ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :
حمية الجاهلية
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شيء عليماً}.
في هذه الآية حديث عمّا كان عليه الناس في الجاهلية من الطبع الموجه ضد الآخر، والذي رفضه الله سبحانه وتعالى وألزم المؤمنين بطبع آخر، وموقف آخر، باعتبار أن الطبع يجتذب الموقف، وهذا الطبع هو الحمية، والحمية هي أن يواجه بطريقة غرائزية كل ما لا يرتاح له، وذلك على أساس العصبيات التي كانت تحكم الواقع الجاهلي، العصبية للذات، والعصبية للعشيرة، وهكذا كان الإنسان لا يواجه القضايا من موقع التفكير الموضوعي، أو من موقع الحسابات العقلية، بل كان يواجه الأمور بغريزته، فيغضب لما لا يتلاءم مع طبعه، ويتعصب لعشيرته أو لمن له معه علاقة بعيداً عن الأساس في هذا الموقف، هل أن هذا الشخص الذي يتعصب له يملك القيم التي تفرض الالتزام به، وهل يملك الأسس التي ينبغي أن يحترمه الإنسان من خلالها؟!! المسألة هي مسألة ذاتياته، سواء كان ذلك من خلال ما يتحرك في عبادته لنفسه، أو في عبادته لعشيرته، أو في عبادته لأوثانه، أو ما إلى ذلك. ولذلك كان الجاهليون يتحركون في حياتهم بفعل الحماس، وبفعل العصبية.
الإسلام .. سكينة روحية وعقلية
أما الإسلام فقد جاء بالسكينة الروحية والعقلية للمؤمنين، أراد للمؤمن أن يعيش الهدوء النفسي والسكينة الروحية، بحيث يواجه كل القضايا التي يحركها الآخرون في وجهه، أو التي تعترضه في حياته، فيحركها بطريقة هادئة ليفكر فيها، ويرى مقدار انسجامها مع إيمانه ومبادئه، أو عدم انسجامها مع إيمانه ومبادئه، ثم إذا انتهى إلى نتيجة إيجابية أو سلبية فإنه يحاول أن يفكر كيف يتخذ الوسائل التي تنسجم مع هذا الموقف وذاك الموقف، {فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى}.
عندما تواجهون التزاماتكم الشخصية أو عناصر الإثارة من خلال الآخرين، فإن عليكم أن تواجهوها بذهنية هادئة على أساس حسابات التقوى، ثم انظر ما هو الموقف الذي ينسجم مع رضى الله فافعله حتى لو كان ذلك غير مريح لك، وما لا ينسجم مع رضى الله فاتركه حتى لو كان محبباً لك، ربما تفرض عليكم التقوى أن تكظموا غيظكم في الوقت الذي تعيش نفوسكم في حالة ثورة من الرغبة في تفجير الغيظ، وقد تواجهون مواقف مضادّة لما تلتزمونه وتغضبون وتحاولون الاعتداء على الآخر الذي لا تلتزمونه، ولكن الله يمنعكم من ذلك، فعليكم أن تقفوا في خط التقوى {فأنزل الله سكينته على رسوله}، والسكينة تمثل الحالة العقلية النفسية الهادئة التي تخرج عن عناصر الإثارة.
{وألزمهم كلمة التقوى} أي الرسول والمؤمنين معه{وكانوا أحق بها وأهلها}، لأن الإيمان يفرض عليهم أن يراقبوا الله في كل ما يقولون وفي كل ما يفعلون، {وكان الله بكل شيء عليماً}، وهذه ـ أيها الأحبة ـ تعالج مسألة العصبية، وربما تحدثنا إليكم أكثر من مرة حول هذا الموضوع، ولكننا نشعر أن بعض الموضوعات قد تحتاج إلى أن يعالجها الإنسان أكثر من مرة، على أساس أن مجتمعنا الذي نعيشه هو مجتمع العصبيات، العصبيات للشخص نفسه، أو الطائفة أو العائلة أو القومية أو الحركة أو الحزب أو المنظمة، ولكل الدوائر التي يلتزمها الناس فيما بينهم. أصبحنا ونحن المسلمون نعيش حمية الجاهلية، ولا نقف في خط التقوى عندما تتحرك عصبياتنا لتحرك غرائزنا بعيداً عن عقولنا وبعيداً عن إيماننا.
مثالب العصبية
تعالوا إلى النصوص الإسلامية التي تتحدث عن العصبية، فعن أبي عبد الله(ع) قال: "قال رسول الله(ص): من تعصب أو تُعصّب له ـ أي أن يتعصب الناس له لأنه وضع نفسه في موقع العصبية ـ فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه". فالمتعصب هو إنسان لا يعيش مسؤولية الإيمان وقيده في عنقه، لأنه يتحرك بغريزته ولا يتحرك بإيمانه.
وفي حديث آخر عن رسول الله(ص) يقول: "من كان في قلبه حبة من خردل من عصبية بعثه الله يوم القيامة مع أعراب الجاهلية"، لأن أعراب الجاهلية كانوا يعيشون الحمية، والمقصود بها العصبية. وهكذا في الحديث عن الإمام الصادق(ع): "من تعصب عصّبه الله عز وجل بعصابة من نار"، وهناك حديث عن علي عن رسول الله(ص): "ليس منا ـ من المسلمين ـ من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية". ومن كتاب أمير المؤمنين(ع) للأشتر: "املك حمية أنفك وثورة حدّك وسطوة يدك وغرب لسانك"، حاول ن تربط هذا كله، فلا تتحرك بفعل انفعالاتك وعصبياتك.
وقد ورد في الحديث عن علي بن الحسين(ع) عن العصبية قال: "العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه، ولكن أن يعينهم على الظلم"، بحيث أنك تدخل المعركة مع من تتعصب له من عائلتك أو من أصدقائك أو من حزبك أو حركتك، دون دراسة وكيفما كان، فهل هو ظالم أو مظلوم؟! لأن عصبيتك لصاحبك الذي هو أحد طرفي المعركة هي التي تحركك وليست قضية المظلوم والظالم في هذه المسألة.
العصبية.. انغلاق على الذات
وهكذا ـ أيها الأحبة ـ عندما ندرس المسألة دراسة فكرية لنتمثل العصبية ونتائجها السلبية على المجتمع، فالعصبية تنطلق من حالة عاطفية لا من حالة عقلية، لا مشكلة في أن تحب عائلتك، فعائلة الإنسان، كما ورد في بعض الأحاديث، "جناحك الذي به تطير وأصلك الذي إليه تصير"، والتعصب المرفوض هو أن تكون معها على الخير والشر، وعلى الحق والباطل. وهذا بخلاف ما يدعو إليه الإسلام الذي يطلب منك أن تكون مع الخير ضد الشر، ومع الحق ضد الباطل، ومع العدل ضد الظلم.فلا تتعبد لعشيرتك على طريقة الشاعر الذي يقول:
وما أنا إلا من غزية إن غوت غزية غويت وإن ترشد غزية أرشد
وكما ذكر أحد الشعراء الذي تحدث عن القومية:
سلام على كفر يوحد بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم
يعني إذا دار الأمر بين الوحدة على أساس الكفر، والإيمان على أساس الانقسام، فنحن نقف مع الوحدة حتى لو كانت على خلاف رضى الله تعالى، وهذا ما يفكر به بعض الناس عندما يلتزم بقيادة معينة، وليس من العصبية أن تلتزم قيادة على أساس أنها قيادة صالحة في أي جانب، ولكن العصبية هي أنك عندما تلتزم بقيادة ما تحاول أن تعادي القيادة الثانية، أو تسقطها أو تشوه صورتها، وتدخل في هذا المجال بالغيبة والكذب والنميمة، وما إلى ذلك، فهذا عصبية وهي في النار، وهذا ما نعيشه الآن، فأنت تتعصب للقيادة ولا تلتزم بها، فالالتزام قناعة، ومن حقك أن تقتنع.
وهذا ما ندرجه في خانة الانغلاق،حيث يتقوقع الإنسان داخل نفسه، فلا يحاور الآخر ولا يحاوره أو يتعاون معه حتى في القضايا المشتركة، ما يهيىء الأجواء للفتن بين الأحزاب والحركات والحروب في بعض الحالات. الحزبية في الأصل هي فكرة غربية، ونحن لا يوجد عندنا في الشرق أحزاب بالمعنى التنظيمي، وكانت كلمة حزب {كل حزب بما لديهم فرحون} تعني يوجد عندنا حزب الشيطان وحزب الله، والمقصود بذلك جماعة الله وجماعة الشيطان.
فالغرب الآن يمارس الحزبية بشكل حضاري، حيث نجد أن هناك تعاوناً وثيقاً يحصل بين الأحزاب قد يؤدي أحياناً إلى أن يصوّت هذا النائب من هذا الحزب لمشروع يقدمه ذاك الحزب، والعكس صحيح، وهذا على سبيل المثال ما يحصل في بريطانيا، حيث يوجد حزبا المحافظين والعمال، وفي أمريكا الحزبان الديمقراطي والجمهوري، لأنه لا توجد عصبية للحزب، بل هناك إيمان بخط، فالحزب قد يخطىء وقد يصيب، ما دامت هذه القيادات الحركية الحزبية غير معصومة، حيث لا يوجد حزبي دائماً على حق، كما يقول بعض الناس "وطني دائماً على حق"، فوطنك ليس دائماً على حق، وحزبك أو قيادتك ليست دائماً على حق، فإذا ما تبين أن حزبك أو قيادتك أو وطنك أخطأ يجب أن تكون أنت مع الحق.
الالتزام.. انفتاح
فالله سبحانه وتعالى يقول: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين}، أن تكون مع العدل ضد نفسك، ضد والديك، ضد أقربائك، لأن عليك أن تكون قواماً بالقسط، وبهذا نحن عندما نلتزم بالقيادة أو بالحزب، بالعائلة بالوطن، وينبغي أن تكون عيوننا مفتوحة ما دامت هذه القيادة أو الحزب أو العائلة غير معصومة، بعكس ما هو حاصل مع الأنبياء والأئمة(ع)، فإننا نسلم القياد لهم بالمطلق، لأنهم معصومون.
وعندما تكون القيادة غير معصومة، فإنك تتبعها، لكن وأنت تفكر، حتى إذا أصابت كنت معها على الصواب، وإذا أخطأت لم تكن معها على الخطأ، علينا أن نتعلم أن نراقب قادتنا كما نراقب أنفسنا، وعندما نراقبهم ليس معناه أن يعتبر هذا إهانة لهم، نراقبهم لنسددهم، نراقبهم لنحاورهم.
الإمام علي(ع) ليس معصوماً فحسب، وإنما هو فوق العصمة، كان يطلب من الناس ويقول لهم: "إنّ من استثقل الحق أن يقال له، والعدل أن يعرض عليه، كان بهما عليه أثقل، فلا تكفوا عن مشورة بحق أو مقالة بعدل، فإني لست بفوق أن أخطىء"، وهو فوق أن يخطىء إلا أن يكفي الله بذلك وقد كفى الله بذلك.
لذلك ـ أيها الأحبة ـ لنتعلم أن نكون ملتزمين لا متعصبين، نلتزم بفكر معين، فلا نتشنج عندما يمتلك الآخر فكراً مختلفاً عن فكرنا، فالاختلاف مشروع، وهنا لا بدّ من الحوار {وإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول}.
والآن لدينا مشكلة، وهي أنه كما لدينا عصبية حزبية، فأيضاً لدينا عصبية جديدة تتمثل بعصبية المرجعية، فمثلاً أنت تقلد مرجعاً معيناً، فإذا رجعت إليه كنت بريء الذمة أمام الله، كما لو ذهب المريض إلى طبيب يقتنع به، ولكن أنت على أي أساس تتهم المرجع الآخر، أو تحاربهأو توهنه، أو تتدخل في شؤون الناس، وتسألهم كيف تقلد فلاناً أو فلاناً، وحجك وصلاتك باطل إذا قلدته.
ومن الغريب أنه يذهب بعض الناس إلى الحج وليس لديهم شغل إلا كيف تقلد فلاناً أو فلاناً وما إلى ذلك؟! وهذا يبطل عمل ذاك وذاك يبطل عمل هذا، أو ليخلق مشكلة أو فتنة، فهذه عصبية وليست ديناً. وإذا ما تعددت الآراءفليكن الحوار بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن.
إبليس إمام المتعصبين
والإمام علي(ع) يتحدث في هذا المجال ويقول بأن إبليس هو إمام المتعصبين: "فافتخر على آدم بخلقه وتعصب عليه لأصله، فعدوّ الله إمام المتعصبين وسلف المستكبرين.. وضع إبليس أساس العصبية ونازع الله رداء الجبرية وادّرع لباس التعدد وخلع قناع التذلل لله سبحانه وتعالى".
ويقول الإمام الصادق(ع): "إن الملائكة كانوا يحسبون أن إبليس منهم ـ وكان في علم الله أنه ليس منهم ـ فاستخرج ما في نفسه بالحمية والغضب، وقال: خلقتني من نار وخلقته من طين".
وهكذا أيها الأحبة، من خلال ما سمعناه من كتاب الله، ومن سنة رسول الله ومن أحاديث أهل البيت(ع) الذين ينطلقون من رسول الله، نعرف أن علينا أن نترك العصبية، وأن نفرق بين أن يكون الإنسان ملتزماً، وبين أن يكون متعصباً، أن تكون ملتزماً، أن تجعل كل حياتك سائرة في خط التزامك، ولذلك عندما تكون القضية مع عائلتك، أو حتى مع نفسك، مع جماعتك، مع حزبك مع أهل وطنك، مع أهل مذهبك، مع أهل طائفتك، عليك أن تعرض ذلك على إسلامك، فتقول أين الحق وأين الباطل؟! كن مع الحق حتى لو كان على خلاف من تتعصب له، وكن ضد الباطل حتى لو كان مع من تتعصب له، لأن رضا الله فوق كل رضا، ولأن العصبية تعمي الإنسان، بينما الإيمان يفتح عقله، وغداً عندما نقف بين يدي الله سبحانه وتعالى {يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها} عندما نقف بين يدي الله سيحاسبنا الله على كل ما قلناه وعلى كل ما عملناه، وعلى كل ما أيدناه أو رفضناه، فلنعد لكل سؤال جواباً، عندما يأتي النداء {وقفوهم إنهم مسؤولون} ليست المسألة أن تدافع عن موقفك أمامي أو أدافع عن موقفي أمامك، بل أن تدافع عن موقفك {يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله}.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله، اتقوا الله وواجهوا حالة العصبية بحالة التقوى، وانفتحوا على مسؤولياتكم من خلال الوقوف مع الحق ضد الباطل، ومع الخير ضد الشر، ومع العدل ضد الظلم، لأننا عندما نواجه الموقف أمام ربنا، فإن الله سيسألنا عن كل ما أسلفناه من قول وعمل، وعلينا أن نقدم حسابنا لله سبحانه وتعالى، ولنحصل على رضاه من خلال أن كتاب أعمالنا إذا أحسنّا العمل والقول في الدنيا سوف يكون كتاباً مليئاً بالحسنات، وخالياً من السيئات، وبذلك نستحق الحصول على رضا الله ودخول الجنة.
علينا ـ أيها الأحبة ـ أن نواجه كل مسؤولياتنا، وأن يكون لنا في كل الحياة التي نحياها، وعي مواقفنا ومواقعنا، على أساس الحق والعدل، وفي هذا الجو لا بد لنا من أن نواجه كل قضايانا السياسية والأمنية والاقتصادية وما يحيط بنا من مشاكل وتحديات:
القمة العربية.. انصياع لأمريكا
أما وقد انتهت القمة العربية التي عُقدت في عمّان، فللشعوب العربية أن تتساءل عن النتائج التي حققتها وعن الأهداف التي رسمتها والآلية التي يمكن أن توصل بين الغايات والأساليب العملية في ذلك.
إن من السهولة بمكان أن يقال بأن نتائج هذه القمة جاءت مخيّبة للآمال، لأن أكثر المتفائلين لم يكن ينتظر أن يشرب هؤلاء حليب السباع ليقوموا بخطوة عملية واحدة يمكن أن تغطي هذا التقاعس المستمر إزاء القضايا العربية الملحة، ولا سيما منها قضية الشعب الفلسطيني وانتفاضته المستمرة منذ ستة أشهر ويزيد، من دون أن تتلقى دعماً عربياً على المستوى العملي.. ولذلك فإن الزعماء العرب فشلوا حتى في إخراج فشلهم، واكتفوا كعادتهم بالمواقف الخطابية التي غالباً ما تكون كلماتها متصاعدة ملتهبة أمام شاشات التلفزة، ولكنها تنخفض إلى أدنى المستويات عندما يبدأ البحث الجدي وراء الكواليس في المقررات التي ينبغي اتخاذها أمام الحالة الخطيرة التي تتهدد الشعب الفلسطيني.
ولذلك جاءت القرارات باهتة مائعة كما كنا نتصوّرها، بما فيها تلك التي تتحدث عن دعم الشعب الفلسطيني، حيث ذهبت دعوة المليارات في القمة السابقة لتأتي دعوة جديدة بعشرات من الملايين للسلطة الفلسطينية، وليُصار إلى الحديث عن قروض تُعطى للسلطة الفلسطينية لا عن دعم مباشر للشعب الفلسطيني.
لقد كان شبح الإدارة الأميركية مخيماً على هذه القمة ومقرراتها، كما خيّم شبح الإدارة التي سبقتها على مقررات قمة القاهرة، ولقد التزم القادة العرب بالتعليمات الأميركية المسبقة التي قدمت لهم على شكل نصائح، فجاء طابع هذه القمة أميركياً ولكن بوجوه عربية تختبئ وراء نصيحة الاعتدال والواقعية التي وجهها وزير الخارجية الأميركي إلى هؤلاء قبل أيام، فعملوا بالنصيحة، لا بل تجاوزوها إلى المستوى الذي أبدوا فيه استعدادهم للتنازل حتى عن ماء الوجه في تقديم دعم حقيقي للشعب الفلسطيني.
الغرق في حرب دخانية
لقد أريد لهذه القمة منذ البداية أن تغرق في ساحة من الحرب الدخانية التي تأخذ عنوان الصراع العراقي ـ الكويتي، لتغيب الانتفاضة عنها وليتم تسليط الضوء على الخلافات العربية بما يهيىء الفرصة أكثر لتمييع الموقف حيال القضية الفلسطينية، وليخلو البيان الختامي لهذه القمة من أي التزام حقيقي على المستوى العربي تجاه هذه المسألة.. إن ما يمكن التوقف عنده من ناحية إيجابية قد ينحصر في العلاقة الجديدة التي قد تمهد لموقف لبناني سوري فلسطيني موحد يمكن أن يشكل البداية العملية والبديلة عن هذا التقصير العربي حيال المسألة اللبنانية والفلسطينية والسورية، لأن المرحلة الجديدة باتت تقتضي تركيزاً على هذا المثلث الذي يستطيع أن يضاعف من المأزق الإسرائيلي كلما تصاعد التنسيق في خطواته أكثر، خاصة وأن العدو يتحدث صراحة عن خوفه من علاقة من هذا النوع يمكن أن تؤسس لإرباك حقيقي له وأن تحاصر من خياراته كلما قرر أن يذهب بعيداً في حربه الإرهابية ضد الشعب الفلسطيني. إننا نستبشر خيراً بهذه النافذة التي فُتحت شرط أن تطل على فضاء القضية بنظرة استراتيجية مستقبلية بعيدة، ولأن الأرضية لذلك موجودة من خلال الانتفاضة في فلسطين والمقاومة في لبنان.
أمريكا.. تبنّي الحرب العدوانية
إن علينا أن نفهم مسألة في خضم هذه المرحلة المعقّدة تماماً من خلال رصدنا للموقف الأميركي، حيث أن هذا الموقف المتبني تماماً لكل الخطط الإسرائيلية يمثل شراكه عملية مع الكيان الصهيوني في حربه الإرهابية ضد الشعب الفلسطيني، وإن آخر تجليات هذا الموقف المتمثلة في استخدام واشنطن لحق النقض "الفيتو" هي بمثابة التبني الكامل للحرب العدوانية المستمرة من قبل اليهود ضد الشعب الفلسطيني.
وإذا كانت الإدارة الأميركية لا تشعر بالإحراج إزاء هذا الموقف من خلال السكوت الغربي، والموقف العربي الخجول الذي لم يصل حتى إلى مستوى الاستنكار الحقيقي، الأمر الذي دفع الممثل الأميركي في الأمم المتحدة للقول: أنا واثق من أن هذا الأمر لن يؤثر على علاقاتنا مع أصدقائنا العرب.
الدعوة لتفعيل المقاطعة
إذا كانت أميركا تعرف سلفاً أن هذه المسألة لن تكلفها شيئاً في علاقاتها مع الأنظمة العربية، فعلى الشعوب أن تثبت لها العكس من خلال نزولها إلى الشارع وإحراج هذه الأنظمة ومن ثم دفعها لمواقف أكثر عملية تصل إلى مستوى الإدانة الحقيقية لأمريكا.. وعلى هذه الشعوب أن تتعاطى مع ممثلي الإدارة الأميركية في بلدانها كأعداء حقيقيين ليصار إلى حصارهم ومقاطعتهم وعدم إفساح المجال أمامهم لأخذ الحرية في التحرك خارج النطاق الرسمي، ليشعر هؤلاء بأن المسألة لن تقف عند حدود البيانات الاستنكارية التي لا تؤثر عملياً على الإدارة الأميركية.. وعلى حركات التحرر الوطني والإسلامي، وعلى كل الفعاليات العربية والإسلامية والعلماء أن يتحركوا على جميع المستويات من أجل تفعيل المقاطعة للبضائع الأميركية وحصار كل من يتخطى ذلك لتتحول المقاطعة الاقتصادية إلى ما يشبه المقاطعة السياسية التي تشعر فيها الإدارة الأميركية بأنها باتت في منطقة واحدة من التصنيف العدائي جنباً إلى جنب مع إسرائيل بما يترتب على ذلك من مفاعيل سياسية واقتصادية.
إسقاط شارون بداية التحرير
إننا مع كل ما نشهده من تصاعد في الحركة العدوانية الصهيونية، وفي التغطية الأميركية لهذه الحركة المتمثلة بأكثر من نوع من أنواع الضغوط والحصار، بحيث وصلت المسألة إلى مستوى منع العرب من تقديم مساعدات مباشرة للشعب الفلسطيني والتحلل من الالتزامات السابقة في هذا المجال، إننا على الرغم من ذلك كله نشعر بالعزة إزاء روح التضحية والصمود لدى الشعب الفلسطيني الذي أثبت من خلال العمليات الاستشهادية والمواجهات الأخيرة أنه قد بدأ فعلاً بإسقاط شارون من خلال إسقاط مشروعه الإرهابي الذي يحمل العنوان الأمني، وعندما يسقط شارون فإن خطوات التحرير الفلسطينية تكون قد بدأت فعلاً.
ولذلك فإن المطلوب من الجميع رفد الانطلاقات الجهادية والشعبية الجديدة للانتفاضة، فقد بدأ الرعب الحقيقي يدب في نفوس المستوطنين، ولا بد من تعميق جراح العدو أكثر بكل وسائل الدعم المتاحة للفلسطينيين.. وإذا كان العدو يهدد بالقيام بخطوات إرهابية جديدة فقد بدأت خياراته، تضعف لأن التغطية الدولية لإجرامه لن تكون كافية له لكي يتخلص من ضربات المجاهدين.
العودة إلى روح الوحدة
إن علينا أمام هذا الواقع الصعب الذي نمر فيه في المنطقة، وأمام هذه المرحلة الخطيرة، أن نعد الخطى الداخلية، فلا نتحرك في الفوضى التي تنعكس على واقعنا السياسي والاقتصادي بشكل سلبي، لأن كل ما يثار في هذا المجال ليس له أرضية لا في النطاق المحلي ولا الخارجي فيما هي مسألة القرارات وفيما هو الواقع.. ولذلك فإن كل عمليات الشحن الطائفي المنطلقة تحت أكثر من عنوان لن تقدم خدمة جديدة للبلد، بل تضيف إلى تعقيداته السياسية والاقتصادية تعقيدات جديدة، وإن المطلوب هو العودة إلى روح الوحدة وميدان المسؤولية بعد هدوء هذه العاصفة، وهذا ما تتحمل مسؤوليته كل المواقع الدينية والسياسية من خلال السعي لانتقاء كلماتها وتركيز خطابها بما يمهد الطريق للحمة ويبعد شبح الطائفية والمذهبية والحزبية، لأننا لا نريد للبنان أن يدفع الثمن مرتين؛ في الأولى عندما تحركت الحرب الأهلية فيه لتصفية القضية الفلسطينية، وفي الثانية عندما أطلت هذه القضية على مرحلة من مراحل التحرير فأريد له أن لا يتفاعل معها بعمق من خلال حركة سياسية تعمل لإرباك وضعه الداخلي فتمنعه من تركيز الخطوات وتفعيل جبهة المواجهة، لأن الراحة الحقيقية للبلد تنطلق من خلال القضية الفلسطينية وبداية مسيرة التحرير هناك.
وختاماً، إن علينا أن لا نغفل المسألة الإنسانية للفلسطينيين المقيمين في لبنان في توفير الشروط الضرورية للحياة الكريمة ريثما تتهيأ الظروف السياسية لعودتهم إلى وطنهم، وإننا لا نفهم التحفظ في مسألة تملكهم للعقارات بحجة أنهم لا ينتمون إلى دولة في الوقت الذي نعرف فيه أنهم يمثلون شعباً عربياً معترفاً به من قبل العرب أجمعين ومن العالم كله ما عدا إسرائيل، ولا نتصور أن ذلك يمكن أن يسيء إلى القرار اللبناني في رفض التوطين، لأن هناك فرقاً بين المسألة الإنسانية والسياسية ولا ربط لأحدهما بالأخرى. |