في رحاب ذكرى المولد النبوي الشريف

في رحاب ذكرى المولد النبوي الشريف

في رحاب ذكرى المولد النبوي الشريف
يبقى رسول الله (ص) الأشد حضوراً فينا


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبة سماحته الأولى :

في هذه الأيام نلتقي بذكرى مولد رسول الله، محمد بن عبد الله(ص)، ونحن نلتقي برسول الله في كل يوم، عندما يرتفع الأذان وتُقام الصلاة، نذكره في كل صلواتنا وفي كل ابتهالاتنا، وفي كل حكم شرعي نلتزمه تحريماً أو تحليلاً، لأن رسول الله (ص) دخل في كل مفاصل حياتنا عندما اخترنا الإسلام الذي رضيه الله لنا ديناً، وجعل محمداً (ص) رسولاً للإسلام.

الرحمة للعالمين:

ونحن عندما نقرأ رسول الله (ص) في القرآن، فإن الله تعالى يُحدثنا عنه أن الله أرسله رحمة للعالمين، {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}، {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً}، فهو الرحمة التي أفاضها الله على الناس كلهم، هو الرحمة في عقله الذي انطلق من أجل أن يعطي للعالم عقلاً ينفتح على الله، وينفتح من خلاله على الحياة كلها وعلى الكون كله، جاء (ص) ليعقلن الإنسان الذي كان يتحرك من خلال الخرافة والوثنية المتحجّرة ومن خلال العادات والتقاليد البالية، ما يجعله يسقط عقله ويعيش عقل الآخرين حتى لو كانوا لا يعقلون ولا يعلمون.

جاء النبي محمد(ص) رحمة للعقل الإنساني ليقول للإنسان: إن الله تعالى وهبه عقلاً فلا يجمده أو يسقطه أو يخضعه للآخرين، بل أن يقوم عقله بالاختيار، وكان (ص) رحمة للقلب لأنه أراد للقلب الإنساني أن ينبض بالرحمة للناس كلهم، {وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة}، وأراد للقلب الإنساني أن ينبض بالمحبة، "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لها"، وكان رحمة لحركة الإنسان عندما أراد له أن يتحرك في الخط المستقيم الذي رسمه الله لنا، والذي يرتفع بإنسانية الإنسان، {الذين يتبّعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف - والمعروف هو كل ما يرفع مستوى الإنسان في كل حركته في الحياة - وينهاهم عن المنكر - والمنكر هو كل ما ينحدر بمستوى الإنسان - ويحلّ لهم الطيبات - فالله تعالى قد أحلّ لهم كل طيب - ويحرّم عليهم الخبائث - فما حرّمه الله هو الخبيث الذي تتمثل خباثته في نتائجه السلبية على عقل الإنسان وجسده وكل حياته - ويضع عنهم إصرهم - والإصر هو الثقل، فالنبي(ص) جاء بالشريعة السمحة السهلة - والأغلال التي كانت عليهم - جاء ليحطّم كل الأغلال التي وضعها المستكبرون والكافرون والمتخلّفون في العقل والقلب الإنساني وفي الحياة الإنسانية - فالذين آمنوا به وعزّروه - واحترموه - ونصروه واتبعوا النور الذي أُنزل معه أولئك هم المفلحون}، لأن من يعش النور في داخل شخصية رسول الله (ص) ليعرف عقله وقلبه وشريعته والقرآن الذي بلّغه، يتحرك في النور، وأنتم تعرفون أن كل من يتحرك في النور لا بدّ أن يهتدي الطريق، أما أولئك الذين لا يتّبعون رسول الله ولا يسيرون في خط هداه، ولا يأتمرون بما أمر به ولا ينتهون عما نهى عنه، فهم في ظلمات تتبعها ظلمات، ولذلك فإنهم لا يهتدون.

تجسيد الإيمان:

من هنا، نرى كيف طرح الله تعالى مسألة تقديم رسول الله(ص) لنفسه، يقول: {يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً - إلى الأبيض والأسود، والأحمر والأصفر، إلى الذين كانوا في زمنه والذين جاءوا بعد زمنه حتى قيام الساعة، لأن "حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرام محمد حرام إلى يوم القيامة"، فمهما تبدّلت الأوضاع واختلفت الأفكار فإن الحقيقة الرسالية التي أفاضها الله تعالى على قلب رسول الله (ص) لا تعرف حدود الزمان والمكان، فكل مكان تتحرك الحقيقة فيه، وكل زمان تنفتح الحقيقة عليه - الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله - آمنوا بعقولكم وقلوبكم وبكل حركتكم في الحياة - ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته - لاحظوا هذه اللفتة القرآنية، أن هناك من يأتون إليكم ليطلبوا منكم أن تؤمنوا ببعض الأفكار أو الخطوط، ولكنهم لا يؤمنون بها، يدعونكم إلى العدالة والحق وهم الظالمون والمبطلون، ولكن رسول الله (ص)، قبل أن ينطلق بالرسالة، وهو الذي يؤمن بالله وكلماته- واتبعوه}، اتبعوا هذا الذي عاش الإيمان بالله في عقله وقلبه كما لم يعش في عقل وقلب أحد، والذي استوعب كلمات الله التي أنزلها عليه وعلى رسله كما لو يستوعبها أحد، فلا تكتفوا بالإيمان ليبقى مجرد فكرة في عقولكم، ولكن ليتحوّل الإيمان إلى دم يجري في عروقكم، ونبضات تنبض في قلوبكم، وحركة تنطلق في حياتكم، أن يكون كل واحد منا مجسّداً للإيمان، كما كان رسول الله (ص) والأئمة (ع) من ذريته، وأبوهم معه، كانوا التجسيد للقرآن، "كان خلقه القرآن"، وكان الكتاب الناطق، لأن القرآن كان في كل آية من آياته وكل حقيقة من حقائقه وكل مفهوم من مفاهيمه يتمثل فيه، فأنت تسمع الآية من فمه الشريف، وتنظر إليها كيف تتحرك في كل قسمات وجهه ونبضات قلبه وكل حياته.

الحرص على الناس:

وحدّثنا الله تعالى عن رسوله في إنسانيته التي كانت تنساب في كل الناس من حوله، كان الناس يعيشون معه وكانوا يتطلعون إليه عندما تثقلهم الأحداث وتشق عليهم التحديات، كانوا يتطلعون إليه فيجدونه يتألم كما لو كانت المسألة تصيبه شخصياً، كانوا يتطلعون إلى عينيه فيجدون فيهما الرأفة كأرأف ما يكون الإنسان، ويجدون فيهما الرحمة كما لم يعش الرحمة إنسان، {لقد جاءكم رسول من أنفسكم - ليس رسولاً من الملائكة بل من البشر، فكيف هي صفاته وتفاعله مع الناس، فهو ليس كبعض الناس الذين يقفون في موقع القيادة يطلون على الناس من فوق، ويتكبّرون ويتجبّرون عليهم ولا يتحسسون آلامهم - عزيز عليكم ما عنتّم - يثقله ويشق عليه ما تعيشون فيه من مشقة - حريص عليكم - كحرص الأم التي تخاف على أولادها من أي سوء، فهو الحريص عليكم الذي لا يريد لكم أن تضلوا أو تضيعوا - بالمؤمنين رؤوف رحيم}، شأنه الرأفة والرحمة.

وكان لسانه هو اللسان الرقيق اللين الدافئ، وكانت كلماته كلمات المحبة والخير والرحمة، كان قلبه مفتوحاً لكل الناس، {فبما رحمة من الله لنت لهم - لين القلب واللسان - ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك}، وهذا درس لكل الرساليين، ولكل الذين يتحملون المسؤوليات العامة أو من هم في مواقع القيادة: لا تتضخّم شخصيتك عند نفسك عندما تراها في الموقع الأرفع، بل كن رقيق القلب واللسان، حتى تنفذ رقة قلبك ولسانك إلى قلوب الناس، فإذا ربحت قلوب الناس أمكنك أن تربح عقولهم بعد ذلك.

الرحمة بين المؤمنين:

ولكنه عندما كان الرحيم بالمؤمنين كان الشديد على الكافرين، ليست شدة القسوة في معنى إنسانيته، بل كان الشديد على الكافرين الذين لا يعقلون ولا يسمعون ولا يؤمنون بالحوار، حيث يستنفد الرسول(ص) كل جهده لإقناعهم بالابتعاد عن الكفر، ولكنهم يصرون على الوقوف في خط المواجهة ليشكلوا حاجزاً بينه وبين حريته في الرسالة، وكان هذا نهج صحابته الذين رباهم على الإسلام وقيمه،{محمد رسول الله والذين معه - في عصره وممن يسيرون مع رسالته - أشداء على الكفار - في ساحة المواجهة والحرب - رحماء بينهم}، فهل هذه هي صفتنا؟ أم أننا رحماء على الكفار وأشداء على أنفسنا، أليس كذلك؟ جرّبوا - وقد جرّبنا مع الأسف - أن يختلف مؤمن مع مؤمن، أو حزب مع حزب، أو قيادة مع قيادة، دينية كانت أو سياسية أو اجتماعية، إن أسلوب إثارة الخلافات فيما بيننا هو أسلوب التدمير، وهذا ما نراه في ممارسة أساليب الخلافات مع بعضنا البعض في الساحة الإيمانية، ندمّر فيها الإنسان في حياته وكرامته، أما مع الكفار، فعلينا أن نكون حضاريين معهم، وعلينا أن نتكلم معهم بالطريقة الطيبة، أليس هذا هو ما يطرحه البعض في واقعنا؟!!

العلاقة بالنهج:

وقال الله تعالى عنه: {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم}، ليست علاقتكم به علاقة نسبية، حتى الذين بينهم وبين رسول الله علاقة نسبية عليهم أن يؤكدوا علاقتهم الرسالية به، وقد قالها حبيب محمد وأخوه وصهره وابن عمه عليّ (ع): "إن وليّ محمد من أطاع الله وإن بعدت لحمته، وإن عدوّ محمد من عصى الله وإن قربت قرابته"..

ماذا يريد منا رسول الله (ص)؟ قال في "منى": "نصر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها، وبلّغها من لم يسمعها، فربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه. ثلاثة لا يغلّ عليها قلب عبد مسلم - لا يكون معها في قلبه غش أو نفاق - إخلاص العمل لله، والنصيحة لأئمة المسلمين، واللزوم لجماعتهم، فإن دعوتهم محيطة من ورائهم والمسلمون إخوة تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم".. "أيها الناس: المؤمنون إخوة ولا يحلّ لامرئ مال أخيه إلا عن طيب نفسه، اللهم هل بلّغت؟ اللهم اشهد، فلا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم أعناق بعض، فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي، اللهم هل بلغت؟ اللهم اشهد، أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى، ألا هل بلغت"؟ قالوا: نعم، فقال (ص): "فليبلّغ الشاهد الغائب".

الحفاظ على وحدة المسلمين:

في مولد رسول الله (ص) علينا أن نحفظ رسول الله بالإسلام، وعلينا أن نشعر بمسؤوليتنا عن الإسلام كله، وقد قال الله تعالى: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين}، فلا تنطلقوا يميناً ولا شمالاً ليأخذ أحدكم غير الإسلام ديناً، لأنه لن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين.. وعلينا أن نحافظ على وحدة المسلمين حتى لو اختلفنا في مذاهبنا واجتهاداتنا وفي كثير من خصوصياتنا، لأن علينا أن نلتقي على ما اتفقنا عليه، ونُرجع إلى الله والرسول ما اختلفنا فيه، فلاتتسابوا وتتلاعنوا، ولا تحقدوا على بعضكم البعض، ولا تجعلوا للكافرين والمستكبرين الفرصة للنفاذ إلى داخلكم، لأن الله جعلنا إخوة، فإذا اختلف الأخوة فأصلحوا بينهم. هذا هو نداء رسول الله لنا في هذا المولد، وعلينا أن نستجيب لندائه، وصلى الله على رسوله صلاة مباركة زاكية نامية وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله وانفتحوا على الإسلام كله، ولا ينحرف أحدكم عنه في أي خط من خطوطه، وأي منهج من مناهجه، ولنتحرك جميعاً لنواجه ساحة الصراع بين الإسلام وبين الكفر كله، فقد برز الكفر كله إلى الإسلام كله، فعلى الإسلام كله أن يبرز إلى الكفر كله، وعلينا أن نواجه ساحة الصراع التي يعيشها المسلمون في كل قضاياهم السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية في مواجهتهم مع الاستكبار العالمي الذي يكيد للإسلام والمسلمين.. علينا أن نشعر بانتمائنا إلى الإسلام انتماءً عضوياً أكثر مما نتحسس انتماءنا إلى قومياتنا وعوائلنا وأوطاننا، الإسلام هو الهوية التي أعطانا الله إياها لتكون هويتنا العقلية والقلبية والحركية والحياتية كلها..

وعلى ضوء هذا، لا بد أن نواجه كل التحديات التي نعيشها الآن، ونحن لا نزال نعيش التحديات الكبرى على مستوى الواقع السياسي والاقتصادي والأمني، فماذا هناك؟

سوريا...ضغوط أمريكية متزايدة:

تتسارع التطورات في هذه المرحلة أمام الأحداث في المنطقة، وتكثر الخطط لتغيير الأوضاع العربية لمصلحة السياسة الأمريكية من جهة، وخلط الأوراق لحساب السياسة الصهيونية من جهة أخرى.. وهاهي أمريكا تتحدث عن ضرورة انفتاح سوريا على العالم، وابـتـعادها - حسب تعبير المسؤول الأمريكي - عن "الإرهاب"، في لغة تهديدية لتمارس المزيد من الضغوط على سوريا، سعياً لتغيير سياستها، وتطويع قيادتها الجديدة للسير في خط السياسة الأمريكية..

الفلسطينيون.. الدوامة السياسية:

وإلى جانب ذلك، يقف الفلسطينيون أمام أكثر من حائط مسدود في المفاوضات، نتيجة امتناع إسرائيل عن تقديم أية مبادرة في قضية القدس وعودة اللاجئين والمستوطنات، والاكتفاء ببعض الأمور التي تعطي الفلسطينيين دولة مقطّعة الأوصال، في "جزيرة" معزولة عن العالم لا تملك حدوداً ولا صلاحيات أمنية أو خارجية، ولا ظروفاً اقتصادية مستقلة..

ويبقى رئيس سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني في الدوامة السياسية الأمريكية، التي تدفعه إلى المتاهات الضائعة، وتبعده عن القضية الحيوية، ليقدّم التنازلات تلو التنازلات لحساب إسرائيل، في ظلّ دعوة أمريكية لمساعدة رئيس حكومتها "باراك" للتغلب على مشاكله الحكومية، وذلك لتسهيل خطته في عملية التسوية.. والعالم العربي حائر، يقدّم رجلاً ويؤخّر أخرى، ويعيش في حالة من الحيرة والارتباك بعد غياب الرئيس الأسد عن الساحة، هذا الغياب الذي قدّم لبعض العرب فرصة جديدة للاقتراب من العدو، وللبعض الآخر فرصة لخدمة السياسة الأمريكية، وإطلاق التصريحات الضبابية في تأييد الواقع الجديد في سوريا، مع بعض مفردات اللعبة السياسية الغامضة..

العدو..التخطيط لشرق أوسط جديد:

أما لبنان، فإنه لا يزال مشغولاً بعملية ترسيم الحدود التي تعمل إسرائيل على تعقيدها، محاولة اللعب على عامل الوقت الذي تستعجله الأمم المتحدة لإعلان إتمام عملية الانسحاب الإسرائيلي، ما قد يترك تأثيراً سلبياً على الحدود اللبنانية.

إننا - من خلال هذه الصورة - نطل على مرحلة دقيقة يخطط فيها العدو الإسرائيلي "لشرق أوسط جديد ومختلف"، مع نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة، يراهن فيها العدو على تساقط الأوراق العربية تباعاً في يديه، لأنه يجد أن الشخصية العربية التاريخية على مستوى الأنظمة كلها قد ذهبت، وأن الطريق بات مفتوحاً أمامه للسير في خط التسوية التي تأكل البقية الباقية من الشروط العربية، في الأرض والثروات والحقوق والقرار.

إن المرحلة تتطلب جهوداً مضاعَفة في حركة السياسة العربية، من أجل إعادة التوازن إلى الساحة في القضية المصيرية، لأن استمرار هذا الضياع والتمزق والارتباك سوف يُسقط المستقبل كله تحت أقدام السياسة الصهيونية المتحالفة - استراتيجياً - مع السياسة الأمريكية، التي لا تعطي أية أهمية للأمن العربي والمصالح العربية، بل كل ما عندها هو خدمة المصالح الإسرائيلية المتداخلة مع المصالح الأمريكية..

الشعب العربي في دائرة التغييب:

ولكن المشكلة في هذا العالم العربي هي أن الأشخاص هم الذين يقررون مصير شعوبهم، تبعاً لمصالحهم الشخصية والعائلية، وليست المؤسسات، ما يجعل الشعوب مغَيّبة عن أي قرار سياسي أو اقتصادي أو أمني تحت ضغط قوانين الطوارئ وأجهزة المخابرات، الأمر الذي يجعل الاستكبار العالمي يمارس الضغوط على المواقع الرسمية لتقديم التنازلات المتعددة، من دون خوف من حركة الشعوب في ساحة الرفض والمجابهة، لأن الاتهام بالإرهاب لكل حركة رفض جاهز في الحرب الإعلامية، وكذلك توجيه الاتهام بدعم "الإرهاب" للدول المؤيدة لحركة التحرر في الحرب السياسية والاقتصادية..

الارتفاع إلى مستوى المرحلة:

ومن هنا، فإننا ندعو - ولو لمرة واحدة - لوقفة عربية واعية حرّة لحماية المستقبل الذي تحيط به الأخطار القديمة والجديدة من كل الجهات، كما ندعو إلى تمتين وتحصين الساحة اللبنانية الداخلية بعناصر سياسية قوية تتناسب وحجم التحديات القادمة التي سوف يقوم بها العدو، ولا سيما إثارة بعض المفردات السياسية التي تحاول إرباك العلاقات مع سوريا، كقضية الوجود السوري في لبنان، تماماً كما لو كانت المسألة توازي الاحتلال الإسرائيلي، مع العلم أن هذه القضية تخضع لحسابات دقيقة في العلاقات السورية ـ اللبنانية لمصلحة لبنان.

إن المطلوب في هذه المرحلة حماية الواقع السياسي من اللاعبين الكثر الذين سيدخلون على الخط قريباً، في أكثر من رهان سياسي.. لذلك، فإن وحدة المسارين من جهة، وحيوية العلاقات السورية - اللبنانية لمصلحة البلدين من جهة أخرى، تفرض على الجميع الارتفاع إلى مستوى الوعي الوطني، بعيداً عن كل وسائل اللعبة السياسية.

ولا بد من الحفاظ على نتائج الانتصار الجهادي، الذي حققه المجاهدون على العدو، في أول هزيمة تلحق بإسرائيل في واقع الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وذلك بالمزيد من الحسابات الدقيقة للمستقبل، التي تخطط للانتصار على الفساد والتخلّف والفوضى السياسية، وتؤكد على حماية المقاومة من كل الألاعيب السياسية الداخلية والخارجية، فإن الذين بذلوا الدماء وقدّموا التضحيات في سبيل الأمة كلها والوطن كله يستحقون كل حماية وإكرام وإعزاز، لأن الأمة التي لا تحمي أبطالها ومجاهديها هي أمة لا تستحق الحياة..

إننا أمام تطور خطير على مستوى الوطن والأمة، وعلينا الارتفاع إلى مستوى المرحلة لنعرف كيف نحميها من كل الانهيارات السياسية والاقتصادية والأمنية، التي يخطط لها الاستكبار العالمي - وفي مقدمته أمريكا - لخدمة مصالحه ومصالح إسرائيل، على حساب مستقبلنا كله.

في رحاب ذكرى المولد النبوي الشريف
يبقى رسول الله (ص) الأشد حضوراً فينا


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبة سماحته الأولى :

في هذه الأيام نلتقي بذكرى مولد رسول الله، محمد بن عبد الله(ص)، ونحن نلتقي برسول الله في كل يوم، عندما يرتفع الأذان وتُقام الصلاة، نذكره في كل صلواتنا وفي كل ابتهالاتنا، وفي كل حكم شرعي نلتزمه تحريماً أو تحليلاً، لأن رسول الله (ص) دخل في كل مفاصل حياتنا عندما اخترنا الإسلام الذي رضيه الله لنا ديناً، وجعل محمداً (ص) رسولاً للإسلام.

الرحمة للعالمين:

ونحن عندما نقرأ رسول الله (ص) في القرآن، فإن الله تعالى يُحدثنا عنه أن الله أرسله رحمة للعالمين، {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}، {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً}، فهو الرحمة التي أفاضها الله على الناس كلهم، هو الرحمة في عقله الذي انطلق من أجل أن يعطي للعالم عقلاً ينفتح على الله، وينفتح من خلاله على الحياة كلها وعلى الكون كله، جاء (ص) ليعقلن الإنسان الذي كان يتحرك من خلال الخرافة والوثنية المتحجّرة ومن خلال العادات والتقاليد البالية، ما يجعله يسقط عقله ويعيش عقل الآخرين حتى لو كانوا لا يعقلون ولا يعلمون.

جاء النبي محمد(ص) رحمة للعقل الإنساني ليقول للإنسان: إن الله تعالى وهبه عقلاً فلا يجمده أو يسقطه أو يخضعه للآخرين، بل أن يقوم عقله بالاختيار، وكان (ص) رحمة للقلب لأنه أراد للقلب الإنساني أن ينبض بالرحمة للناس كلهم، {وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة}، وأراد للقلب الإنساني أن ينبض بالمحبة، "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لها"، وكان رحمة لحركة الإنسان عندما أراد له أن يتحرك في الخط المستقيم الذي رسمه الله لنا، والذي يرتفع بإنسانية الإنسان، {الذين يتبّعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف - والمعروف هو كل ما يرفع مستوى الإنسان في كل حركته في الحياة - وينهاهم عن المنكر - والمنكر هو كل ما ينحدر بمستوى الإنسان - ويحلّ لهم الطيبات - فالله تعالى قد أحلّ لهم كل طيب - ويحرّم عليهم الخبائث - فما حرّمه الله هو الخبيث الذي تتمثل خباثته في نتائجه السلبية على عقل الإنسان وجسده وكل حياته - ويضع عنهم إصرهم - والإصر هو الثقل، فالنبي(ص) جاء بالشريعة السمحة السهلة - والأغلال التي كانت عليهم - جاء ليحطّم كل الأغلال التي وضعها المستكبرون والكافرون والمتخلّفون في العقل والقلب الإنساني وفي الحياة الإنسانية - فالذين آمنوا به وعزّروه - واحترموه - ونصروه واتبعوا النور الذي أُنزل معه أولئك هم المفلحون}، لأن من يعش النور في داخل شخصية رسول الله (ص) ليعرف عقله وقلبه وشريعته والقرآن الذي بلّغه، يتحرك في النور، وأنتم تعرفون أن كل من يتحرك في النور لا بدّ أن يهتدي الطريق، أما أولئك الذين لا يتّبعون رسول الله ولا يسيرون في خط هداه، ولا يأتمرون بما أمر به ولا ينتهون عما نهى عنه، فهم في ظلمات تتبعها ظلمات، ولذلك فإنهم لا يهتدون.

تجسيد الإيمان:

من هنا، نرى كيف طرح الله تعالى مسألة تقديم رسول الله(ص) لنفسه، يقول: {يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً - إلى الأبيض والأسود، والأحمر والأصفر، إلى الذين كانوا في زمنه والذين جاءوا بعد زمنه حتى قيام الساعة، لأن "حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرام محمد حرام إلى يوم القيامة"، فمهما تبدّلت الأوضاع واختلفت الأفكار فإن الحقيقة الرسالية التي أفاضها الله تعالى على قلب رسول الله (ص) لا تعرف حدود الزمان والمكان، فكل مكان تتحرك الحقيقة فيه، وكل زمان تنفتح الحقيقة عليه - الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله - آمنوا بعقولكم وقلوبكم وبكل حركتكم في الحياة - ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته - لاحظوا هذه اللفتة القرآنية، أن هناك من يأتون إليكم ليطلبوا منكم أن تؤمنوا ببعض الأفكار أو الخطوط، ولكنهم لا يؤمنون بها، يدعونكم إلى العدالة والحق وهم الظالمون والمبطلون، ولكن رسول الله (ص)، قبل أن ينطلق بالرسالة، وهو الذي يؤمن بالله وكلماته- واتبعوه}، اتبعوا هذا الذي عاش الإيمان بالله في عقله وقلبه كما لم يعش في عقل وقلب أحد، والذي استوعب كلمات الله التي أنزلها عليه وعلى رسله كما لو يستوعبها أحد، فلا تكتفوا بالإيمان ليبقى مجرد فكرة في عقولكم، ولكن ليتحوّل الإيمان إلى دم يجري في عروقكم، ونبضات تنبض في قلوبكم، وحركة تنطلق في حياتكم، أن يكون كل واحد منا مجسّداً للإيمان، كما كان رسول الله (ص) والأئمة (ع) من ذريته، وأبوهم معه، كانوا التجسيد للقرآن، "كان خلقه القرآن"، وكان الكتاب الناطق، لأن القرآن كان في كل آية من آياته وكل حقيقة من حقائقه وكل مفهوم من مفاهيمه يتمثل فيه، فأنت تسمع الآية من فمه الشريف، وتنظر إليها كيف تتحرك في كل قسمات وجهه ونبضات قلبه وكل حياته.

الحرص على الناس:

وحدّثنا الله تعالى عن رسوله في إنسانيته التي كانت تنساب في كل الناس من حوله، كان الناس يعيشون معه وكانوا يتطلعون إليه عندما تثقلهم الأحداث وتشق عليهم التحديات، كانوا يتطلعون إليه فيجدونه يتألم كما لو كانت المسألة تصيبه شخصياً، كانوا يتطلعون إلى عينيه فيجدون فيهما الرأفة كأرأف ما يكون الإنسان، ويجدون فيهما الرحمة كما لم يعش الرحمة إنسان، {لقد جاءكم رسول من أنفسكم - ليس رسولاً من الملائكة بل من البشر، فكيف هي صفاته وتفاعله مع الناس، فهو ليس كبعض الناس الذين يقفون في موقع القيادة يطلون على الناس من فوق، ويتكبّرون ويتجبّرون عليهم ولا يتحسسون آلامهم - عزيز عليكم ما عنتّم - يثقله ويشق عليه ما تعيشون فيه من مشقة - حريص عليكم - كحرص الأم التي تخاف على أولادها من أي سوء، فهو الحريص عليكم الذي لا يريد لكم أن تضلوا أو تضيعوا - بالمؤمنين رؤوف رحيم}، شأنه الرأفة والرحمة.

وكان لسانه هو اللسان الرقيق اللين الدافئ، وكانت كلماته كلمات المحبة والخير والرحمة، كان قلبه مفتوحاً لكل الناس، {فبما رحمة من الله لنت لهم - لين القلب واللسان - ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك}، وهذا درس لكل الرساليين، ولكل الذين يتحملون المسؤوليات العامة أو من هم في مواقع القيادة: لا تتضخّم شخصيتك عند نفسك عندما تراها في الموقع الأرفع، بل كن رقيق القلب واللسان، حتى تنفذ رقة قلبك ولسانك إلى قلوب الناس، فإذا ربحت قلوب الناس أمكنك أن تربح عقولهم بعد ذلك.

الرحمة بين المؤمنين:

ولكنه عندما كان الرحيم بالمؤمنين كان الشديد على الكافرين، ليست شدة القسوة في معنى إنسانيته، بل كان الشديد على الكافرين الذين لا يعقلون ولا يسمعون ولا يؤمنون بالحوار، حيث يستنفد الرسول(ص) كل جهده لإقناعهم بالابتعاد عن الكفر، ولكنهم يصرون على الوقوف في خط المواجهة ليشكلوا حاجزاً بينه وبين حريته في الرسالة، وكان هذا نهج صحابته الذين رباهم على الإسلام وقيمه،{محمد رسول الله والذين معه - في عصره وممن يسيرون مع رسالته - أشداء على الكفار - في ساحة المواجهة والحرب - رحماء بينهم}، فهل هذه هي صفتنا؟ أم أننا رحماء على الكفار وأشداء على أنفسنا، أليس كذلك؟ جرّبوا - وقد جرّبنا مع الأسف - أن يختلف مؤمن مع مؤمن، أو حزب مع حزب، أو قيادة مع قيادة، دينية كانت أو سياسية أو اجتماعية، إن أسلوب إثارة الخلافات فيما بيننا هو أسلوب التدمير، وهذا ما نراه في ممارسة أساليب الخلافات مع بعضنا البعض في الساحة الإيمانية، ندمّر فيها الإنسان في حياته وكرامته، أما مع الكفار، فعلينا أن نكون حضاريين معهم، وعلينا أن نتكلم معهم بالطريقة الطيبة، أليس هذا هو ما يطرحه البعض في واقعنا؟!!

العلاقة بالنهج:

وقال الله تعالى عنه: {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم}، ليست علاقتكم به علاقة نسبية، حتى الذين بينهم وبين رسول الله علاقة نسبية عليهم أن يؤكدوا علاقتهم الرسالية به، وقد قالها حبيب محمد وأخوه وصهره وابن عمه عليّ (ع): "إن وليّ محمد من أطاع الله وإن بعدت لحمته، وإن عدوّ محمد من عصى الله وإن قربت قرابته"..

ماذا يريد منا رسول الله (ص)؟ قال في "منى": "نصر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها، وبلّغها من لم يسمعها، فربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه. ثلاثة لا يغلّ عليها قلب عبد مسلم - لا يكون معها في قلبه غش أو نفاق - إخلاص العمل لله، والنصيحة لأئمة المسلمين، واللزوم لجماعتهم، فإن دعوتهم محيطة من ورائهم والمسلمون إخوة تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم".. "أيها الناس: المؤمنون إخوة ولا يحلّ لامرئ مال أخيه إلا عن طيب نفسه، اللهم هل بلّغت؟ اللهم اشهد، فلا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم أعناق بعض، فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي، اللهم هل بلغت؟ اللهم اشهد، أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى، ألا هل بلغت"؟ قالوا: نعم، فقال (ص): "فليبلّغ الشاهد الغائب".

الحفاظ على وحدة المسلمين:

في مولد رسول الله (ص) علينا أن نحفظ رسول الله بالإسلام، وعلينا أن نشعر بمسؤوليتنا عن الإسلام كله، وقد قال الله تعالى: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين}، فلا تنطلقوا يميناً ولا شمالاً ليأخذ أحدكم غير الإسلام ديناً، لأنه لن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين.. وعلينا أن نحافظ على وحدة المسلمين حتى لو اختلفنا في مذاهبنا واجتهاداتنا وفي كثير من خصوصياتنا، لأن علينا أن نلتقي على ما اتفقنا عليه، ونُرجع إلى الله والرسول ما اختلفنا فيه، فلاتتسابوا وتتلاعنوا، ولا تحقدوا على بعضكم البعض، ولا تجعلوا للكافرين والمستكبرين الفرصة للنفاذ إلى داخلكم، لأن الله جعلنا إخوة، فإذا اختلف الأخوة فأصلحوا بينهم. هذا هو نداء رسول الله لنا في هذا المولد، وعلينا أن نستجيب لندائه، وصلى الله على رسوله صلاة مباركة زاكية نامية وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله وانفتحوا على الإسلام كله، ولا ينحرف أحدكم عنه في أي خط من خطوطه، وأي منهج من مناهجه، ولنتحرك جميعاً لنواجه ساحة الصراع بين الإسلام وبين الكفر كله، فقد برز الكفر كله إلى الإسلام كله، فعلى الإسلام كله أن يبرز إلى الكفر كله، وعلينا أن نواجه ساحة الصراع التي يعيشها المسلمون في كل قضاياهم السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية في مواجهتهم مع الاستكبار العالمي الذي يكيد للإسلام والمسلمين.. علينا أن نشعر بانتمائنا إلى الإسلام انتماءً عضوياً أكثر مما نتحسس انتماءنا إلى قومياتنا وعوائلنا وأوطاننا، الإسلام هو الهوية التي أعطانا الله إياها لتكون هويتنا العقلية والقلبية والحركية والحياتية كلها..

وعلى ضوء هذا، لا بد أن نواجه كل التحديات التي نعيشها الآن، ونحن لا نزال نعيش التحديات الكبرى على مستوى الواقع السياسي والاقتصادي والأمني، فماذا هناك؟

سوريا...ضغوط أمريكية متزايدة:

تتسارع التطورات في هذه المرحلة أمام الأحداث في المنطقة، وتكثر الخطط لتغيير الأوضاع العربية لمصلحة السياسة الأمريكية من جهة، وخلط الأوراق لحساب السياسة الصهيونية من جهة أخرى.. وهاهي أمريكا تتحدث عن ضرورة انفتاح سوريا على العالم، وابـتـعادها - حسب تعبير المسؤول الأمريكي - عن "الإرهاب"، في لغة تهديدية لتمارس المزيد من الضغوط على سوريا، سعياً لتغيير سياستها، وتطويع قيادتها الجديدة للسير في خط السياسة الأمريكية..

الفلسطينيون.. الدوامة السياسية:

وإلى جانب ذلك، يقف الفلسطينيون أمام أكثر من حائط مسدود في المفاوضات، نتيجة امتناع إسرائيل عن تقديم أية مبادرة في قضية القدس وعودة اللاجئين والمستوطنات، والاكتفاء ببعض الأمور التي تعطي الفلسطينيين دولة مقطّعة الأوصال، في "جزيرة" معزولة عن العالم لا تملك حدوداً ولا صلاحيات أمنية أو خارجية، ولا ظروفاً اقتصادية مستقلة..

ويبقى رئيس سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني في الدوامة السياسية الأمريكية، التي تدفعه إلى المتاهات الضائعة، وتبعده عن القضية الحيوية، ليقدّم التنازلات تلو التنازلات لحساب إسرائيل، في ظلّ دعوة أمريكية لمساعدة رئيس حكومتها "باراك" للتغلب على مشاكله الحكومية، وذلك لتسهيل خطته في عملية التسوية.. والعالم العربي حائر، يقدّم رجلاً ويؤخّر أخرى، ويعيش في حالة من الحيرة والارتباك بعد غياب الرئيس الأسد عن الساحة، هذا الغياب الذي قدّم لبعض العرب فرصة جديدة للاقتراب من العدو، وللبعض الآخر فرصة لخدمة السياسة الأمريكية، وإطلاق التصريحات الضبابية في تأييد الواقع الجديد في سوريا، مع بعض مفردات اللعبة السياسية الغامضة..

العدو..التخطيط لشرق أوسط جديد:

أما لبنان، فإنه لا يزال مشغولاً بعملية ترسيم الحدود التي تعمل إسرائيل على تعقيدها، محاولة اللعب على عامل الوقت الذي تستعجله الأمم المتحدة لإعلان إتمام عملية الانسحاب الإسرائيلي، ما قد يترك تأثيراً سلبياً على الحدود اللبنانية.

إننا - من خلال هذه الصورة - نطل على مرحلة دقيقة يخطط فيها العدو الإسرائيلي "لشرق أوسط جديد ومختلف"، مع نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة، يراهن فيها العدو على تساقط الأوراق العربية تباعاً في يديه، لأنه يجد أن الشخصية العربية التاريخية على مستوى الأنظمة كلها قد ذهبت، وأن الطريق بات مفتوحاً أمامه للسير في خط التسوية التي تأكل البقية الباقية من الشروط العربية، في الأرض والثروات والحقوق والقرار.

إن المرحلة تتطلب جهوداً مضاعَفة في حركة السياسة العربية، من أجل إعادة التوازن إلى الساحة في القضية المصيرية، لأن استمرار هذا الضياع والتمزق والارتباك سوف يُسقط المستقبل كله تحت أقدام السياسة الصهيونية المتحالفة - استراتيجياً - مع السياسة الأمريكية، التي لا تعطي أية أهمية للأمن العربي والمصالح العربية، بل كل ما عندها هو خدمة المصالح الإسرائيلية المتداخلة مع المصالح الأمريكية..

الشعب العربي في دائرة التغييب:

ولكن المشكلة في هذا العالم العربي هي أن الأشخاص هم الذين يقررون مصير شعوبهم، تبعاً لمصالحهم الشخصية والعائلية، وليست المؤسسات، ما يجعل الشعوب مغَيّبة عن أي قرار سياسي أو اقتصادي أو أمني تحت ضغط قوانين الطوارئ وأجهزة المخابرات، الأمر الذي يجعل الاستكبار العالمي يمارس الضغوط على المواقع الرسمية لتقديم التنازلات المتعددة، من دون خوف من حركة الشعوب في ساحة الرفض والمجابهة، لأن الاتهام بالإرهاب لكل حركة رفض جاهز في الحرب الإعلامية، وكذلك توجيه الاتهام بدعم "الإرهاب" للدول المؤيدة لحركة التحرر في الحرب السياسية والاقتصادية..

الارتفاع إلى مستوى المرحلة:

ومن هنا، فإننا ندعو - ولو لمرة واحدة - لوقفة عربية واعية حرّة لحماية المستقبل الذي تحيط به الأخطار القديمة والجديدة من كل الجهات، كما ندعو إلى تمتين وتحصين الساحة اللبنانية الداخلية بعناصر سياسية قوية تتناسب وحجم التحديات القادمة التي سوف يقوم بها العدو، ولا سيما إثارة بعض المفردات السياسية التي تحاول إرباك العلاقات مع سوريا، كقضية الوجود السوري في لبنان، تماماً كما لو كانت المسألة توازي الاحتلال الإسرائيلي، مع العلم أن هذه القضية تخضع لحسابات دقيقة في العلاقات السورية ـ اللبنانية لمصلحة لبنان.

إن المطلوب في هذه المرحلة حماية الواقع السياسي من اللاعبين الكثر الذين سيدخلون على الخط قريباً، في أكثر من رهان سياسي.. لذلك، فإن وحدة المسارين من جهة، وحيوية العلاقات السورية - اللبنانية لمصلحة البلدين من جهة أخرى، تفرض على الجميع الارتفاع إلى مستوى الوعي الوطني، بعيداً عن كل وسائل اللعبة السياسية.

ولا بد من الحفاظ على نتائج الانتصار الجهادي، الذي حققه المجاهدون على العدو، في أول هزيمة تلحق بإسرائيل في واقع الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وذلك بالمزيد من الحسابات الدقيقة للمستقبل، التي تخطط للانتصار على الفساد والتخلّف والفوضى السياسية، وتؤكد على حماية المقاومة من كل الألاعيب السياسية الداخلية والخارجية، فإن الذين بذلوا الدماء وقدّموا التضحيات في سبيل الأمة كلها والوطن كله يستحقون كل حماية وإكرام وإعزاز، لأن الأمة التي لا تحمي أبطالها ومجاهديها هي أمة لا تستحق الحياة..

إننا أمام تطور خطير على مستوى الوطن والأمة، وعلينا الارتفاع إلى مستوى المرحلة لنعرف كيف نحميها من كل الانهيارات السياسية والاقتصادية والأمنية، التي يخطط لها الاستكبار العالمي - وفي مقدمته أمريكا - لخدمة مصالحه ومصالح إسرائيل، على حساب مستقبلنا كله.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية