إما خلود في الشقاء وإما خلود في السعادة

إما خلود في الشقاء وإما خلود في السعادة

فكروا في أرباح الآخرة وخسارتها:
إما خلود في الشقاء وإما خلود في السعادة


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبة سماحته الأولى :

خسارة الآخرة

من الأمور التي ركّز عليها القرآن الكريم، والتي يركّز عليها كل الناس في حياتهم، هي مسألة الربح والخسارة، فنحن نتحرك دائماً في كل أوضاعنا وعلاقاتنا لننطلق نحو هذا ونبتعد عن ذاك على أساس أننا نجري وراء الربح في مواقعه، ونتحفظ عن الخسارة في مواقعها. والله تعالى يريدنا أن ننظر إلى مواقع الربح والخسارة في الآخرة، كما ننظر إلى مواقعهما في الدنيا، لأن الدنيا ليست هي الدار التي تمثل الحياة فيها حالة الخلود، بل هي مجرد مرحلة لا تكون الخسارة فيها هي الخسارة، ولا يكون الربح فيها هو الربح، فقد يربح الإنسان في الدنيا مالاً أو جاهاً ولكنه يخسر مصيره في الآخرة، وقد يخسر الإنسان بعض المال أو الجاه في الدنيا، ولكنه يحصل على الربح في الآخرة من خلال مصيره.

ولذلك فإن الله تعالى يريد من الناس أن يدرسوا في حياتهم مسألة الربح من جانبين: الجانب الأول هو الجانب الطبيعي، هل تربح هذه التجارة أو تخسر، والجانب الثاني هو هل أن هذه التجارة التي تربح في الدنيا تربح في الآخرة أو تخسر، أو التي تخسر في الدنيا هل تربح على مستوى الآخرة أو لا، لأن على الإنسان الذي يؤمن بالآخرة أن يحسب حسابها بشكل دقيق، أكثر مما يحسب حساب الربح أو الخسارة في الدنيا، لأن هناك خلوداً في الشقاء أو خلوداً في السعادة، أما في الدنيا فليس هناك خلود في الشقاء لمن يشقى فيها، ولا خلود في السعادة لمن يسعد فيها. تعالوا لنقرأ بعض آيات الله في هذا المجال:

الانطلاق من حالة طارئة:

يقول تعالى: {ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين}. إن الله تعالى يحدّثنا عن هذا النموذج من الناس، وهو النموذج الذي لا يرتكز على قاعدة ثابتة في إيمانه وخطه الذي يسير عليه، بل إنه ينطلق من حالة طارئة، إما من حيث إنه ورث خطه وإيمانه وفكره من آبائه وأجداده دون أن يحصل على الثقافة أو القناعة التي تركّز له خطه وفكره، أو من الناس الذين يبنون حياتهم على هوى النفس، أو على المصالح الطارئة، وهذا ما يحصل لكثير من الناس، فهو مع أهل الخير ما دام الخير في مصلحته، ومع أهل الشر إذا كان الشر في مصلحته، ومن هؤلاء الذين ينتقلون من أقصى اليمين - كما يُعبّر في اللغة السياسية - إلى أقصى اليسار، أو من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين..

ولذلك فهم مؤمنون في حالات الرخاء، ولكنهم منحرفون أو كافرون في حالات الشدة، وهم الذين يعبّر الله عنهم بأنهم من الذين {يعبد الله على حرف ـ ولربما كان المقصود من كلمة "حرف" الحافة، بحيث تلقيه أية عاصفة إلى الوادي ـ فإن أصابه خير - جرت الأمور عنده على حسب ما يهواه - اطمأن به، وإن أصابته فتنة - واجه قضية فيها خسارة وربح، بحيث إذا سار مع الله خَسِر، وإذا سار مع الشيطان رَبِح على مستوى الحالات الطارئة، فإنه لا ينجح في هذا الامتحان والبلاء الذي يقف فيه الإنسان ليخيّر نفسه بين الجنة والنار، كما حصل للحر بن يزيد الرياحي الذي اختار الجنة دون الدنيا، وعمر بن سعد الذي اختار الدنيا على الجنة - انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين}..

ترك الدنيا للدنيا:

وهناك بعض الأحاديث الواردة عن الأئمة (ع) تعالج بعض جوانب هذه الآية، ففي حديث عن الإمام زين العابدين (ع) يقول: "إن في الناس من خسر الدنيا والآخرة، يترك الدنيا للدنيا ويرى أن لذة الرئاسة الباطلة أفضل من لذة الأموال والنعم المباحة المحللة - بعض الناس لا يمثّل المال عنده شيء، بل يصرفه كيفما كان لكي يتحدث الناس عن كرمه ويحصل على رضاهم أو على مركز اجتماعي أو سياسي يكبر به ـ فيترك ذلك أجمع طلباً للرئاسة". وسُئل أمير المؤمنين (ع): "من العظيم الشقاء؟ قال: رجل ترك الدنيا للدنيا ففاتته الدنيا - صرف أمواله لكي ينجح في الانتخابات النيابية أو النقابية وما إلى ذلك، ولكنه لم ينجح - ورجل تعبّد واجتهد وصام رياءً للناس - من أجل أن يتحدث الناس عن عبادته - فذاك حُرم لذات الدنيا من دنيانا - لأنه أراد أن يُظهر نفسه زاهداً في الدنيا - ولحقه التعب الذي لو كان مخلصاً لاستحق ثوابه"..

نظرة واقعية للحياة:

وورد في حديث لأمير المؤمنين(ع) في الموعظة: "معاشر الناس اتقوا الله - انظروا إلى الحياة نظرة واقعية ولا تعيشوا في الأحلام على أساس أنها كل شيء - فكم من مؤمّل ما لا يبلغه - كم من الناس الذين عندهم طموحات وآمال يسعون إلى تحقيقها ولكنهم لا يبلغونها - وبانٍ ما لا يسكنه - بعض الناس يبني بيتاً ولكنه لا يبيت فيه ليلة واحدة - وجامع ما سوف يتركه - يتعب الإنسان في جمع المال ثم يموت ويترك المال خلفه للورثة - ولعله من باطل جمعه - جمع ماله من الحرام - ومن حق منعه - منع حق الله في ماله - أصابه حراماً واحتمل به آثاماً، فباء بوزره، وقدم على ربه آسفاً لاهفاً، قد خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين".

وهناك كلمة للإمام عليّ(ع) وقد لقيه عند مسيره إلى الشام دهاقين الأنبار، فترجّلوا له، فاشتدوا بين يديه، قال: "ما هذا الذي صنعتموه"؟ قالوا: خُلق منا نعظّم به أمراءنا - هذه عاداتنا مع أمرائنا أننا نخضع لهم خضوعاً كمثل خضوع العبد لسيده - فقال: والله ما ينتفع بهذا أمراؤكم، وإنكم لتشقّون على أنفسكم في دنياكم - هذه العادات تتعبكم وتربك حياتكم - وتشقون به في آخرتكم، وما أخسر المشقّة وراءها العقاب - وهذا خطاب موجه للذين يتحركون مع المستكبرين والظالمين، لأن الظالم يطلب منه أن يبذل كل جهده ونفسه له، ثم هناك النار لأنه ركن إلى الذين ظلموا - وأربح الدعة معها الأمان من النار".

وكان الإمام عليّ(ع) يقول وهو يعظ قاضيه "شريح" بعد أن علم أنه اشترى بيتاً: "فانظر يا شريح لا تكون ابتعت هذه الدار من غير مالك - من خلال رشوة من هنا ورشوة من هناك - أو نقدت الثمن من غير حلالك، فإذاً أنت خسرت دار الدنيا ودار الآخرة"، ولذلك عندما يريد الإنسان أن يشتري أرضاً أو بيتاً فعليه أن ينظر هل جمع هذا المال الذي يريد أن يشتري به أرضاً أو داراً، من حلال أو من حرام.

السير في طريق الضلال:

ويقول الله تعالى: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً* الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا - هو يسير في هذه الدنيا على أساس أنه يحمل مفتاح الجنة بيده، لأنه لم يدقق في الخط الذي يسير عليه - وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً}. وقد ورد في الحديث عن عليّ(ع): "أخسر الناس من قدر على أن يقول الحق ولم يقله"، ثم يقول(ع): "إن أخسر الناس صفقة وأخيبهم سعياً، رجل أخلق بدنه في طلب آماله ولم تسعده المقادير على إرادته، فخرج من الدنيا بحسرته، وقدم على الآخرة بتبعته".

ويقول الله تعالى: {قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين}، فالإنسان الذي ينفتح على اللهو في الحياة ويغفل عن تربية أولاده، فهو في الآخرة ممن يخسر نفسه، لأنه ابتعد عن خط الله، وخسر أولاده لأنهم ساروا في طريق الضلال ولم يربيهم على الصلاح. لذلك، فكّروا في أرباح الآخرة وخسارتها، بأن نكون واعين لما نستقبله من الآخرة في حياتنا، {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدّمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون * ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون * لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون}.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله وانظروا لأنفسكم في خط مسؤولياتكم، وواجهوا كل المواقف من خلال ما حمّلكم الله من مسؤوليات في أنفسكم، أن تعملوا على أساس السير في طرق الفلاح والابتعاد عن السير في طرق الخسارة، وأن تواجهوا مسؤولياتكم عن الناس من حولكم، لا سيما في ساحة الصراع بين الحق والباطل، لا تكونوا حياديين بحيث تبتعدون عن الساحة وأنتم تستطيعون أن تعطوها حركة من حركتكم، لأن المستكبرين الظالمين يحصلون على القوة من خلال ابتعاد أهل الخير والحق عن المعركة.. فلنحاول أن نواجه الواقع المحلي والإقليمي والدولي من موقع المسؤولية، أن نخطط من أجل إسقاط الذين يكيدون لأمتنا وشعبنا، فتعالوا نعرف ما في هذا الأسبوع من تحديات:

النظام العراقي ومخاطر سياسته:

نلتقي في هذه الأيام بالذكرى العاشرة لغزو الكويت من قِبَل النظام العراقي، الذي أساء إلى شعب الكويت المسالم، ودمّر الواقع السياسي العربي كله، وأدخل الاستكبار الأمريكي في المنطقة من الباب الواسع، وأخرج العراق من دائرة القوة، وقاد العرب إلى مؤتمر "مدريد" الذي لا نزال ندفع – كأمة – كل نتائجه السلبية، واللعب بالقضية العربية كلها في ساحة الصراع العربي – الإسرائيلي، من أجل إنهاء القضية الفلسطينية لحساب إسرائيل..

وقد عانى الشعب العراقي من ذلك الكثير من ويلات الحرب والحصار المستمر، الذي تشرف عليه أمريكا وبريطانيا تحت مظلة الأمم المتحدة، بالإضافة إلى الاستعراضات العسكرية في سماء العراق من جهة، ومحاصرة النظام العراقي بالحديد والنار من جهة أخرى، ولا تزال اللعبة الأمريكية تحلق في أجواء المعارضة العراقية التي يحلم بعض جماعتها بالدعم الأمريكي للتغيير، في الوقت الذي نعرف فيه أن أمريكا تدعم النظام بشكل غير مباشر، لأنها بحاجة إليه في ابتزاز الخليج اقتصادياً، والإبقاء على قواتها في أرضه عسكرياً، وإرباك السياسة العربية، وإزعاج إيران، بالرغم من أن هذا النظام لم يعد في موقع القوة التي يهدد بها جيرانه، وذلك باعتراف أمريكا.. إننا حين نستذكر هذا الاحتلال، نريد للأمة أن تلتقي على أساس الموقف السياسي الموحَّد،الذي يعمل على إنقاذ الشعب العراقي في الداخل والخارج.

القضية الفلسطينية في الدوّامة:

وتبقى القدس – في معناها الشامل – في دائرة اللعبة الأمريكية التي يعمل رئيسها على استكمال الخطة الإسرائيلية في تهويدها بمختلف الوسائل، ويتحرك الواقع العربي والإسلامي بعيداً عن موقع القوة في المواجهة، وذلك بالاكتفاء بالتصريحات الاستعراضية العاطفية من دون خطة، وإننا نخشى أن تكون هناك خطة أمريكية – إسرائيلية خفية للضغط على سلطة الحكم الذاتي – تحت مظلة عربية – من أجل مصادرة قضية القدس بالخداع والتضليل، الأمر الذي يفرض على الشعوب العربية والإسلامية، والشعب الفلسطيني بالخصوص، الوقوف ضد هذه المؤامرة الخفية التي قد تمنح الفلسطينيين شيئاً من القدس من دون سلطة.. وقد تدخل قضية اللاجئين في دائرة التعويضات والتوطين الذي يتحدث البعض عنه، وذلك عبر نقل مئات الآلاف من اللاجئين إلى العراق، في نطاق سياسة مذهبية يقوم بها النظام هناك، مع إعادة بعض اللاجئين إلى فلسطين بشكل محدود.

إن السياسة الأمريكية في القضية الفلسطينية العربية، قد دخلت في دوامة الانتخابات الأمريكية، التي يعمل الرئيس الأمريكي – مع إدارته – على تحريك الخطة الخبيثة لمصادرة القضية الفلسطينية، والقدس بالذات، للحصول على أصوات اليهود لحساب مرشحه الديمقراطي.. وهذا ما قرأناه وسمعناه في الوعد بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، كاعتراف بأن القدس هي "عاصمة إسرائيل الأبدية الموحَّدة"..

وهكذا، تكرّ السبحة في تهديد سلطة الحكم الذاتي بالويل والثبور إذا أعلنت الدولة الفلسطينية من جانب واحد، في الوقت الذي لم تعترض فيه على إسرائيل لضمها القدس والجولان، وإقامة المستوطنات في الضفة وغزة من جانب واحد، لأن ما يجوز لإسرائيل – أمريكياً – لا يجوز للفلسطينيين ولا للعرب؟!

أيها العرب.. أيها المسلمون.. أيها الفلسطينيون: إن أمريكا هي العدو الأول لكل قضاياكم ومصالحكم، لأنها الصديقة الأولى لإسرائيل في الحرب والسلم، وفي الاقتصاد والسياسة والأمن، فلتكن المواقف منها على كل المستويات في دائرة هذا الواقع القديم – الجديد، ولتعرف الأجيال كلها أن هذه الدولة المستكبرة لن تُخلص لأي مستقبل عربي أو إسلامي أبداً.

خطر الوصاية المالية الدولية:

أما على المستوى اللبناني الداخلي، فإننا ونحن نسمع عن ضغوط تمارس على لبنان، لوضع كفة المساعدات أو الوعود بها من الدول المانحة، في كفة الانتشار الدولي واللبناني الرسمي في الجنوب، وضغوط دولية أخرى، لجعله تحت وصاية المؤسسات الاقتصادية الدولية، إننا أمام هذا الواقع نحذّر من دخول البلد في السوق الاستهلاكي المالي الدولي، أو تحت الوصاية المالية الدولية التي تصب نهاية المطاف في المشروع الأمريكي السياسي – الاقتصادي للمنطقة، لأن ذلك لن يوقف النزيف الاقتصادي اللبناني، بل سيجعله رهينة في قبضة الناهبين الدوليين، ليضغط على المواقف السياسية الاستراتيجية للدولة اللبنانية، والتي بقيت ثابتة في مسألة الصراع مع العدو ودعم المقاومة، على الرغم من حجم الضغوط الدولية المتزايدة..

إننا نعتقد أن البلد لا يزال يملك الكثير من الإمكانات السياسية والاقتصادية، التي تخوّله أن يعيد تحريك العجلة الاقتصادية بدوافع وقدرات داخلية ذاتية، وبالاستعانة بوسائط خارجية من دون ارتهان، ولا بد للجميع – في الموالاة والمعارضة – من أن يتعاونوا في هذا السبيل لتجاوز المرحلة الصعبة، من خلال التخطيط الذاتي الذي يدفع الآخرين للمساهمة، لا من خلال استدراج العروض السياسية والاقتصادية التي تقودنا إلى الضعف والارتهان..

إخراج البقاع من الحرمان:

وإننا – في نهاية المطاف – نريد للدولة بكل سياستها الإنمائية أن تخطط للتنمية الزراعية والصناعية لمنطقة بعلبك – الهرمل، وللبقاع بشكل عام، فقد وصل الوضع إلى مستوى الكارثة للناس المستضعفين هناك، وأصبح المواطن يعاني من فقدان أبسط الحاجات الضرورية، حتى بات في أدنى خطوط الفقر..

إننا نطلق الصوت عالياً لإخراج المنطقة من حالة الحرمان التاريخي، إلى حالة الحركة الاقتصادية المنتجة في كل مواردها الحيوية، لأن ذلك هو مسؤولية الدولة عن شعبها.. إن الطريقة السلحفاتية التي تُدار بها قضايا الشعب المعيشية في الوطن كله، لا تخدم قضية التحرير، لأننا نخشى أن يدخل العدو من شباك الأزمة، بعد أن خرج من باب الاحتلال.

فكروا في أرباح الآخرة وخسارتها:
إما خلود في الشقاء وإما خلود في السعادة


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبة سماحته الأولى :

خسارة الآخرة

من الأمور التي ركّز عليها القرآن الكريم، والتي يركّز عليها كل الناس في حياتهم، هي مسألة الربح والخسارة، فنحن نتحرك دائماً في كل أوضاعنا وعلاقاتنا لننطلق نحو هذا ونبتعد عن ذاك على أساس أننا نجري وراء الربح في مواقعه، ونتحفظ عن الخسارة في مواقعها. والله تعالى يريدنا أن ننظر إلى مواقع الربح والخسارة في الآخرة، كما ننظر إلى مواقعهما في الدنيا، لأن الدنيا ليست هي الدار التي تمثل الحياة فيها حالة الخلود، بل هي مجرد مرحلة لا تكون الخسارة فيها هي الخسارة، ولا يكون الربح فيها هو الربح، فقد يربح الإنسان في الدنيا مالاً أو جاهاً ولكنه يخسر مصيره في الآخرة، وقد يخسر الإنسان بعض المال أو الجاه في الدنيا، ولكنه يحصل على الربح في الآخرة من خلال مصيره.

ولذلك فإن الله تعالى يريد من الناس أن يدرسوا في حياتهم مسألة الربح من جانبين: الجانب الأول هو الجانب الطبيعي، هل تربح هذه التجارة أو تخسر، والجانب الثاني هو هل أن هذه التجارة التي تربح في الدنيا تربح في الآخرة أو تخسر، أو التي تخسر في الدنيا هل تربح على مستوى الآخرة أو لا، لأن على الإنسان الذي يؤمن بالآخرة أن يحسب حسابها بشكل دقيق، أكثر مما يحسب حساب الربح أو الخسارة في الدنيا، لأن هناك خلوداً في الشقاء أو خلوداً في السعادة، أما في الدنيا فليس هناك خلود في الشقاء لمن يشقى فيها، ولا خلود في السعادة لمن يسعد فيها. تعالوا لنقرأ بعض آيات الله في هذا المجال:

الانطلاق من حالة طارئة:

يقول تعالى: {ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين}. إن الله تعالى يحدّثنا عن هذا النموذج من الناس، وهو النموذج الذي لا يرتكز على قاعدة ثابتة في إيمانه وخطه الذي يسير عليه، بل إنه ينطلق من حالة طارئة، إما من حيث إنه ورث خطه وإيمانه وفكره من آبائه وأجداده دون أن يحصل على الثقافة أو القناعة التي تركّز له خطه وفكره، أو من الناس الذين يبنون حياتهم على هوى النفس، أو على المصالح الطارئة، وهذا ما يحصل لكثير من الناس، فهو مع أهل الخير ما دام الخير في مصلحته، ومع أهل الشر إذا كان الشر في مصلحته، ومن هؤلاء الذين ينتقلون من أقصى اليمين - كما يُعبّر في اللغة السياسية - إلى أقصى اليسار، أو من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين..

ولذلك فهم مؤمنون في حالات الرخاء، ولكنهم منحرفون أو كافرون في حالات الشدة، وهم الذين يعبّر الله عنهم بأنهم من الذين {يعبد الله على حرف ـ ولربما كان المقصود من كلمة "حرف" الحافة، بحيث تلقيه أية عاصفة إلى الوادي ـ فإن أصابه خير - جرت الأمور عنده على حسب ما يهواه - اطمأن به، وإن أصابته فتنة - واجه قضية فيها خسارة وربح، بحيث إذا سار مع الله خَسِر، وإذا سار مع الشيطان رَبِح على مستوى الحالات الطارئة، فإنه لا ينجح في هذا الامتحان والبلاء الذي يقف فيه الإنسان ليخيّر نفسه بين الجنة والنار، كما حصل للحر بن يزيد الرياحي الذي اختار الجنة دون الدنيا، وعمر بن سعد الذي اختار الدنيا على الجنة - انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين}..

ترك الدنيا للدنيا:

وهناك بعض الأحاديث الواردة عن الأئمة (ع) تعالج بعض جوانب هذه الآية، ففي حديث عن الإمام زين العابدين (ع) يقول: "إن في الناس من خسر الدنيا والآخرة، يترك الدنيا للدنيا ويرى أن لذة الرئاسة الباطلة أفضل من لذة الأموال والنعم المباحة المحللة - بعض الناس لا يمثّل المال عنده شيء، بل يصرفه كيفما كان لكي يتحدث الناس عن كرمه ويحصل على رضاهم أو على مركز اجتماعي أو سياسي يكبر به ـ فيترك ذلك أجمع طلباً للرئاسة". وسُئل أمير المؤمنين (ع): "من العظيم الشقاء؟ قال: رجل ترك الدنيا للدنيا ففاتته الدنيا - صرف أمواله لكي ينجح في الانتخابات النيابية أو النقابية وما إلى ذلك، ولكنه لم ينجح - ورجل تعبّد واجتهد وصام رياءً للناس - من أجل أن يتحدث الناس عن عبادته - فذاك حُرم لذات الدنيا من دنيانا - لأنه أراد أن يُظهر نفسه زاهداً في الدنيا - ولحقه التعب الذي لو كان مخلصاً لاستحق ثوابه"..

نظرة واقعية للحياة:

وورد في حديث لأمير المؤمنين(ع) في الموعظة: "معاشر الناس اتقوا الله - انظروا إلى الحياة نظرة واقعية ولا تعيشوا في الأحلام على أساس أنها كل شيء - فكم من مؤمّل ما لا يبلغه - كم من الناس الذين عندهم طموحات وآمال يسعون إلى تحقيقها ولكنهم لا يبلغونها - وبانٍ ما لا يسكنه - بعض الناس يبني بيتاً ولكنه لا يبيت فيه ليلة واحدة - وجامع ما سوف يتركه - يتعب الإنسان في جمع المال ثم يموت ويترك المال خلفه للورثة - ولعله من باطل جمعه - جمع ماله من الحرام - ومن حق منعه - منع حق الله في ماله - أصابه حراماً واحتمل به آثاماً، فباء بوزره، وقدم على ربه آسفاً لاهفاً، قد خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين".

وهناك كلمة للإمام عليّ(ع) وقد لقيه عند مسيره إلى الشام دهاقين الأنبار، فترجّلوا له، فاشتدوا بين يديه، قال: "ما هذا الذي صنعتموه"؟ قالوا: خُلق منا نعظّم به أمراءنا - هذه عاداتنا مع أمرائنا أننا نخضع لهم خضوعاً كمثل خضوع العبد لسيده - فقال: والله ما ينتفع بهذا أمراؤكم، وإنكم لتشقّون على أنفسكم في دنياكم - هذه العادات تتعبكم وتربك حياتكم - وتشقون به في آخرتكم، وما أخسر المشقّة وراءها العقاب - وهذا خطاب موجه للذين يتحركون مع المستكبرين والظالمين، لأن الظالم يطلب منه أن يبذل كل جهده ونفسه له، ثم هناك النار لأنه ركن إلى الذين ظلموا - وأربح الدعة معها الأمان من النار".

وكان الإمام عليّ(ع) يقول وهو يعظ قاضيه "شريح" بعد أن علم أنه اشترى بيتاً: "فانظر يا شريح لا تكون ابتعت هذه الدار من غير مالك - من خلال رشوة من هنا ورشوة من هناك - أو نقدت الثمن من غير حلالك، فإذاً أنت خسرت دار الدنيا ودار الآخرة"، ولذلك عندما يريد الإنسان أن يشتري أرضاً أو بيتاً فعليه أن ينظر هل جمع هذا المال الذي يريد أن يشتري به أرضاً أو داراً، من حلال أو من حرام.

السير في طريق الضلال:

ويقول الله تعالى: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً* الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا - هو يسير في هذه الدنيا على أساس أنه يحمل مفتاح الجنة بيده، لأنه لم يدقق في الخط الذي يسير عليه - وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً}. وقد ورد في الحديث عن عليّ(ع): "أخسر الناس من قدر على أن يقول الحق ولم يقله"، ثم يقول(ع): "إن أخسر الناس صفقة وأخيبهم سعياً، رجل أخلق بدنه في طلب آماله ولم تسعده المقادير على إرادته، فخرج من الدنيا بحسرته، وقدم على الآخرة بتبعته".

ويقول الله تعالى: {قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين}، فالإنسان الذي ينفتح على اللهو في الحياة ويغفل عن تربية أولاده، فهو في الآخرة ممن يخسر نفسه، لأنه ابتعد عن خط الله، وخسر أولاده لأنهم ساروا في طريق الضلال ولم يربيهم على الصلاح. لذلك، فكّروا في أرباح الآخرة وخسارتها، بأن نكون واعين لما نستقبله من الآخرة في حياتنا، {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدّمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون * ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون * لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون}.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله وانظروا لأنفسكم في خط مسؤولياتكم، وواجهوا كل المواقف من خلال ما حمّلكم الله من مسؤوليات في أنفسكم، أن تعملوا على أساس السير في طرق الفلاح والابتعاد عن السير في طرق الخسارة، وأن تواجهوا مسؤولياتكم عن الناس من حولكم، لا سيما في ساحة الصراع بين الحق والباطل، لا تكونوا حياديين بحيث تبتعدون عن الساحة وأنتم تستطيعون أن تعطوها حركة من حركتكم، لأن المستكبرين الظالمين يحصلون على القوة من خلال ابتعاد أهل الخير والحق عن المعركة.. فلنحاول أن نواجه الواقع المحلي والإقليمي والدولي من موقع المسؤولية، أن نخطط من أجل إسقاط الذين يكيدون لأمتنا وشعبنا، فتعالوا نعرف ما في هذا الأسبوع من تحديات:

النظام العراقي ومخاطر سياسته:

نلتقي في هذه الأيام بالذكرى العاشرة لغزو الكويت من قِبَل النظام العراقي، الذي أساء إلى شعب الكويت المسالم، ودمّر الواقع السياسي العربي كله، وأدخل الاستكبار الأمريكي في المنطقة من الباب الواسع، وأخرج العراق من دائرة القوة، وقاد العرب إلى مؤتمر "مدريد" الذي لا نزال ندفع – كأمة – كل نتائجه السلبية، واللعب بالقضية العربية كلها في ساحة الصراع العربي – الإسرائيلي، من أجل إنهاء القضية الفلسطينية لحساب إسرائيل..

وقد عانى الشعب العراقي من ذلك الكثير من ويلات الحرب والحصار المستمر، الذي تشرف عليه أمريكا وبريطانيا تحت مظلة الأمم المتحدة، بالإضافة إلى الاستعراضات العسكرية في سماء العراق من جهة، ومحاصرة النظام العراقي بالحديد والنار من جهة أخرى، ولا تزال اللعبة الأمريكية تحلق في أجواء المعارضة العراقية التي يحلم بعض جماعتها بالدعم الأمريكي للتغيير، في الوقت الذي نعرف فيه أن أمريكا تدعم النظام بشكل غير مباشر، لأنها بحاجة إليه في ابتزاز الخليج اقتصادياً، والإبقاء على قواتها في أرضه عسكرياً، وإرباك السياسة العربية، وإزعاج إيران، بالرغم من أن هذا النظام لم يعد في موقع القوة التي يهدد بها جيرانه، وذلك باعتراف أمريكا.. إننا حين نستذكر هذا الاحتلال، نريد للأمة أن تلتقي على أساس الموقف السياسي الموحَّد،الذي يعمل على إنقاذ الشعب العراقي في الداخل والخارج.

القضية الفلسطينية في الدوّامة:

وتبقى القدس – في معناها الشامل – في دائرة اللعبة الأمريكية التي يعمل رئيسها على استكمال الخطة الإسرائيلية في تهويدها بمختلف الوسائل، ويتحرك الواقع العربي والإسلامي بعيداً عن موقع القوة في المواجهة، وذلك بالاكتفاء بالتصريحات الاستعراضية العاطفية من دون خطة، وإننا نخشى أن تكون هناك خطة أمريكية – إسرائيلية خفية للضغط على سلطة الحكم الذاتي – تحت مظلة عربية – من أجل مصادرة قضية القدس بالخداع والتضليل، الأمر الذي يفرض على الشعوب العربية والإسلامية، والشعب الفلسطيني بالخصوص، الوقوف ضد هذه المؤامرة الخفية التي قد تمنح الفلسطينيين شيئاً من القدس من دون سلطة.. وقد تدخل قضية اللاجئين في دائرة التعويضات والتوطين الذي يتحدث البعض عنه، وذلك عبر نقل مئات الآلاف من اللاجئين إلى العراق، في نطاق سياسة مذهبية يقوم بها النظام هناك، مع إعادة بعض اللاجئين إلى فلسطين بشكل محدود.

إن السياسة الأمريكية في القضية الفلسطينية العربية، قد دخلت في دوامة الانتخابات الأمريكية، التي يعمل الرئيس الأمريكي – مع إدارته – على تحريك الخطة الخبيثة لمصادرة القضية الفلسطينية، والقدس بالذات، للحصول على أصوات اليهود لحساب مرشحه الديمقراطي.. وهذا ما قرأناه وسمعناه في الوعد بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، كاعتراف بأن القدس هي "عاصمة إسرائيل الأبدية الموحَّدة"..

وهكذا، تكرّ السبحة في تهديد سلطة الحكم الذاتي بالويل والثبور إذا أعلنت الدولة الفلسطينية من جانب واحد، في الوقت الذي لم تعترض فيه على إسرائيل لضمها القدس والجولان، وإقامة المستوطنات في الضفة وغزة من جانب واحد، لأن ما يجوز لإسرائيل – أمريكياً – لا يجوز للفلسطينيين ولا للعرب؟!

أيها العرب.. أيها المسلمون.. أيها الفلسطينيون: إن أمريكا هي العدو الأول لكل قضاياكم ومصالحكم، لأنها الصديقة الأولى لإسرائيل في الحرب والسلم، وفي الاقتصاد والسياسة والأمن، فلتكن المواقف منها على كل المستويات في دائرة هذا الواقع القديم – الجديد، ولتعرف الأجيال كلها أن هذه الدولة المستكبرة لن تُخلص لأي مستقبل عربي أو إسلامي أبداً.

خطر الوصاية المالية الدولية:

أما على المستوى اللبناني الداخلي، فإننا ونحن نسمع عن ضغوط تمارس على لبنان، لوضع كفة المساعدات أو الوعود بها من الدول المانحة، في كفة الانتشار الدولي واللبناني الرسمي في الجنوب، وضغوط دولية أخرى، لجعله تحت وصاية المؤسسات الاقتصادية الدولية، إننا أمام هذا الواقع نحذّر من دخول البلد في السوق الاستهلاكي المالي الدولي، أو تحت الوصاية المالية الدولية التي تصب نهاية المطاف في المشروع الأمريكي السياسي – الاقتصادي للمنطقة، لأن ذلك لن يوقف النزيف الاقتصادي اللبناني، بل سيجعله رهينة في قبضة الناهبين الدوليين، ليضغط على المواقف السياسية الاستراتيجية للدولة اللبنانية، والتي بقيت ثابتة في مسألة الصراع مع العدو ودعم المقاومة، على الرغم من حجم الضغوط الدولية المتزايدة..

إننا نعتقد أن البلد لا يزال يملك الكثير من الإمكانات السياسية والاقتصادية، التي تخوّله أن يعيد تحريك العجلة الاقتصادية بدوافع وقدرات داخلية ذاتية، وبالاستعانة بوسائط خارجية من دون ارتهان، ولا بد للجميع – في الموالاة والمعارضة – من أن يتعاونوا في هذا السبيل لتجاوز المرحلة الصعبة، من خلال التخطيط الذاتي الذي يدفع الآخرين للمساهمة، لا من خلال استدراج العروض السياسية والاقتصادية التي تقودنا إلى الضعف والارتهان..

إخراج البقاع من الحرمان:

وإننا – في نهاية المطاف – نريد للدولة بكل سياستها الإنمائية أن تخطط للتنمية الزراعية والصناعية لمنطقة بعلبك – الهرمل، وللبقاع بشكل عام، فقد وصل الوضع إلى مستوى الكارثة للناس المستضعفين هناك، وأصبح المواطن يعاني من فقدان أبسط الحاجات الضرورية، حتى بات في أدنى خطوط الفقر..

إننا نطلق الصوت عالياً لإخراج المنطقة من حالة الحرمان التاريخي، إلى حالة الحركة الاقتصادية المنتجة في كل مواردها الحيوية، لأن ذلك هو مسؤولية الدولة عن شعبها.. إن الطريقة السلحفاتية التي تُدار بها قضايا الشعب المعيشية في الوطن كله، لا تخدم قضية التحرير، لأننا نخشى أن يدخل العدو من شباك الأزمة، بعد أن خرج من باب الاحتلال.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية