ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، وقال في خطبته الأولى:
في القرآن الكريم أكثر من آية يخاطب الله تعالى فيها نبيه محمداً (ص)، ليعلّمنا كيف نواجه الموقف في يوم القيامة، وكيف نواجه الناس الذين ينحرفون عن الخط، وكيف نطلب من الله تعالى أن لا يحشرنا معهم، وكيف نتعامل معهم في الواقع وفي الحياة. إن الله تعالى يريد للإنسان دائماً، وهو يعيش في الدنيا ويأخذ بأسباب الحياة فيها، أن لا يغيب عنه يوم القيامة، لأن الإنسان كلما نسي يوم القيامة نسي مسؤوليته، وكلما ذكر يوم القيامة ذكر مسؤوليته.
يوم القيامة وحساب المسؤولية:
وليس معنى أن نذكر يوم القيامة أن نندب حظنا ونستغرق في الموت، بل لنجعل حياتنا حياة مسؤولة، بحيث إنك عندما تتحرك في كلمة تتكلمها، أو في عمل تعمله، أو في علاقة تنشئها، فإن عليك أن تفكر بالله في كل ذلك؛ أن تفكر أن لك رباً يسمعك ويبصرك ويحاسبك، وأنه سيأتي يوم تواجه فيه حساب المسؤولية. وهذا ما يوجب على الإنسان أن يستحضر دائماً هذا المعنى في كل أموره، وعند ذلك تستقيم له الدنيا، لأن دنياه سوف تكون دنيا تحت رعاية الله وفي خطه، وتستقيم له الآخرة، لأنها الآخرة التي خطط لها وحسب حسابها. تعالوا لنقرأ بعض الآيات التي أراد الله تعالى لرسوله (ص) أن يتحدث بها في تجربته الذاتية ليعلّمنا كيف نقتدي بها:
ادفع الإساءة بالتي هي أحسن:
{قل ربِّ إما ترينّي ما يوعدون - إما ترينّي يوم القيامة ما سيحل بهؤلاء الذين جئت لأنذرهم ولأفتح عقولهم وقلوبهم عليك ليؤمنوا بك ويتقوك - ربِّ فلا تجعلني في القوم الظالمين - لا تحشرني، عندما أعيش هذا المشهد، مع القوم الظالمين الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والشرك وبالانحراف عن خط طاعتك. ويجيبه الله - وإنّا على أن نريك ما نعدهم لقادرون - سوف تحشر يا محمد وترى ما حلّ بهؤلاء من نتائج سلبية جزاءً لما اقترفوه - ادفع بالتي هي أحسن السيئة - لا تزال يا محمد تعيش معهم وتعظهم وترشدهم، ولكنهم يقابلون وعظك وإرشادك لهم بالكلمة السيئة وبالعمل السيىء، فلا تتعقد وتتعامل معهم بردات الفعل، ولا تبادل الإساءة بالإساءة، بل حاول أن تدفع السيئة بالتي هي أحسن. فكّر في أفضل الوسائل التي تفتح قلوب الذين أساءوا إليك لتجعلهم يرجعون عن غيهم، فليس حل مشكلتك مع الإنسان الآخر في أن تفجّر غيظك، ولكن المطلوب إصلاح من أغاظك وجعله يفهم المسألة. كن الإنسان الذي يصلح خصمه ويعمل على أن ينفتح عقله وقلبه، لأن المؤمن يفكر بالصلاح والإصلاح ولا يفكر بردات الفعل - نحن أعلم بما يصفون - أنت قم بواجباتك ونحن نتدبر الأمر ونتكفل بالنتائج، ولذا عليك، عندما يحاول الشيطان بوساوسه ونزغاته أن يدعوك لتفجّر غيظك مستغلاً بعض نقاط الضعف والحساسيات، أن لا تدعه يدخل ليوسوس في عقلك ويدفعك للتفكير في الشر ـ وقل ربي أعوذ بك من همزات الشياطين ـ ومن المستحب للإنسان في كل صلاة يصليها قبل أن يكبّر أن يتلو هذه الآية، حتى يدخل الإنسان في صلاته وهو يستجير بربه - وأعوذ بك ربِّ أن يحضرون}، اطردهم، يا ربِّ، عن عقلي وقلبي لكي لا يدخلوا إليهما ولا يعششوا فيهما.
ندم الغافلين يوم القيامة:
ثم يحدثنا الله تعالى عن هؤلاء الناس الذين يتكبرون ويتجبرون ويسخرون من المؤمنين ويكذبون ويسيئون للعباد والبلاد، وهم يعيشون الغفلة: {حتى إذا جاء أحدهم الموت - وعاين ما بعد الموت، ورأى كيف يسير أهل الخير إلى الجنة وأهل الشر إلى النار - قال رب ارجعون - أعطني فرصة جديدة - لعلي أعمل صالحاً فيما تركت، كلا إنها كلمة هو قائلها - لأن الله أعطاه فرصة حياته كلها وذكّره وعرّفه وأرشده وبيّن له ما يقبل عليه، فلماذا نسي ربه وبخل بماله وامتنع عن أداء حق ربه؟ هل خاف على نفسه الفقر والله هو الذي رزقه، ومن رزقك أولاً يرزقك أخيراً - ومن ورائهم برزخ - وقد جاء في بعض الأحاديث أن عالم البرزخ هو العالم المتوسط بين الدنيا والآخرة - إلى يوم يبعثون* فإذا نُفخ في الصور - وهو البوق، ويقال إن إسرافيل ينفخ فيه يوم القيامة، فيصدر صوتاً فيقوم الناس من الأجداث، ويرى البعض الآخر أنه كناية عن قوة الصدمة التي تحصل في ذلك اليوم والتي تُخرج الناس من الأجداث كأنهم جراد منتشر - فلا أنساب بينهم يومئذ - ليس هناك عشائر وعوائل بل هناك عمل - ولا يتساءلون - لأن كلاً مشغول بنفسه - فمن ثقلت موازينه - بحيث كانت أعماله أعمال خير راجحة - فأولئك هم المفلحون * ومن خفّت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم - لأنك تربح نفسك عندما تقوم بالعمل الذي يمكن أن ينجيك يوم القيامة - في جهنم خالدون * تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون}، يعني مكشّرون، إشارة إلى حالة العبوس والتقطيب..
النار مصير المكذبين:
ويتابع الله تعالى تصوير المشهد، فيقول: { ألم تكن آياتي تتلى عليكم - ألم تسمعوا الآيات التي أنزلتها على رسلي - فكنتم بها تكذّبون* قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوماً ضالّين * ربنا أخرجنا منها - أخرجنا من النار وأعطنا فرصة جديدة - فإن عدنا فإنّا ظالمون * قال اخسأوا فيها - وهذه الكلمة عندما تصدر من الله تعالى فإنها تتضمن زجراً من أعلى الدرجات - ولا تكلمون - أتتذكرون في الدنيا جيرانكم ومعارفكم المؤمنين الذين كنتم تسخرون منهم - إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنّا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين - هؤلاء الذين يقصدون المساجد ليطلبوا من الله المغفرة والرحمة وليعلنوا إيمانهم فيها - فاتخذتموهم سخرياً حتى أنسوكم ذكري - وتماديتم في السخرية حتى نسيتم ربكم - وكنتم منهم تضحكون - فأين أنتم الآن وأين هم - إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون}، صبروا على سخريتكم واستهزائكم ففازوا بطاعة الله وبالإيمان.
ولتنظر نفس ما قدمت لغد:
أيها الأحبة: هذه هي آيات الله تتلى عليكم، وهذا ما أراد الله لرسوله أن يقوله لنتعلّمه، ولنشعر أننا في حياتنا الدنيا هذه نمارس المسؤوليات، لأن كل الانفعالات النفسية والأحاسيس وكل الأشياء السلبية والألم واللذة، تذهب وتمضي، والقضية هي ماذا قدمنا من عمل، {وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله}، علينا أن نحسب دائماً حساب الرصيد عند الله، {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدّمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون * ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون * لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون}.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله.. اتقوا الله، وتذكروا يوماً لا يجزي فيه والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً إن وعد الله حق، فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور.. إن علينا أن نتقي الله في كل أمورنا، وأن نبتغي في ما آتانا الله الدار الآخرة ،وأن لا ننسى نصيبنا من الدنيا، وأن نحسن كما أحسن الله إلينا؛ أن نحسن في أقوالنا وأفعالنا وفي أموالنا وفي جميع أمورنا، وأن لا نبغي الفساد في الأرض، لأنّ الله لا يحب المفسدين. وعلينا أن نواجه كل مظاهر الفساد وأهله، وكل الذين يفسدون في الأرض ويحوّلون حياة الناس جحيماً، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل، حتى نستطيع أن نجعل من الدنيا جنة مصغّرة على الأرض.. وفي حياتنا الكثير مما يثقل حياتنا ويربك أمورنا ويفسد الكثير من أوضاعنا، فماذا هناك؟
بين حقوق الإنسان والهيمنة الأمريكية:
لقد تحدثت أمريكا خلال انعقاد الهيئة العامة للأمم المتحدة عن حقوق الإنسان، وعن ضرورة "إعطاء التجمعات الإقليمية حق القيام بعمل عسكري جماعي في عدة مناطق من العالم"، بحجة "وقف أعمال القتل الجماعي"، مع استمرارها في تقديم نفسها كقائدة للعالم على حساب المنظمة الدولية.. والسؤال المطروح: هل أن المسألة محض إنسانية، أم أنها سياسية تستهدف الحفاظ على مصالح أمريكا، وذلك من خلال إخضاع الأمم المتحدة لسياستها في بعض المراحل، وإبعادها عن الدور الفاعل في مراحل أخرى؟!
حتى أن أمريكا تتحرك في بعض القضايا لخدمة سياستها الداخلية، وهذا ما نلاحظه في التحرك الأمريكي في قضية التسوية الخاضع لتأثير السياسة الإسرائيلية على حساب كل الواقع العربي، مراعاة للمصالح الانتخابية المقبلة من جهة، وتأكيداً للمصالح الأمريكية في المنطقة على أساس واقع الضعف العربي الذي يجتذب كل الضغوط على كل الأوضاع، من جهة أخرى.
إننا نلاحظ في الاجتماعات الثنائية بين أمريكا وأكثر من بلد عربي - على هامش اجتماعات الأمم المتحدة - أنها لم تحقق شيئاً للعرب في قضية التسوية، بل كانت اللقاءات مجرد كلام يجبر العرب على الوقوف أمام الجدار الإسرائيلي الذي يمنع كل تحرّك في القضية خارج نطاق التحرك الأمريكي الرافض لتدخل الاتحاد الأوروبي أو روسيا، إلا على هامش المساعي الأمريكية التي تخضع للقرار الإسرائيلي..
محاولات أردنية لإضعاف الانتفاضة:
وليس بعيداً عن ذلك، فقد رحّبت إسرائيل - ومعها أمريكا - باعتقال قادة "حماس"، لأنه يمثل التنفيذ للخطة الموضوعة في إضعاف قيادة الانتفاضة الفلسطينية ضد الكيان الصهيوني.. وإننا لا نجد في الأعذار التي قدمتها الحكومة الأردنية ما يبرر ذلك، لأن الجميع يعرفون أن الإسلاميين في الأردن - بما فيهم حركة "حماس" - لا يفكرون، حتى على مستوى الوهم، بأيّ فوضى داخلية على كل صعيد، فكيف تتحدث الحكومة الأردنية عن التخطيط لما يشبه "أيلول الأسود"؟!
إننا ندعو الملك الأردني والحكومة الأردنية إلى إعادة النظر في هذا القرار، لأن ذلك هو الذي يحقق للأردن استقراره وقوته، والذي نريد لعهده الجديد أن ينطلق في خط الإخلاص للقضايا المصيرية..
ضغوط إسرائيلية أمريكية على لبنان:
أما في لبنان، فإننا نلاحظ أن الاعتداءاتالإسرائيلية المتلاحقة على الجنوب، بالقصف المتواصل الذي استهدف المدنيين كما استهدف الجيش اللبناني، يحمل في داخله رسالة إسرائيلية - أمريكية، تعلن الاستياء من مواقف الدولة اللبنانية في دعم المقاومة، ورفضها الاستجابة للضغوط على صعيد عملية التسوية، وللشروط الإسرائيلية الداعية إلى وقف المقاومة قبل انسحاب العدوّ.
إن على العرب أن يقفوا في مواجهة هذه الأساليب الجديدة للعدوّ في عدوانه على لبنان، وأن يؤكدوا في اجتماعاتهم في واشنطن على دعم صمود الشعب اللبناني ومقاومته البطلة، في نطاق النظرة الشاملة إلى تطورات قضية الصراع ضد إسرائيل، وعدم الاقتصار على ملاحقة الجزئيات التي لا زالوا يختلفون عليها من دون قاعدة..
قضية التنصت إرباك للواقع السياسي:
أما على المستوى الداخلي، فإن إثارة قضية التنصت التي يتحرك الجدل حولها لا تؤدي إلى أية نتيجة عملية، كالكثير من القضايا التي يُراد منها إرباك الواقع السياسي على قاعدة تسجيل النقاط على هذا الفريق أو ذاك.. إننا لا نريد التقليل من هذه القضية المتصلة بقضايا حريات الناس في أسرارهم الخاصة، ولا سيما ما كشف عن قيام الأجهزة الأمريكية بالتنصت على كل لبنان وتقديم المعلومات لإسرائيل، ولكننا نريد التأكيد على أن إثارة القضايا لا بد وأن تتناسب مع حجم التحديات في المرحلة الحاضرة، ومع الحاجة الملحّة لتوحيد المواقف لا لتسجيل النقاط، لا سيما أن بعض القضايا لا بدّ أن تعالج بعيداً عن الإعلام إذا أُريد لها أن تصل إلى نتيجة..
الأداء الداخلي في أدنى المستويات:
لقد تعب اللبنانيون من إثارة القضايا التي تُفتح بحساب وتُغلق بحساب، ومن إبعاد القضايا الحيوية التي ترتبط بالحياة المعيشية للناس من جهة، وبالأوضاع المصيرية من جهة أخرى.. لقد بلغ الأداء السياسي في البلد أدنى المستويات من الرداءة والانحطاط، حتى أصبح الشعب يفكر هل أن هناك سياسة تمارس في البلد، أو أن هناك لعبة تسمى بالسياسة لحساب شخص هنا أو جماعة هناك أو محور في موقع آخر..
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، وقال في خطبته الأولى:
في القرآن الكريم أكثر من آية يخاطب الله تعالى فيها نبيه محمداً (ص)، ليعلّمنا كيف نواجه الموقف في يوم القيامة، وكيف نواجه الناس الذين ينحرفون عن الخط، وكيف نطلب من الله تعالى أن لا يحشرنا معهم، وكيف نتعامل معهم في الواقع وفي الحياة. إن الله تعالى يريد للإنسان دائماً، وهو يعيش في الدنيا ويأخذ بأسباب الحياة فيها، أن لا يغيب عنه يوم القيامة، لأن الإنسان كلما نسي يوم القيامة نسي مسؤوليته، وكلما ذكر يوم القيامة ذكر مسؤوليته.
يوم القيامة وحساب المسؤولية:
وليس معنى أن نذكر يوم القيامة أن نندب حظنا ونستغرق في الموت، بل لنجعل حياتنا حياة مسؤولة، بحيث إنك عندما تتحرك في كلمة تتكلمها، أو في عمل تعمله، أو في علاقة تنشئها، فإن عليك أن تفكر بالله في كل ذلك؛ أن تفكر أن لك رباً يسمعك ويبصرك ويحاسبك، وأنه سيأتي يوم تواجه فيه حساب المسؤولية. وهذا ما يوجب على الإنسان أن يستحضر دائماً هذا المعنى في كل أموره، وعند ذلك تستقيم له الدنيا، لأن دنياه سوف تكون دنيا تحت رعاية الله وفي خطه، وتستقيم له الآخرة، لأنها الآخرة التي خطط لها وحسب حسابها. تعالوا لنقرأ بعض الآيات التي أراد الله تعالى لرسوله (ص) أن يتحدث بها في تجربته الذاتية ليعلّمنا كيف نقتدي بها:
ادفع الإساءة بالتي هي أحسن:
{قل ربِّ إما ترينّي ما يوعدون - إما ترينّي يوم القيامة ما سيحل بهؤلاء الذين جئت لأنذرهم ولأفتح عقولهم وقلوبهم عليك ليؤمنوا بك ويتقوك - ربِّ فلا تجعلني في القوم الظالمين - لا تحشرني، عندما أعيش هذا المشهد، مع القوم الظالمين الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والشرك وبالانحراف عن خط طاعتك. ويجيبه الله - وإنّا على أن نريك ما نعدهم لقادرون - سوف تحشر يا محمد وترى ما حلّ بهؤلاء من نتائج سلبية جزاءً لما اقترفوه - ادفع بالتي هي أحسن السيئة - لا تزال يا محمد تعيش معهم وتعظهم وترشدهم، ولكنهم يقابلون وعظك وإرشادك لهم بالكلمة السيئة وبالعمل السيىء، فلا تتعقد وتتعامل معهم بردات الفعل، ولا تبادل الإساءة بالإساءة، بل حاول أن تدفع السيئة بالتي هي أحسن. فكّر في أفضل الوسائل التي تفتح قلوب الذين أساءوا إليك لتجعلهم يرجعون عن غيهم، فليس حل مشكلتك مع الإنسان الآخر في أن تفجّر غيظك، ولكن المطلوب إصلاح من أغاظك وجعله يفهم المسألة. كن الإنسان الذي يصلح خصمه ويعمل على أن ينفتح عقله وقلبه، لأن المؤمن يفكر بالصلاح والإصلاح ولا يفكر بردات الفعل - نحن أعلم بما يصفون - أنت قم بواجباتك ونحن نتدبر الأمر ونتكفل بالنتائج، ولذا عليك، عندما يحاول الشيطان بوساوسه ونزغاته أن يدعوك لتفجّر غيظك مستغلاً بعض نقاط الضعف والحساسيات، أن لا تدعه يدخل ليوسوس في عقلك ويدفعك للتفكير في الشر ـ وقل ربي أعوذ بك من همزات الشياطين ـ ومن المستحب للإنسان في كل صلاة يصليها قبل أن يكبّر أن يتلو هذه الآية، حتى يدخل الإنسان في صلاته وهو يستجير بربه - وأعوذ بك ربِّ أن يحضرون}، اطردهم، يا ربِّ، عن عقلي وقلبي لكي لا يدخلوا إليهما ولا يعششوا فيهما.
ندم الغافلين يوم القيامة:
ثم يحدثنا الله تعالى عن هؤلاء الناس الذين يتكبرون ويتجبرون ويسخرون من المؤمنين ويكذبون ويسيئون للعباد والبلاد، وهم يعيشون الغفلة: {حتى إذا جاء أحدهم الموت - وعاين ما بعد الموت، ورأى كيف يسير أهل الخير إلى الجنة وأهل الشر إلى النار - قال رب ارجعون - أعطني فرصة جديدة - لعلي أعمل صالحاً فيما تركت، كلا إنها كلمة هو قائلها - لأن الله أعطاه فرصة حياته كلها وذكّره وعرّفه وأرشده وبيّن له ما يقبل عليه، فلماذا نسي ربه وبخل بماله وامتنع عن أداء حق ربه؟ هل خاف على نفسه الفقر والله هو الذي رزقه، ومن رزقك أولاً يرزقك أخيراً - ومن ورائهم برزخ - وقد جاء في بعض الأحاديث أن عالم البرزخ هو العالم المتوسط بين الدنيا والآخرة - إلى يوم يبعثون* فإذا نُفخ في الصور - وهو البوق، ويقال إن إسرافيل ينفخ فيه يوم القيامة، فيصدر صوتاً فيقوم الناس من الأجداث، ويرى البعض الآخر أنه كناية عن قوة الصدمة التي تحصل في ذلك اليوم والتي تُخرج الناس من الأجداث كأنهم جراد منتشر - فلا أنساب بينهم يومئذ - ليس هناك عشائر وعوائل بل هناك عمل - ولا يتساءلون - لأن كلاً مشغول بنفسه - فمن ثقلت موازينه - بحيث كانت أعماله أعمال خير راجحة - فأولئك هم المفلحون * ومن خفّت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم - لأنك تربح نفسك عندما تقوم بالعمل الذي يمكن أن ينجيك يوم القيامة - في جهنم خالدون * تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون}، يعني مكشّرون، إشارة إلى حالة العبوس والتقطيب..
النار مصير المكذبين:
ويتابع الله تعالى تصوير المشهد، فيقول: { ألم تكن آياتي تتلى عليكم - ألم تسمعوا الآيات التي أنزلتها على رسلي - فكنتم بها تكذّبون* قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوماً ضالّين * ربنا أخرجنا منها - أخرجنا من النار وأعطنا فرصة جديدة - فإن عدنا فإنّا ظالمون * قال اخسأوا فيها - وهذه الكلمة عندما تصدر من الله تعالى فإنها تتضمن زجراً من أعلى الدرجات - ولا تكلمون - أتتذكرون في الدنيا جيرانكم ومعارفكم المؤمنين الذين كنتم تسخرون منهم - إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنّا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين - هؤلاء الذين يقصدون المساجد ليطلبوا من الله المغفرة والرحمة وليعلنوا إيمانهم فيها - فاتخذتموهم سخرياً حتى أنسوكم ذكري - وتماديتم في السخرية حتى نسيتم ربكم - وكنتم منهم تضحكون - فأين أنتم الآن وأين هم - إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون}، صبروا على سخريتكم واستهزائكم ففازوا بطاعة الله وبالإيمان.
ولتنظر نفس ما قدمت لغد:
أيها الأحبة: هذه هي آيات الله تتلى عليكم، وهذا ما أراد الله لرسوله أن يقوله لنتعلّمه، ولنشعر أننا في حياتنا الدنيا هذه نمارس المسؤوليات، لأن كل الانفعالات النفسية والأحاسيس وكل الأشياء السلبية والألم واللذة، تذهب وتمضي، والقضية هي ماذا قدمنا من عمل، {وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله}، علينا أن نحسب دائماً حساب الرصيد عند الله، {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدّمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون * ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون * لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون}.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله.. اتقوا الله، وتذكروا يوماً لا يجزي فيه والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً إن وعد الله حق، فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور.. إن علينا أن نتقي الله في كل أمورنا، وأن نبتغي في ما آتانا الله الدار الآخرة ،وأن لا ننسى نصيبنا من الدنيا، وأن نحسن كما أحسن الله إلينا؛ أن نحسن في أقوالنا وأفعالنا وفي أموالنا وفي جميع أمورنا، وأن لا نبغي الفساد في الأرض، لأنّ الله لا يحب المفسدين. وعلينا أن نواجه كل مظاهر الفساد وأهله، وكل الذين يفسدون في الأرض ويحوّلون حياة الناس جحيماً، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل، حتى نستطيع أن نجعل من الدنيا جنة مصغّرة على الأرض.. وفي حياتنا الكثير مما يثقل حياتنا ويربك أمورنا ويفسد الكثير من أوضاعنا، فماذا هناك؟
بين حقوق الإنسان والهيمنة الأمريكية:
لقد تحدثت أمريكا خلال انعقاد الهيئة العامة للأمم المتحدة عن حقوق الإنسان، وعن ضرورة "إعطاء التجمعات الإقليمية حق القيام بعمل عسكري جماعي في عدة مناطق من العالم"، بحجة "وقف أعمال القتل الجماعي"، مع استمرارها في تقديم نفسها كقائدة للعالم على حساب المنظمة الدولية.. والسؤال المطروح: هل أن المسألة محض إنسانية، أم أنها سياسية تستهدف الحفاظ على مصالح أمريكا، وذلك من خلال إخضاع الأمم المتحدة لسياستها في بعض المراحل، وإبعادها عن الدور الفاعل في مراحل أخرى؟!
حتى أن أمريكا تتحرك في بعض القضايا لخدمة سياستها الداخلية، وهذا ما نلاحظه في التحرك الأمريكي في قضية التسوية الخاضع لتأثير السياسة الإسرائيلية على حساب كل الواقع العربي، مراعاة للمصالح الانتخابية المقبلة من جهة، وتأكيداً للمصالح الأمريكية في المنطقة على أساس واقع الضعف العربي الذي يجتذب كل الضغوط على كل الأوضاع، من جهة أخرى.
إننا نلاحظ في الاجتماعات الثنائية بين أمريكا وأكثر من بلد عربي - على هامش اجتماعات الأمم المتحدة - أنها لم تحقق شيئاً للعرب في قضية التسوية، بل كانت اللقاءات مجرد كلام يجبر العرب على الوقوف أمام الجدار الإسرائيلي الذي يمنع كل تحرّك في القضية خارج نطاق التحرك الأمريكي الرافض لتدخل الاتحاد الأوروبي أو روسيا، إلا على هامش المساعي الأمريكية التي تخضع للقرار الإسرائيلي..
محاولات أردنية لإضعاف الانتفاضة:
وليس بعيداً عن ذلك، فقد رحّبت إسرائيل - ومعها أمريكا - باعتقال قادة "حماس"، لأنه يمثل التنفيذ للخطة الموضوعة في إضعاف قيادة الانتفاضة الفلسطينية ضد الكيان الصهيوني.. وإننا لا نجد في الأعذار التي قدمتها الحكومة الأردنية ما يبرر ذلك، لأن الجميع يعرفون أن الإسلاميين في الأردن - بما فيهم حركة "حماس" - لا يفكرون، حتى على مستوى الوهم، بأيّ فوضى داخلية على كل صعيد، فكيف تتحدث الحكومة الأردنية عن التخطيط لما يشبه "أيلول الأسود"؟!
إننا ندعو الملك الأردني والحكومة الأردنية إلى إعادة النظر في هذا القرار، لأن ذلك هو الذي يحقق للأردن استقراره وقوته، والذي نريد لعهده الجديد أن ينطلق في خط الإخلاص للقضايا المصيرية..
ضغوط إسرائيلية أمريكية على لبنان:
أما في لبنان، فإننا نلاحظ أن الاعتداءاتالإسرائيلية المتلاحقة على الجنوب، بالقصف المتواصل الذي استهدف المدنيين كما استهدف الجيش اللبناني، يحمل في داخله رسالة إسرائيلية - أمريكية، تعلن الاستياء من مواقف الدولة اللبنانية في دعم المقاومة، ورفضها الاستجابة للضغوط على صعيد عملية التسوية، وللشروط الإسرائيلية الداعية إلى وقف المقاومة قبل انسحاب العدوّ.
إن على العرب أن يقفوا في مواجهة هذه الأساليب الجديدة للعدوّ في عدوانه على لبنان، وأن يؤكدوا في اجتماعاتهم في واشنطن على دعم صمود الشعب اللبناني ومقاومته البطلة، في نطاق النظرة الشاملة إلى تطورات قضية الصراع ضد إسرائيل، وعدم الاقتصار على ملاحقة الجزئيات التي لا زالوا يختلفون عليها من دون قاعدة..
قضية التنصت إرباك للواقع السياسي:
أما على المستوى الداخلي، فإن إثارة قضية التنصت التي يتحرك الجدل حولها لا تؤدي إلى أية نتيجة عملية، كالكثير من القضايا التي يُراد منها إرباك الواقع السياسي على قاعدة تسجيل النقاط على هذا الفريق أو ذاك.. إننا لا نريد التقليل من هذه القضية المتصلة بقضايا حريات الناس في أسرارهم الخاصة، ولا سيما ما كشف عن قيام الأجهزة الأمريكية بالتنصت على كل لبنان وتقديم المعلومات لإسرائيل، ولكننا نريد التأكيد على أن إثارة القضايا لا بد وأن تتناسب مع حجم التحديات في المرحلة الحاضرة، ومع الحاجة الملحّة لتوحيد المواقف لا لتسجيل النقاط، لا سيما أن بعض القضايا لا بدّ أن تعالج بعيداً عن الإعلام إذا أُريد لها أن تصل إلى نتيجة..
الأداء الداخلي في أدنى المستويات:
لقد تعب اللبنانيون من إثارة القضايا التي تُفتح بحساب وتُغلق بحساب، ومن إبعاد القضايا الحيوية التي ترتبط بالحياة المعيشية للناس من جهة، وبالأوضاع المصيرية من جهة أخرى.. لقد بلغ الأداء السياسي في البلد أدنى المستويات من الرداءة والانحطاط، حتى أصبح الشعب يفكر هل أن هناك سياسة تمارس في البلد، أو أن هناك لعبة تسمى بالسياسة لحساب شخص هنا أو جماعة هناك أو محور في موقع آخر..