علينا أن لا نحصر الحسين (ع) في دائرة المأساة

علينا أن لا نحصر الحسين (ع) في دائرة المأساة

لأنه والأئمة (ع) الامتداد الحركي للنبوة
علينا أن لا نحصر الحسين (ع) في دائرة المأساة


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

الإمامة امتداد للنبوة

ونبقى مع الحسين(ع)، في كل حياته، كإمام للمسلمين، لأن الحسين(ع) لم يكن في صورته الأصيلة مجرد ثائر ينطلق في المعركة من أجل أن يطلق التحدي أو يواجهه، ولم يكن(ع) مجرّد شهيد تمثّلت المأساة بأقسى ألوانها في شهادته وفي شهادة الصفوة الطيبة من أهل بيته وأصحابه.. وإن كربلاء جسدت المأساة الإنسانية كما لم تجسّدها أية مأساة أخرى في التاريخ، لأنها كانت مأساة متحركة، يذبح فيها الأطفال الرضّع، والأطفال الذين لم يبلغوا الحلم، وتقطع فيها الرؤوس، وتدوس الخيل على صدور الشهداء، وتسبى النساء، إنها المأساة التي لو قدّر للعالم أن يكتشف عناصرها بشكل فني، لوقف مذهولاً أمام هذه الصورة الدامية التي مثّلت الوحشية في تصرفات الناس الذين امتلأت قلوبهم بالحقد، وسقطت إنسانيتهم أمام أطماعهم.

ولكن مع ذلك، فإن علينا أن لا نحصر الإمام الحسين(ع) في دائرة المأساة، لأننا عندما نحصره في هذه الدائرة وفي دائرة المعركة، فإننا نبتعد عن وعي شخصيته. الإمام الحسين(ع) هو إمام للمسلمين، بكل ما للإمامة من عمق في الروح، وامتداد في الفكر، وحركة في الدعوة، وسموّ في الأخلاق، وعظمة في القيم، وعصمة في كل عناصر الشخصية الفكرية والسلوكية، أن نتصوّره في موقع إمامته، والإمامة تمثل في معناها العميق الامتداد الحركي للنبوّة، من دون نبوّة: "يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبي بعدي"، ولذلك فإن علينا أن نفهم الإمام الحسين(ع) في كل هذه الرحابة التي تعطيها الإمامة من خلال ما تمثله من رحابة الإسلام في عقائده وشرائعه ومناهجه ووسائله وغاياته. هكذا ينبغي لنا أن نتمثل الحسين(ع)، وإذا أردنا أن نلتقي بثورته، فإن ثورته تمثل لوناً من ألوان حركة الإمامة، تماماً كما عندما نتمثل رسول الله(ص) في معاركه التي خاضها ضد الشرك، فإننا نتمثل حروبه كحركة للنبوة تواجه التحديات التي يطلقها الآخرون.

كربلاء حالة إسلامية

لعلّ المشكلة في مأساة الحسين(ع) عندنا هي أننا حصرناه في هذا الدائرة، ولذلك، لا نجد في أكثر هذا الموسم العاشورائي، حديثاً عن الحسين(ع) يشير إلى ما كان يعظ به الناس، أو يرشدهم به، أو يوجههم إليه، ليست هناك صورة ظاهرة ـ ولا أتكلم عن شمولية، فلعلّ البعض يتحدث عن ذلك ـ لحركة الإمامة لتوجيه الناس خارج نطاق قضية كربلاء، فالحسين(ع) ليس مجرد حالة كربلائية، بل هو حالة إسلامية، لقد عاش الإسلام، وعاش حركيته ودعوته، عاشها مع جده ومع أبيه وأخيه، وعاشها مع المسلمين، وتحرك في نشاطه الإسلامي في الدعوة بكل امتداداتها. ولذلك، لا بد لنا أن نلتقي بالحسين الإمام، لنعيش مع مواعظه، ومع نصائحه ومع وصاياه، لأن الارتباط به هو الارتباط بالحق الذي رسمه في سيرته العملية وفي جانب القيمة الروحية والأخلاقية، من دون أن نقتصر على مفردات كربلاء، وإن كانت هذه المفردات تتحرك في مواقع السموّ وفي مواقع الإمامة.

منهج الإمام الحسين (ع)

تعالوا نستمع إلى الحسين(ع) مما روي من كلماته، لنعالج بعض ما نعيشه في حياتنا في أكثر من سلبية من سلبيات الواقع:

النهي عن الغيبة:

قال الحسين(ع) لرجل اغتاب عنده رجلاً ـ وكم يغتاب الناس عندنا الناس ـ قال له: "يا هذا كفّ عن الغيبة، فإنها إدام كلاب أهل النار"، إن الغيبة تدخلك نار جهنم، فالذين يغتابون الناس يقتاتون في جهنم من نتائج الغيبة في عذاباتها. وقد عبّر عن أصحاب النار بكلمة "كلاب أهل النار"، أي أن الذي يغتاب الناس يتحول إلى كلب من كلاب النار، وطعامه هو الغيبة في معناها، ونحن نعرف كيف قرب الله لنا الغيبة في طعامها: {أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه}، أن تغتاب أخاك فكأنك تأكل لحمه وهو حيّ.

ونحن عندما نجلس في مجالس عاشوراء، ما أكثر ما نغتاب الناس، وما أكثر ما نظهر العيوب المستورة، وما أكثر ما نتحرك به من تهشيم الناس في كراماتهم في الواقع الاجتماعي أو في الدائرة الدينية. إن مسألة الغيبة ليست شيئاً يتصل بنفسية الذي يغتاب، ولكن تأثيراتها هي في أنها تربك الواقع الاجتماعي وتسيء إلى كرامات الناس وتفضح أسرارهم.

وفي كلمة أخرى يقول: "إذا سمعت أحداً يتناول أعراض الناس ـ يعني إذا كان هناك في المجتمع شخص يتناول كرامات الناس، بحيث يذمّ هذا، ويهتك حرمة ذاك، ويفشي سر آخر.. ـ فاجتهد أن لا يعرفك"، أي اجتهد أن لا تكون بينك وبينه علاقة، عبّر عن رفضك له بأن لا تنشىء بينك وبينه أية صداقة، لأن على الإنسان إنكار المنكر بالوسيلة التي يشعر فيها فاعل المنكر أنه مرفوض من المجتمع.

الابتعاد عن الظلم:

وفي كلمة قالها لولده علي بن الحسين(ع)، يقول زين العابدين(ع): "أوصاني أبي عندما حضرته الوفاة بما أوصاه به أبوه حين حضرته الوفاة، قال: يا بني، إياك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلا الله"، فالإنسان يمكن له أن يظلم شخصاً قوياً، ممّن يستطيع أن يدفع ظلمه، كمن له عندك مال وتنكر عليه ماله، ولكن هذا يستطيع ردّ ماله بطريقة معينة، ولكن هناك من لا يجد ناصراً إلا الله، كالأزواج الذين يظلمون زوجاتهم، فمجتمعنا لا يزال مجتمع الرجل، فقد يضغط على المرأة لتسامحه وتتنازل عن مهرها، أو يضغط عليها ليمنعها من أن تعبر عن إنسانيتها.. وهكذا يوجد الكثير من الأشخاص الذين ينظرون إلى المرأة كخادمة في البيت، وممّن يمنعون الزوجة من زيارة أهلها، أو من رعاية أمها وأبيها، أو أن تقوم بالشؤون الإنسانية، وقد يقول هذا حقي بحجة أنه لا يجوز للمرأة أن تخرج من البيت إلا بإذن زوجها. ولكن الله عندما أعطاك بعض الحق، أراد لك أن لا تتعسّف في استعماله، أراد لك أن تكون إنساناً لا وحشاً. ولقد قلت لكثير من الرجال إنه لو جعل الله للمرأة أن تمنع زوجها مما يمنعها منه، فهل يقبل؟ عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به. عندما يكون للإنسان حق فعليه أن يستعمل حقه بإنسانيته، فعلى الإنسان أن لا يخرج عن إنسانيته في هذا المجال، ولقد قلنا مراراً إن الحياة الزوجية لا تقوم على أساس أن يقف الرجل ليقول لزوجته إن المادة الفلانية تحكمك {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودّة ورحمة} فما يحكم الزوجين هو المودة والرحمة.

فالزوج الذي يجبر زوجته على أن تتنازل له عمّا هو حق لها، تبقى ذمته ـ شرعاً ـ مشغولة. وقد يكون هناك عنوان الغصب، وكذلك عندما نظلم أبناءنا، أو عندما يظلم الأستاذ التلميذ، أو في أي مجال نُنفّس فيه عن الاحتقان الموجود في أنفسنا بالضعفاء.. لأن ظلم الضعيف أفحش الظلم، وهناك شعر يقول:

يدعو عليكَ وعينُ اللهِ لم تنمِ تنامُ عينكَ والمظلومُ منتبهٌ
وما ظالمٍ إلاّ سيبلى بأظلمِ وما من يدٍ إلاّ يدُ الله فوقها

أيها الأحبة، إنكم تحتجون على ظلم يزيد وجيشه للحسين، فإذا كنتم تحتجون على الظلم الكبير، فلماذا تمارسون الظلم الصغير؟! وقد جاء في دعاء الإمام زين العابدين(ع): "اللهم فكما كرّهتني من أن أُظلَم، فقِني من أن أظلِم"، هذا هو خط أهل البيت(ع) إذا كنتم تريدون أن تتحركوا في خطهم(ع).

التوازن في الموقف:

في حديث للإمام الحسين(ع) يقول: "إياك وما تعتذر منه، فإن المؤمن لا يسيء ولا يعتذر، والمنافق كل يوم يسيء ويعتذر"، فالاعتذار ذلّ، لأنك تقف أمام من تعتذر منه لتعبّر عن سقوطك أمامه، لذلك فالإمام الحسين(ع) يقول إن المؤمن لا يتصرف تصرفاً يضطر أن يعتذر منه، ولذلك فهو لا يسيء، عندما يعرف أن الإساءة يعقبها الاعتذار، بحسب الظروف الاجتماعية المحيطة بالموضوع. وقد ورد في الحديث في تفسير قوله تعالى: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} قال: "إن الله فوّض إلى المؤمن أموره كلها ولم يفوّض إليه أن يكون ذليلاً"، قالوا: وكيف يذل نفسه؟ قال: "يدخل في ما يعتذر منه"، إذاً على الإنسان عندما يريد أن يقدم على أي عمل يتعلق بنفسه، وبالناس، فإن عليه أن يدرس هذا العمل، فإذا رأى أنه يستطيع أن يتحمل مسؤولية العمل، وأن يدافع عنه، وأن يقنع الناس بحجته في ما عمله فليعمله، أما إذا رأى نفسه غير قادر على أن يتحمل مسؤولية عمله، وأنه سوف يضطر إلى أن يقدم عذراً إلى من كان العمل موجهاً إليه، فعليه أن لا يعمله.ثم يقول الإمام(ع)، في ما روي عنه: "موتٌ في عزّ خيرٌ من حياة في ذلّ"، يعني، كُن العزيز الذي يملك قوة الموقف والكلمة والتحدي، ولا تكن الذليل الذي يحاول أن يسقط إنسانيته ونفسه، لأن قيمة الحياة بمقدار ما تملك لحياتك قوّتها وعنفوانها وعزتها وكرامتها.

تبادل الأمن والسلام:

ثم يقول(ع): "البخيل من بخل بالسلام"، فبعض الناس عندما يمرّ عليك لا يسلّم، لأن عنده انتفاخ شخصية، ويريدك أنت أن تسلّم عليه، فالإمام يقول عن مثل هذا الشخص إنه أبخل الناس، لأن السلام لا يكلفه شيئاً، والسلام هو الرسالة التي ترسلها من عقلك وقلبك وإنسانيتك للإنسان الآخر لتقول له: يا صاحبي إن علاقتي معك هي علاقة السلام، وإني أعطيك التحية الإسلامية من قلبي. السلام لا يمثّل تنازلاً منك لمن تسلّم عليه، بل يمثل ارتفاعاً بك. يقال إن أحد رؤساء أمريكا وهو "أبراهام لنكولن" الذي أصدر مرسوماً بتحرير العبيد في أمريكا، كان مارّاً في الطريق، وهو رئيس جمهورية، مرّ عليه شخص أسود، فبادره بالسلام، قيل له إن واجبه هو أن يسلّم عليك، فقال: لا، لأنه لو بادرني بالسلام لكان أفضل مني، وأنا لا أقبل كرئيس جمهورية أن يكون هو أفضل مني، لأن السلام يمثل قيمة إنسانية.

فالسلام هو الرسالة التي ينفتح فيها قلب على قلب، وفي الحديث الشريف: "للسلام سبعون حسنة، تسع وستون للمبتدئ، وواحدة للرادّ، وإن أحسن فعشر"، ثم إن السلام هو عملية تدريبية للدخول إلى الجنة، حيث السلام تحية أهل الجنة: {وتحيتهم فيها سلام} {سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين} {سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار}، ولعلّ تحية السلام أروع تحية إنسانية، لأنها تعطي الذي تسلم عليه أماناً من كل عدوان منك، ويبادلك هذا الأمان بأمان. ونحن نسينا السلام، لأنه بنظرنا أصبح (موضة) قديمة، وصرنا نستبدله بكلمات أخرى. ولكن السلام في تعبيره الإنساني، يعطي معنى إحساسك بإنسانيتك اتجاه الآخر، وإحساس الآخر بإنسانيته.

الخوف من الله:

وجاء عن الإمام الحسين(ع) أيضاً أنه قيل له يوماً: ما أعظم خوفك من ربك؟ قال: "لا يأمن يوم القيامة إلا من خاف الله في الدنيا"، فإذا أردت أن تكون الآمن يوم القيامة، عليك أن تخاف الله في الدنيا {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى}، أن تخافه، بأن لا تعمل ما لا يرضيه أو ما يسخطه.

وقال(ع): "البكاء من خشية الله نجاة من النار"، أن تجلس بين يدي ربك لتتذكر ذنوبك وسيئاتك، لتبكي من خشية الله، من قلبك وعقلك، ليشهد الله عليك بأنك نادم على ما فرط منك، عازم على أن لا تفعل في المستقبل شيئاً.

محاسبة النفس:

وفي ختام الحديث يقول بعض الرواة: سُئِل الإمام الحسين(ع) فقيل له: كيف أصبحت يابن رسول الله؟ قال: "أصبحت ولي ربٌ فوقي والنار أمامي، والموت يطلبني، والحساب محدق بي ـ فالحساب محدق بي من جميع الجهات: {وقفوهم إنهم مسؤولون} {اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً} {إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم} ـ وأنا مرتهنٌ بعملي ـ {كل نفسٍ بما كسبت رهينة} ـ ، ولا أجد ما أحب، ولا أدفع ما أكره ـ لأني لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً ـ والأمور بيد غيري ـ فهي بيد الله ـ فإن شاء عذبني، وإن شاء عفا عني، فأي فقير أفقر مني"؟!، كيف أصبحنا، هل نفكر بهذه الطريقة؟! هل نتذكر في صباحنا ربنا لنتّقيه ولنطيعه ولنحسب حسابه؟! هل نتذكر الموت والحساب وموقعنا في لقاء الله؟!

أيها الأحبة، لننطلق من هذه الروحانية الأخلاقية الحسينية. هذا هو الحسين، فإذا حضرتم مجالسه، فتذكروه في مواقع إمامته، حتى نكون في خطه، في واقعنا وسلوكنا وإيماننا في الحياة، ولنكون معه يوم القيامة، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وتلك هي قيمة عاشوراء، أن تنشىء جيلاً إسلامياً، ورعاً، تقياً، محباً لله، خائفاً منه، مستقيماً على خط الله، تلك هي عاشوراء التي نتحرك فيها بالعمق في الفكر والروح وليست كالتي نتحرك فيها ومعها بالشكليات.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله، اتقوا الله، فإن التقوى مفتاح كل خير في الدنيا والآخرة، لأننا بالتقوى ننال رضى الله، وبها نستطيع أن ننظم حياتنا على الخط الذي يريدنا الله أن نسير عليه، وبالتقوى نستطيع أن نملك المسؤولية في مواجهة كل التحديات التي ينطلق بها المستكبرون والظالمون في كل زمان ومكان، لأن القضية هي أن على الإنسان أن يواجه حساب المسؤولية في حياته، بقدر ما تتّسع المسؤولية في حياته، لأن لكل إنسان مسؤوليته عن نفسه وعن عياله وعن الناس في حياته، وعن الأمّة كلها، لأن علينا أن نخرج من حالتنا الفردية، لننفتح على واقعنا في كل ما نتحمل مسؤوليته في مجتمعاتنا لتكون مجتمعات الإسلام، وفي أمتنا لتكون أمة الإسلام القوية المنتصرة المتحدية، التي تواجه الاستكبار كله.

وعلينا أن نتذكر دائماً كيف نستفيد من كثير من تجاربنا الفاشلة التي أصابتنا بالكثير من النتائج السلبية، لذا علينا أن نعرف عدة نقاط:

الأزمة اللبنانية من صنع أمريكا

نلتقي في هذه الأيام بالذكرى الخامسة والعشرين للحرب اللبنانية التي تنطلق من تخطيط داخلي، بل انطلقت شرارتها بتخطيط أميركي، ومثلت وجهاً من وجوه الصراع الإقليمي والدولي في لبنان ومن حوله، حيث كان صراع المحاور الذي كاد أن ينتهي بإنهاء القضية الفلسطينية التي أريد للحرب اللبنانية أن تكون المحرقة التي تحترق فيها القضية بالكامل.

إننا عندما نستذكر الثالث عشر من نيسان ذكرى اندلاع الحرب، فإن ثمة أموراً يجري التوقف عندها على قاعدة الاستفادة من تجاربنا الماضية:

أولاً: إن الولايات المتحدة الأميركية التي كان لها اليد الطولى في إشعال فتنة الحرب وفي امتدادها، لم تسلم من نارها، فقد احترقت يدها والكثير من خططها في المنطقة، وهي مع ذلك لا تزال تحاول الدخول إلى ساحة الهيمنة على لبنان من ألف شباك، ليس آخرها نافذة الاحتلال الإسرائيلي للجنوب وحديث الانسحاب وفق القرار 425.

ثانياً: إن شعارات الحرب اللبنانية قد تساقطت جميعها ولاسيما الشعارات الداخلية، ليتبين للجميع أن الذين أطلقوا الحرب - من المحاور الدولية والإقليمية- قد امتصوا عصارتها وحققت نتائجها أهدافهم، بينما كان اللبنانيون هم وقود الحرب ولم يجنوا شيئاً على مستوى النتائج السياسية، حيث لم تكن المسألة ما هي صلاحيات رئيس الجمهورية أو رئيس الحكومة أو رئيس المجلس، لا بل وجدنا أن الشعارات السياسية والطائفية والمذهبية أسست لولادة الشخصانية السياسية التي كانت أشد إيلاماً من المذهبية نفسها، فتحول التحزب من الطائفة إلى الشخص.

ثالثاً: لقد خسر اللبنانيون في كل تجاربهم في الحروب الداخلية (داخل طاحونة الحرب الكبرى)، سواء الحروب داخل كل طائفة أو حروب الأحزاب والمحاور، أو حروب الطوائف مع بعضها البعض، وربحوا حرباً واحدة هي الحرب ضد إسرائيل، وأوشكوا أن يسجلوا في هذه الحرب –بفعل إرادة المجاهدين- ودعم الشعب والدولة لهم، انتصاراً تاريخياً على العدو..ولذلك فإن ما تطمح إليه إسرائيل في هذه الأيام هو أن تتفلت من نيران مقاومة اللبنانيين لها، لتشن عليهم حرباً سياسية ودبلوماسية بتغطية أميركية بدأت ملامحها بالتصاعد..

أمريكا تتبنى الخطط الإسرائيلية

إن ما نشهده في هذه الأيام هو استكمال للعبة الأميركية-الإسرائيلية الساعية لكسر آخر حلقات المواجهة مع العدو عبر لعبة التفافية تحاول فيها اتهام سوريا بتضييع فرص التسوية ومن ثم العمل لحشد مواقف دولية مضادة لها، تحت عنوان الانتصار للقرار 425 .

لقد أصبحت الإدارة الأميركية تلعب اللعبة الإسرائيلية المكشوفة بعدما كانت تُغلّف مواقفها بغلاف دبلوماسي، فوزيرة الخارجية الأميركية تضع نفسها مكان "باراك" تماماً لتقول: "لا توجد هناك مرونة كافية في الردود السورية" لتتناسى أن إدارتها تتحدث عن دور الوسيط في المفاوضات.. إن "المرونة" بنظر الإدارة الأميركية تتمثل في تنازل سوريا عن أرضها أولاً، وتماشيها مع خطة "باراك" للبنان ثانياً، والسير في قطار التسوية وفق الأدوار التي رسمتها واشنطن ثالثاً.

ولذلك فإن الحديث الأميركي عن تفعيل المسار الفلسطيني ليس حديثاً بريئاً، بل يحمل في طياته محاولة لاستفراد سوريا من خلال الزعم بأن كل المسارات باتت تسير نحو النهاية السعيدة ( أمريكياً وإسرائيلياً) باعتبار أن قطار المسار الفلسطيني على أبواب الإقلاع، وبأن المسار اللبناني يُصبح منتهياً بفعل الانسحاب الإسرائيلي، لتبقى سوريا وكأنها العقبة التي تقدمها واشنطن كحجر عثرة أمام مشروعها في المنطقة.

ماذا عن الانسحاب الإسرائيلي؟!

إننا في الوقت الذي نسمع فيه أن رئيس حكومة العدو يعرض على الرئيس الأميركي خرائط الانسحاب من لبنان، نسأل: هل هي الخرائط التي رسمها الاحتلال بفعل اقتطاعه للأراضي اللبنانية وضمها بشكل تدريجي بين المرحلة والأخرى، أم هو رسم الحدود الذي تحدث عنه نائب وزير حرب العدو زاعماً أن هناك حدوداً منذ العام 1923 ، وخطً آخر منذ العام 1949، وخط العام 1978.. ليكون للعدو خياراته لرسم الحدود مع فلسطين المحتلة بحسب مصالحه الأمنية والاقتصادية والسياسية..

إننا نضم الصوت إلى ما قاله رئيس الجمهورية بأنه ليس هناك انسحاب طالما أن طائرات العدو تظل تجوب سماء لبنان، وبوارجه تجوب مياهه الإقليمية، بالإضافة إلى الملفات الأخرى التي تتداخل فيها القضايا الإقليمية والدولية في تعقيدات كبيرة لا يمكن أن يُصار إلى حلها من خلال أدوار هامشية للأمم المتحدة.. كما أن لبنان لا يمكن أن يكون الشرطي الأمني لحساب العدو من الشمال ليحقق له هدفاً لطالما عجز عنه بنفسه.. وإننا نعتقد بأن "باراك" ذهب إلى واشنطن ليطلب دعماً وتغطية أميركية لأي عدوان قد يشنه ضد لبنان في المستقبل تحت ذرائع واهية.

رسائل العدو والرد المناسب

إن على اللبنانيين أن يستعدوا للأيام القادمة، حيث الاستهداف المتكرر والمتصاعد ضد المدنيين، وبداية نقل معتقلي الخيام إلى داخل فلسطين المحتلة، والإعلان عن "حرس وطني" على الحدود مع فلسطين المحتلة، كل ذلك جزء من رسائل العدو إلينا، وقد عرفت المقاومة كيف ترد على هذه الرسائل، خاصة بعد استهداف عربصاليم وإصابة المدنيين فيها، لتقول للعدو بأن سلاح الكاتيوشا لا يزل حاضراً في المعركة، وأن بالإمكان استخدامه في الأوقات التي تراها مناسبة.

إن علينا أن نثبت للعالم أن اللبنانيين ليسوا أداة يستطيع العدو أن يحركها ساعة يشاء لإحداث فتنة داخلية، وبأنهم اتعظوا من الحروب الداخلية، وباتوا يفهمون جيداً كيف يتفادون الأفخاخ الإسرائيلية الأمنية والسياسية والدبلوماسية، ويتحركون بوعي، ولاسيما في المفاصل السياسية والمنعطفات الكبرى في لبنان والمنطقة.

 

لأنه والأئمة (ع) الامتداد الحركي للنبوة
علينا أن لا نحصر الحسين (ع) في دائرة المأساة


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

الإمامة امتداد للنبوة

ونبقى مع الحسين(ع)، في كل حياته، كإمام للمسلمين، لأن الحسين(ع) لم يكن في صورته الأصيلة مجرد ثائر ينطلق في المعركة من أجل أن يطلق التحدي أو يواجهه، ولم يكن(ع) مجرّد شهيد تمثّلت المأساة بأقسى ألوانها في شهادته وفي شهادة الصفوة الطيبة من أهل بيته وأصحابه.. وإن كربلاء جسدت المأساة الإنسانية كما لم تجسّدها أية مأساة أخرى في التاريخ، لأنها كانت مأساة متحركة، يذبح فيها الأطفال الرضّع، والأطفال الذين لم يبلغوا الحلم، وتقطع فيها الرؤوس، وتدوس الخيل على صدور الشهداء، وتسبى النساء، إنها المأساة التي لو قدّر للعالم أن يكتشف عناصرها بشكل فني، لوقف مذهولاً أمام هذه الصورة الدامية التي مثّلت الوحشية في تصرفات الناس الذين امتلأت قلوبهم بالحقد، وسقطت إنسانيتهم أمام أطماعهم.

ولكن مع ذلك، فإن علينا أن لا نحصر الإمام الحسين(ع) في دائرة المأساة، لأننا عندما نحصره في هذه الدائرة وفي دائرة المعركة، فإننا نبتعد عن وعي شخصيته. الإمام الحسين(ع) هو إمام للمسلمين، بكل ما للإمامة من عمق في الروح، وامتداد في الفكر، وحركة في الدعوة، وسموّ في الأخلاق، وعظمة في القيم، وعصمة في كل عناصر الشخصية الفكرية والسلوكية، أن نتصوّره في موقع إمامته، والإمامة تمثل في معناها العميق الامتداد الحركي للنبوّة، من دون نبوّة: "يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبي بعدي"، ولذلك فإن علينا أن نفهم الإمام الحسين(ع) في كل هذه الرحابة التي تعطيها الإمامة من خلال ما تمثله من رحابة الإسلام في عقائده وشرائعه ومناهجه ووسائله وغاياته. هكذا ينبغي لنا أن نتمثل الحسين(ع)، وإذا أردنا أن نلتقي بثورته، فإن ثورته تمثل لوناً من ألوان حركة الإمامة، تماماً كما عندما نتمثل رسول الله(ص) في معاركه التي خاضها ضد الشرك، فإننا نتمثل حروبه كحركة للنبوة تواجه التحديات التي يطلقها الآخرون.

كربلاء حالة إسلامية

لعلّ المشكلة في مأساة الحسين(ع) عندنا هي أننا حصرناه في هذا الدائرة، ولذلك، لا نجد في أكثر هذا الموسم العاشورائي، حديثاً عن الحسين(ع) يشير إلى ما كان يعظ به الناس، أو يرشدهم به، أو يوجههم إليه، ليست هناك صورة ظاهرة ـ ولا أتكلم عن شمولية، فلعلّ البعض يتحدث عن ذلك ـ لحركة الإمامة لتوجيه الناس خارج نطاق قضية كربلاء، فالحسين(ع) ليس مجرد حالة كربلائية، بل هو حالة إسلامية، لقد عاش الإسلام، وعاش حركيته ودعوته، عاشها مع جده ومع أبيه وأخيه، وعاشها مع المسلمين، وتحرك في نشاطه الإسلامي في الدعوة بكل امتداداتها. ولذلك، لا بد لنا أن نلتقي بالحسين الإمام، لنعيش مع مواعظه، ومع نصائحه ومع وصاياه، لأن الارتباط به هو الارتباط بالحق الذي رسمه في سيرته العملية وفي جانب القيمة الروحية والأخلاقية، من دون أن نقتصر على مفردات كربلاء، وإن كانت هذه المفردات تتحرك في مواقع السموّ وفي مواقع الإمامة.

منهج الإمام الحسين (ع)

تعالوا نستمع إلى الحسين(ع) مما روي من كلماته، لنعالج بعض ما نعيشه في حياتنا في أكثر من سلبية من سلبيات الواقع:

النهي عن الغيبة:

قال الحسين(ع) لرجل اغتاب عنده رجلاً ـ وكم يغتاب الناس عندنا الناس ـ قال له: "يا هذا كفّ عن الغيبة، فإنها إدام كلاب أهل النار"، إن الغيبة تدخلك نار جهنم، فالذين يغتابون الناس يقتاتون في جهنم من نتائج الغيبة في عذاباتها. وقد عبّر عن أصحاب النار بكلمة "كلاب أهل النار"، أي أن الذي يغتاب الناس يتحول إلى كلب من كلاب النار، وطعامه هو الغيبة في معناها، ونحن نعرف كيف قرب الله لنا الغيبة في طعامها: {أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه}، أن تغتاب أخاك فكأنك تأكل لحمه وهو حيّ.

ونحن عندما نجلس في مجالس عاشوراء، ما أكثر ما نغتاب الناس، وما أكثر ما نظهر العيوب المستورة، وما أكثر ما نتحرك به من تهشيم الناس في كراماتهم في الواقع الاجتماعي أو في الدائرة الدينية. إن مسألة الغيبة ليست شيئاً يتصل بنفسية الذي يغتاب، ولكن تأثيراتها هي في أنها تربك الواقع الاجتماعي وتسيء إلى كرامات الناس وتفضح أسرارهم.

وفي كلمة أخرى يقول: "إذا سمعت أحداً يتناول أعراض الناس ـ يعني إذا كان هناك في المجتمع شخص يتناول كرامات الناس، بحيث يذمّ هذا، ويهتك حرمة ذاك، ويفشي سر آخر.. ـ فاجتهد أن لا يعرفك"، أي اجتهد أن لا تكون بينك وبينه علاقة، عبّر عن رفضك له بأن لا تنشىء بينك وبينه أية صداقة، لأن على الإنسان إنكار المنكر بالوسيلة التي يشعر فيها فاعل المنكر أنه مرفوض من المجتمع.

الابتعاد عن الظلم:

وفي كلمة قالها لولده علي بن الحسين(ع)، يقول زين العابدين(ع): "أوصاني أبي عندما حضرته الوفاة بما أوصاه به أبوه حين حضرته الوفاة، قال: يا بني، إياك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلا الله"، فالإنسان يمكن له أن يظلم شخصاً قوياً، ممّن يستطيع أن يدفع ظلمه، كمن له عندك مال وتنكر عليه ماله، ولكن هذا يستطيع ردّ ماله بطريقة معينة، ولكن هناك من لا يجد ناصراً إلا الله، كالأزواج الذين يظلمون زوجاتهم، فمجتمعنا لا يزال مجتمع الرجل، فقد يضغط على المرأة لتسامحه وتتنازل عن مهرها، أو يضغط عليها ليمنعها من أن تعبر عن إنسانيتها.. وهكذا يوجد الكثير من الأشخاص الذين ينظرون إلى المرأة كخادمة في البيت، وممّن يمنعون الزوجة من زيارة أهلها، أو من رعاية أمها وأبيها، أو أن تقوم بالشؤون الإنسانية، وقد يقول هذا حقي بحجة أنه لا يجوز للمرأة أن تخرج من البيت إلا بإذن زوجها. ولكن الله عندما أعطاك بعض الحق، أراد لك أن لا تتعسّف في استعماله، أراد لك أن تكون إنساناً لا وحشاً. ولقد قلت لكثير من الرجال إنه لو جعل الله للمرأة أن تمنع زوجها مما يمنعها منه، فهل يقبل؟ عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به. عندما يكون للإنسان حق فعليه أن يستعمل حقه بإنسانيته، فعلى الإنسان أن لا يخرج عن إنسانيته في هذا المجال، ولقد قلنا مراراً إن الحياة الزوجية لا تقوم على أساس أن يقف الرجل ليقول لزوجته إن المادة الفلانية تحكمك {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودّة ورحمة} فما يحكم الزوجين هو المودة والرحمة.

فالزوج الذي يجبر زوجته على أن تتنازل له عمّا هو حق لها، تبقى ذمته ـ شرعاً ـ مشغولة. وقد يكون هناك عنوان الغصب، وكذلك عندما نظلم أبناءنا، أو عندما يظلم الأستاذ التلميذ، أو في أي مجال نُنفّس فيه عن الاحتقان الموجود في أنفسنا بالضعفاء.. لأن ظلم الضعيف أفحش الظلم، وهناك شعر يقول:

يدعو عليكَ وعينُ اللهِ لم تنمِ تنامُ عينكَ والمظلومُ منتبهٌ
وما ظالمٍ إلاّ سيبلى بأظلمِ وما من يدٍ إلاّ يدُ الله فوقها

أيها الأحبة، إنكم تحتجون على ظلم يزيد وجيشه للحسين، فإذا كنتم تحتجون على الظلم الكبير، فلماذا تمارسون الظلم الصغير؟! وقد جاء في دعاء الإمام زين العابدين(ع): "اللهم فكما كرّهتني من أن أُظلَم، فقِني من أن أظلِم"، هذا هو خط أهل البيت(ع) إذا كنتم تريدون أن تتحركوا في خطهم(ع).

التوازن في الموقف:

في حديث للإمام الحسين(ع) يقول: "إياك وما تعتذر منه، فإن المؤمن لا يسيء ولا يعتذر، والمنافق كل يوم يسيء ويعتذر"، فالاعتذار ذلّ، لأنك تقف أمام من تعتذر منه لتعبّر عن سقوطك أمامه، لذلك فالإمام الحسين(ع) يقول إن المؤمن لا يتصرف تصرفاً يضطر أن يعتذر منه، ولذلك فهو لا يسيء، عندما يعرف أن الإساءة يعقبها الاعتذار، بحسب الظروف الاجتماعية المحيطة بالموضوع. وقد ورد في الحديث في تفسير قوله تعالى: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} قال: "إن الله فوّض إلى المؤمن أموره كلها ولم يفوّض إليه أن يكون ذليلاً"، قالوا: وكيف يذل نفسه؟ قال: "يدخل في ما يعتذر منه"، إذاً على الإنسان عندما يريد أن يقدم على أي عمل يتعلق بنفسه، وبالناس، فإن عليه أن يدرس هذا العمل، فإذا رأى أنه يستطيع أن يتحمل مسؤولية العمل، وأن يدافع عنه، وأن يقنع الناس بحجته في ما عمله فليعمله، أما إذا رأى نفسه غير قادر على أن يتحمل مسؤولية عمله، وأنه سوف يضطر إلى أن يقدم عذراً إلى من كان العمل موجهاً إليه، فعليه أن لا يعمله.ثم يقول الإمام(ع)، في ما روي عنه: "موتٌ في عزّ خيرٌ من حياة في ذلّ"، يعني، كُن العزيز الذي يملك قوة الموقف والكلمة والتحدي، ولا تكن الذليل الذي يحاول أن يسقط إنسانيته ونفسه، لأن قيمة الحياة بمقدار ما تملك لحياتك قوّتها وعنفوانها وعزتها وكرامتها.

تبادل الأمن والسلام:

ثم يقول(ع): "البخيل من بخل بالسلام"، فبعض الناس عندما يمرّ عليك لا يسلّم، لأن عنده انتفاخ شخصية، ويريدك أنت أن تسلّم عليه، فالإمام يقول عن مثل هذا الشخص إنه أبخل الناس، لأن السلام لا يكلفه شيئاً، والسلام هو الرسالة التي ترسلها من عقلك وقلبك وإنسانيتك للإنسان الآخر لتقول له: يا صاحبي إن علاقتي معك هي علاقة السلام، وإني أعطيك التحية الإسلامية من قلبي. السلام لا يمثّل تنازلاً منك لمن تسلّم عليه، بل يمثل ارتفاعاً بك. يقال إن أحد رؤساء أمريكا وهو "أبراهام لنكولن" الذي أصدر مرسوماً بتحرير العبيد في أمريكا، كان مارّاً في الطريق، وهو رئيس جمهورية، مرّ عليه شخص أسود، فبادره بالسلام، قيل له إن واجبه هو أن يسلّم عليك، فقال: لا، لأنه لو بادرني بالسلام لكان أفضل مني، وأنا لا أقبل كرئيس جمهورية أن يكون هو أفضل مني، لأن السلام يمثل قيمة إنسانية.

فالسلام هو الرسالة التي ينفتح فيها قلب على قلب، وفي الحديث الشريف: "للسلام سبعون حسنة، تسع وستون للمبتدئ، وواحدة للرادّ، وإن أحسن فعشر"، ثم إن السلام هو عملية تدريبية للدخول إلى الجنة، حيث السلام تحية أهل الجنة: {وتحيتهم فيها سلام} {سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين} {سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار}، ولعلّ تحية السلام أروع تحية إنسانية، لأنها تعطي الذي تسلم عليه أماناً من كل عدوان منك، ويبادلك هذا الأمان بأمان. ونحن نسينا السلام، لأنه بنظرنا أصبح (موضة) قديمة، وصرنا نستبدله بكلمات أخرى. ولكن السلام في تعبيره الإنساني، يعطي معنى إحساسك بإنسانيتك اتجاه الآخر، وإحساس الآخر بإنسانيته.

الخوف من الله:

وجاء عن الإمام الحسين(ع) أيضاً أنه قيل له يوماً: ما أعظم خوفك من ربك؟ قال: "لا يأمن يوم القيامة إلا من خاف الله في الدنيا"، فإذا أردت أن تكون الآمن يوم القيامة، عليك أن تخاف الله في الدنيا {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى}، أن تخافه، بأن لا تعمل ما لا يرضيه أو ما يسخطه.

وقال(ع): "البكاء من خشية الله نجاة من النار"، أن تجلس بين يدي ربك لتتذكر ذنوبك وسيئاتك، لتبكي من خشية الله، من قلبك وعقلك، ليشهد الله عليك بأنك نادم على ما فرط منك، عازم على أن لا تفعل في المستقبل شيئاً.

محاسبة النفس:

وفي ختام الحديث يقول بعض الرواة: سُئِل الإمام الحسين(ع) فقيل له: كيف أصبحت يابن رسول الله؟ قال: "أصبحت ولي ربٌ فوقي والنار أمامي، والموت يطلبني، والحساب محدق بي ـ فالحساب محدق بي من جميع الجهات: {وقفوهم إنهم مسؤولون} {اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً} {إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم} ـ وأنا مرتهنٌ بعملي ـ {كل نفسٍ بما كسبت رهينة} ـ ، ولا أجد ما أحب، ولا أدفع ما أكره ـ لأني لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً ـ والأمور بيد غيري ـ فهي بيد الله ـ فإن شاء عذبني، وإن شاء عفا عني، فأي فقير أفقر مني"؟!، كيف أصبحنا، هل نفكر بهذه الطريقة؟! هل نتذكر في صباحنا ربنا لنتّقيه ولنطيعه ولنحسب حسابه؟! هل نتذكر الموت والحساب وموقعنا في لقاء الله؟!

أيها الأحبة، لننطلق من هذه الروحانية الأخلاقية الحسينية. هذا هو الحسين، فإذا حضرتم مجالسه، فتذكروه في مواقع إمامته، حتى نكون في خطه، في واقعنا وسلوكنا وإيماننا في الحياة، ولنكون معه يوم القيامة، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وتلك هي قيمة عاشوراء، أن تنشىء جيلاً إسلامياً، ورعاً، تقياً، محباً لله، خائفاً منه، مستقيماً على خط الله، تلك هي عاشوراء التي نتحرك فيها بالعمق في الفكر والروح وليست كالتي نتحرك فيها ومعها بالشكليات.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله، اتقوا الله، فإن التقوى مفتاح كل خير في الدنيا والآخرة، لأننا بالتقوى ننال رضى الله، وبها نستطيع أن ننظم حياتنا على الخط الذي يريدنا الله أن نسير عليه، وبالتقوى نستطيع أن نملك المسؤولية في مواجهة كل التحديات التي ينطلق بها المستكبرون والظالمون في كل زمان ومكان، لأن القضية هي أن على الإنسان أن يواجه حساب المسؤولية في حياته، بقدر ما تتّسع المسؤولية في حياته، لأن لكل إنسان مسؤوليته عن نفسه وعن عياله وعن الناس في حياته، وعن الأمّة كلها، لأن علينا أن نخرج من حالتنا الفردية، لننفتح على واقعنا في كل ما نتحمل مسؤوليته في مجتمعاتنا لتكون مجتمعات الإسلام، وفي أمتنا لتكون أمة الإسلام القوية المنتصرة المتحدية، التي تواجه الاستكبار كله.

وعلينا أن نتذكر دائماً كيف نستفيد من كثير من تجاربنا الفاشلة التي أصابتنا بالكثير من النتائج السلبية، لذا علينا أن نعرف عدة نقاط:

الأزمة اللبنانية من صنع أمريكا

نلتقي في هذه الأيام بالذكرى الخامسة والعشرين للحرب اللبنانية التي تنطلق من تخطيط داخلي، بل انطلقت شرارتها بتخطيط أميركي، ومثلت وجهاً من وجوه الصراع الإقليمي والدولي في لبنان ومن حوله، حيث كان صراع المحاور الذي كاد أن ينتهي بإنهاء القضية الفلسطينية التي أريد للحرب اللبنانية أن تكون المحرقة التي تحترق فيها القضية بالكامل.

إننا عندما نستذكر الثالث عشر من نيسان ذكرى اندلاع الحرب، فإن ثمة أموراً يجري التوقف عندها على قاعدة الاستفادة من تجاربنا الماضية:

أولاً: إن الولايات المتحدة الأميركية التي كان لها اليد الطولى في إشعال فتنة الحرب وفي امتدادها، لم تسلم من نارها، فقد احترقت يدها والكثير من خططها في المنطقة، وهي مع ذلك لا تزال تحاول الدخول إلى ساحة الهيمنة على لبنان من ألف شباك، ليس آخرها نافذة الاحتلال الإسرائيلي للجنوب وحديث الانسحاب وفق القرار 425.

ثانياً: إن شعارات الحرب اللبنانية قد تساقطت جميعها ولاسيما الشعارات الداخلية، ليتبين للجميع أن الذين أطلقوا الحرب - من المحاور الدولية والإقليمية- قد امتصوا عصارتها وحققت نتائجها أهدافهم، بينما كان اللبنانيون هم وقود الحرب ولم يجنوا شيئاً على مستوى النتائج السياسية، حيث لم تكن المسألة ما هي صلاحيات رئيس الجمهورية أو رئيس الحكومة أو رئيس المجلس، لا بل وجدنا أن الشعارات السياسية والطائفية والمذهبية أسست لولادة الشخصانية السياسية التي كانت أشد إيلاماً من المذهبية نفسها، فتحول التحزب من الطائفة إلى الشخص.

ثالثاً: لقد خسر اللبنانيون في كل تجاربهم في الحروب الداخلية (داخل طاحونة الحرب الكبرى)، سواء الحروب داخل كل طائفة أو حروب الأحزاب والمحاور، أو حروب الطوائف مع بعضها البعض، وربحوا حرباً واحدة هي الحرب ضد إسرائيل، وأوشكوا أن يسجلوا في هذه الحرب –بفعل إرادة المجاهدين- ودعم الشعب والدولة لهم، انتصاراً تاريخياً على العدو..ولذلك فإن ما تطمح إليه إسرائيل في هذه الأيام هو أن تتفلت من نيران مقاومة اللبنانيين لها، لتشن عليهم حرباً سياسية ودبلوماسية بتغطية أميركية بدأت ملامحها بالتصاعد..

أمريكا تتبنى الخطط الإسرائيلية

إن ما نشهده في هذه الأيام هو استكمال للعبة الأميركية-الإسرائيلية الساعية لكسر آخر حلقات المواجهة مع العدو عبر لعبة التفافية تحاول فيها اتهام سوريا بتضييع فرص التسوية ومن ثم العمل لحشد مواقف دولية مضادة لها، تحت عنوان الانتصار للقرار 425 .

لقد أصبحت الإدارة الأميركية تلعب اللعبة الإسرائيلية المكشوفة بعدما كانت تُغلّف مواقفها بغلاف دبلوماسي، فوزيرة الخارجية الأميركية تضع نفسها مكان "باراك" تماماً لتقول: "لا توجد هناك مرونة كافية في الردود السورية" لتتناسى أن إدارتها تتحدث عن دور الوسيط في المفاوضات.. إن "المرونة" بنظر الإدارة الأميركية تتمثل في تنازل سوريا عن أرضها أولاً، وتماشيها مع خطة "باراك" للبنان ثانياً، والسير في قطار التسوية وفق الأدوار التي رسمتها واشنطن ثالثاً.

ولذلك فإن الحديث الأميركي عن تفعيل المسار الفلسطيني ليس حديثاً بريئاً، بل يحمل في طياته محاولة لاستفراد سوريا من خلال الزعم بأن كل المسارات باتت تسير نحو النهاية السعيدة ( أمريكياً وإسرائيلياً) باعتبار أن قطار المسار الفلسطيني على أبواب الإقلاع، وبأن المسار اللبناني يُصبح منتهياً بفعل الانسحاب الإسرائيلي، لتبقى سوريا وكأنها العقبة التي تقدمها واشنطن كحجر عثرة أمام مشروعها في المنطقة.

ماذا عن الانسحاب الإسرائيلي؟!

إننا في الوقت الذي نسمع فيه أن رئيس حكومة العدو يعرض على الرئيس الأميركي خرائط الانسحاب من لبنان، نسأل: هل هي الخرائط التي رسمها الاحتلال بفعل اقتطاعه للأراضي اللبنانية وضمها بشكل تدريجي بين المرحلة والأخرى، أم هو رسم الحدود الذي تحدث عنه نائب وزير حرب العدو زاعماً أن هناك حدوداً منذ العام 1923 ، وخطً آخر منذ العام 1949، وخط العام 1978.. ليكون للعدو خياراته لرسم الحدود مع فلسطين المحتلة بحسب مصالحه الأمنية والاقتصادية والسياسية..

إننا نضم الصوت إلى ما قاله رئيس الجمهورية بأنه ليس هناك انسحاب طالما أن طائرات العدو تظل تجوب سماء لبنان، وبوارجه تجوب مياهه الإقليمية، بالإضافة إلى الملفات الأخرى التي تتداخل فيها القضايا الإقليمية والدولية في تعقيدات كبيرة لا يمكن أن يُصار إلى حلها من خلال أدوار هامشية للأمم المتحدة.. كما أن لبنان لا يمكن أن يكون الشرطي الأمني لحساب العدو من الشمال ليحقق له هدفاً لطالما عجز عنه بنفسه.. وإننا نعتقد بأن "باراك" ذهب إلى واشنطن ليطلب دعماً وتغطية أميركية لأي عدوان قد يشنه ضد لبنان في المستقبل تحت ذرائع واهية.

رسائل العدو والرد المناسب

إن على اللبنانيين أن يستعدوا للأيام القادمة، حيث الاستهداف المتكرر والمتصاعد ضد المدنيين، وبداية نقل معتقلي الخيام إلى داخل فلسطين المحتلة، والإعلان عن "حرس وطني" على الحدود مع فلسطين المحتلة، كل ذلك جزء من رسائل العدو إلينا، وقد عرفت المقاومة كيف ترد على هذه الرسائل، خاصة بعد استهداف عربصاليم وإصابة المدنيين فيها، لتقول للعدو بأن سلاح الكاتيوشا لا يزل حاضراً في المعركة، وأن بالإمكان استخدامه في الأوقات التي تراها مناسبة.

إن علينا أن نثبت للعالم أن اللبنانيين ليسوا أداة يستطيع العدو أن يحركها ساعة يشاء لإحداث فتنة داخلية، وبأنهم اتعظوا من الحروب الداخلية، وباتوا يفهمون جيداً كيف يتفادون الأفخاخ الإسرائيلية الأمنية والسياسية والدبلوماسية، ويتحركون بوعي، ولاسيما في المفاصل السياسية والمنعطفات الكبرى في لبنان والمنطقة.

 

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية