ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما يُريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويُطهّركم تطهيرا}. نلتقي بعد أيام بذكرى ولادة سيدتنا سيدة نساء العالمين السيدة فاطمة الزهراء(ع)، التي هي من أهل هذا البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، كما روي أن هذه الآية الكريمة نزلت في هؤلاء الخمسة، محمد (ص) وعليّ وفاطمة والحسن والحسين (سلام الله عليهم)، وذلك هو دليل عصمتهم جميعاً.
الزهراء(ع).. الأنموذج والقدوة:
وعصمة السيدة الزهراء(ع) انطلقت لأن الله تعالى أراد أن تكون نموذجاً للمرأة، وتكريماً لها، ومن منطلق إمكان وصول المرأة إلى القمة في التقوى والمعرفة لله والسير على خط الحق، وفي الاستقامة في كل دروب الحق والعدل. وبذلك كانت عصمتها النموذج الذي يؤكد للمرأة أن الزهراء (ع) ارتفعت من خلال لطف الله تعالى، ومن خلال تربية رسول الله (ص) لها.
ولذلك، فإن على المرأة أن تتحرك بطاقاتها الإنسانية في هذا الاتجاه، فإذا لم تبلغ هذه القمة، فإنها تستطيع أن تقترب منها، لأن الله تعالى أراد لنا أن نجعل هؤلاء الكبار(ع) القدوة، حتى نتمثّلهم ونتمثّل واقعية القيم الكبرى التي تجسّدت فيهم، وأن من الممكن للإنسان أن يرتفع بإرادته وفكره وعقله وسلوكه وبلطف من الله في ذلك كله.
تمثل مجتمع أهل البيت(ع)
ونحن عندما نتمثّل أهل البيت(ع)، فإننا نريد أن نتمثّل المجتمع الذي يريدنا أهل البيت أن نصنعه ونركّزه، ليكون مثلاً للمجتمع الذي إذا اختلف أفراده، فإن هذا الاختلاف لا يؤدي إلى تقاطع وتنابذ، حتى لو كان هناك اختلاف في المذهب بين المسلمين، فإن اختلاف المذهب لا يؤدي إلى التقاطع والتنابذ والتحاقد، بل لا بد أن يجتمع الناس مع اختلافهم في مذاهبهم ليؤدوا حقوق بعضهم البعض.
وهذا ما أكد عليه الأئمة من أهل البيت (ع)، مستوحين ذلك من قوله تعالى: {وقولوا للناس حسنا}، إذا أردتم أن تتحدثوا مع الناس فتحدثوا معهم بالكلام الطيب الذي يفتح العقول والقلوب ويرقق المشاعر، حتى يمكن للمجتمع من خلال هذا التواصل أن يتفاهم ويتحاور ويتعاون، وأن يكون المسلمون المختلفون مذهبياً، الموَحَّدون دينياً، بتواصلهم قوة للإسلام كله، وإذا تنازعوا في شيء فإنهم يردوه إلى الله والرسول. فتعالوا نقف عند بعض تراث الأئمة من أهل البيت (ع) في هذا المجال:
حسن الصحبة والمعاشرة:
ورد في الحديث عن بعض أصحاب الإمام الصادق (ع)، يقول: قال أبو عبد الله (ع): "وطّن نفسك على حُسن الصحبة لمن صحبت في حُسن خلقك - ليكن خلقك لمن تصاحبه الخلق الحسن - وكفّ لسانك - أن تكف لسانك عن كل ما يهينه ويذله - واكظم غيظك - احبس غضبك ولا تفجّره - وأقلّ لغوك - عندما تحدثه فلا تحدثه بالهذر والكلام الذي لا نفع منه - وتفرش عفوك - أن تعفو عنه عندما يُسيء إليك - وتسخو نفسك"، بأن تكون السخي معه، فتبذل نفسك له في ما يحتاج إليه من نفسك.
وفي الحديث عن أحد أصحاب الإمام الصادق (ع) أنه قال: "يا شيعة آل محمد، اعلموا أنه ليس منا من لم يملك نفسه عند غضبه، ومن لم يُحسن صحبة من صحبه، ومخالطة من خالطه، ومرافقة من رافقه، ومجاورة من جاوره، وممالحة من مالحه"، ليست الولاية لأهل البيت (ع) مجرد خفقة قلب، ولكنها حركة سلوك، أن تعيش مع الناس الذين يصاحبونك ويجاورونك ويخالطونك ويرافقونك، لتكون الإنسان الذي يُحسن السلوك معهم، والذي لا يصدر منه للآخرين إلا الخير.
قيمة الحج.. الانفتاح على الخير:
وفي الحديث عن الإمام الباقر (ع) وهو يشير إلى طريق الحج، والحجاج عندنا كثيرون، ويتصوّرون أنهم بمجرد أن يطوفوا بالبيت ويسعوا بين "الصفا" و"المروة" ويقفوا في "عرفات" و"المشعر" ويبيتوا في "منى"، فإنهم أمسكوا مفتاح الجنة بأيديهم، حتى لو كانوا من أسوأ الناس أخلاقاً؟! استمعوا إلى حديث الإمام الباقر(ع)، يا من حجّ بيت الله الحرام، ويا من يريد في المستقبل أن يحج بيت الله الحرام، يقول: "ما يُعبأ بمن سلك هذا الطريق إذا لم يكن فيه ثلاث خصال: ورع يحجزه عن معاصي الله - إذا وقف أمام المعصية في غيبة أو كذب أو شتم، أو وقف أمام عملٍ تشتهيه نفسه مما حرّمه الله من أكل أو شرب أو شهوة - وحلم يملك به غضبه - أن يكون واسع الصدر بحيث يستطيع السيطرة على غضبه - وحُسن الصحبة لمن صحبه"، ومن أصحابك زوجتك وأولادك وجيرانك، فإذا كنت لا تملك الورع ولا سعة الصدر ولا حسن الصحبة لمن صحبك، حجّ ما شئت فلن يعبأ الله بك، لأن قيمة الحج أن يجعل منك إنساناً طيباً خيّراً منفتحاً على كل خير في طاعتك لله، وابتعادك عن معصية الله، وحسن مصاحبتك للناس، وسعة صدرك أمام كل حالات الإثارة والغضب.
وعندما نقترب من المجتمع المختلط الذي فيه أناس يختلفون في مذاهبهم من المسلمين، أو يختلفون في أديانهم، استمعوا إلى كلمات الأئمة من أهل البيت(ع)، وفكّروا كيف يريد الأئمة منا في الخط الإسلامي الأصيل أن نبني مجتمعنا ونصوغه، ليكون مجتمع المحبة لا مجتمع البغض، وليكون مجتمع الوحدة لا مجتمع التمزق، وليكون مجتمع الحوار لا مجتمع التكفير والتضليل وما إلى ذلك:
القيادة تعرف من اتباعها:
عن "معاوية بن وهب" قال: قلت لأبي عبد الله(ع): كيف ينبغي لنا أن نصنع فيما بيننا وبين قومنا، وفيما بيننا وبين خلطائنا من الناس؟ فقال(ع): "تؤدون الأمانة إليهم، وتقيمون الشهادة لهم وعليهم، وتعودون مرضاهم، وتشهدون جنائزهم".. وعن "أبي أسامة زيد الشحّام" قال: قال لي أبو عبد الله (ع): "اقرأ على من ترى أنه يطيعني منهم السلام، وأوصيكم بتقوى الله عزّ وجلّ، والورع في دينكم، والاجتهاد لله، وصدق الحديث - كونا الصادقين عندما تحدثون الناس، فلا تحدثوهم كذباً، لأنكم عندما تتحدثون بالكذب فإنكم تقلبون صورة الواقع والأحداث، وتُدخلون المجتمع في متاهات قد تؤدي إلى كثير من المشاكل في داخله، وتلك هي مشكلة الكذّابين، أنهم يزيّفون الحقيقة فيرى الناس الباطل حقاً والحق باطلاً - وأداء الأمانة، وطول السجود - لأن السجود يمثّل قمة العبادة وغاية الخشوع لله تعالى - وحُسن الجوار، فبهذا جاء محمد(ص)، أدّوا الأمانة إلى من ائتمنكم عليها برّاً أو فاجراً، فإن رسول الله(ص) كان يأمره أهله بأداء الخيط والمخيط، صلوا عشائركم، واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدّوا حقوقهم، فإن الرجل إذا ورع في دينه، وصدق الحديث، وأدّى الأمانة، وحسّن خلقه مع الناس، قيل: هذا جعفري فيسرني ذلك، ويدخل عليّ منه السرور، وقيل: هذا أدب جعفر - لأن الناس تعرف القيادة من أتباعها، فإذا كان أتباعها سائرين على الخط المستقيم قال الناس هذا أدب القيادة، وإذا كان أتباعها سائرين على الخط المنحرف قالوا هذا أدب القيادة - وإذا كان على غير ذلك دخل عليّ بلاؤه وعاره وقيل: هذا أدب جعفر، والله لحدّثني أبي - الإمام الباقر(ع) - أن الرجل كان يكون في القبيلة من شيعة عليّ فيكون زينها، أدّاهم للأمانة، وأقضاهم للحقوق، وأصدقهم للحديث، إليه وصاياهم وودائعهم، تسأل العشيرة عنه فتقول: مَن مثل فلان؟ إنه أدّانا للأمانة، وأصدقنا للحديث"..
التواصل مع الآخر:
وعن "معاوية بن وهب" قال: قلت لأبي عبد الله(ع): كيف ينبغي لنا أن نصنع فيما بيننا وبين خلطائنا من الناس ممن ليسوا على أمرنا؟ فقال(ع): "تنظرون إلى أئمتكم - الذين تقتدون بهم - تصنعون ما يصنعون، فوالله إنهم ليعودون مرضاهم، ويشهدون جنائزهم، ويقيمون الشهادة لهم وعليهم، ويؤدون الأمانة إليهم".. وعن أبي عبد الله الصادق(ع) قالها لـ"خيثمة": "أبلغ موالينا السلام، وأوصهم بتقوى الله والعمل الصالح، وأن يعود صحيحهم مريضهم، وليعد غنيّهم على فقيرهم، وليشهد حيّهم جنازة ميّتهم، وان يتلاقوا في بيوتهم، وأن يتفاوضوا على الدين، فإن ذلك حياة لأمرنا، رحم الله عبداً أحيا أمرنا، وأعلمهم يا خيثمة أنّا لا نغني عنهم من الله شيئاً إلا بالعمل الصالح، فإن ولايتنا لا تُنال إلا بالورع، وإن أشد الناس عذاباً يوم القيامة من وصف عدلاً ثم خالفه إلى غيره"..
أين مجتمعنا من خط أهل البيت(ع)؟:
إن أئمة أهل البيت(ع) يريدون لنا أن نصنع المجتمع الذي ترفرف المحبة على كل أفراده، ويتحرك التواصل والتعاون فيما بينهم، والحوار في ما يختلفون فيه. هذا هو المجتمع الإسلامي الذي يدعونا إليه أهل البيت(ع)، ولذلك عندما نتذكّرهم، فعلينا أن ندرس مجتمعنا لنرى هل يتحرك في الخط الذي يريدون لنا أن نتحرك فيه، أو هو في خط آخر، وقد قال الله تعالى في كتابه الكريم: {ليس بأمانيكم ولا أمانيّ أهل الكتاب من يعمل سوءاً يُجز به ولا يجد له من دون الله وليّاً ولا نصيرا}، وقد قال رسول الله(ص): "أيها الناس، لا يتمنى متمنٍ ولا يدّعِ مدعٍ، أما أنه لا يُنجي إلا عمل مع رحمة، ولو عصيت لهويت".
تعالوا لننفتح على هذا المجتمع الطيب المثالي المتعاون، تعالوا من أجل أن نغيّر مجتمعنا من مجتمع البغضاء إلى مجتمع المحبة، ومن مجتمع التمزق والتشاتم إلى مجتمع الوحدة والحوار والتفاهم، حتى نصنع نموذجاً لمجتمع الجنة، لأنكم إذا أردتم أن تدخلوا الجنة، فعليكم أن تتخلّقوا بأخلاق أهلها في ما يريد الله لنا أن نتخلّق به، حتى نكون في قربنا لله ومحبة الله لنا ورضوانه علينا {في مقعد صدق عند مليك مقتدر}.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله.. اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، وقفوا مع الصادقين ولا تقفوا مع الكاذبين، وتحركوا مع العادلين ولا تتحركوا مع الظالمين، وكونوا كما يريد الله لكم أن تكونوا كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضاً، وكونوا الأمة التي تأخذ العبرة من كل تاريخها فتقف مع التاريخ لتشجب كل ظلم فيه، ولا تعطي الظالمين فيه البراءة مهما كانتالنتائج، والذين يُجرمون في التاريخ لا تعطيهم أي احترام، كما أن على الأمة أن تنظر إلى حاضرها لتتعرف على الذين يدعون إلى السوء والظلم والعدوان والاستكبار لتخذلهم وتُسقطهم، لا أن تتحرك الأمة تحت علاقات معيّنة من أجل أن تؤيد ظالماً أو مجرماً على أساس تحالف هنا وهناك.. فتعالوا ونحن في أيلول، وما أدراك ماذا في أيلول؟ كيف تحرك الماضي القريب وكيف يتحرك الحاضر، حتى لا يأتينا أيلول المستقبل بجرائم أيلول الماضي، لأن الله تعالى قال لنا: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب}، فماذا هناك؟
تعهد دموي تقدمه الحكومة لأمريكا:
13 أيلول هو تاريخ مأساوي دموي لبناني، يذكّرنا بالمجزرة الدموية التي حصدت مجموعة طاهرة من الشباب والفتيات، من قِبَل قوات الأمن الرسمية، في ظروف سياسية قلقة لا تزال في منطقة الضباب الأمني والسياسي والإعلامي، ولم يكن هناك ذنب لهؤلاء إلا أنهم عبّروا - بطريقة سلمية - عن احتجاجهم على اتفاق "أوسلو"، الذي كان مرفوضاً حتى من الحكومة اللبنانية آنذاك، التي قدّمت لأمريكا - من خلال هذه المجزرة - تعهّداً دموياً بأنها سوف تقف ضد أية معارضة للحلول السلمية من قِبَل الرافضين، لا سيما إذا كانوا من الإسلاميين المتهمين من قِبَل أمريكا بـ"الإرهاب".
إن مجزرة بهذا الحجم الذي لا تملك فيه أي مبرر أمني أو سياسي، كانت كفيلة بإسقاط حكومة أو محاكمة المسؤولين عنها، ولكنها كأكثر الجرائم في لبنان تخضع للمقولة المشهورة: "قبضنا على القتيل ولم نعرف القاتل"، حيث يُراد للمجرم المعلوم أن يكون مجهولاً.. إننا نثير ذكرى هذه المجزرة، لا لننكأ الجراح بل للعبرة، وليتعلّم الشعب اللبناني أن عليه أن يحافظ على حرياته السياسية، فلا يسمح لأحد أن ينتهكها، حتى بالدم.
سلطة الحكم الذاتي في النفق الصهيوني:
و13 أيلول هو تاريخ سياسي فلسطيني، أدخل فلسطين في المتاهات الإسرائيلية - الأمريكية، من خلال اتفاق "أوسلو" الذي صفّقت له إسرائيل وأمريكا وأوروبا وبعض الدول العربية، باعتبار أنه يمثل الحل الممكن للمشكلة المزمنة في الصراع العربي - الإسرائيلي، ولا سيما على المستوى الفلسطيني، وهكذا دخلت سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني في النفق الصهيوني، لتنتقل من اتفاق جزئي إلى اتفاق جزئي آخر من دون تنفيذ، إلا على طريقة حركة الدمى المتحركة.
ولا تزال هذه السلطة تبحث عن صدقية إسرائيلية وأمريكية ليست موجودة، ومن دون أفق، ولا سيما في قضايا القدس وعودة اللاجئين والمياه والحدود وما إلى ذلك، لأن الأفق الإسرائيلي - الأمريكي الذي يُفتح للفلسطينيين هو الاستسلام للشروط الإسرائيلية كلها، ولا سيما في إبقاء القدس الموحَّدة "عاصمة للدولة الصهيونية"، من دون أن يكون للفلسطينيين أية سيادة على أيّ جزء منها حتى ولو على المسجد الأقصى.
ولا تزال أمريكا تضغط، ولا يزال العرب يطلقون القرارات المؤيدة للفلسطينيين، ولكن من دون أية خطوة عملية ضاغطة، بل إن بعض العرب أعطى إسرائيل مبادرة إيجابية جديدة باللقاء مع رئيس وزرائها، معلناً أنه لا يحتاج إلى إذن من أحد في عملية التطبيع.. وهكذا، لم تستطع "الجامعة العربية" - في هزالها السياسي - أن تفرض على أعضائها منع التطبيع حتى في هذه المرحلة الصعبة التي يواجه فيها العرب والمسلمون التحديات السياسية في قضية القدس.
نماذج من الوحشية الاسرائيلية:
وفي أيلول، نلتقي بذكرى مجزرة صبرا وشاتيلا التي كانت فصلاً من فصول الوحشية الإسرائيلية التي استهدفت ولا تزال تستهدف الشعب الفلسطيني من أجل تشريده وقتله والعمل على تضييع قضيته في إطار سلسلة من المجازر المتلاحقة منذ تأسيس الكيان الصهيوني، والتي كان الاجتياح الصهيوني للبنان إحدى محطاتها المأساوية، والتي انطلقت كحرب مفتوحة على الشعبين اللبناني والفلسطيني، وتداخلت فيها المجازر هنا وهناك .
إننا عندما نستذكر ذلك، نستذكر أيضاً أن المجاهدين الذين لاحقوا العدو وطردوه من لبنان، استطاعوا الانتصار لهذه الدماء البريئة التي ستظل شاهدة على وحشية العدو وعلى سكوت العالم وصمته أمام هول تلك الجرائم التي نريد لشعوبنا أن تظل تختزنها في ذاكرتها السياسية أمام ما يثار في كل يوم عن إمكانية التسوية والسلام مع هذا العدو الذي يمثل وحشاً يعمل عل افتراس المنطقة ، بينما تقدمه أمريكا بثوب حمامة السلام.
إعلان الدولة الفلسطينية..تأجيل مستمر:
و13 أيلول هو تاريخ فلسطيني انضم الى أكثر من موعد للتاريخ من قِبَل سلطة الحكم الذاتي لإعلان الدولة الفلسطينية، التي تدغدغ أحلام الشعب الفلسطيني.. وسقط هذا التاريخ من دون تحديد دقيق لتاريخ جديد، لأن أمريكا والدول الأخرى، وأكثر الدول العربية، نصحت الفلسطينيين بعدم الإصرار على الموعد، لأن ذلك سوف يعقّد المفاوضات ويربك واقع المنطقة، تحت سوط التهديد الإسرائيلي باجتياح مناطق الحكم الذاتي إذا أُعلنت الدولة الفلسطينية من طرف واحد، ما يوحي بأن هذه الدولة سوف لن يُكتب لها الحياة، لأن الطرف الآخر سوف لن يقبل ذلك إلا إذا رضخ الفلسطينيون لشروطه، في تحويل هذه الدولة إلى هامش من هوامش كيانه إسرائيل.
إن المشكلة هي أن العرب سلّموا القضية المصيرية لسلطة الحكم الذاتي، وأن هذه السلطة سلّمت كل الأوراق لأمريكا، وأن أمريكا وضعت كل الأوراق بيد إسرائيل، ولم يبقَ لدى العرب ورقة واحدة يلعبون بها في لعبة القمار الاستسلامي، التي لا يربح فيها إلا العدو الصهيوني، تبعاً لقواعد اللعبة الأمريكية.
البقاء في ساحة الرفض:
إننا نحذّر الشعب الفلسطيني من الوقوع تحت تأثير التخدير السياسي في الوعود المتلاحقة لإعلان الدولة، ونريد له أن يبقى في ساحة الرفض، لأن المطلوب منه - أمريكياً وإسرائيلياً وربما عربياً - أن يوقّع بيده أو من خلال السلطة المفروضة عليه توقيع الذليل، ويقر إقرار العبيد، ليمنح إسرائيل شرعية إقامة كيانها على أرض فلسطين كلها بشكل مباشر في القسم الأكبر منها، وبشكل غير مباشر في القسم الباقي.
إننا نقول للعرب ما قاله الإمام الحسين(ع) لجيش يزيد: "إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحراراً في دنياكم، وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عرباً كما تزعمون".. وقولوا ولو لمرة واحدة: "ألا وإن الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين، بين السِلّة والذلة، وهيهات منا الذلّة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون"، فقد قال الله سبحانه: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين}..
العدو لا يملك وحده زمام المبادرة:
وفي هذا الجو، تنظر المحكمة الصهيونية - الآن - من جديد في قضية المجاهدين الأسيرين الشيخ عبد الكريم عبيد والحاج مصطفى الديراني، والمطلوب الآن هو القيام بحملة رسمية وشعبية للضغط على الأمم المتحدة من أجل السعي لإطلاقهما مع الأسرى الآخرين، لأن عملية التحرير لا تُستكمل إلا بذلك..
هذا بالإضافة إلى الخروقات والاعتداءات الإسرائيلية المتكررة في أكثر من منطقة حدودية، والتهديدات والاستعراضات العسكرية ونصب صواريخ بعيدة المدى في منطقة "الوزاني" وغيرها، ما يفرض على المقاومة الإسلامية المجاهدة أن تبقى في حالة استنفار دائم لمواجهة هذا الواقع، حتى لا يشعر العدو بأنه - وحده - الذي يملك زمام المبادرة في خط المواجهة. وعلى الأمم المتحدة وقواتها المنتشرة في الجنوب أن تتحمّل مسؤوليتها في ذلك كله، حتى لا تعطي الفكرة أنها وُجدت لحماية أمن العدو لا أمن اللبنانيين.
بالحوار والتخطيط تعالج المشكلات:
ويبقى الضجيج السياسي الذي يثير أكثر من قضية معقّدة في سجالات الجدل الداخلي، ولا سيما ما سمعناه من الحديث المعادي لسوريا التي قدّمت ولا تزال تقدّم الكثير من التضحيات للبنان، في الوقت الذي يعرف فيه الجميع أن هناك مناخاً جديداً لدراسة المستقبل في العلاقات اللبنانية - السورية، يمكن أن يهيئ الظروف لحل أكثر من مشكلة، ولترتيب أكثر من اتفاق، بما يحقق مصلحة البلدين.. فإن الأمور لا تُعالج بالطريقة الانفعالية السلبية التي دللت التجارب أنها لم تحل أية مشكلة، بل إنها أدخلت البلد في نفق مظلم، ولا يزال الجميع يتخبّطون في داخله.. إننا نقول لهؤلاء إنه لا سبيل للوصول بلبنان إلى شاطئ الأمان إلا من خلال الحوار والتخطيط والعقل، بعيداً عن المفردات الانفعالية التي لا تزيد الواقع اللبناني إلا تعقيداً.
إنقاذ البلد مهمة الجميع:
وتبقى المشكلة الاقتصادية في حجم الكارثة التي يعاني منها الشعب اللبناني، بجميع طوائفه ومناطقه، ولا سيما المناطق المحرومة التي تفتقد أبسط حاجات التنمية، وأقل الخدمات الحيوية، كمناطق الجنوب والبقاع الغربي، ولا سيما المناطق المحررة، ومناطق بعلبك والهرمل وعكار..
ولكننا لا نريد أن تُواجه هذه المشكلة على طريقة تسجيل النقاط، بل بطريقة تجميع النقاط الإيجابية، ودراسة السلبيات في جذور المشكلة من خلال قدرات البلد وظروفه السياسية، وتعقيدات العلاقات الدولية التي قد تتحرك من هنا وهناك للضغط عليه بشكل وبآخر..
أيها اللبنانيون: إن لبنان بلدكم جميعاً، بلد كل الطوائف والمذاهب والمعارضة والموالاة، وليس بلد طائفة معينة أو مذهب معيّن، ليس هناك من يملك البلد، وليست هناك حرية لأي شخص مهما كان حجمه أن يلعب بمصيره.. تعالوا لنجتمع على لبنان الإنسان، الأرض، الحاضر والمستقبل، وليقدّم كل فريق جهده في عملية تكامل وتعاون، لا في عملية تنافر وتصادم.. فهل من مجيب؟ |