ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبة سماحته :
مفهوم العمل في الإسلام
مرت علينا قبل أيام مناسبة يوم العمل، التي احتفل بها العمّال في سائر أنحاء العالم، ونحن في هذا الموقف نحاول أن نتعرّف على نظرة الإسلام إلى مسألة العمل وقيمته في الإسلام، وهي تتجلى في أن يطلب الإنسان رزقه من خلال جهده، سواء كان عاملاً في مصنع، أو فلاحاً في مزرعة، أو بائعاً في السوق، لأن مسألة العمل في الإسلام هي أن لا يكون الإنسان بطّالاً وكلاًُ على الناس، أن لا يكون شخصاً يواجه الحياة من دون أن يركّز جهده في إغناء الحياة، لأن مسألة العمل لا تتصل بالإنسان وحده، بل تتصل بكل الناس، لأن العامل أو التاجر أو الفلاّح كما ينفع نفسه في تحصيل رزقه من خلال العمل ممن يعمل معه أو يعمل له، فإنه يهيّئ للناس ما يحتاجونه..
ومن هنا، ذكر بعض الشعراء أن المسألة بالنسبة للعامل أو صاحب العمل، رئيس المصنع أو العمّال، المدير أو الموظفين، هي أن كل إنسان هو خادم للإنسان الآخر، فيقول الشاعر:
الناسُ للناسِ من بدوٍ ومن حَضَرٍ بعضٌ لبعضٍ وإن لم يشعروا خدمُ
لقد ركّز الإسلام مفهوم العمل، وانطلق من الفكرة التي تقول: إن الله تعالى خلق هذه الأرض وأراد لنا أن نعمّرها ونبنيها ونحقق كل الإنتاج من خلالها، ولذلك فإن الله تعالى يريد لكل واحد منا أن يكون عاملاً، أن يفجّر طاقاته في سبيل الإنتاج، سواء كان لنفسه أو كان للآخرين، فلنقرأ في أحاديث أئمة أهل البيت (ع) مما يستوحونه من كتاب الله المجيد، ومن سنّة نبيه (ص):
-العامل كالمجاهد:
ففي الحديث عن الإمام موسى الكاظم (ع) أنه قال: "من طلب هذا الرزق - الذي يسترزقه الإنسان - من حلّه - من مصدر حلال - ليعود به على نفسه وعياله - ليسدّ حاجة نفسه وحاجة عياله - كان كالمجاهد في سبيل الله"، بحيث يُعطى في هذا الجهد درجة المجاهد في سبيل الله، لأن المجاهد بجهاده إنما يعطي القوة للدين أو الناس أو الوطن، وهكذا العامل عندما يشارك في عملية الإنتاج ويكفّ ماء وجهه عن الناس، فإنه يعطي الناس والوطن قوة.
وعن الإمام أبي جعفر الباقر(ع) أنه قال: "من طلب الدنيا استعفافاً عن الناس - حتى يحفظ ماء وجهه عنهم - وسعياً على أهله - ليتحمّل مسؤوليته في رعاية أهله - وتعطّفاً على جاره، لقي الله عزّ وجلّ يوم القيامة ووجهه مثل القمر في ليلة البدر"، لأن هذه طاعة من طاعات الله، والله تعالى يريد لك أن تطلب الدنيا لتحفظ ماء وجهك، ومن أجل أن تقوم بمسؤوليتك تجاه عيالك ولتعطف، على جارك وعلى كل من يحتاج إليك.
-أفضل العبادة:
ويروي الإمام الباقر (ع) عن رسول الله (ص) أنه قال: "العبادة سبعون جزءاً أفضلها طلب الحلال"، فأنت عندما تعمل في أيّ موقع من مواقع عملك طالباً للرزق الحلال لتقوم بمسؤولياتك على هذا الأساس، فأنت في أفضل عبادة، يتقبلها الله تعالى منك كما يتقبّل منك صلاتك وصومك، وأية قيمة للعمل أعظم من هذه القيمة التي ترتفع به إلى مستوى العبادة والجهاد في سبيل الله. وفي الحديث عن النبي (ص): "من بات كالاً من طلب الحلال - إذا جئت إلى بيتك وأنت مجهد ومتعَب من خلال يوم العمل الذي أرهق جسدك - بات مغفوراً له".. وفي الحديث عن الإمام عليّ (ع) أنه قال: "إن الله يحب المحترف الأمين، لا يغش أحداً ولا يسيء إلى أحد".
-ذمّ البطّالين:
ويتحدث الأئمة (ع) عن الإنسان الذي يترك العمل، ويجعل نفسه كلاًّ على غيره، كبعض الشباب الذين يملكون القوة وإمكانية العمل، ولكنهم لا يعملون بل يعيشون كلاً على أهاليهم أو الناس المحسنين، فعن أحد أصحاب الإمام الصادق (ع) أنه قال: قلت لأبي عبد الله (ع) عن رجل قال: لأقعدن في بيتي، ولأصلينّ ولأصومنّ ولأعبدنّ ربي، فأما رزقي فسيأتي، فقال أبو عبد الله الصادق (ع): "هذا أحد الثلاثة الذين لا يُستجاب لهم".. وروي أن الإمام الصادق (ع) سأل عن رجل كان يتردد عليه فافتقده، فقيل: أصابته الحاجة، قال(ع): "فما يصنع اليوم"؟ قيل: في البيت يعبد ربه، قال (ع): "فمن أين قوته"؟ قيل: من عند بعض إخوانه، فقال (ع): "والله، للذي يقوته أشد عبادة منه". ومن الملاحظ أن الإمام(ع) لم يقل "أفضل منه"، بل قال إن هذا الإنسان الذي يذهب ويعمل ويعين الفقراء هو أكثر عبادة من الذي يقضي وقته بالصلاة والصوم من دون أن يعمل ويشتغل وهو قادر على العمل.
وفي الحديث عن هؤلاء الكسالى و"التنابل" الذين يقضون وقتهم بتقطيع الوقت من دون أن يعملوا، يقول الإمام الباقر(ع): "إني لأبغض للرجل - ولاحظوا كلمة أبغض - أن يكون كسلاناً عن أمر دنياه، ومن كسَلَ عن أمر دنياه فهو عن أمر آخرته أكسل".. وعن الإمام الصادق(ع) وهو يحدثنا عن البطّالين الذين ينامون كثيراً أنه قال: "إن الله عزّ وجلّ يُبغض كثرة النوم وكثرة الفراغ"، وفي الحديث عن الإمام الكاظم(ع): "إن الله تعالى ليُبغض العبد النوّام، إن الله ليُبغض العبد الفارغ".
-العمل للدنيا والآخرة:
وعلى هذا الأساس، يريد الإسلام منا أن نكون العمّال، عمّال الله في هذه الدنيا، وقد ورد في الآية الكريمة: {يا أيها الإنسان إنك كادحٌ إلى ربك كدحاً فملاقيه}، فقد حمّلنا الله تعالى مسؤولية الدنيا بكل ما جعله فيها من مسؤوليات، وحمّلنا مسؤولية الآخرة، وجعل الدنيا مزرعة الآخرة. وفي الحديث عن الإمام جعفر الصادق(ع) عن قول الله تعالى: {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة}، قال(ع): "رضوان الله والجنة في الآخرة، والسعة في الرزق والمعاش وحُسن الخلق في الدنيا".
-إغناء التجربة:
وكما تحدث الإمام الصادق (ع) عن العمل، فإنه تحدث عن التجارة، وهي كل بيع وشراء، فقال(ع): "من طلب التجارة استغنى عن الناس"، فسُئل: وإن كان معيلاً؟ قال(ع): "وإن كان معيلاً، وإن تسعة أعشار الرزق في التجارة".. وفي الحديث: "التجارة تزيد في العقل"، لأن التجارة تجعلك تتحرك مع الناس، فتعطي فكرة وتأخذ فكرة، تعطي تجربة وتنفتح على تجربة، وبذلك ينمو العقل، وقد ورد في حديث الإمام عليّ(ع): "في التجارب عقل مستأنَف". وقد جاء في الحديث أيضاً أن الإمام الكاظم(ع) كان يقول لبعض أصحابه: "اغدُ إلى عزّك"، ويقصد إلى السوق، لأن الإنسان عندما يطلب رزقه بجهده فإنه يحقق عزّة نفسه أمام الآخرين الذين يمكن أن يسألهم حاجاته. وقد قال بعض أصحاب الإمام الصادق(ع) له: إني هممت أن أدع السوق وفي يدي شيء - فقد صار بيدي مال كثير - فقال له الإمام (ع): "إذاً يسقط رأيك ولا يُستعان بك على شيء"..
-العمل أساس الاستقلال:
في الإسلام، ما دمت تملك عقلاً وجسداً منتجين، فإن عليك أن تكون المنتج، ولعل مشكلتنا في هذا الشرق أننا تعوّدنا على أن نكون الأمة المستهلكة التي تستهلك ما ينتجه الآخرون، لذلك تقدّم الآخرون في صناعتهم وتأخرنا وأصبحنا لا ننتج ما نلبسه ولا ما نأكله، حتى أنه إذا وُجدت المنتوجات الوطنية فإننا لا نشتريها، ونحن نعيش في عالم يمثل الاقتصاد فيه أساس الاستقلال، لأنك إذا لم تكن مستقلاً اقتصادياً فإن استقلالك السياسي يسقط تحت تأثير حاجاتك الاقتصادية، وفي كلمة مأثورة لأمير المؤمنين(ع) تقول: "أحسن إلى من شئت تكن أميره، واستغنِ عمن شئت تكن نظيره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره"، نحن أسرى للغرب ولكل الدول الغنية، لأننا نحتاج إليهم، والإنسان تستعبده حاجاته، هل نريد أن نكون أحراراً في مواقفنا وإراداتنا؟ علينا أن لا نكون التنابل والكسالى، بل علينا أن نواجه حاجاتنا بجدية ونحقق القوة الاقتصادية لنحصل على القوة السياسية والأمنية والاجتماعية.
الخطبة السياسية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله.. اتقوا الله في كل مسؤولياتكم في الحياة، سواء كانت مسؤوليات فردية فيما حمّلكم الله تعالى من مسؤوليات تجاه أنفسكم، أو مسؤوليات جماعية فيما حمّلكم من مسؤوليات تجاه أهلكم والناس من حولكم، وتجاه المسلمين كلهم، كلٌ بحسب طاقته وإمكاناته، فـ"كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته".. اتقوا الله واعتبروا أنه تعالى حمّلكم مسؤولية بناء الحياة على الصورة التي يحبها في الخط المستقيم الذي يمثله الإسلام في الحياة..
وعلينا أمام هذه المسؤوليات أن نراقب حركة العالم وهو يتطوّر ويعمل على استضعاف المستضعفين في اقتصادهم وسياستهم وأمنهم، وهذا ما تتحرك به الدول الغنية الكبرى والاستكبار العالمي، بحيث يعملون على أن نكون في الهامش من حركة الاقتصاد والسياسة والأمن في الواقع، فعلينا أن نعرف ماذا هناك لنواجه ذلك.
ثبات الموقف اللبناني
لا يزال الوضع السياسي يثير مسألة الانسحاب، من خلال موفد الأمم المتحدة في لقاءاته مع المسؤولين اللبنانيين، الذين يؤكدون الموقف اللبناني الثابت من الانسحاب الكامل من كل الأراضي اللبنانية، بما في ذلك مزارع "شبعا" وغيرها، والتي يستخدمها الكيان الصهيوني لمشاريعه السياحية والاستيطانية، مع التأكيد على أن لبنان لن يتكفّل بحماية أمن هذا الكيان الغاصب.
المقاومة.. توازن الرعب
وفي هذا الجو، تتابع قوات العدو قصف المناطق المدنية اللبنانية جوّاً وبرّاً بمختلف أنواع الأسلحة، ما أدى إلى ما يشبه المجزرة في "حبوش"، وإلى المجزرة في "القطراني"، الأمر الذي دفع بالمقاومة الإسلامية إلى قصف "كريات شمونة" بالكاتيوشا، لإعادة توازن الرعب الذي تفهم فيه إسرائيل من جديد أن العدوان على المناطق المدنية في لبنان لن يجعل مناطقه المدنية بمنأى عن القصف، وأن المجاهدين سوف يستمرون في ساحة المواجهة حتى يفرضوا عليه الانسحاب تحت تأثير الهزيمة، وإذا كان العدو قد ردّ بقصف محطتي الكهرباء في بيروت والشمال، فعليه أن يفكر أن بناه التحتية في مستوطناته ليست بعيدة عن متناول صواريخ المجاهدين..
العملاء من طائفة الخيانة
إن على العدو أن يعلم أنهلا خيار أمامه سوى الانسحاب الكامل من لبنان، وعلى لبنان أن يكون في منتهى حالة الحذر من مخططات العدو على مستوى حركته الأمنية الخفية، من خلال عملائه في إثارة الفتنة.. وعلى اللبنانيين أن لا يسمحوا لأيّ فريق طائفي بأن يثير مسألة العملاء في المنطقة الحدودية المحتلة على أساس طائفي، فإن العملاء ليسوا من طائفة معينة، بل إنهم من كل الطوائف، وإن كانت الطائفة التي تجمعهم هي طائفة الخيانة، ما يفرض على لبنان أن يعاملهم معاملة الخونة الذين يخضعون للمحاكمة القضائية..
إن الذين يساعدون المحتل في قتل مواطنيهم وتعذيبهم واحتجازهم، ويعملون على حمايته من ضربات المجاهدين، لا يشرّفون أية طائفة إسلامية أو مسيحية، فليخجل كل فريق لبناني أن يتحدث عنهم بطريقة طائفية، فإن ذلك يمثل طعنة للوطن ولكرامة أبنائه.
العرب: الموقف يحدّد المستقبل
وليس بعيداً من ذلك، فإننا نرحب بالاجتماع العربي الثلاثي لدعم الموقف السوري – اللبناني، ونريد للعرب الذين قد يواجه بعضهم التطورات السلبية في المنطقة من خلال اللعبة الأمريكية – الإسرائيلية بطريقة اللامبالاة، أن يبادروا إلى اتخاذ موقف موحَّد داعم للموقف العربي والإسلامي في مواجهة العدو، لأن المرحلة قد تكون في مستوى أن يكون هناك عرب أو لا يكون، وأن تكون هناك أمة أو لا تكون، لأن خطط الاستكبار الأمريكي – ومعه إسرائيل – تتحرك من أجل استكمال الهزيمة العربية، وإخضاع العرب لعملية ابتزاز مستقبلي شامل.
ولا بدّ – في هذا الاتجاه – من مراقبة الواقع الفلسطيني في المفاوضات بإشراف أمريكا، التي لن يكون دورها إلا المزيد من الضغط على الفلسطينيين، لتقديم التنازلات في القضايا الحيوية في القدس والمستوطنات وعودة اللاجئين، والتلويح بالاعتراف بـ"الدولة الفلسطينية" التي لن تكون في مستوى الدولة التي تحترم نفسها أو يحترمها العالم.
أمريكا: راعية الإرهاب الأول
وفي هذه الأجواء، يطالعنا التقرير السنوي لوزارة الخارجية الأمريكية حول ما يُسمى بـ"الإرهاب"، ليسجّل على لبنان "سيطرة الإرهاب على بعض أراضيه"، وعلى إيران باعتبارها "الدولة الأكثر نشاطاً في مساندة الإرهاب"، وعلى سوريا لأنها "ما زالت ملجأ لمجموعات إرهابية وتقدّم الدعم لها، ولن تُشطب من اللائحة الأمريكية إلا إذا أبرمت معاهدة مع إسرائيل"، على ما جاء في البيان..
إن مشكلة أمريكا هي أنها تساعد في تشريد الشعوب وإخراجها من أوطانها واحتلال أرضها – كما تفعله بالنسبة إلى إسرائيل – في الوقت الذي لا تسمح لهذه الشعوب بأن تدافع عن نفسها ضد إسرائيل، ولا تسمح لأية دولة حرّة بمساعدتها وإلا كانت إرهابية.
إن أمريكا هي الراعية الأولى للإرهاب في العالم، على مستوى دعم الدول الإرهابية، ولا سيما إسرائيل والدول الأكثر دكتاتورية في العالم. ولذلك، فإنها لا يمكن أن تكون حكماً في قضية تتصل بحركة الشعوب، ولا سيما إيران التي تعمل بقوة للتحرر من السيطرة الأمريكية، ومساعدة كل طلاب الحرية في المنطقة.
لبنان: الوعي لدقة المرحلة
وأخيراً، إننا مع كل التحديات التي تفرضها قضية التحرير، ندعو الدولة اللبنانية إلى التخطيط الدقيق للاستجابة للمطالب العمّالية وللقضايا المعيشية، للفئات التي وصلت إلى أدنى من خط الفقر بنسبة تقارب الخمسين بالمائة.. وندعو السياسيين – من المعارضين والموالين – إلى الدقة في تصريحاتهم المتصلة بالقضايا العامة، كما ندعو المواقع الدينية للابتعاد عن إثارة أية حساسيات طائفية أو مذهبية، لأن المرحلة الدقيقة التي يمر بها البلد لا تتحمّل أيّ نوع من الفوضى السياسية والطائفية، وعلى الجميع أن يعرفوا أن من يلعب بالنار سوف يحترق بها قبل كل الناس.
وختاماً، نبارك للصحافة عيدها، ونريد لها أن تكون في مستوى المسؤولية عن الوطن والأمة على صعيد الخبر والتحليل، ونحن ندرك أن الصحافة اللبنانية تمثل العنوان الكبير للحرية في لبنان، وفي العالم العربي في خدمة القضايا المصيرية، بالرغم من كل الصعوبات المادية والسياسية. |