للانفتاح على الله من خلال علي(ع)
في مثل هذه اللقاءات، ونحن بين يدي الله، نرجو رحمته، ونخاف عذابه، وننفتح على كتابه وسنّة نبيّه، لا بدّ أن نستمع دائماً إلى ما يليّن قلوبنا، لأن قلوبنا، بفعل كل ما نعيشه قد قست، فهي كالحجارة بل أشدّ قسوة. ولا بدّ لنا أن نفتح عقولنا، لأن عقولنا قد تحجّرت وأصبحت تضيق بالحقيقة، فهي ترفض الحقيقة من خلال ما عاشته من تقاليد وعادات..
ولا بدّ لنا في هذا اللقاء أن نقف مع الإمام علي(ع)، الذي كانت حياته كلها لله، وكانت صحبته كلها لرسول الله(ص)، ولذلك فكتاب الله كله في عقل علي(ع)، وسنّة رسول الله(ص) كلها في قلبه، وعلي(ع) ليس من الناس الذين يكتفون بما يتعلّمونه، ولكنه يضيف إلى العلم علماً، وإلى الفكر فكراً. ولذلك، فإن الذي يريد أن يصل إلى الله لا بدّ أن يمرّ بطريق علي(ع)، لأن طريق علي(ع) هو الطريق الذي يسلك فيه الإنسان إلى الله.
فلنجلس إلى مائدة علي(ع) الروحية والفكرية، فلعلّه يليّن قلوبنا، ويفتح عقولنا، ويجعل أعمالنا في خط الاستفادة.
عدم اتباع الشهوات:
يقول علي(ع) في نهج البلاغة: "الدنيا دار ممرّ ـ فليس هناك من يقيم فيها إقامة دائمة ـ والآخرة دار مقرّ ـ {وإن الدار الآخرة لهي الحيوان} ـ والناس فيها رجلان: رجلٌ باع نفسه للشيطان، فملك الشيطان قياده، فهو يأتمر بأمره ويتّبع نهجه، فإذا أراد له الشيطان أن يكفر كفر، وإذا أراد له أن يفسق فسق، وإذا أراد له أن يستغرق في الشهوات واللذات المحرمة استغرق فيها، وإذا أنساه ذكر ربّه نسي ذكر الله ـ باع نفسه للشيطان فأوبقها ـ يعني أهلكها، وهو الذي لا يفكر في كل ما يأخذ به وما يدعه، ككثير من الناس الذين خضعوا للبيئة التي يعيشون فيها، فإذا حدثتهم عن الله حدثوك عن العصر، وإذا حدثتهم عن رسول الله(ص) حدثوك عن الناس، وإذا حدثتهم عن كتاب الله وسنّة رسوله حدثوك عن كلام فلان وكلام فلان، ولا يفكرون بأن الله أعطانا عقلاً وقلباً وإرادة، وحمّلنا مسؤولية، فلماذا نتّبع الآخرين الذين خضعوا لشهواتهم ونترك عقولنا، والله يحاسبنا بما أعطانا من عقل ووسائل نستطيع من خلالها معرفة الصح والخطأ، فالقضية قضية مصير. وغداً عندما يسألنا الله تعالى: {ألم يأتكم نذير} ينبغي ألا يكون جوابنا كجواب الذين: {قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما أنزل الله من شيء} {وبشّر عبادي الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه} ـ ورجل ابتاع نفسه ـ اشتراها بإنقاذها من يد الشيطان وأبعدها عن الشهوات واللذات المحرمة ـ فأعتقها ـ فأنت إذا اشتريت نفسك فإنك بذلك تعتقها من كل الذي يريد أن يضغط عليها، فلتكن سيد نفسك، ولا تجعل لأحد سيادة عليها. فنفسك هي التي تمثل دنياك وآخرتك وسوف تحشر يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها.
ابتغاء مرضاة الله:
والإمام علي(ع) بعد النبي(ص) هو سيد من اشترى نفسه، فقد أنزل الله فيه آية كريمة، عندما بات على فراش النبي(ص) ليلة الهجرة هي: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد}، ألا نقتدي بعلي(ع) الذي اشترى نفسه وحرّرها فكان سيد نفسه.
التعامل بصدق مع عطاءات الله :
ثم يوجّه الإمام(ع) الإنسان إلى أربعة أمور، يقول: "من أعطي أربعاً لم يحرم أربعاً، من أعطي الدعاء لم يحرم الإجابة ـ إذا أعطاك الله الدعاء، فكنت ممن يدعو الله في كل أمورك وكل حاجاتك، فإن الله لا يحرمك من إجابته ـ ومن أعطي التوبة لم يحرم القبول ـ فإذا تُبت إلى الله من ذنوبك وأشهدت الله على قلبك أنك نادم على ما بدر منك، فإن الله يقبل توبتك ـ ومن أعطي الاستغفار لم يحرم المغفرة ـ إذا كنت ممّن يستغفر من ذنوبه بين يدي الله، فإن الله لا يحرمك من مغفرته ـ ومن أعطي الشكر لم يحرم الزيادة".
ثم يقول: "وتصديق ذلك، قال [الله] في الدعاء:{ادعوني أستجب لكم} ـ وبعض الناس يقول إنه يدعو الله ولكنه لا يستجاب له، والسبب وجود موانع في نفسك تمنع من صعود الدعاء إلى الله، أو أن الله الرحمن الرحيم عرف في رحمته أنك طلبت شيئاً ليس في مصلحتك أو في مصلحة الناس من حولك ـ وقال في الاستغفار: {ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً} ـ لذلك لا تكفوا عن الاستغفار أينما كنتم، والاستغفار لا بد أن يكون بالقلب كما باللسان ـ وقال في الشكر: {لئن شكرتم لأزيدنكم}، وقال في التوبة: {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليماً حكيماً}".
الاعتبار بالموت:
وفي كلمة للإمام(ع) وهو يشارك في جنازة، وقد سمع رجلاً يضحك ـ وهو ما يحدث مع كثير منا اليوم ـ، قال(ع): "كأن الموت في الدنيا على غيرنا كتب ـ أي كأن هذا الميت مات ونحن لن نموت ـ وكأن الحق فيها على غيرنا وجب ـ ونحن عندما ننطلق إلى الموت فإننا سوف نواجه الحق بمسؤولياتنا ـ وكأن الذين نرى من الأموات سفرٌ عمّا قليل إلينا راجعون ـ فكأننا نودّعه كمن يودّع مسافراً سيعود ـ نبؤتهم أجداثهم، ونأكل تراثهم، وكأنّا مخلّدون بعدهم"، أي كأنهم آخر الأموات وكأننا لن نموت.
السير على هدي الشريعة:
ثم يقول الإمام(ع): "نسينا كل واعظ وواعظة ـ فقد انشغلنا بالدنيا وبشهواتنا وبخلافاتنا، عن الوعظ ـ ورمينا بكل جارحة ـ بكل بلاء ـ طوبى لمن ذلّ في نفسه ـ لم يعش الكبرياء، فعرف حجمه وقدره، وكان الإنسان المتواضع الذي يعرف عيوبه ـ وطاب كسبه ـ يكسب الحلال ولا يدخل الحرام على كسبه ـ وصلُحت سريرته ـ لا يحمل في قلبه للناس إلا كل نوايا الخير ودوافع الصلاح والإصلاح ـ وحسُنت خليقته، وأنفق الفضل من ماله ـ يأخذ من ماله ما يحتاجه لنفسه ولعياله، ثم ينفق ما فضل منه على الناس الذين يحتاجون إليه، خاصة فيما يتعلّق بالحقوق الشرعية ـ وأمسك الفضل من لسانه ـ يصرف الفاضل من ماله، والفاضل من لسانه يبقيه ـ وعزل عن الناس شره ـ يحمي الناس من دوافع شره كما يحمي نفسه من شرور الناس، وكما قال الإمام زين العابدين(ع): "اللهم فكما كرّهتني أن أُظلَم فقِني من أن أظلِم" ـ ووسعته السنّة ـ سار على خطوط الشريعة الواضحة ـ ولم يرسل إلى بدعة" ولم يتحرك في الخطوط المنحرفة عن خط الشريعة.
ويقول علي(ع) في نهاية المطاف: "سوسوا إيمانكم بالصدقة ـ أي عندما يهتز إيمانك فحاول أن تسوسه بالصدقة، لأن الصدقة تملأ نفسك بالقرب من الله فيتعمق إيمانك ـ وحصّنوا أموالكم بالزكاة، وادفعوا أمواج البلاء بالدعاء". فعندما يأتيكم البلاء من كل جانب فحاولوا أن تدفعوه بالدعاء.
الفوز بالجنة هو الهدف:
ثم يقول الإمام علي(ع): "ما خير بخير بعده النار ـ فلو كان عندك من المال ما يملأ السموات والأرض، ومهما بلغت مرتبة الجاه واللذات عندك، فإذا كنت تتحرك في ذلك بمعصية الله فإن مصيرك إلى النار ـ وما شرٌّ بشرٍّ بعده الجنة ـ فمهما ابتليت من بلاءات فإنك تنساها عندما تصل إلى الجنة ـ وكلّ نعيم دون الجنة فهو محقور ـ فكل ما يمكن أن تتنعم به من الخيرات يبقى حقيراً إذا لم تبلغ الجنة. ولذلك فإنك عندما تقف بين أن تلبي شهوتك المحرمة أو تحقق لذتك، سواء كانت لذة في سلطة أو لذة جنسية... فإنك تقف بين الجنة والنار ـ وكلّ بلاء دون النار فهو عافية".
هذا هو حديث علي(ع)، وعلي(ع) كما ذكرنا، هو الإنسان الذي عاش لله، وكانت كل حياته لله، واستشهد وهو بين يدي الله، وقال في آخر كلماته: "باسم الله وبالله وعلى ملّة رسول الله، فزت وربّ الكعبة". فاز لأنه عرف نفسه في كل هذه الرحلة، بدأ ببيت الله في الكعبة عندما فتح عينيه في صرخته الأولى، وكانت حياته في كعبة الإسلام جهاداً وعلماً وتضحيةً، وأغمض عينيه في صرخته الأخيرة في بيت الله، فهل نبقى في بيت الله؟! أن تكون بيوتنا ومحلاتنا ونوادينا ومجتمعاتنا.. بيوتاً لله، حتى يرانا الله أينما نذهب في بيته لنحصل على رضاه ولا شيء إلا رضاه..
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله.. اتقوا الله في ما تقبلون عليه من دنياكم وتمارسونه من أقوالكم وأفعالكم، وتتحركون فيه في علاقاتكم، فإن الله جعل الدنيا طريقاً للآخرة، وأراد لنا أن نتزود فيها بما يمحو سيئاتنا ويضاعف حسناتنا ويرفع درجاتنا عند الله، وبما يقربنا إليه لنحصل على الرضوان من عنده. وهكذا أيها الأحبة، أن نتحمّل مسؤولياتنا، ليكون لنا وعي الواقع، واقع المسلمين في كل قضاياهم، وواقع المستضعفين في كل أمورهم، وواقع المستكبرين في كل ظلمهم واستكبارهم وتحدياتهم، حتى نتخذ من ذلك موقفاً، كلٌ بحسب طاقته وقدرته، وفي ضوء هذا، لا بدّ لنا أن نواجه هذه المواقع ونتخذ منها موقفاً.
مشاريع العدو تسقط أمام الإرادة الصلبة
مرت قبل يومين ذكرى اتفاق17 أيار الذي أُريد له أن يقنن سيطرة العدو على أرض لبنان ومياهه وأجوائه، بالتعاون مع أميركا والحلف الأطلسي، ولكن الشعب اللبناني – بصموده ومقاومته – أسقط هذا الاتفاق، بالرغم من تصويت المجلس النيابي على إقراره أولاً، ليعود ويلغيه ثانياً، مما أوحى بأن المجلس لم يكن سيد نفسه..
وهكذا سقط الاتفاق المشؤوم، واضطر العدو الى الانسحاب من دون اتفاق، ليطلب من الأمم المتحدة أن ترعى انسحابه على أساس تطبيق القرار 425، ولكن مجلس الأمن – الخاضع لأمريكا – بدأ يلعب اللعبة الخبيثة في إبقاء بعض الأرض اللبنانية تحت الاحتلال، كمزارع "شبعا"، بحجة أنها غير مذكورة في الخريطة اللبنانية، ولذلك لا يشملها القرار، وإنما هي بحاجة الى اتفاق آخر خاضع للمفاوضات..
لبنان:تصحيح مسار الأمم المتحدة
إننا نعتقد أن إصرار لبنان – بحكومته ومقاومته وشعبه – على حقه في الانسحاب الكامل سوف يؤدي الى إسقاط هذه اللعبة الجديدة، من دون أن يدخل في نزاع مع الأمم المتحدة، بل ليصحح مسارها السياسي في تنفيذ القرار، تأكيداً لحق لبنان في التحرر الكامل من الاحتلال، والتعويض الشامل عن كل خسائره، مما يتحمّله العدو كما تتحمّله الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت – ولا تزال – القوة الداعمة له في كل عدوانه.
انحياز أمريكي مطلق لإسرائيل
وهذا ما نلاحظه في امتناعها عن إدانة كل ألوان العدوان المتحرك ضد الشعب اللبناني في الجنوب والبقاع الغربي، وقصف مدارس الأطفال وقتل المدنيين وجرح الأبرياء، هذا بالإضافة الى اللعبة السياسية في تحريك الانسحاب لصالح جيش العملاء، ليبقى قنبلة موقوتة لإثارة الفتنة أو لفرض معادلة جديدة في الموازنة بين سلاح العملاء وسلاح المقاومة..
وإننا – بهذه المناسبة – نتساءل عن تفاهم نيسان الذي يؤكد على حماية المدنيين، كيف تقف أمريكا وفرنسا – وهما الراعيان له – من دون احتجاج على تجاوزه من قِبَل العدو، في الوقت الذي لا تزال المقاومة تتقيد به؟!
إننا نلاحظ في اللعبة الأمريكية التي تلتقي مع فرنسا، عملاً على أن يكون دور القوات الدولية هو حماية أمن إسرائيل لا حماية الشعب اللبناني، وهذه هي الاستراتيجية الأمريكية في كل ما يتعلق بالصراع العربي – الإسرائيلي، وكأن المطلوب حماية الاحتلال وإخضاع العرب لشروط إسرائيل في الانسحاب، وتأكيد سيطرتها على الأرض في الاستيطان وإبقاء الشعب الفلسطيني بعيداً عن وطنه، بالرغم من قرارات الأمم المتحدة في رفض الاستيطان وتقول بحق العودة.
ومع ذلك، لم يصدر أي احتجاج أمريكي أو أوروبي على قرار الكنيست الصهيوني بمنع عودة الفلسطينيين أو حقهم بالقدس وفي بقاء المستوطنات، مما يعني أنه لم يبقَ للفلسطينيين شيء يفاوضون عليه، وأن إسرائيل – ومعها أمريكا – هي التي تحدد لهم حدود "دولتهم" المقطعة الأوصال، والخاضعة للأمن السياسي والميداني الإسرائيلي.
لذلك، فإن على الشعب الفلسطيني أن يستكمل ما بدأه في ذكرى النكبة، ليحوّل هذه الذكرى الى نكبة للعدو وللمشرفين على المفاوضات، الذين يعملون لـ"أوسلو" جديد في المفاوضات السرية، ليسقط البقية الباقية من موضوعي القدس واللاجئين.
إن المرحلة تمثل أصعب المراحل في الموقف اللبناني والعربي والفلسطيني، وعلى الجميع أن يرتفعوا الى مستوى التحدي الكبير للمرحلة، وأن يواجهوا اللعبة الأمريكية – الإسرائيلية الجديدة بالكثير من الوعي والصلابة والوحدة والصمود.
الاسلام يشجب العنف والتعصب
وبعيداً عن ذلك، لا بدّ لنا من الإشارة الى أمرين يتصلان بالصورة الإسلامية في العالم: الأول هو اختطاف بعض الإسلاميين في الفليبين عدة أشخاص فليبينيين وأجانب ممن لا علاقة لهم بالصراع مع الدولة، فان ذلك لا ينسجم مع تعاليم الإسلام التي تمنع معاقبة البريء بذنب المجرم، لأن القاعدة الإسلامية تقول: "ولا تزر وازرة وزر أخرى"..
والأمر الثاني هو حركة العنف في باكستان بين السنّة والشيعة، التي يثيرها المتعصبون بحيث يعملون على قتل المصلّين في مساجدهم، مما يؤدي الى ردود فعل مضادة.. إن ذلك لا يخدم المسلمين في باكستان ولا في أي مكان في العالم، وعلى الذين يقودون حملة التكفير، ويبررون قتل بعضهم بعضاً أن يتقوا الله في الإسلام والمسلمين، ويكفّوا عن اللعب بالنار. |