إياك أن تكون فحّاشاً أو صخّاباً أو لعّاناً

إياك أن تكون فحّاشاً أو صخّاباً أو لعّاناً

لأن الكلمة الطيبة هي سبيل المؤمن في الحياة :

  "إياك أن تكون فحّاشاً أو صخّاباً أو لعّاناً"

ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبة سماحته الأولى :

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء * تؤتي أُكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكّرون * ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتُثت من فوق الأرض ما لها من قرار * يُثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء}.

الكلمة الطيبة: عطاء مستمر:

إن الله تعالى يحدّثنا عن الكلمة التي يمكن أن تصدر من الإنسان، ومن الطبيعي أن الكلمة تترك آثارها على كل الناس الذين يسمعونها في تأثيراتها الإيجابية إن كانت الكلمة إيجاباً، أو السلبية إن كانت الكلمة سلباً، ويحدّثنا الله تعالى عن الكلمة الطيبة، وهي الكلمة التي تختزن في داخلها كل المعاني التي يمكن أن تغني للإنسان عقله وتفتح قلبه وتنفتح على الخير في حياته، الكلمة التي يمكن أن تنتج الخير للإنسان، وتحفظ كرامته، وتؤسس للمجتمع وحدته وتكامله وتعاونه.

الكلمة الخبيثة: حقد وشرّ:

ولذا، شبهها الله تعالى بالشجرة الطيبة والتي تمتد جذورها إلى أعماق الأرض وترتفع أغصانها إلى آفاق السماء، وهي الشجرة التي ليس لها موسم معيّن للعطاء، بل إنها تعطي في كل الفصول. أما الكلمة الخبيثة، وهي الكلمة التي تنتج الشر، وتعطي الإنسان فكراً مظلماً وتفتح قلبه على الحقد، وتنشر المعاني السيئة في الحياة، وتفتح حياة الناس على الفتنة والتمزق، كما أنها تسيء إلى كراماتهم، وقد شبّهها الله تعالى بالشجرة الخبيثة التي لا تمتد جذورها في أعماق الأرض، ولذلك عندما تهب عليها رياح عاصفة فإنها تُسقطها.

ويؤكد الله تعالى للناس بأنه يثبّت الذين آمنوا بالقول الثابت، الذي يرتكز على الحق والخير والعدل، وعلى كل ما يرتفع بالإنسان لينتج المحبة والوحدة في حياته، ويضل الله الظالمين الذين يظلمون أنفسهم بالكفر أو الفسق أو الظلم والبغي بغير الحق في حياة الناس، ويبقى لله أن يفعل ما يشاء، لأنه المهيمن على كل شيء.

إننا بوحي هذه الآية الكريمة، نحاول أن ننطلق مع رسول الله (ص) ومع الأئمة من أهل البيت(ع) في حديثهم عن الكلمة الخبيثة السلبية، والتي بدأت تنتشر في مجتمعاتنا بفعل البعد عن الخط الإسلامي للأخلاق، وعن العدالة الإنسانية التي أراد الإسلام للإنسان أن ينطلق بها. وعلينا عندما نتابع هذه الكلمات أن نربي أنفسنا وأولادنا على اجتناب هذه الكلمات، حتى يكون مجتمعنا مجتمعاً نظيفاً طاهراً تتحرك الكلمات فيه من موقع المسؤولية لا من موقع الهوى والحقد والعداوة والضغينة.

الجنة محرّمة على الفحّاش:

ففي الحديث عن رسول الله(ص) مما رواه أمير المؤمنين(ع) عن الفحش في الكلمة، والفحش يمثّل الكلمات البذيئة التي توجّه إلى الناس، بحيث يخجل الإنسان الذي يملك الحياء في شخصيته عندما يسمعها، وكلمة الفحش ليست محرّمة في ذاتها، بل هي محرّمة عندما توجّه للناس الآخرين، فعن أمير المؤمنين(ع) قال: "قال رسول الله (ص): إن الله حرّم الجنة على كل فحّاش بذيء - من يُطلق كلمة الفحش والبذاءة في واقع الناس - قليل الحياء، لا يُبالي ما قال ولا ما قيل له - فليس عنده مشكلة أن يسبّه الناس عندما يسبّهم - فإنك إن فتّشته - إذا تفحصت عنه وتقصّيت مبدأه ونشأته - لم تجده إلا لغيّة - وقد فُسّرت هذه الكلمة بابن الزنا أو الشخص الذي ينشأ على الغي في مقابل الرشد - أو شرك شيطان. فقيل: يا رسول الله وفي الناس شرك شيطان؟ قال (ص): أما تقرأ قول الله عزّ وجلّ: {وشاركهم في الأموال والأولاد}".. ومن الطبيعي أن المقصود في هذا المجال هو أن لا يعيش الأب أو الأم هذه الذهنية والخلق الشيطاني، حتى لا يدخل الشيطان شريكاً في إنتاج هذا الولد.

وسأل رجل فقيهاً، وقيل أحد الأئمة(ع): هل في الناس من لا يبالي ما قيل له؟ فقال: "من تعرّض للناس يشتمهم وهو يعلم أنهم لا يتركونه، فذلك الذي لا يبالي ما قال ولا ما قيل له".. وفي الحديث عن الإمام الباقر(ع): "إن الله يبغض الفاحش المتفحّش".

الفحش مثال السوء:

وينقل عن الإمام جعفر الصادق(ع) أنه كان له صديق لا يكاد يفارقه إذا ذهب مكاناً، فبينما هو يمشي معه في الحذّائين - وهو سوق صانعي الأحذية - ومعه غلام له سندي يمشي خلفهما، إذ التفت الرجل يريد غلامه ثلاث مرات فلم يره، فلما نظر في الرابعة قال: يابن الفاعلة أين كنت؟ - اي يابن الزانية - فرفع أبو عبد الله(ع) يده فصكّ بها جبهة نفسه - ضرب بها جبهة نفسه استنكاراً - وقال: "سبحان الله، تقذف أمه، قد كنت أرى أن لك ورعاً فإذا ليس لك ورع"، فقال: جُعلت فداك، إن أمه سندية مشركة! فقال(ع): "أما علمت أن لكل أمّة نكاحاً يحتجزون به عن الزنى" - أي أنّ لكل أمّة عقداً وشريعة وأصولاً في الزواج، وقد أمضاها الإسلام - ثم قال: "تنحَّ عني"، فما شوهد يمشي معه حتى فرّق الموت بينهما.. وجاء في حديث لرسول الله(ص) يقول فيه: "يا عائشة، إن الفحش لو كان مثالاً لكان مثال سَوء"..

ويُنقل عن الإمام الصادق(ع) قال: "كان في بني إسرائيل رجل دعا الله أن يرزقه غلاماً ثلاث سنين، فلما رأى أن الله لا يجيبه قال: يا رب، أبعيد أنا منك فلا تسمعني، أم قريب أنت مني فلا تجيبني؟ فأتاه آتٍ في منامه، قال: إنك تدعو الله عزّ وجلّ منذ ثلاث سنين بلسان بذيء، وقلب عاتٍ غير تقي - قلب قاس غير حنون ومنفتح - ونيّة غير صادقة، فأقلع عن بذائك، وليتّقِ الله قلبُك، ولتحسن نيتك، قال: ففعل الرجل ذلك، ثم دعا الله فوُلد له غلام"..

من يتّقى شره:

وهناك عنوان آخر في هذا المجال وهو عنوان "من يُتقى شره"، وهو الذي يتفاداه الناس لسوء سلوكه ولأنه شخص شرير، فعن الإمام الصادق(ع) قال: "إن النبي (ص) بينما هو ذات يوم عند عائشة - في بيتها - إذ استأذن عليه رجل، فقال رسول الله(ص): بئس أخو العشيرة - وكأنه أراد أن يقول إن هذا الرجل من أردأ أفراد عشيرته - فقامت عائشة فدخلت البيت وأذن رسول الله(ص) للرجل، فلما دخل أقبل عليه بوجهه وبشره يحدثه، حتى إذا فرغ وخرج من عنده قالت عائشة: يا رسول الله، بين أنت تذكر هذا الرجل بما ذكرته به إذ أقبلت عليه بوجهك وبشرك؟ فقال رسول الله(ص) عند ذلك: إن من شرّ عباد الله من تُكره مجالسته لفحشه". وفي الحديث قال رسول الله(ص): "شرّ الناس يوم القيامة الذين يُكرمون اتقاءً لشرّهم"، الذين يحترمهم الناس ويكرّمونهم اتقاء شرّهم وخوفاً من القوة الظالمة التي يسلّطونها على الناس.

الرواية على المؤمن:

أما العنوان الثالث في هذا المجال فهو "الرواية على المؤمن"، وهم هؤلاء الناس الذين يحاولون أن ينقلوا عن المؤمنين ما يُسقط مكانتهم وما يهدّم إنسانيتهم، سواء كانت هذه الأمور حقيقية أو غير حقيقية، يقول "المفضّل بن عمر": قال لي أبو عبد الله(ع): "من روى على مؤمن رواية - بحيث يدور في المجالس والسهرات لينقل عن المؤمن بعض الروايات الكاذبة أو الصادقة بهدف إسقاط شخصيته وموقعه عند الناس - يريد بها شينه - والشين هو العيب - وهدم مروءته، ليسقط من أعين الناس - وهذا مما ابتلينا به من قبل بعض الناس في المجتمعات الدينية للأسف - أخرجه الله من ولايته إلى ولاية الشيطان، فلا يقبله الشيطان"، لأن الشيطان عندما رفض السجود لآدم(ع) فإنه رفض من موقع عنصريته، ولكنه لم يسبّه ويتحامل عليه، أما هذا الذي يروي على المؤمنين من أجل أن يسقطهم ويتحامل عليهم فإنه أكثر شيطنة من الشيطان..

وعن أبي عبد الله(ع) في ما جاء في الحديث عن رسول الله(ص): "عورة المؤمن على المؤمن حرام"، سُئل: ما هو، أن ينكشف فترى منه شيئاً؟ قال(ع): "لا، إنما هو أن تروي عليه - بما يهدّم مكانته - أو تعيبه"، لتسقطه من أعين الناس.

السبّاب مشرف على الهلكة:

والعنوان الأخير في هذا المجال هو "السباب"، ففي الحديث: "سبّاب المؤمن كالمشرف على الهلكة"، وفي الحديث عن الإمام الباقر(ع) قال: "قال رسول الله(ص): سباب المؤمن فسوق - الذي يسب المؤمنين يستحق لقب الفاسق - وقتاله - بغير حق - كفر، وأكل لحمه - بالغيبة - معصية، وحرمة ماله كحرمة دمه". وفي الحديث عن الإمام الباقر(ع): "أتى رجل من بني تميم إلى النبي(ص)، فقال: أوصني، فكان في ما أوصاه قال(ص): لا تسبّوا الناس فتكتسبوا العداوة فيما بينهم". وفي الحديث عن الإمام الكاظم(ع) في رجلين يتسابّان، قال: "البادي منهما أظلم، ووزره ووزر صاحبه عليه ما لم يعتذر إلى المظلوم".. ويقول أحد أصحاب الإمام الصادق(ع): سمعت أبا عبد الله(ع) يقول: "إذا قال الرجل لأخيه المؤمن (أف) خرج من ولايته، وإذا قال (أنت عدوّي) كفر أحدهما - لأن الله تعالى يقول: {إنما المؤمنون أخوة}، وأنت تقول له: أنت عدوّي، فكأنك تردّ على الله تعالى - ولا يقبل الله من مؤمن عملاً وهو مضمر على أخيه المؤمن سوءاً"..

إن الله تعالى يقول: {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن - عندما تعيش في المجتمع مع زوجتك وأولادك وأهلك وجيرانك ومع الذين تبايعهم وتشاريهم، حاول أن تطلق الكلمة الأفضل لتغربل كلماتك - إن الشيطان ينزغ بينهم - يدخل بينهم ليثير العداوة والبغضاء من خلال الكلمات غير المسؤولة - إن الشيطان كان للإنسان عدوّاً مبيناً}.

إن الله تعالى يريد لمجتمعنا أن يكون مجتمعاً قائماً على المحبة والاحترام المتبادل، وعلى أن يحفظ الإنسان كرامة أخيه الإنسان، حتى نتدرّب في الدنيا على أخلاق أهل الجنة.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله في كل كلماتكم، لأن الكلمة قد تسقط الإنسان من السماء إلى الأرض، لا تقولوا كلمة الشر بل قولوا كلمة الخير، لا تقولوا كلمة الباطل بل قولوا كلمة الحق، لا تقولوا كلمة الظلم بل قولوا كلمة العدل، لا تنطلقوا بكلماتكم لتؤيدوا كافراً أو ظالماً أو منحرفاً أو متمرداً على الله تعالى، ولا تقولوا كلمة الفتنة والفرقة والتمزق، بل قولوا كلمة الوحدة، ولا تقولوا كلمة البغضاء بل قولوا كلمة المحبة، قولوا كلمة الحق في وجه سلطان جائر، قولوا كلمة العدل في وجه كل مستكبر وظالم، لأن الله تعالى يريد للكلمات أن تعبّر عن أصالة الحق والعدل في الإنسان..

وعلينا في مرحلتنا هذه، ولا سيما المرحلة السياسية التي تتصل بقضايا المصير، حيث نسمع الكثير من الكلمات في الشرق والغرب التي تحاول أن تخدعنا وتغشنا وتتحرك من أجل تزوير مستقبلنا وإسقاط قضايانا، علينا أن نكون واعين لكل الكلمات التي نسمعها في إذاعة أو نقرأها في صحيفة، علينا أن نفهم ونعي ما نسمع، لأن السمّ ربما يكون كامناً في الدسم.. فماذا هناك؟

نخشى مصادرة القضية الفلسطينية:

لا تزال القضية الفلسطينية تراوح مكانها في المفاوضات، ولكننا نخشى أن يكون هناك نشاط أمريكي يلتقي بنشاط عربي، من أجل التحضير لقمّة جديدة وإيجاد بعض الحلول التي تقوم على أساس حلّ مشكلة القدس وعودة اللاجئين بطريقة تنقذ إسرائيل من مأزقها الداخلي، ولا تستجيب لأدنى الحقوق الفلسطينية.

وهذا هو ما بدأه الموفد الأمريكي للمنطقة، الذي كان ولا يزال - وهو اليهودي في الإدارة الأمريكية - يعمل على إدارة الأمور لمصلحة إسرائيل لا لمصلحة الفلسطينيين، وهذا هو الخط الذي تتبنّاه السياسة الأمريكية في المفاوضات السابقة واللاحقة، لا سيما في مرحلة الانتخابات الأمريكية التي يصرّح مرشحوها بأن أمريكا وإسرائيل "تنظران إلى الأمور بعين واحدة"، وأن المسؤولية في فشل المفاوضات "دائماً على العرب" لا على إسرائيل.. إن المطلوب - أمريكياً - الآن من العرب الذين يستقبلون الوفود الإسرائيلية والأمريكية، مساعدة هذا المرشح الأمريكي أو ذاك في الانتخابات، لقاء بعض الوعود أو الضغوط، على قاعدة تقديم التنازلات لإسرائيل.

وإلى جانب ذلك، هناك قرار بانعقاد "لجنة القدس" المنبثقة عن "المؤتمر الإسلامي" في الرباط، هذه اللجنة التي وُلدت ميتة ولم تقدّم للقدس شيئاً، وقد كنا دعونا في وقت سابق إلى عقد قمة لـ"منظمة المؤتمر الإسلامي"، كما كانت إيران تعمل لذلك، ولكن التدخلات الأمريكية والعربية منعت انعقاد قمة كهذه..

إننا نحذّر مما يُخشى التحرك نحوه من التخطيط وراء الكواليس لإنهاء الملف الفلسطيني، ومصادرة الحقوق الشرعية للفلسطينيين، والعبث بقضية القدس في المداولات الأمريكية - الإسرائيلية - العربية - الفلسطينية، وذلك من أجل عقد قمة جديدة للتوقيع، لأننا نتصوّر أن الجولات الفلسطينية - الإسرائيلية كانت للوصول إلى هذه النتيجة، ليُصار إلى إعلان الدولة الفلسطينية بعد التوقيع.

إن على الشعوب العربية والإسلامية، ولا سيما الشعب الفلسطيني، أن تكون في يقظة دائمة لما يُخطط لهذا الشعب في الخفاء، من مصادرة القضية الفلسطينية لحساب الخطة الأمريكية - الإسرائيلية، بدعم أوروبي وربما عربي، مما يحمّل الجميع مسؤولية كبرى لحماية هذه القضية الكبرى التي تختصر كل تطلعات الأمة في هذه المرحلة المصيرية.

لبنان دخل ميدان القوة:

وفي هذا الجو، نشهد في هذه الأيام حركة أمنية وسياسية إسرائيلية، تحاول الدخول إلى الجنوب من خلال بعض الثغرات الأمنية التي يحركها الجيش الصهيوني نفسه، لمساومة الدولة اللبنانية حول قضايا مستقبلية، منها ما يتعلق بمهمة قوات الطوارئ في الجنوب، ومنها ما يتصل بحركة الاحتلال نفسه عند الحدود.

فالعدو الذي عجز عن تحقيق أهدافه التي رسمها في أعقاب الاندحار، سواء لجهة سعيه لإحداث حالة غير طبيعية في علاقات الدولة مع المقاومة، أو لجهة فشله في استدراج لبنان إلى ساحة العروض الاقتصادية، من خلال وسائط دولية متعددة، يحاول في هذه الأيام أن يُحدث شيئاً من الضغوط الميدانية، تارة من خلال اختراق الحدود وإقامة مواقع متحرّكة خلف ما يسمى بالخط الأزرق، وأخرى من خلال سرقة التربة اللبنانية، وثالثة من خلال إثارة ما يجري عند "بوابة فاطمة" وكأنه يمثل حركة أمنية واسعة وليس حركة شعبية عفوية يمارسها شعب عانى من ويلات هذا الاحتلال وجرائمه أكثر من عشرين سنة..

إن العدو يريد أن يُسلّط الأضواء على ذلك، للحصول على أصوات دولية داعمة لمخططه الساعي إلى جر لبنان مجدداً إلى ساحة التفاوض معه، وإن من بوابة المعابر الحدودية، ولذلك فإن طلب "باراك" من لبنان "العمل مع إسرائيل لتنظيم نقاط حدودية تتم عبرها لقاءات عائلية، مع توفير الحد الأدنى من الراحة" كما قال، يستهدف حشر لبنان في هذه الزاوية بعد أن خرج منه بفعل المقاومة والمواقف الشعبية والرسمية الثابتة، وحتى ينشغل العالم عن قضية خطيرة كقضية المعتقلين اللبنانيين الذين ما زالوا في السجون الصهيونية، بهذه التفاصيل التي يعمل العدو على تحريكها بين الوقت والآخر، وصولاً إلى ما يخطط له من إمكانية إحداث تغيير في الموقف اللبناني العام، نزولاً عند العروض الاقتصادية والضغوط الميدانية.

إننا نقول للجميع: لقد دخل لبنان ميدان القوة في وجه العدو من الأبواب الواسعة، ولذلك عليكم أن لا تسمحوا للعدو بإخراجه من ساحة القوة إلى ساحة الضعف، ولن يكون ذلك إلا بإقفال الأبواب السياسية والأمنية، لمنع اختراقاته على هذا الصعيد أو ذاك.

القفز فوق الاعتبارات القيمية:

وأخيراً، لا نزال نعيش في دوامة الوحل السياسي، حيث تختفي الحياة السياسية النظيفة لمصلحة التحالفات التي لا تأخذ المبادئ بعين الاعتبار، والتي تقف فوق الاعتبارات القيمية لمصلحة الاعتبارات الشخصية والمصلحية.

إن هذا الموت السياسي الذي يتشكّل باستمرار في المشاهد السياسية اليومية، وفي الممارسات التي لا تمتّ إلى الأخلاقية السياسية بصلة، لا يُبشّر بمستقبل سياسي واعد يُقبل عليه البلد، بل يبشّر بالمزيد من الاندحار السياسي وعلى كافّة المستويات. لذلك، فعلى الذين لا يجدون أمامهم الطريق مفتوحة في نهج الخير السياسي، أن يبتعدوا عن سُبُل الشر، احتراماً للحاضر، وصوناً لمستقبل الأجيال. وعلى الشعب أن يعرف كيف يتعامل مع ذلك بالموقف والإرادة والصوت، لأن ما يزرعه في هذه المواسم يحصد ثمنه في المواسم القادمة، ولا خير في كل هذه المواسم السياسية التي تظل تدور طاحونتها لحساب الأشخاص والمواقع، على حساب الشعب والوطن والأمة.

لأن الكلمة الطيبة هي سبيل المؤمن في الحياة :

  "إياك أن تكون فحّاشاً أو صخّاباً أو لعّاناً"

ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبة سماحته الأولى :

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء * تؤتي أُكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكّرون * ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتُثت من فوق الأرض ما لها من قرار * يُثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء}.

الكلمة الطيبة: عطاء مستمر:

إن الله تعالى يحدّثنا عن الكلمة التي يمكن أن تصدر من الإنسان، ومن الطبيعي أن الكلمة تترك آثارها على كل الناس الذين يسمعونها في تأثيراتها الإيجابية إن كانت الكلمة إيجاباً، أو السلبية إن كانت الكلمة سلباً، ويحدّثنا الله تعالى عن الكلمة الطيبة، وهي الكلمة التي تختزن في داخلها كل المعاني التي يمكن أن تغني للإنسان عقله وتفتح قلبه وتنفتح على الخير في حياته، الكلمة التي يمكن أن تنتج الخير للإنسان، وتحفظ كرامته، وتؤسس للمجتمع وحدته وتكامله وتعاونه.

الكلمة الخبيثة: حقد وشرّ:

ولذا، شبهها الله تعالى بالشجرة الطيبة والتي تمتد جذورها إلى أعماق الأرض وترتفع أغصانها إلى آفاق السماء، وهي الشجرة التي ليس لها موسم معيّن للعطاء، بل إنها تعطي في كل الفصول. أما الكلمة الخبيثة، وهي الكلمة التي تنتج الشر، وتعطي الإنسان فكراً مظلماً وتفتح قلبه على الحقد، وتنشر المعاني السيئة في الحياة، وتفتح حياة الناس على الفتنة والتمزق، كما أنها تسيء إلى كراماتهم، وقد شبّهها الله تعالى بالشجرة الخبيثة التي لا تمتد جذورها في أعماق الأرض، ولذلك عندما تهب عليها رياح عاصفة فإنها تُسقطها.

ويؤكد الله تعالى للناس بأنه يثبّت الذين آمنوا بالقول الثابت، الذي يرتكز على الحق والخير والعدل، وعلى كل ما يرتفع بالإنسان لينتج المحبة والوحدة في حياته، ويضل الله الظالمين الذين يظلمون أنفسهم بالكفر أو الفسق أو الظلم والبغي بغير الحق في حياة الناس، ويبقى لله أن يفعل ما يشاء، لأنه المهيمن على كل شيء.

إننا بوحي هذه الآية الكريمة، نحاول أن ننطلق مع رسول الله (ص) ومع الأئمة من أهل البيت(ع) في حديثهم عن الكلمة الخبيثة السلبية، والتي بدأت تنتشر في مجتمعاتنا بفعل البعد عن الخط الإسلامي للأخلاق، وعن العدالة الإنسانية التي أراد الإسلام للإنسان أن ينطلق بها. وعلينا عندما نتابع هذه الكلمات أن نربي أنفسنا وأولادنا على اجتناب هذه الكلمات، حتى يكون مجتمعنا مجتمعاً نظيفاً طاهراً تتحرك الكلمات فيه من موقع المسؤولية لا من موقع الهوى والحقد والعداوة والضغينة.

الجنة محرّمة على الفحّاش:

ففي الحديث عن رسول الله(ص) مما رواه أمير المؤمنين(ع) عن الفحش في الكلمة، والفحش يمثّل الكلمات البذيئة التي توجّه إلى الناس، بحيث يخجل الإنسان الذي يملك الحياء في شخصيته عندما يسمعها، وكلمة الفحش ليست محرّمة في ذاتها، بل هي محرّمة عندما توجّه للناس الآخرين، فعن أمير المؤمنين(ع) قال: "قال رسول الله (ص): إن الله حرّم الجنة على كل فحّاش بذيء - من يُطلق كلمة الفحش والبذاءة في واقع الناس - قليل الحياء، لا يُبالي ما قال ولا ما قيل له - فليس عنده مشكلة أن يسبّه الناس عندما يسبّهم - فإنك إن فتّشته - إذا تفحصت عنه وتقصّيت مبدأه ونشأته - لم تجده إلا لغيّة - وقد فُسّرت هذه الكلمة بابن الزنا أو الشخص الذي ينشأ على الغي في مقابل الرشد - أو شرك شيطان. فقيل: يا رسول الله وفي الناس شرك شيطان؟ قال (ص): أما تقرأ قول الله عزّ وجلّ: {وشاركهم في الأموال والأولاد}".. ومن الطبيعي أن المقصود في هذا المجال هو أن لا يعيش الأب أو الأم هذه الذهنية والخلق الشيطاني، حتى لا يدخل الشيطان شريكاً في إنتاج هذا الولد.

وسأل رجل فقيهاً، وقيل أحد الأئمة(ع): هل في الناس من لا يبالي ما قيل له؟ فقال: "من تعرّض للناس يشتمهم وهو يعلم أنهم لا يتركونه، فذلك الذي لا يبالي ما قال ولا ما قيل له".. وفي الحديث عن الإمام الباقر(ع): "إن الله يبغض الفاحش المتفحّش".

الفحش مثال السوء:

وينقل عن الإمام جعفر الصادق(ع) أنه كان له صديق لا يكاد يفارقه إذا ذهب مكاناً، فبينما هو يمشي معه في الحذّائين - وهو سوق صانعي الأحذية - ومعه غلام له سندي يمشي خلفهما، إذ التفت الرجل يريد غلامه ثلاث مرات فلم يره، فلما نظر في الرابعة قال: يابن الفاعلة أين كنت؟ - اي يابن الزانية - فرفع أبو عبد الله(ع) يده فصكّ بها جبهة نفسه - ضرب بها جبهة نفسه استنكاراً - وقال: "سبحان الله، تقذف أمه، قد كنت أرى أن لك ورعاً فإذا ليس لك ورع"، فقال: جُعلت فداك، إن أمه سندية مشركة! فقال(ع): "أما علمت أن لكل أمّة نكاحاً يحتجزون به عن الزنى" - أي أنّ لكل أمّة عقداً وشريعة وأصولاً في الزواج، وقد أمضاها الإسلام - ثم قال: "تنحَّ عني"، فما شوهد يمشي معه حتى فرّق الموت بينهما.. وجاء في حديث لرسول الله(ص) يقول فيه: "يا عائشة، إن الفحش لو كان مثالاً لكان مثال سَوء"..

ويُنقل عن الإمام الصادق(ع) قال: "كان في بني إسرائيل رجل دعا الله أن يرزقه غلاماً ثلاث سنين، فلما رأى أن الله لا يجيبه قال: يا رب، أبعيد أنا منك فلا تسمعني، أم قريب أنت مني فلا تجيبني؟ فأتاه آتٍ في منامه، قال: إنك تدعو الله عزّ وجلّ منذ ثلاث سنين بلسان بذيء، وقلب عاتٍ غير تقي - قلب قاس غير حنون ومنفتح - ونيّة غير صادقة، فأقلع عن بذائك، وليتّقِ الله قلبُك، ولتحسن نيتك، قال: ففعل الرجل ذلك، ثم دعا الله فوُلد له غلام"..

من يتّقى شره:

وهناك عنوان آخر في هذا المجال وهو عنوان "من يُتقى شره"، وهو الذي يتفاداه الناس لسوء سلوكه ولأنه شخص شرير، فعن الإمام الصادق(ع) قال: "إن النبي (ص) بينما هو ذات يوم عند عائشة - في بيتها - إذ استأذن عليه رجل، فقال رسول الله(ص): بئس أخو العشيرة - وكأنه أراد أن يقول إن هذا الرجل من أردأ أفراد عشيرته - فقامت عائشة فدخلت البيت وأذن رسول الله(ص) للرجل، فلما دخل أقبل عليه بوجهه وبشره يحدثه، حتى إذا فرغ وخرج من عنده قالت عائشة: يا رسول الله، بين أنت تذكر هذا الرجل بما ذكرته به إذ أقبلت عليه بوجهك وبشرك؟ فقال رسول الله(ص) عند ذلك: إن من شرّ عباد الله من تُكره مجالسته لفحشه". وفي الحديث قال رسول الله(ص): "شرّ الناس يوم القيامة الذين يُكرمون اتقاءً لشرّهم"، الذين يحترمهم الناس ويكرّمونهم اتقاء شرّهم وخوفاً من القوة الظالمة التي يسلّطونها على الناس.

الرواية على المؤمن:

أما العنوان الثالث في هذا المجال فهو "الرواية على المؤمن"، وهم هؤلاء الناس الذين يحاولون أن ينقلوا عن المؤمنين ما يُسقط مكانتهم وما يهدّم إنسانيتهم، سواء كانت هذه الأمور حقيقية أو غير حقيقية، يقول "المفضّل بن عمر": قال لي أبو عبد الله(ع): "من روى على مؤمن رواية - بحيث يدور في المجالس والسهرات لينقل عن المؤمن بعض الروايات الكاذبة أو الصادقة بهدف إسقاط شخصيته وموقعه عند الناس - يريد بها شينه - والشين هو العيب - وهدم مروءته، ليسقط من أعين الناس - وهذا مما ابتلينا به من قبل بعض الناس في المجتمعات الدينية للأسف - أخرجه الله من ولايته إلى ولاية الشيطان، فلا يقبله الشيطان"، لأن الشيطان عندما رفض السجود لآدم(ع) فإنه رفض من موقع عنصريته، ولكنه لم يسبّه ويتحامل عليه، أما هذا الذي يروي على المؤمنين من أجل أن يسقطهم ويتحامل عليهم فإنه أكثر شيطنة من الشيطان..

وعن أبي عبد الله(ع) في ما جاء في الحديث عن رسول الله(ص): "عورة المؤمن على المؤمن حرام"، سُئل: ما هو، أن ينكشف فترى منه شيئاً؟ قال(ع): "لا، إنما هو أن تروي عليه - بما يهدّم مكانته - أو تعيبه"، لتسقطه من أعين الناس.

السبّاب مشرف على الهلكة:

والعنوان الأخير في هذا المجال هو "السباب"، ففي الحديث: "سبّاب المؤمن كالمشرف على الهلكة"، وفي الحديث عن الإمام الباقر(ع) قال: "قال رسول الله(ص): سباب المؤمن فسوق - الذي يسب المؤمنين يستحق لقب الفاسق - وقتاله - بغير حق - كفر، وأكل لحمه - بالغيبة - معصية، وحرمة ماله كحرمة دمه". وفي الحديث عن الإمام الباقر(ع): "أتى رجل من بني تميم إلى النبي(ص)، فقال: أوصني، فكان في ما أوصاه قال(ص): لا تسبّوا الناس فتكتسبوا العداوة فيما بينهم". وفي الحديث عن الإمام الكاظم(ع) في رجلين يتسابّان، قال: "البادي منهما أظلم، ووزره ووزر صاحبه عليه ما لم يعتذر إلى المظلوم".. ويقول أحد أصحاب الإمام الصادق(ع): سمعت أبا عبد الله(ع) يقول: "إذا قال الرجل لأخيه المؤمن (أف) خرج من ولايته، وإذا قال (أنت عدوّي) كفر أحدهما - لأن الله تعالى يقول: {إنما المؤمنون أخوة}، وأنت تقول له: أنت عدوّي، فكأنك تردّ على الله تعالى - ولا يقبل الله من مؤمن عملاً وهو مضمر على أخيه المؤمن سوءاً"..

إن الله تعالى يقول: {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن - عندما تعيش في المجتمع مع زوجتك وأولادك وأهلك وجيرانك ومع الذين تبايعهم وتشاريهم، حاول أن تطلق الكلمة الأفضل لتغربل كلماتك - إن الشيطان ينزغ بينهم - يدخل بينهم ليثير العداوة والبغضاء من خلال الكلمات غير المسؤولة - إن الشيطان كان للإنسان عدوّاً مبيناً}.

إن الله تعالى يريد لمجتمعنا أن يكون مجتمعاً قائماً على المحبة والاحترام المتبادل، وعلى أن يحفظ الإنسان كرامة أخيه الإنسان، حتى نتدرّب في الدنيا على أخلاق أهل الجنة.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله في كل كلماتكم، لأن الكلمة قد تسقط الإنسان من السماء إلى الأرض، لا تقولوا كلمة الشر بل قولوا كلمة الخير، لا تقولوا كلمة الباطل بل قولوا كلمة الحق، لا تقولوا كلمة الظلم بل قولوا كلمة العدل، لا تنطلقوا بكلماتكم لتؤيدوا كافراً أو ظالماً أو منحرفاً أو متمرداً على الله تعالى، ولا تقولوا كلمة الفتنة والفرقة والتمزق، بل قولوا كلمة الوحدة، ولا تقولوا كلمة البغضاء بل قولوا كلمة المحبة، قولوا كلمة الحق في وجه سلطان جائر، قولوا كلمة العدل في وجه كل مستكبر وظالم، لأن الله تعالى يريد للكلمات أن تعبّر عن أصالة الحق والعدل في الإنسان..

وعلينا في مرحلتنا هذه، ولا سيما المرحلة السياسية التي تتصل بقضايا المصير، حيث نسمع الكثير من الكلمات في الشرق والغرب التي تحاول أن تخدعنا وتغشنا وتتحرك من أجل تزوير مستقبلنا وإسقاط قضايانا، علينا أن نكون واعين لكل الكلمات التي نسمعها في إذاعة أو نقرأها في صحيفة، علينا أن نفهم ونعي ما نسمع، لأن السمّ ربما يكون كامناً في الدسم.. فماذا هناك؟

نخشى مصادرة القضية الفلسطينية:

لا تزال القضية الفلسطينية تراوح مكانها في المفاوضات، ولكننا نخشى أن يكون هناك نشاط أمريكي يلتقي بنشاط عربي، من أجل التحضير لقمّة جديدة وإيجاد بعض الحلول التي تقوم على أساس حلّ مشكلة القدس وعودة اللاجئين بطريقة تنقذ إسرائيل من مأزقها الداخلي، ولا تستجيب لأدنى الحقوق الفلسطينية.

وهذا هو ما بدأه الموفد الأمريكي للمنطقة، الذي كان ولا يزال - وهو اليهودي في الإدارة الأمريكية - يعمل على إدارة الأمور لمصلحة إسرائيل لا لمصلحة الفلسطينيين، وهذا هو الخط الذي تتبنّاه السياسة الأمريكية في المفاوضات السابقة واللاحقة، لا سيما في مرحلة الانتخابات الأمريكية التي يصرّح مرشحوها بأن أمريكا وإسرائيل "تنظران إلى الأمور بعين واحدة"، وأن المسؤولية في فشل المفاوضات "دائماً على العرب" لا على إسرائيل.. إن المطلوب - أمريكياً - الآن من العرب الذين يستقبلون الوفود الإسرائيلية والأمريكية، مساعدة هذا المرشح الأمريكي أو ذاك في الانتخابات، لقاء بعض الوعود أو الضغوط، على قاعدة تقديم التنازلات لإسرائيل.

وإلى جانب ذلك، هناك قرار بانعقاد "لجنة القدس" المنبثقة عن "المؤتمر الإسلامي" في الرباط، هذه اللجنة التي وُلدت ميتة ولم تقدّم للقدس شيئاً، وقد كنا دعونا في وقت سابق إلى عقد قمة لـ"منظمة المؤتمر الإسلامي"، كما كانت إيران تعمل لذلك، ولكن التدخلات الأمريكية والعربية منعت انعقاد قمة كهذه..

إننا نحذّر مما يُخشى التحرك نحوه من التخطيط وراء الكواليس لإنهاء الملف الفلسطيني، ومصادرة الحقوق الشرعية للفلسطينيين، والعبث بقضية القدس في المداولات الأمريكية - الإسرائيلية - العربية - الفلسطينية، وذلك من أجل عقد قمة جديدة للتوقيع، لأننا نتصوّر أن الجولات الفلسطينية - الإسرائيلية كانت للوصول إلى هذه النتيجة، ليُصار إلى إعلان الدولة الفلسطينية بعد التوقيع.

إن على الشعوب العربية والإسلامية، ولا سيما الشعب الفلسطيني، أن تكون في يقظة دائمة لما يُخطط لهذا الشعب في الخفاء، من مصادرة القضية الفلسطينية لحساب الخطة الأمريكية - الإسرائيلية، بدعم أوروبي وربما عربي، مما يحمّل الجميع مسؤولية كبرى لحماية هذه القضية الكبرى التي تختصر كل تطلعات الأمة في هذه المرحلة المصيرية.

لبنان دخل ميدان القوة:

وفي هذا الجو، نشهد في هذه الأيام حركة أمنية وسياسية إسرائيلية، تحاول الدخول إلى الجنوب من خلال بعض الثغرات الأمنية التي يحركها الجيش الصهيوني نفسه، لمساومة الدولة اللبنانية حول قضايا مستقبلية، منها ما يتعلق بمهمة قوات الطوارئ في الجنوب، ومنها ما يتصل بحركة الاحتلال نفسه عند الحدود.

فالعدو الذي عجز عن تحقيق أهدافه التي رسمها في أعقاب الاندحار، سواء لجهة سعيه لإحداث حالة غير طبيعية في علاقات الدولة مع المقاومة، أو لجهة فشله في استدراج لبنان إلى ساحة العروض الاقتصادية، من خلال وسائط دولية متعددة، يحاول في هذه الأيام أن يُحدث شيئاً من الضغوط الميدانية، تارة من خلال اختراق الحدود وإقامة مواقع متحرّكة خلف ما يسمى بالخط الأزرق، وأخرى من خلال سرقة التربة اللبنانية، وثالثة من خلال إثارة ما يجري عند "بوابة فاطمة" وكأنه يمثل حركة أمنية واسعة وليس حركة شعبية عفوية يمارسها شعب عانى من ويلات هذا الاحتلال وجرائمه أكثر من عشرين سنة..

إن العدو يريد أن يُسلّط الأضواء على ذلك، للحصول على أصوات دولية داعمة لمخططه الساعي إلى جر لبنان مجدداً إلى ساحة التفاوض معه، وإن من بوابة المعابر الحدودية، ولذلك فإن طلب "باراك" من لبنان "العمل مع إسرائيل لتنظيم نقاط حدودية تتم عبرها لقاءات عائلية، مع توفير الحد الأدنى من الراحة" كما قال، يستهدف حشر لبنان في هذه الزاوية بعد أن خرج منه بفعل المقاومة والمواقف الشعبية والرسمية الثابتة، وحتى ينشغل العالم عن قضية خطيرة كقضية المعتقلين اللبنانيين الذين ما زالوا في السجون الصهيونية، بهذه التفاصيل التي يعمل العدو على تحريكها بين الوقت والآخر، وصولاً إلى ما يخطط له من إمكانية إحداث تغيير في الموقف اللبناني العام، نزولاً عند العروض الاقتصادية والضغوط الميدانية.

إننا نقول للجميع: لقد دخل لبنان ميدان القوة في وجه العدو من الأبواب الواسعة، ولذلك عليكم أن لا تسمحوا للعدو بإخراجه من ساحة القوة إلى ساحة الضعف، ولن يكون ذلك إلا بإقفال الأبواب السياسية والأمنية، لمنع اختراقاته على هذا الصعيد أو ذاك.

القفز فوق الاعتبارات القيمية:

وأخيراً، لا نزال نعيش في دوامة الوحل السياسي، حيث تختفي الحياة السياسية النظيفة لمصلحة التحالفات التي لا تأخذ المبادئ بعين الاعتبار، والتي تقف فوق الاعتبارات القيمية لمصلحة الاعتبارات الشخصية والمصلحية.

إن هذا الموت السياسي الذي يتشكّل باستمرار في المشاهد السياسية اليومية، وفي الممارسات التي لا تمتّ إلى الأخلاقية السياسية بصلة، لا يُبشّر بمستقبل سياسي واعد يُقبل عليه البلد، بل يبشّر بالمزيد من الاندحار السياسي وعلى كافّة المستويات. لذلك، فعلى الذين لا يجدون أمامهم الطريق مفتوحة في نهج الخير السياسي، أن يبتعدوا عن سُبُل الشر، احتراماً للحاضر، وصوناً لمستقبل الأجيال. وعلى الشعب أن يعرف كيف يتعامل مع ذلك بالموقف والإرادة والصوت، لأن ما يزرعه في هذه المواسم يحصد ثمنه في المواسم القادمة، ولا خير في كل هذه المواسم السياسية التي تظل تدور طاحونتها لحساب الأشخاص والمواقع، على حساب الشعب والوطن والأمة.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية