدمه الأبوان، الأم أولاً، والأب ثانياً للولد، فإنه لا يستطيع أن يقوم بجزء من هذا الحق. يقال أن شخصاً سأل النبي(ص) أنه أعطى أبويه كل جهده وكل طاقته، فرعاهما رعاية كأفضل ما تكون، فهل أدّى حقهما؟ قال له: لم تؤد حقهما بذلك، لأنهما خدماك وجاهدا في سبيلك وهما ينتظران حياتك وأنت تعطيهما وأنت تنتظر مماتهما، وهذا هو الفرق بينك وبينهما. إنك لن تستطيع أن تعوض أمك عن طلقة تصيبها عند الولادة، وعن كل ما تعيشه من آلام الحمل الذي يربك كل حياتها.

ولهذا أيها الأحبة، ربط الله شكر الوالدين بشكره {وأن اشكر لي ولوالديك}، لأن الإنسان إذا لم يتحسس النعمة في ما يقدمه الوالدان فإنه لا يعيش تحسس النعمة فيما يقدمه الله، لأن الله هو الذي هيأهما لك، وهو الذي جعل سر الحياة والنمو في النطفة وفي البويضة، وجعل سر النمو بعد ذلك {علقة ثم مضغة ثم عظاماً ثم كسونا العظام لحماً}.

الإحسان والبر بالوالدين

وقد تحدث النبي(ص) في أكثر من حديث مما نقله أئمتنا من أهل البيت سلام الله عليهم، وتحدث أئمتنا(ع) حول هذا الموضوع، تعالوا لنقرأ ما ورد عن الإمام الصادق(ع) في تفسير هذه الآيات، عن أبي ولاّد الحناط قال: سألت أبا عبد الله جعفر الصادق(ع): {وبالوالدين إحساناً}؟ ما هذا الإحسان؟ فقال: "الإحسان أن تحسن صحبتهما وأن لا تكلفهما أن يسألاك شيئاً مما يحتاجان إليه، وإن كانا مستغنيين ـ أرصد حاجة والديك مما يحبان أن يأكلاه أو يشرباه أو يلبساه أو يحصلا عليه فقدمه إليهما حتى لو كانا مستغنيين عن ذلك تعبيراً عن رعايتك لهما، وعن الإحسان إليهما ـ أليس الله يقول ـ ثم يستشهد الإمام(ع) في الآية ـ {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}، وقال {إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما }، قال: إن أضجراك ـ عندما يبلغ الأب أو الأم السبعين أو الثمانين سنة، فيسوء خلقهما من خلال السن، أو من خلال طبيعة المزاج، حيث قد يبتلى الإنسان بأبوين يملكان مزاجاً سيئاً في كثير من الحالات، وهونوع من البلاء الذي يجب على الإنسان أن يصبر عليه ـ فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما إن ضرباك " لأن الابن يبقى بتصور الأهل ولداً حتى ولو صار عمره خمسين سنة.

فقد يضرب الأب أو الأم الابن ولو كان شرعاً لا يجوز ذلك، فالإمام(ع) يقول: فلا تهرهما إذا ضرباك، وقل لهما قولاً كريماً، ويقول الإمام(ع):" إن ضرباك فقل لهما غفر الله لكما، فذلك منك قول كريم، قال واخفض لهما جناح الذل من الرحمة، قال: لا تمل عينيك بالنظر إليهما إلا برحمة ورقة، ولا ترفع صوتك فوق أصواتهما ولا يدك فوق أيديهما، ولا تقدم قدامهما"، إلا إذا كان هناك حاجة إلى ذلك.

وعن أبي عبد الله(ع) قال: "أدنى العقوق أف ولو علم الله شيئاً أهون منه لنهى عنه، ومن نظر إلى أبويه نظر ناقص لهما وهما ظالمان لم يقبل الله له صلاة".

وعن أبي عبد الله(ع) قال: "ما يمنع الرجل منكم أن يبر والديه حيين أو ميتين يصلي عليهما ـ الصلاة أو الصوم، حيث يفتي علماؤنا بأن يقضي الولد الأكبر ما فات والده، من صوم أو صلاة ـ ويتصدق عنهما ويحج عنهما ويصوم عنهما فيكون الذي صنع لهما له مثل ذلك فيزيده الله ببره وفي صلاته خيراً كثيراً". وهكذا ورد أن رجلاً أتى النبي(ص) فقال: أوصني، قال: "لا تشرك بالله شيئاً، وإن أحرقت بالنار وعُذبت إلا وقلبك مطمئن بالإيمان، ووالديك أطعهما وبرهما حيّين كانا أو ميّتين".

وعن معمر بلا خلاد قال، قلت لأبي الحسن الرضا(ع): أدعو لوالديّ إذا كانا لا يعرفان الحق؟ قال(ع): "ادع لهما وتصدّق عنهما، وإن كانا حيّين لا يعرفان الحق فدارهما، فإن رسول الله(ص) قال: إن الله بعثني بالرحمة لا بالعقوق"، حتى لو كان والدك أو والدتك على خلاف الحق، فإن عليك أن ترحمهما وأن تدعو لهما فإنك لو لم تفعل ذلك لكنت في وضع العاق.

وعن أبي جعفر الباقر(ع) قال: "ثلاث لن يجعل الله لأحد فيهن رخصة، أداء الأمانة إلى البر والفاجر، والوفاء بالعهد، وبرّ الوالدين برّين كانا أو فاجرين". وعن هشام بن سالم قال: جاء رجل إلى النبي(ص) فقال: يا رسول الله، من أبرّ؟ قال(ص): "أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال أباك". حيث هناك فرق شاسع بين الأمومة والأبوة، فالأبوة لا تكلف الأب شيئاً في جسده، أما الأمومة فهي تقلب حياة الأم رأساً على عقب، كما أن الجهد الذي تبذله الأم أكبر بكثير مما يبذله الأب.

وورد في الحديث عن أبي جعفر الباقر(ع) قال: قال موسى(ع): يا رب أوصني، قال: أوصيك بك أو بي ـ ثلاث مرات ـ ؟ بك: ـ أي بنفسك ـ حاول أن تربي نفسك وأن تخلص لها بأن تسيرها في خط الإيمان والتقوى، أو بي: أي أن تعيش لربك وأن تخلص له وتعرفه وتتقيه، وفي أن يجعل الإنسان نفسه في موقع القرب من الله، فهذه تحتاج إلى جهد واهتمام، لأنها تمثل المصير بالنسبة له، كذلك المعرفة بالله فإنها تمثل قضية المصير، فكلما كان إلى الله أقرب كان في سعادة أكبر ـ قال: رب أوصني، قال: أوصيك بأمك مرتين، قال: يا رب أوصني: قال: أوصيك بأبيك. والإمام(ع) ـ يعلق ـ فكان لأجل ذلك يقال إن للأم ثلثي البر وللأب الثلث.

وفي الكافي جاء عن جابر: "أتى رجل إلى رسول الله، فقال: إني رجل شاب نشيط وأحب الجهاد، ولي والدة تكره ذلك، فقال له النبي(ص): ارجع فكن مع والدتك، فوالذي بعثني بالحق نبياً لأنسها بك ليلة خير من جهادك في سبيل الله سنة". وهذا في غير الحالات التي يكون فيها الجهاد ضرورة تحتاج إليه الأمة.

التمثل بأخلاق الإسلام

وهكذا في قصة حصلت للإمام الصادق(ع) مع أحد أصحابه من النصارى، وهو زكريا بن إبراهيم، الذي نقل عنه أنه قال: كنت نصرانياً فأسلمت وحججت، فدخلت على أبي عبد الله(ع) فقلت: إني كنت على النصرانية وإني أسلمت، قال(ع): وأي شيء رأيت في الإسلام؟ قلت: قول الله {ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء} لقد دخل هذا النور في قلبي من خلال ما قرأته عن الإسلام ووعيته، فقال الإمام(ع): لقد هداك الله، اللهم اهده، اللهم اهده، اللهم اهده، سل عما شئت يا بنيّ، فقلت: إن أبي وأمي على النصرانية وأهل بيتي، وأمي مكفوفة البصر، فأكون معهم وآكل من آنيتهم، قال(ع): يأكلون لحم الخنـزير؟ فقلت: لا، ولا يمسونه، قال: لا بأس، فانظر أمك فبرها، وإذا ماتت فلا تكلها إلى غيرك، ولا تخبرن أحداً أنك أتيتني حتى تأتيني بمنى إن شاء الله، قال: فأتيته بمنى والناس حوله كأنه معلم صبيان، وهذايسأله وهذا يسأله، فلما قدمت الكوفة ألطفت لأمي، وكنت أطعمها وأفلي ثوبها ـ من القمل ـ ورأسها وأخدمها، فقالت: يا بني ما كنت تصنع هذا وأنت على ديني، فما الذي أرى منك منذ هاجرت فدخلت في الحنيفية ـ بالإسلام ـ، فقلت: رجل من ولد نبينا أمرني بهذا، فقالت يا بني إن هذا نبي، إن هذه وصايا الأنبياء، قلت: يا أمّه لن يكون بعد نبينا نبي، ولكنه ابنه، فقالت: يا بني دينك خير دين، اعرضه عليّ، فعرضته عليها، فدخلت في الإسلام وعلمتها، فصلّت الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة، ثم عرض لها عارض في الليل، فقالت يا بني أعد عليّ ما علمتني، فأعدته عليها، فأقرت به وماتت، فلما أصبحت كان المسلمون الذين غسلوها وكنت أنا الذي صليت عليها ونزلت في قبرها.

  نستفيد من هذه القصة بعدة نقاط، فالنقطة الأولى هي ما ذكرناه من أن على الإنسان أن يبر والديه بأفضل ألوان البر حتى لو لم يكونا مسلمين. والنقطة الثانية: أن على المسلم أن يتمثل أخلاق الإسلام بأفضل ما يكون، فإن هذا هو أفضل دعاية للدخول في الإسلام، حيث هز الجانب الأخلاقي الروحي لهذه المرأة كل كيانها وتبدى لها الإسلام الدين الذي يفتح الإنسان على إنسانيته في أخلاقه حتى مع اختلاف الدين، وبذلك جذبها للإسلام من دون أن يدعوها إليه، وهذا ما دعا إليه الإمام الصادق(ع): "كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم ليروا منكم الصدق والخير والورع، فإن ذلك داعية". فكلما كنت صادقاً أكثر كلما كنت خيراً أكثر، وكنت ورعاً أكثر كلما جذبت الناس إلى دينك أكثر.

وهذا ما يحتاجه الذين يعيشون في المجتمعات الأخرى التي تختلف عن ديننا وخصوصاً في المغتربات، أن يكونوا الأمناء الصادقين الورعين الخيّرين الذين يحفظون أمن الناس وحياتهم هناك، فإن ذلك يعطي الصورة المشرقة عن الإسلام بدلاً من الذين يعطون الصورة المظلمة عنه.

أيها الأحبة، هذه هي أخلاق الإسلام، وهذا هو تراث الأئمة من أهل البيت(ع)، فإذا كنتم تريدون السير في خط محمد(ص) والأئمة الهداة من أهل بيته، فإن هذا الخط هو خط الأخلاق وخط الإنسانية في جميع مجالات الحياة.

 

الخطبة الثانيـة

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله، اتقوا الله، وكونوا المسلمين الذين يجسدون الإسلام حقاً في عقولهم وحباً في قلوبهم، وخيراً وعدلاً في سلوكهم في الحياة، كونوا المسلمين الذين يحملون مسؤولية الإسلام ليكونوا الدعاة إلى الله، والأدلاء عليه، فقد كان رسول الله(ص) والأئمة الهداة من أهل بيته الدعاة إلى الله والأدلاء كأفضل ما تكون الدعوة، وكانوا المجاهدين في سبيل الله في أحوالهم وأفعالهم كأفضل ما يكون الجهاد، كونوا المسلمين الذين يتحملون المسؤولية، فلا يفكر الإنسان بنفسه فقط، أو بعائلته، بل يفكر بأمته في كل ما يستطيع أن يقدمه للأمة مهما كان ذلك قليلاً أو صغيراً، لأن الأمة إذا تحركت على أساس أن يقدم كل واحد منا فكره في حاجات الفكر، وعاطفته في حاجات العاطفة أو طاقته في حاجات الطاقة، وموقفه في حاجات الموقف، فإننا نستطيع أن نحصل على قوة كبيرة تلتقي بها العقول والقلوب والطاقات والمواقف، لا سيما عندما نواجه التحديات الكبرى على كل المستويات من المستكبرين ومن الكافرين في تحالف غير مقدس، فعلينا أن نعمل على أن يكون المسلم حلف المسلم وأخاه، لنواجه التحديات بموقف واحد، تعالوا لنعرف ما نعيشه من مشاكل وتحديات من خلال الاستكبار الصهيوني والعالمي:

الانتفاضة.. مأزق العدوّ

مع اقتراب نهاية الشهر السادس للانتفاضة تدخل القضية الفلسطينية في مرحلة جديدة في نطاق الغزل الأمريكي ـ الإسرائيلي من جهة، تجديداً للتحالف الاستراتيجي الذي يهدف إلى تثبيت الكيان الصهيوني ودعم قوته العسكرية الضاربة وتقوية أمنه السياسي والعسكري ضد أمن الفلسطينيين والمنطقة كلها والذي يتزامن مع بعض الكلمات الاستهلاكية في تخفيف الحصار الاقتصادي والأمني على الفلسطينيين والاستنكار الخجول على الاستيطان في القدس من جهة أخرى، ثم الضغط على الأنظمة العربية سياسياً لإصدار قرارات معتدلة لمصلحة "شارون" وإثارة الخلافات العربية لا سيما في مسألة الحصار على العراق وعلاقاته مع الدول العربية، ما يجعل القضية الفلسطينية تفقد قوتها في القمة.

وفي هذا الإطار يأتي الضغط الصهيوني العسكري والاقتصادي على الفلسطينيين للتخفيف من ضغط الانتفاضة، وذلك من خلال التهويل بالقبضة الحديدية الوحشية للجزار "شارون"، وهو ما يتطلب من الشعب الفلسطيني الذي يقود الانتفاضة أن يتابع انتفاضته وجهاده ولا يخضع لأيّ تهويل أو تخويف، فقد اكتشف هذا الشعب المجاهد عناصر قوته وضعف العدو كما عرف جيداً مكامن الضعف الصهيوني ليضربها بمواقع قوته، لأن العدو قد دخل في أكثر من مأزق داخلي وخارجي بسبب الانتفاضة، وعلى أبطالها أن يوسعوا مأزقه وأن يعرفوا أن أية قوة داخلية أو خارجية ـ بما في ذلك أمريكاً ـ لا تملك إسقاط الشعب الذي يجاهد من أجل حريته واستقلاله مهما تحدث إعلام الاستكبار عن الجهاد الفلسطيني بالعنف والإرهاب.

الانتفاضة.. فرصة الأمة

إن مما يبعث على السخرية أن يتحدث شارون عن رفض الإرهاب ـ وهو الإرهابي الأول ـ وتتحدث أمريكا ـ لمصلحته ـ عن رفض العنف الفلسطيني من دون أن تتحدث عن العنف الإسرائيلي الذي يمثل الاحتلال أعلى مظاهره بالإضافة إلى إمعانه في التدمير وجرف الأراضي وبناء المستوطنات وقطع الأشجار وقتل الأطفال والنساء والشيوخ وقصف المدنيين وأمثال ذلك مما تمارسه إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني.

من هنا فإن على الشعوب العربية والإسلامية أن تعبر عن تأييدها للانتفاضة في يوم انعقاد القمة العربية لإيصال الصوت العربي والإسلامي القوي الصافي للمؤتمرين فيه، ليعرفوا أن الأمة لا تسمح بإسقاط الحركة الجهادية في فلسطين أو إضعافها، لأنها الفرصة التي لن تتكرر، وهي فرصة للعرب والمسلمين في الصراع الشامل مع العدو الصهيوني، وهذا ما لاحظناه في حديث شارون مع الرئيس الأمريكي حيث هاجم مصر وإيران وسوريا ولبنان طالباً من أمريكا تحديد موقفها من هذه الدول لمصلحة إسرائيل باعتبار ذلك مصلحة لأمريكا في مواجهة الإرهاب.

الوحدة والمقاومة.. السبيل إلى جبه التحدي

ومن جانب آخر، فإننا نتابع الضجة التي تثيرها إسرائيل حول استفادة لبنان من مياهه والتهديد بالتدخل العسكري لمنعه من ذلك، كما لو كان لها الحق في مياه لبنان، ونريد للمسؤولين والشعب اللبناني كله أن يواجه هذا الأسلوب الجديد بكل الوسائل بما في ذلك ردّ القوة بالقوة من خلال الجيش اللبناني والمقاومة، لأن القضية ترتبط بالمصالح الحيوية للبنان، ناهيك عن استمرار العدو في احتلال مزارع شبعا واعتقال الأسرى وسرقة مياه لبنان.

وبهذه المناسبة، فلا بد للبنانيين الذين حققوا الانتصار التاريخي على العدو الإسرائيلي بفضل المقاومة البطلة وبالوحدة الوطنية الشاملة أن يحافظوا على هذه الوحدة في القضايا المصيرية التي يلتقون عليها، وأن يدخلوا في حوار موضوعي هادئ بروح مسؤولة حول القضايا التي يختلفون عليها، وأن لا تتحرك الأساليب السلبية التي توحي بالانقسام الطائفي أو تتحدث بلغة الحرب وذهنية التقسيم، لأن ذلك لن يحقق للأهداف الكبرى شيئاً، بل إنه يدفع الشباب اللبناني إلى اليأس والهجرة إلى بلاد أخرى يجد فيها الأمن والاستقرار والعيش الكريم. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن علينا أن نواكب الحركة السياسية والاقتصادية في حل المشكلة الاقتصادية أو التخفيف منها من أجل أن يقدم الجميع تجربتهم ودراساتهم لإنجاحها، لأنه لن يكون نجاحاً لحكومة دون أخرى بل للوطن كله.

إن علينا أن نتجاوز المرحلة التي كان الناس يحسبون فيها النقاط على بعضهم البعض إلى مرحلة نعمل فيها على تجميع النقاط كلها لمصلحة البلد كله من موقع المسؤولية الشاملة للناس كلهم، لأن القضية هي أن يبقى لبنان أو ينهار وما قيمة السياسة ومواقعها إذا حلت الكارثة تحت تأثير الإفلاس الاقتصادي والانهيار الشامل؟‍‍‍‍

إعادة رسم السياسة الخارجية

وختاماً، إننا أمام مأساة شبابنا وأهلنا في الكونغو نحب أن نركز على نقطتين:

الأولى: موجهة إلى الدولة اللبنانية لوضع خطة جديدة واقعية لتأكيد وتقوية العلاقات بالدول الإفريقية التي يسكنها المغتربون اللبنانيون، بحيث تكون العلاقات في أعلى مستوى لأنها تتصل بموقع لبنان في العالم من حيث قوته الديبلوماسية، وبرعاية المغتربين من خلال توظيف العلاقات بهذه الدول لحل مشاكلهم وتقوية مواقعهم هناك، ثم العمل على اختيار السفراء الذي يشعرون بالمسؤولية تجاه اللبنانيين في علاقتهم بالدولة وبالقضايا الحيوية المتصلة بالمغتربين بالذات، بحيث يمثل السفير لبنان كله في حركته هنا وهناك. الثانية: موجهة إلى إخواننا وأبنائنا في الكونغو وفي بلاد الاغتراب الإفريقي بالذات، أن يعملوا على تأكيد وحدتهم بعيداً عن الخلافات الطائفية والحزبية، وإبعاد كل الذين يسيئون إلى هذه الوحدة بإثارة الخلافات الهامشية من أي جانب وبتحريك أطماعه الذاتية للإساءة إلى أوضاع المغتربين. هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن يحافظوا على أمن البلد الذي يعيشون فيه ولا يتدخلوا في شؤونه الأمنية والسياسية وأن يكونوا عنصر خير وتعاون وسلام، لا سيما أن أفريقيا تعيش في صراعات متحركة تترك تأثيراتها على الواقع كله مما لا يملك فيه أيّ شخص وضوح الرؤية للمستقبل في اتجاه الأحداث، وأن يراقبوا الخطة الإسرائيلية التي تعمل على إرباك الاغتراب اللبناني الناجح.

إن علينا أن نأخذ العبرة من هذه الفاجعة المروعة التي حدثت لشبابنا الأعزاء بفعل الفوضى، وأن نكون عيناً واحدة واعية تحدّق بالواقع كله لتتفادى أية حالة للفوضى والإرباك.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية