سلاح المواجهة: العفو، الصبر والمغفرة

سلاح المواجهة: العفو، الصبر والمغفرة

لأن الغضب من أقصر الطرق إلى النار: سلاح المواجهة: العفو، الصبر والمغفرة


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبة سماحته الأولى :

المسارعة إلى الجنة:

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنّة عرضها السموات والأرض أُعدّت للمتقين * الذين ينفقون في السرّاء والضرّاء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين}. إن الله تعالى يدعونا إلى المسارعة للحصول على الجنة قبل أن تفوتنا الفرصة، لأن الله تعالى جعل لنا هذا العمر فرصة للعمل ولتربية النفس على التقوى، أن تتقي الله وتخشاه وتخافه، حتى تحسّ بحضوره أمامك كما لو كنت تراه، "خف الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".

فالتقوى هي التي تؤهلك لدخول الجنة، وهي بحاجة إلى عقل واعٍ يميّز بين ما يضره وما ينفعه، وإلى إرادة صلبة، وحركة في اتجاه تنفيذ أوامر الله تعالى ونواهيه. إن الله تعالى يريد أن يقول لنا: إنكم تسارعون إلى دار قد لا تزيد على المائة أو المائتي متر، ولكن ما رأيكم إذا كان الله يقدّم لكم جنة عرضها السموات والأرض، ويقول لكم ما قاله لأبيكم آدم (ع) وأمكم حواء: {كلا منها رغداً حيت شئتما}، فليس هناك أي حاجز {وسارعوا - قبل أن تفوتكم الفرصة - إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أُعدّت - أعدها الله وزيّنها وحسّنها - للمتقين - من هم المتقون؟ - الذين ينفقون في السرّاء والضرّاء} ينفقون في حالتي الرخاء والشدّة، لأنهم يعيشون مسؤولية العطاء، فلا يبخلون على الذين يحتاجون إليهم طلباً لما عند الله، وما عند الله خير للأبرار..

كظم الغيظ:

ومن صفات المتقين أنهم لا يفجّرون غيظهم، ولا ينفّسون عن غضبهم، ولا يتحركون بفعل الانفعال والعقدة والغضب، لأن الإنسان التقي هو الذي يفكر في كل كلمة يقولها قبل أن يقولها، وفي كل عمل يعمله قبل أن يعمله، وفي كل علاقة ينشئها قبل أن ينشئها، وفي كل موقف للتأييد أو للرفض يتخذه قبل أن يتخذه. ومن الطبيعي أن الإنسان الذي يعيش الغيظ في داخل نفسه، ويتحرك الغضب في مشاعره وأحاسيسه، إذا استسلم لغضبه ووقع تحت تأثير غيظه، فإنه قد يتصرف تصرفاً يُغضب الله ويُسقط حياته، وقد يؤدي به إلى الهلاك.

لذلك، فإن الله تعالى يقول لهذا الإنسان: حاول أن تسلّط عقلك على غيظك، من أجل أن يعقل عقلك غيظك، إذا غضبت ففكر في غضبك، وفي دوافعه وفي نتائجه، فكّر في غضبك كحالة من حالات الجنون الذاتي، فإن الإنسان إذا لم يملك غضبه لم يملك عقله، وقد ورد في الحديث عن الإمام الباقر (ع): إنها" نار توقد في قلب ابن آدم"، وإنك إن لم تطفىء النار فسوف تحرقك، ونحن نعرف أن الإنسان قد يغضب فيقتل أو يخرب بيته ويطّلق زوجته ويشرّد أولاده، وقد يغضب الإنسان فيثير الفتنة في المجتمع، ويحوّله إلى مجتمع يحارب بعضه بعضا، وقد يغضب الإنسان بفعل عصبياته فيثير الفتنة المذهبية تارة في مجتمع تتعدد فيه المذاهب، والفتنة الطائفية طوراً في مجتمع تتعدد فيه الطوائف، والفتنة الحزبية ثالثة في مجتمع تتعدد فيه الأحزاب، وتنطلق شرارة الغضب من أجل أن تُسقط المجتمع كله، وإذا سقط المجتمع فإنك ستكون ساقطاً مع الساقطين، لأن من أوقد النار لا بد أن يحترق بالنار التي أوقدها.

لذلك، يقول لك الله تعالى: حاول أن تكون سيد مشاعرك وانفعالاتك، لا تجعل مشاعرك تضغط عليك، ولا تجعل انفعالاتك تحركك، إذا غضبت فكّر في دوافع غضبك واسأل نفسك: لماذا غضبت؟ هل هذه الكلمة التي سمعتها من فلان أو فلان تبرر لي أن أدخل معركة، أو أُثير مشكلة، أو أسعّر فتنة؟ ثم فكّر في النتائج إذا غضبت وضربت أو طلّقت أو أطلقت الرصاص، فما هي نتائج ذلك على مستوى الدنيا والآخرة؟ إن الله تعالى خلق لك عقلاً وجعله مسؤولاً، وجعل عقلك سيد كل ذاتك بحيث إنك لا بد أن تحرك عقلك في كلماتك وعواطفك ومشاعرك وفي حركاتك في الحياة كلها. ولهذا، إذا أردتم الجنة كونوا الكاظمين الغيظ، إذا غاظكم أحد فاكظموا غيظكم ولا تسمحوا له بأن ينطلق ويتفجّر، احبسوه في داخل أنفسكم حتى لو شعرتم بالضيق في صدوركم..

العفو عن الناس:

ولا يكتفي الله تعالى منك إذا كنت صلب الإرادة في الإيمان أن تكظم غيظك، لأن مجرد كظم الغيظ سوف يحوّله إلى عقدة، لذلك قال الله تعالى: {والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس - اكظم غيظك واعفُ عمّن أثارك - والله يحب المحسنين}، أحسن إلى من أساء إليك. ويُنقل في سيرة الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع) أنه كانت عنده جارية تصب له الماء على يديه من إبريق النحاس، فوقع الإبريق من يدها على رأس الإمام(ع) فشجّه وسال منه الدم، فقالت: يا سيدي "والكاظمين الغيظ، قال(ع): لقد كظمت غيظي، قالت: والعافين عن الناس، قال(ع): قد عفوت عنك، قالت: والله يحب المحسنين، قال(ع): اذهبي فأنت حرة لوجه الله"..

ونقف عند بعض الآيات الكريمة التي تتحدث عن العفو والصبر، فيقول الله تعالى: {وأن تعفوا أقرب للتقوى}، {ولئن صبرتم لهو خير للصابرين}، {وإذا ما غضبوا هم يغفرون}، وهذه الصفات لا بدّ أن تطبقوها أولاً في بيوتكم، أقولها للرجال وللنساء، لأن كثيراً من المشاكل الزوجية التي تخرّب البيوت وتشرّد الأولاد وتخلق المشاكل للمجتمع، تنطلق من الغيظ.. لذلك، نحتاج إلى كظم الغيظ، لكي يدرس الإنسان كل كلمة يسمعها ويحيلها إلى عقله الذي يميّز له بين المصلحة والمفسدة، فعندما يثار الإنسان - ولا سيما في البيت - لا بد له أن يفكر في حجم هذه الكلمة أو الإساءة، وبعد ذلك يتصرف، وقد يكون التصرف في بعض الحالات يحتاج إلى أن يأخذ بحقه ولكن بحسابات، وقد يحتاج إلى أن يعفو في حالات أخرى، فالعقل هو الذي يحدد لك خطواتك في هذا الاتجاه..

الاعتداء بالمثل:

أما إذا أراد الإنسان أن يأخذ حقه ممن ظلمه، فإن الإسلام كان دقيقاً في هذا المقام، يقول الله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}، فإذا أساء إليك بكلمة فلا تردّ عليه بضربة، مَن أعظمُ من الإمام عليّ(ع) بعد رسول الله(ص)؟ الإمام عليّ(ع) وهو في حالة الاحتضار يوصي بضاربه وقاتله فيقول: "يا بني عبد المطلب، لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً، تقولون قُتل أمير المؤمنين، ألا لا تقتلن بي إلا قاتلي - فليس هناك طبقية في القصاص - انظروا إذا أنا متّ من ضربتي هذه فاضربوه ضربة بضربة، ولا تمثّلوا - تشوّهوا - بالرجل، فإني سمعت رسول الله(ص) يقول: إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور". تصوّروا شخصاً أنهى حياة كحياة عليّ بن أبي طالب(ع) الذي لو لم يضربه ابن ملجم على رأسه لأعطى العالم من الفكر والحكمة والتقوى ما لم يعطه أحد، ومع ذلك أمرهم أن يطبّقوا الشريعة الإسلامية في القصاص. ومشكلة مجتمعاتنا التي هي مجتمعات السباب والشتائم، ومجتمعات الفعل ورد الفعل، تنطلق من أن الانفعال هو الذي يحرّكها وليس العقل.

الصبر على الشدائد:

وننطلق إلى كلمات رسول الله(ص) وأهل بيته(ع) في هذا المجال، ففي الرواية عن الإمام جعفر الصادق(ع) أنه قال: "نعم الجرعة الغيظ لمن صبر عليها، فإن عظيم الأجر لمن عظيم البلاء - فكلما كان البلاء والأذية أكبر كلما كان أجر الصبر عليه أعظم - وما أحب الله قوماً إلا ابتلاهم".. وفي الحديث عنه(ع) أنه قال: "كان علي ابن الحسين (ع) يقول: ما أحب أن لي بذل نفسي حُمر النعم - وقد كانت من الثروات المهمة في ذلك الوقت، فلو قُدّمت له هذه الثروة المميزة في المجتمع على أن يذل نفسه لرفض ذلك، وعلينا أن نفرّق بين الذلّ وبين الخلق - وما تجرّعت جرعة أحبّ إلي من جرعة غيظ لا أُكافي بها صاحبها"، فالشراب الذي يتلذذ به هو أن يكظم الغيظ الذي يوجه إليه.

نتائج كظم الغيظ:

وفي الحديث عن الإمام الباقر(ع) قال: "قال لي أبي: ما من شيء أقر لعين أبيك من جرعة غيظ عاقبتها صبر".. وقال رسول الله(ص): "مِن أحبِّ السبل إلى الله عزّ وجلّ - من أحب الطرق التي إذا سلكها الإنسان أوصلته إلى الله وكان قريباً منه - جرعتان: جرعة غيظ تردها بحلم - بسعة صدر - وجرعة مصيبة تردها بصبر". وفي الحديث عن الإمام الصادق(ع): "ما من عبد كظم غيظاً إلا زاده الله عزّ وجلّ عزاً في الدنيا والآخرة".. وورد في الحديث: حدّثني من سمع أبا عبد الله(ع) يقول: "من كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه - من حبس غيظه وهو قادر على أن يردّ الإساءة - ملأ الله قلبه يوم القيامة رضاه".. وفي الحديث عن الإمام الباقر(ع): "من كظم غيظاً وهو قادر على إمضائه، حشا الله قلبه أمناً وإيماناً يوم القيامة". وفي الحديث عن النبي(ص) أنه قال: "يا عليّ أوصيك بوصية فاحفظها، فلا تزال بخير ما حفظت وصيتي، يا عليّ من كظم غيظاً وهو قادر على إمضائه أعقبه الله أمناً وإيماناً يجد طعمه".

ان الله تعالى ورسوله(ص) والأئمة من أهل البيت(ع) يريدون لنا أن نعيش هذه الروح التي يتعلّم فيها الإنسان كيف ينفّس عن غضبه، وكيف يوسّع صدره، وقد قال رسول الله(ص) في آخر خطبة له: "ومن كظم غيظه وعفا عن أخيه المسلم أعطاه الله أجر شهيد"، وكم هي ثمينة هذه الجائزة.. وورد في الحديث عن الإمام الصادق(ع): "ثلاث من كن فيه زوّجه الله من الحور العين كيف شاء: كظم الغيظ، والصبر على السيوف لله، ورجل أشرف على مال حرام فتركه لله".

إن مجتمعنا الذي يتحرك بذهنية الفعل وردّ الفعل، والانفعال والغضب، هو بحاجة إلى عقل يتحرك في ساحاته على مستوى كل العلاقات والكلمات والأعمال، وبحاجة إلى إيمان يحكم كل أوضاعنا، لأنه مجتمع متعب تتحرك فيه الفتنة والمشاكل، لذلك تعالوا نتعلّم في الدنيا كيف نركّز أخلاقنا على أساس أخلاق أهل الجنة: {ونزعنا ما في صدورهم من غلّ إخواناً على سرر متقابلين}، حتى نحصل على رضى الله والقرب منه، {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله تقوى الفكر، فلا تحركوا أفكاركم إلا بما يُصلح أموركم وأمور الناس من حولكم، وتقوى القلب، فلا تنبض قلوبكم إلا بالخير والمحبة للناس جميعاً، وتقوى الحركة، فلا تتحركوا إلا بما يرضي الله في الخط المستقيم الذي إذا سار الناس عليه حصلوا على رضى الله.. اتقوا الله وواجهوا كل ما حولكم ومن حولكم، عندما يتحرك المستكبرون والظالمون من أجل إسقاط مواقفكم ومواقعكم، ومن أجل نهب ثرواتكم وإسقاط سياستكم وأمنكم في كل مجالات الحياة.

لذلك، لا بد لنا أن نكون واعين وعي الإنسان في كل ما يأخذ وما يدع، على أساس ما يرضي الله وما يحقق العزة للمؤمنين. وعلينا ونحن نواجه أحداثاً كثيرة في الداخل والخارج، أن يكون لنا وعي تلك الأحداث، لنعرف كيف نحدد مواقفنا ومواقعنا في ذلك كله.

ذكرى إحراق المسجد الأقصى:

مرت علينا قبل أيام ذكرى إحراق المسجد الأقصى على يد اليهود، ولم يتعاط الإعلام العربي والإسلامي مع هذه الذكرى بشكل يؤكد الاحتجاج على المعنى الذي تحمله في تهويد المسجد وتهديمه لبناء "هيكل سليمان"، وهذا هو الذي يوحي به احتلال اليهود للقدس ويمنحهم السيطرة على تحقيق كل خطتهم التهويدية ضد المقدّسات الإسلامية.

وقد كنّا نود أن يبادر العرب والمسلمون لعقد قمة عربية وإسلامية تحت قبة "المؤتمر الإسلامي"، ولكن التعقيدات السياسية التي تتمثل في علاقات الدول المعنية، وتأثير السياسة الأمريكية على غالبية هذه الدول، يعطّل كل مبادرة فاعلة في هذا الاتجاه، ويحول دون الدعوة إلى أيّ مؤتمر للقضية الفلسطينية، سواء كان على مستوى القمة أو على مستوى وزراء الخارجية، بالإضافة إلى الخلافات التي تمزّق العالم العربي والإسلامي، على صعيد العلاقات الثنائية التي تأكل القضية الكبرى التي تختصر كل تاريخ التحديات في الصراع مع الصهيونية والاستكبار.

إننا نخشى أن تتحرك الكواليس السياسية في الساحة العربية، نحو مصادرة القضية الفلسطينية - وفي مقدمتها القدس - باسم التعجيل بـ"السلام" الذي لن يأتي، لأن الخطة الإسرائيلية - الأمريكية لا تريد سلاماً مشرّفاً للعرب وللمسلمين، بحيث يصل إلى سلامة القضايا المشروعة للأمة كلها، بل تريد سلاماً لإسرائيل بما يحقق لها الامتداد السياسي والاقتصادي والأمني في المنطقة، لتكون الدولة الأقوى فيها.

ولذلك، فإن المطلوب أمريكياً وصهيونياً - من خلال هذه الخطة - إضعاف كل الدول العربية بمختلف الوسائل، ولا سيما إثارة النزاعات الطائفية والمذهبية، بما يستنزف كل مواردها وطاقاتها الإنتاجية.

إن المشكلة في الحركة السياسية هي تغييب الشعوب، صاحبة المصلحة في قضايا المستقبل الحيوية، عن أيّ قرار، لتبقى للأنظمة حرية العبث بمقدّرات الأمة وقضاياها، وليبقى الحاكمون في مقاعد الحكم لحساب المصالح الاستكبارية، على حساب مصالح المستضعفين.

لا تعطوا العدوّ الإحساس بالأمن:

وتبقى مسألة الجنوب في نطاق اللعبة السياسية - الأمنية، في الخروقات الأمنية من جهة، والتهديد بالاحتلال من جديد "إذا لم تبقَ الحدود آمنة"، كما قال أحد المسؤولين الصهاينة، بالإضافة إلى السجال السياسي الأمريكي في الضغط على لبنان من قِبَل الدول المانحة في تعطيل أو تأخير المساعدات الاقتصادية إذا لم يدخل الجيش إلى الجنوب وينـزع سلاح المقاومة، مع المطالبة بتحوّل قوات الطوارئ إلى قوات ردع للمحافظة على الأمن الإسرائيلي لا الأمن اللبناني، لأن المطلوب - أمريكياً وإسرائيلياً - أن يوفّر لبنان للعدو كل الشروط الأمنية التي يطالب بها.. ونحن نعتقد أنه لا يجوز إعطاء الإسرائيليين أيّ إحساس بالأمن، لأن القاعدة السياسية تقول: كلما شعر العدو بالقلق والخوف أكثر، كلما ارتاح لبنان أكثر، والعكس بالعكس.

إسقاط روحية المواطن:

أما على المستوى الداخلي، فإننا نلاحظ أن اللعبة السياسية التي يديرها الجميع ليست في مستوى حاجة المستقبل إلى التوازن، وحاجة الأمة إلى العنفوان، لأنها لا تزال تتحرك في الدهاليز بعيداً عن الأرض الواسعة المنفتحة على القضايا الكبرى.. ولا سيما أن العناوين المطروحة لا تمثّل خطوطاً واقعية للحل، بل مجرد كلمات تتطاير في الهواء.

إننا نتساءل: لماذا لم يحدد المعارضون أمام تحدياتهم للموالين الآلية الاقتصادية لحل المشكلة الاقتصادية والمعيشية في لبنان، من خلال دراسات علمية دقيقة؟ ولماذا لا يقدّم الفرقاء المختلفون برامجهم العلمية العملية على مستوى الحوار الموضوعي في الساحات الشعبية؟ إن التراشق بالكلمات والاتهامات قد يخلق حالة من هزّة الانفعالات، ولكنه لا يخلق مناخاً سياسياً نظيفاً من أجل تحقيق التوازن الوطني.. إن منطق اللعبة لا يبرر إسقاط روحية المواطن، وعلى الشعب كله أن يرتفع إلى مستوى مسؤوليته الكبرى، لأن المرحلة الحاضرة في ضباب حركة المستقبل هي إما نكون أو لا نكون، وليست في طبيعة التفاصيل.

وختاماً، أحب أن أُذكّر الجميع بكلمة للإمام علي بن أبي طالب(ع) في عهده إلى "مالك الأشتر": "شرّ وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيراً، ومن شاركهم في الآثام، فلا يكونن لك بطانة، فإنهم أعوان الأَثَمة، وأخوان الظلمة، وأنت واجد منهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم، وليس عليك مثل آصارهم (ذنوبهم) وأوزارهم وآثامهم، ممن لم يعاون ظالماً على ظلمه، ولا آثماً على إثمه".. فاحذروا من الذين كتبوا تاريخهم بدماء الأبرياء، وصرخات المظلومين، ومن الذين فشلوا في التجربة، فإن الشعب لا يجد أهدافه في المجرمين والفاشلين والباحثين عن ذواتهم، لا عن الناس.

لأن الغضب من أقصر الطرق إلى النار: سلاح المواجهة: العفو، الصبر والمغفرة


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبة سماحته الأولى :

المسارعة إلى الجنة:

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنّة عرضها السموات والأرض أُعدّت للمتقين * الذين ينفقون في السرّاء والضرّاء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين}. إن الله تعالى يدعونا إلى المسارعة للحصول على الجنة قبل أن تفوتنا الفرصة، لأن الله تعالى جعل لنا هذا العمر فرصة للعمل ولتربية النفس على التقوى، أن تتقي الله وتخشاه وتخافه، حتى تحسّ بحضوره أمامك كما لو كنت تراه، "خف الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".

فالتقوى هي التي تؤهلك لدخول الجنة، وهي بحاجة إلى عقل واعٍ يميّز بين ما يضره وما ينفعه، وإلى إرادة صلبة، وحركة في اتجاه تنفيذ أوامر الله تعالى ونواهيه. إن الله تعالى يريد أن يقول لنا: إنكم تسارعون إلى دار قد لا تزيد على المائة أو المائتي متر، ولكن ما رأيكم إذا كان الله يقدّم لكم جنة عرضها السموات والأرض، ويقول لكم ما قاله لأبيكم آدم (ع) وأمكم حواء: {كلا منها رغداً حيت شئتما}، فليس هناك أي حاجز {وسارعوا - قبل أن تفوتكم الفرصة - إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أُعدّت - أعدها الله وزيّنها وحسّنها - للمتقين - من هم المتقون؟ - الذين ينفقون في السرّاء والضرّاء} ينفقون في حالتي الرخاء والشدّة، لأنهم يعيشون مسؤولية العطاء، فلا يبخلون على الذين يحتاجون إليهم طلباً لما عند الله، وما عند الله خير للأبرار..

كظم الغيظ:

ومن صفات المتقين أنهم لا يفجّرون غيظهم، ولا ينفّسون عن غضبهم، ولا يتحركون بفعل الانفعال والعقدة والغضب، لأن الإنسان التقي هو الذي يفكر في كل كلمة يقولها قبل أن يقولها، وفي كل عمل يعمله قبل أن يعمله، وفي كل علاقة ينشئها قبل أن ينشئها، وفي كل موقف للتأييد أو للرفض يتخذه قبل أن يتخذه. ومن الطبيعي أن الإنسان الذي يعيش الغيظ في داخل نفسه، ويتحرك الغضب في مشاعره وأحاسيسه، إذا استسلم لغضبه ووقع تحت تأثير غيظه، فإنه قد يتصرف تصرفاً يُغضب الله ويُسقط حياته، وقد يؤدي به إلى الهلاك.

لذلك، فإن الله تعالى يقول لهذا الإنسان: حاول أن تسلّط عقلك على غيظك، من أجل أن يعقل عقلك غيظك، إذا غضبت ففكر في غضبك، وفي دوافعه وفي نتائجه، فكّر في غضبك كحالة من حالات الجنون الذاتي، فإن الإنسان إذا لم يملك غضبه لم يملك عقله، وقد ورد في الحديث عن الإمام الباقر (ع): إنها" نار توقد في قلب ابن آدم"، وإنك إن لم تطفىء النار فسوف تحرقك، ونحن نعرف أن الإنسان قد يغضب فيقتل أو يخرب بيته ويطّلق زوجته ويشرّد أولاده، وقد يغضب الإنسان فيثير الفتنة في المجتمع، ويحوّله إلى مجتمع يحارب بعضه بعضا، وقد يغضب الإنسان بفعل عصبياته فيثير الفتنة المذهبية تارة في مجتمع تتعدد فيه المذاهب، والفتنة الطائفية طوراً في مجتمع تتعدد فيه الطوائف، والفتنة الحزبية ثالثة في مجتمع تتعدد فيه الأحزاب، وتنطلق شرارة الغضب من أجل أن تُسقط المجتمع كله، وإذا سقط المجتمع فإنك ستكون ساقطاً مع الساقطين، لأن من أوقد النار لا بد أن يحترق بالنار التي أوقدها.

لذلك، يقول لك الله تعالى: حاول أن تكون سيد مشاعرك وانفعالاتك، لا تجعل مشاعرك تضغط عليك، ولا تجعل انفعالاتك تحركك، إذا غضبت فكّر في دوافع غضبك واسأل نفسك: لماذا غضبت؟ هل هذه الكلمة التي سمعتها من فلان أو فلان تبرر لي أن أدخل معركة، أو أُثير مشكلة، أو أسعّر فتنة؟ ثم فكّر في النتائج إذا غضبت وضربت أو طلّقت أو أطلقت الرصاص، فما هي نتائج ذلك على مستوى الدنيا والآخرة؟ إن الله تعالى خلق لك عقلاً وجعله مسؤولاً، وجعل عقلك سيد كل ذاتك بحيث إنك لا بد أن تحرك عقلك في كلماتك وعواطفك ومشاعرك وفي حركاتك في الحياة كلها. ولهذا، إذا أردتم الجنة كونوا الكاظمين الغيظ، إذا غاظكم أحد فاكظموا غيظكم ولا تسمحوا له بأن ينطلق ويتفجّر، احبسوه في داخل أنفسكم حتى لو شعرتم بالضيق في صدوركم..

العفو عن الناس:

ولا يكتفي الله تعالى منك إذا كنت صلب الإرادة في الإيمان أن تكظم غيظك، لأن مجرد كظم الغيظ سوف يحوّله إلى عقدة، لذلك قال الله تعالى: {والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس - اكظم غيظك واعفُ عمّن أثارك - والله يحب المحسنين}، أحسن إلى من أساء إليك. ويُنقل في سيرة الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع) أنه كانت عنده جارية تصب له الماء على يديه من إبريق النحاس، فوقع الإبريق من يدها على رأس الإمام(ع) فشجّه وسال منه الدم، فقالت: يا سيدي "والكاظمين الغيظ، قال(ع): لقد كظمت غيظي، قالت: والعافين عن الناس، قال(ع): قد عفوت عنك، قالت: والله يحب المحسنين، قال(ع): اذهبي فأنت حرة لوجه الله"..

ونقف عند بعض الآيات الكريمة التي تتحدث عن العفو والصبر، فيقول الله تعالى: {وأن تعفوا أقرب للتقوى}، {ولئن صبرتم لهو خير للصابرين}، {وإذا ما غضبوا هم يغفرون}، وهذه الصفات لا بدّ أن تطبقوها أولاً في بيوتكم، أقولها للرجال وللنساء، لأن كثيراً من المشاكل الزوجية التي تخرّب البيوت وتشرّد الأولاد وتخلق المشاكل للمجتمع، تنطلق من الغيظ.. لذلك، نحتاج إلى كظم الغيظ، لكي يدرس الإنسان كل كلمة يسمعها ويحيلها إلى عقله الذي يميّز له بين المصلحة والمفسدة، فعندما يثار الإنسان - ولا سيما في البيت - لا بد له أن يفكر في حجم هذه الكلمة أو الإساءة، وبعد ذلك يتصرف، وقد يكون التصرف في بعض الحالات يحتاج إلى أن يأخذ بحقه ولكن بحسابات، وقد يحتاج إلى أن يعفو في حالات أخرى، فالعقل هو الذي يحدد لك خطواتك في هذا الاتجاه..

الاعتداء بالمثل:

أما إذا أراد الإنسان أن يأخذ حقه ممن ظلمه، فإن الإسلام كان دقيقاً في هذا المقام، يقول الله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}، فإذا أساء إليك بكلمة فلا تردّ عليه بضربة، مَن أعظمُ من الإمام عليّ(ع) بعد رسول الله(ص)؟ الإمام عليّ(ع) وهو في حالة الاحتضار يوصي بضاربه وقاتله فيقول: "يا بني عبد المطلب، لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً، تقولون قُتل أمير المؤمنين، ألا لا تقتلن بي إلا قاتلي - فليس هناك طبقية في القصاص - انظروا إذا أنا متّ من ضربتي هذه فاضربوه ضربة بضربة، ولا تمثّلوا - تشوّهوا - بالرجل، فإني سمعت رسول الله(ص) يقول: إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور". تصوّروا شخصاً أنهى حياة كحياة عليّ بن أبي طالب(ع) الذي لو لم يضربه ابن ملجم على رأسه لأعطى العالم من الفكر والحكمة والتقوى ما لم يعطه أحد، ومع ذلك أمرهم أن يطبّقوا الشريعة الإسلامية في القصاص. ومشكلة مجتمعاتنا التي هي مجتمعات السباب والشتائم، ومجتمعات الفعل ورد الفعل، تنطلق من أن الانفعال هو الذي يحرّكها وليس العقل.

الصبر على الشدائد:

وننطلق إلى كلمات رسول الله(ص) وأهل بيته(ع) في هذا المجال، ففي الرواية عن الإمام جعفر الصادق(ع) أنه قال: "نعم الجرعة الغيظ لمن صبر عليها، فإن عظيم الأجر لمن عظيم البلاء - فكلما كان البلاء والأذية أكبر كلما كان أجر الصبر عليه أعظم - وما أحب الله قوماً إلا ابتلاهم".. وفي الحديث عنه(ع) أنه قال: "كان علي ابن الحسين (ع) يقول: ما أحب أن لي بذل نفسي حُمر النعم - وقد كانت من الثروات المهمة في ذلك الوقت، فلو قُدّمت له هذه الثروة المميزة في المجتمع على أن يذل نفسه لرفض ذلك، وعلينا أن نفرّق بين الذلّ وبين الخلق - وما تجرّعت جرعة أحبّ إلي من جرعة غيظ لا أُكافي بها صاحبها"، فالشراب الذي يتلذذ به هو أن يكظم الغيظ الذي يوجه إليه.

نتائج كظم الغيظ:

وفي الحديث عن الإمام الباقر(ع) قال: "قال لي أبي: ما من شيء أقر لعين أبيك من جرعة غيظ عاقبتها صبر".. وقال رسول الله(ص): "مِن أحبِّ السبل إلى الله عزّ وجلّ - من أحب الطرق التي إذا سلكها الإنسان أوصلته إلى الله وكان قريباً منه - جرعتان: جرعة غيظ تردها بحلم - بسعة صدر - وجرعة مصيبة تردها بصبر". وفي الحديث عن الإمام الصادق(ع): "ما من عبد كظم غيظاً إلا زاده الله عزّ وجلّ عزاً في الدنيا والآخرة".. وورد في الحديث: حدّثني من سمع أبا عبد الله(ع) يقول: "من كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه - من حبس غيظه وهو قادر على أن يردّ الإساءة - ملأ الله قلبه يوم القيامة رضاه".. وفي الحديث عن الإمام الباقر(ع): "من كظم غيظاً وهو قادر على إمضائه، حشا الله قلبه أمناً وإيماناً يوم القيامة". وفي الحديث عن النبي(ص) أنه قال: "يا عليّ أوصيك بوصية فاحفظها، فلا تزال بخير ما حفظت وصيتي، يا عليّ من كظم غيظاً وهو قادر على إمضائه أعقبه الله أمناً وإيماناً يجد طعمه".

ان الله تعالى ورسوله(ص) والأئمة من أهل البيت(ع) يريدون لنا أن نعيش هذه الروح التي يتعلّم فيها الإنسان كيف ينفّس عن غضبه، وكيف يوسّع صدره، وقد قال رسول الله(ص) في آخر خطبة له: "ومن كظم غيظه وعفا عن أخيه المسلم أعطاه الله أجر شهيد"، وكم هي ثمينة هذه الجائزة.. وورد في الحديث عن الإمام الصادق(ع): "ثلاث من كن فيه زوّجه الله من الحور العين كيف شاء: كظم الغيظ، والصبر على السيوف لله، ورجل أشرف على مال حرام فتركه لله".

إن مجتمعنا الذي يتحرك بذهنية الفعل وردّ الفعل، والانفعال والغضب، هو بحاجة إلى عقل يتحرك في ساحاته على مستوى كل العلاقات والكلمات والأعمال، وبحاجة إلى إيمان يحكم كل أوضاعنا، لأنه مجتمع متعب تتحرك فيه الفتنة والمشاكل، لذلك تعالوا نتعلّم في الدنيا كيف نركّز أخلاقنا على أساس أخلاق أهل الجنة: {ونزعنا ما في صدورهم من غلّ إخواناً على سرر متقابلين}، حتى نحصل على رضى الله والقرب منه، {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله تقوى الفكر، فلا تحركوا أفكاركم إلا بما يُصلح أموركم وأمور الناس من حولكم، وتقوى القلب، فلا تنبض قلوبكم إلا بالخير والمحبة للناس جميعاً، وتقوى الحركة، فلا تتحركوا إلا بما يرضي الله في الخط المستقيم الذي إذا سار الناس عليه حصلوا على رضى الله.. اتقوا الله وواجهوا كل ما حولكم ومن حولكم، عندما يتحرك المستكبرون والظالمون من أجل إسقاط مواقفكم ومواقعكم، ومن أجل نهب ثرواتكم وإسقاط سياستكم وأمنكم في كل مجالات الحياة.

لذلك، لا بد لنا أن نكون واعين وعي الإنسان في كل ما يأخذ وما يدع، على أساس ما يرضي الله وما يحقق العزة للمؤمنين. وعلينا ونحن نواجه أحداثاً كثيرة في الداخل والخارج، أن يكون لنا وعي تلك الأحداث، لنعرف كيف نحدد مواقفنا ومواقعنا في ذلك كله.

ذكرى إحراق المسجد الأقصى:

مرت علينا قبل أيام ذكرى إحراق المسجد الأقصى على يد اليهود، ولم يتعاط الإعلام العربي والإسلامي مع هذه الذكرى بشكل يؤكد الاحتجاج على المعنى الذي تحمله في تهويد المسجد وتهديمه لبناء "هيكل سليمان"، وهذا هو الذي يوحي به احتلال اليهود للقدس ويمنحهم السيطرة على تحقيق كل خطتهم التهويدية ضد المقدّسات الإسلامية.

وقد كنّا نود أن يبادر العرب والمسلمون لعقد قمة عربية وإسلامية تحت قبة "المؤتمر الإسلامي"، ولكن التعقيدات السياسية التي تتمثل في علاقات الدول المعنية، وتأثير السياسة الأمريكية على غالبية هذه الدول، يعطّل كل مبادرة فاعلة في هذا الاتجاه، ويحول دون الدعوة إلى أيّ مؤتمر للقضية الفلسطينية، سواء كان على مستوى القمة أو على مستوى وزراء الخارجية، بالإضافة إلى الخلافات التي تمزّق العالم العربي والإسلامي، على صعيد العلاقات الثنائية التي تأكل القضية الكبرى التي تختصر كل تاريخ التحديات في الصراع مع الصهيونية والاستكبار.

إننا نخشى أن تتحرك الكواليس السياسية في الساحة العربية، نحو مصادرة القضية الفلسطينية - وفي مقدمتها القدس - باسم التعجيل بـ"السلام" الذي لن يأتي، لأن الخطة الإسرائيلية - الأمريكية لا تريد سلاماً مشرّفاً للعرب وللمسلمين، بحيث يصل إلى سلامة القضايا المشروعة للأمة كلها، بل تريد سلاماً لإسرائيل بما يحقق لها الامتداد السياسي والاقتصادي والأمني في المنطقة، لتكون الدولة الأقوى فيها.

ولذلك، فإن المطلوب أمريكياً وصهيونياً - من خلال هذه الخطة - إضعاف كل الدول العربية بمختلف الوسائل، ولا سيما إثارة النزاعات الطائفية والمذهبية، بما يستنزف كل مواردها وطاقاتها الإنتاجية.

إن المشكلة في الحركة السياسية هي تغييب الشعوب، صاحبة المصلحة في قضايا المستقبل الحيوية، عن أيّ قرار، لتبقى للأنظمة حرية العبث بمقدّرات الأمة وقضاياها، وليبقى الحاكمون في مقاعد الحكم لحساب المصالح الاستكبارية، على حساب مصالح المستضعفين.

لا تعطوا العدوّ الإحساس بالأمن:

وتبقى مسألة الجنوب في نطاق اللعبة السياسية - الأمنية، في الخروقات الأمنية من جهة، والتهديد بالاحتلال من جديد "إذا لم تبقَ الحدود آمنة"، كما قال أحد المسؤولين الصهاينة، بالإضافة إلى السجال السياسي الأمريكي في الضغط على لبنان من قِبَل الدول المانحة في تعطيل أو تأخير المساعدات الاقتصادية إذا لم يدخل الجيش إلى الجنوب وينـزع سلاح المقاومة، مع المطالبة بتحوّل قوات الطوارئ إلى قوات ردع للمحافظة على الأمن الإسرائيلي لا الأمن اللبناني، لأن المطلوب - أمريكياً وإسرائيلياً - أن يوفّر لبنان للعدو كل الشروط الأمنية التي يطالب بها.. ونحن نعتقد أنه لا يجوز إعطاء الإسرائيليين أيّ إحساس بالأمن، لأن القاعدة السياسية تقول: كلما شعر العدو بالقلق والخوف أكثر، كلما ارتاح لبنان أكثر، والعكس بالعكس.

إسقاط روحية المواطن:

أما على المستوى الداخلي، فإننا نلاحظ أن اللعبة السياسية التي يديرها الجميع ليست في مستوى حاجة المستقبل إلى التوازن، وحاجة الأمة إلى العنفوان، لأنها لا تزال تتحرك في الدهاليز بعيداً عن الأرض الواسعة المنفتحة على القضايا الكبرى.. ولا سيما أن العناوين المطروحة لا تمثّل خطوطاً واقعية للحل، بل مجرد كلمات تتطاير في الهواء.

إننا نتساءل: لماذا لم يحدد المعارضون أمام تحدياتهم للموالين الآلية الاقتصادية لحل المشكلة الاقتصادية والمعيشية في لبنان، من خلال دراسات علمية دقيقة؟ ولماذا لا يقدّم الفرقاء المختلفون برامجهم العلمية العملية على مستوى الحوار الموضوعي في الساحات الشعبية؟ إن التراشق بالكلمات والاتهامات قد يخلق حالة من هزّة الانفعالات، ولكنه لا يخلق مناخاً سياسياً نظيفاً من أجل تحقيق التوازن الوطني.. إن منطق اللعبة لا يبرر إسقاط روحية المواطن، وعلى الشعب كله أن يرتفع إلى مستوى مسؤوليته الكبرى، لأن المرحلة الحاضرة في ضباب حركة المستقبل هي إما نكون أو لا نكون، وليست في طبيعة التفاصيل.

وختاماً، أحب أن أُذكّر الجميع بكلمة للإمام علي بن أبي طالب(ع) في عهده إلى "مالك الأشتر": "شرّ وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيراً، ومن شاركهم في الآثام، فلا يكونن لك بطانة، فإنهم أعوان الأَثَمة، وأخوان الظلمة، وأنت واجد منهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم، وليس عليك مثل آصارهم (ذنوبهم) وأوزارهم وآثامهم، ممن لم يعاون ظالماً على ظلمه، ولا آثماً على إثمه".. فاحذروا من الذين كتبوا تاريخهم بدماء الأبرياء، وصرخات المظلومين، ومن الذين فشلوا في التجربة، فإن الشعب لا يجد أهدافه في المجرمين والفاشلين والباحثين عن ذواتهم، لا عن الناس.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية